الفصل الأول
(لابوش/ واشنطن)
في إحدى ليالي الشتاء القارصة، ذات السماء الباكية بلوعة وكأنها تشارك أهالي تلك البلدة ابتئاسهم ووصبهم المريرين.
فشلت الأمطار الغزيرة في تطهير الدمار الذي جثم على الأرض الترابية، وقد رَسمت عليها أخاديد لتبدو وكأنها تجاعيد على وجه امرأة عجوز لم يبقَ لها في هذه الدنيا سوى أيام قليلة.
تزامن قرع أقدام فتاة بعمر التاسعة عشر، ذات بشرة سمراء وحدقتين عسليّتين خلّابتين، مع نبضات قلبها الثائرة؛ لتفصح عن جزعها، وهي تحتضن طفلة بعمر العامين إلى صدرها الحنون؛ لتحميها من الأذى المُحدق بهما.
تلطخت عباءتها المبللة ذات اللون الأسود بالطين إثر تعثرها قبل دقائق، ولم تسلم من التمزق الذي طال جسدها ليرسم خدوشًا طفيفة على رُكبتيها وكتفها الأيمن.
اختبأت خلف إحدى الشجيرات عندما أدركت وقع أقدام بضع أشخاص، وصوت ضحكهم الشديد أعلمها أن الوباء الذي اجتاح هذه القرية قد طالهم كذلك.
لم تعِ كيف تغيّرت أحوالهم بين ليلة وضحاها، قبل أسبوع فقط كانت تعيش برفقة والدتها وشقيقها التوأم، في منزلهم المتواضع غارقين في سعادتهم، وفجأةً، أصاب وباء الضحك القاتل هذا معظم سكّان القرية؛ ليحولهم إلى وحوش لا تعرف الرحمة.
يبدأ المصاب بالضحك الهستيري، ثم تضاف إليه آلام في المفاصل، ويتبعها صعوبة في النطق السليم حتى يفقده تمامًا. وصار الموبوءون يأكلون البشر من حولهم؛ لتبدو هذه القرية وكأنها في أحد أفلام الرعب الخاصة بالموتى الأحياء، وقد تحولت إلى مجزرة سيخلدها التاريخ إلى أَجَلٍ غير معلوم.
توقفت السماء عن ذرف دموعها الغزيرة مكتفية بهذا القدر من النحيب لهذه الليلة الكئيبة. كان قلبها يخفق بجنون، وقد خار جسدها أرضًا ولم تعد قادرة على الحركة وأطرافها ترتجف بردًا وهلعًا.
ذعرها على أحبائها يفوق جزعها على نفسها، وتلك الغشاوة على عينيها إثر دموعها حالت دون إبصارها لِـما حولها.
كان عليها بلوغ مركز الشرطة، حيث أقطب الناجون من سكّان القرية. تضاءل دوي الإهزاق¹ حتى اِمّحى تمامًا؛ لتعلم أن الخطر قد زال بشكل وقتِيّ، فدفعت جسدها لتنهض ماسحة عبراتها التي اختلطت بدموع السماء، وقد عقدت العزم على بلوغ وجهتها، حيث اتفقت على الالتقاء بشقيقها هناك قبل انفصالهما منذ نصف ساعة.
هرعت بكل ما تملك من قوة حتى لاح المبنى الحجري لمركز الشرطة في نهاية الشارع، حركت جسدها الذي أهلكه التعب والذُّعر الشديدين لتبلغه في أسرع وقت، وقد أنار الكشاف القوي المثبّت أعلى المبنى طريقها.
كان مركز الشرطة طابقين، محاط بسياج من الطوب وبوابة حديدية صلبة؛ مكّنته من أن يكون أجدر الأماكن للتحصّن ضد هذه الوحوش المنتشرة في أنحاء القرية.
جلجل صوت ندائها لمن يغيثها من الحَرس خلف البوابة؛ لتتقدم شابة في نهاية عقدها الثاني، بزي الشرطة المميز ذي اللون الأزرق الداكن، لتفحّص ملامحها الجزِعة وخصلات شعرها الأسود التي تسللت من حجابها المُهمل والتصقت بجبينها المبلل، وعندما تأكدت من عدم إصابتها بالوباء ابتعدت عن البوابة لتأمر بفتحها على عجل.
سارعت الشابة المدعوة 'أليس' لنزع معطفها السميك؛ لتغطي كتفي الفتاة عند ولوجها، وقد أشفقت على حالها بملابسها المبللة وقد تمزّقت في مواضع متفرّقة.
- رنا، أأنتِ بخير؟
تساءلت 'أليس' أثناء حملها للطفلة من بين يديها المرتجفتين، وملامحها الهلعة تعكس ما جابهته هذه الشابة المسكينة.
منعتها غصّتها من التلفّظ بأي حرف لتجيبها بإيماءة سريعة، وهي تغمض عينيها بشدة وشعور التجمد يغزوا جسدها أكثر فأكثر.
-لندخل، تحتاجين إلى تغيير ملابسك. ما كان يجب أن أسمح لكِ بالاشتراك في هذه المهمة.
-هل رجع قيس؟
كافحت 'رنا' لتستفهم بحروف متقطعة ولكنة تبرز كونها عربية الأصل.
ترددت 'أليس' قبل أن تجيبها بالنفي والشفقة تغزو ملامحها المُرهَقة، وقد ظهر الإرهاق أسفل عينيها الفيروزيتين.
بان الهلع الشديد على ملامحها السمراء الجميلة، وتشكّلت لوعتها على هيئة أمطار غزيرة مصحوبة بآهٍ مُثقلة أعربت عن مدى بأسها ووجعها.
في اللحظة التي سبقت ولوج الفتاتين إلى الداخل، صدح صوت أحد الحراس المتموضعين فوق المركز عبر جهاز اللاسلكي متلفظًا بحذر مركّزًا نظره داخل المنظار:
- إنّه قيس ومعه رِفقة قدمين من الطرف الغربي.
تنبهت 'أليس' للمغزى وراء حديث زميلها لتمرر الطفلة التي بين يديها إلى مُرافِقتها، محاولة التصرف بتعقّل وهي تُسرع الخُطى نحو البوابة الخلفية للمبنى، وقد أنار كشّاف المثبّت بقربها الشارع المطل على عليه.
صدح صوت أحد المتطوعين للحراسة عبر اللاسلكي وقد تمركز على سطح أحد منازل ممسكًا بمنظاره:
- المتحولون يركضون خلفه ومعه شاب آخر، افتحوا البوابة.
- ليس بعد.
حدّقت 'رنا' في 'أليس' باستنكار حين ردعتهم الأخيرة بحزم، وقبل أن تستمع لأي حرف آخر سحبت سلاحها لتهتف بنبرة آمرة:
- أطفئوا الكشّاف حالًا.
نُفِّذ أمرها سريعًا ليُظلم الشارع بأسره، قرّبت جهازها اللاسلكي من فمها لتتمتم:
- سنقوم بتشغيله مجددًا عند اقترابكما.
- إن أصابني مكروه فاعتني بـ 'رنا' رجاءً.
جاءها همس قيس بأنفاسه المتقطعة إثر عدوه طوال هذه المسافة.
- أُفضّل التواجد مكانك الآن على تنفيد تطلبك، يا فتى.
ردت 'أليس' بسخرية مشيرة إلى أحد الحراس بفتح البوابة بقدرٍ بسيط يكفي لعبورها.
أمرت بتشغيل الأضواء التي تم تثبيتها على جانبَي الطريق، عندما وصلها تنبيه 'قيس' لها ببلوغهم بداية الشارع عبر السماعة.
أخذت نفسًا عميقًا لتزفره ببطء شديد وهي تتخذ الوضعية المناسبة لحمل سلاحها القنّاص.
كانوا خمسة متحولين، يعْدُون نحوها ويتقدمهم 'قيس' برفقة شاب آخر وهما يجاهدان للوصول.
وجّهت 'أليس' سلاحها جيدًا ناظرة من خلال العدسة المكبرة المثبتة فوقه؛ لتطلق أول رصاصة لتلحق بها الأخرى تليها الثالثة ولم تخطئ أيًا منهم الهدف الذي أُرسلت من أجله، وقد سببت بتعثر المتحولَين الباقين بالجثث الواقعة أرضًا، لتعطي الشابين القدر الكافي من الوقت لبلوغها وقد فصلهما عن المتحولَين مسافة لا بأس بها، ولكن 'أليس' لم تكتفِ بهذا القدر إذ أرسلت رصاصتين لتستقرا في صدر كلٍ منهما حيث يقبع قلبيهما.
....
- لا يمكنكِ منعنا، أليس.
احتجّ 'قيس' وقد غزى الغضب ملامحه السمراء إثر قرارها بمنعه هو وشقيقته عن الاشتراك في مهام الإنقاذ التي يقومون بها في محاولات عويصة لإيجاد أي شخص يمكن إنجاده.
- بعد ما حدث الليلة، لا يمكنني السماح لكما بتعريض نفسيكما للخطر المحدق، تستطيعان تقديم المساعدة هنا.
- قد أتفق معكِ بشأن 'رنا' ولكن لا يمكنكِ منعي.
اعترضت 'رنا' بملامح مستهجنة:
- لن تخطُ خارج هذا المكان دوني.
منعتهما 'أليس' من الاسترسال في جدالهما العقيم بنبرة صارمة:
- هذا القرار نهائي، إذا خرج أحدكما فلن أسمح له بالدخول مرة أخرى.
- نحن في هذا معًا، هناك الكثير من الأشخاص المحتجزين في بيوتهم ولا يملكون الشجاعة الكافية للمخاطرة بخروجهم.
- هل تنوي إلقاء نفسك للموت بعد أن فشل السرطان بذلك! طلبت مني والدتكما أن اعتني بكما قبل سفرها ولن أفرّط في أمانة كهذه.
استفحل شعور الغضب الذي يتملّك 'قيس' وقد استفزه أسلوبها البارد:
- لا تكذبي، والدتي تكرهكِ وأنتِ أخر شخص قد تفكر في أن تولّيه علينا...
- قيس!
نهرته 'رنا' باستنكار ولكنه لم يبالي، ليتابع حديثه الجارح:
- أسلوبك الأناني هذا يجعل الجميع يكرهونك، حتى أنكِ تقتلين بدم بارد دون أن يرف لكِ جفن.
حدجته 'أليس' بنظرة مبهمة وكسا الجمود ملامحها الجميلة قبل أن تلتفت راحلة دون أن تتلفظ بحرف واحد.
- هل جننت؟! لقد أنقذت حياتك قبل دقائق وتتهمها ببرودة الدم! وأيضًا إن لم تقم هي بقتل أولئك الوحوش لكنت في عداد الموتى الآن. كم أنكَ لا تدري ما واجهته هذه المسكينة وحدها طوال هذه السنوات لتحكم عليها بهذا الشكل المتعسّف.
عاتبته 'رنا' بغضب حانق لينظر إليها شزرًا متمتمًا بسخرية:
- أنيريني.
تحيّرت في إخباره عن السر الذي حدّثتها عنه 'أليس' بشأن ماضيها في إحدى لقاءاتهما التي جرت دون علم والدتها، ولكنها أدركت أنها يجب أن تفصح عنه لتوأمها حتى يكف عن معاملتها بهذا الأسلوب المجحف.
✳ ✳ ✳
1) إهزاق: ضحك شديد.
...
الأبطال الواقعيين:
Gys_Antwan : بدور قيس
zero_sam : بدور رنا
أما باقي الشخصيات فهي من وحي الخيال ❤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top