~الفصل الثّامن:أذاقتني دماءها؟!~رحلة اللّاعودة~
لمْ أنْتَبِهْ إلى قدومِها سِوى عندما انْخفَضَ مستوَى حاشِيَةِ السَّريرِ الذِّي أنا جالِسٌ عليْهِ أفَكِّرُ و أحلِّلُ مُنْذُ ساعاتٍ طِوالٍ و دونَ أنْ تدْخُلَ ثغْري قطْرةُ ماءٍ أوْ لقْمَة طعامٍ
وضَعَتْ شيْئًا دائريَّ الشَّكْلِ مقعَّرَ الوجْهيْنِ على طاوِلَةِ عمَلي و لمْ أعْلَمْ أنَّهُ ملطِّفُ جوٍّ سِوى عنْدَما فاعَ الطِّيبُ في أرْجاءِ الغُرْفَةِ ليكونَ لهُ الفضْلُ في جعْلي أَسْترْخي
"لتَحْصُلْ على قسْطٍ منَ الرَّاحةِ! أنْتَ تعْملُ كالمهْووسِ بالعلْمِ مُنْذُ ساعاتٍ لسْنَ بقليلات"
نطَقَتْ تلْكَ الكلِماتَ بلُطْفٍ عكْسَ ما كانَتْ عليْهِ قبْلَ زمَنٍ عنْدَما اشْترَطْتُ عليْها إعطائي ما أريدُ لأسْتجيبَ لأمْرِها، و أنا تجاهلْتُها و اسْتَمْرَرْتُ بصبِّ جام ترْكيزي على القَلَمِ البارِدِ بيْنَ أصابِعي
"عنْدَما تكونُ مُهدَّدًا ما يحرِّكُكَ هُوَ الوقْتُ و المُهْلَةُ المُقدَّمةُ إليْكَ لا إلْهامُك"
عاتبْتُها بغضَبٍ و انْزِعاجٍ متأهّبًا لسماعِ ردِّها المُزْعِج لكنَّني لمْ أنلْ كلِمَة، بلْ تلقَّيْتُ لمْسَة!
ليسَا أمْسكَتْ يدِي و أزالَتْ عنْهَا القلمَ فألْقيْتُ نظْرةً خاطفَةً على أصابِعِها التِّي بدتْ لي مشابِهةً لخاصَّةِ حبيبتِي كثيرًا، لأنَّني أحْفظُ تفاصيلَها عنْ ظهْرِ قلْبٍ
حاولْتُ إبْعادَ يدي عنْها بعْدَ أنْ استوْلَى هوَى نفْسي على قلْبي بداخِلِ قبْضتهِ المتألِّفَةِ منْ العديدِ منَ الذِّكْرياتِ لكِنَّها منعتْني منْ ذلِكَ نظرًا لشدَّةِ تشبُّثِها بي
"أنْتَ تحْترِق!"
نبسَتْ بذلِكَ لكنَّني لمْ أكُنْ مُنْتَبِها إلى ما قيل، فقطْ أحَدِّقُ بملامِحِها التِّي بدأتْ تنْقلِبُ إلى خاصَّةِ ليسَا تدْريجيًّا بانْحذافِ الفروقاتِ لسببٍ غيْرِ مُقْنِعٍ، شعْرٌ بنيٌّ و عيْنانِ عسليَّتان
كدْتُ أنْ أقْتَرِبَ مِنْها لأرْوي شوْقي إليْها بيْدَ أنَّها أضافتْ بصَوْتٍ مرْتفعٍ
"أنْتَ تهْذي!"
"أنا في أفْضَلِ حالٍ"
تركتْني لأتأوَّهَ بتألُّمٍ بعْدَ أنْ فطنْتُ بوخزاتٍ حادَّةٍ في صدْري
"أنا لسْتُ هِيَ، فقطْ خدَّرْتُكَ بمَا تُحبُّ لأحلِّلَ وظائِفَ أعضائِكَ الحيويَّةِ و لأنَّ الفحْصُ كانَ ليكونَ مؤلِمًا جدًّا و أنْتَ واعٍ...النَّتيجَةُ للأسَفِ تقولُ أنَّكَ لنْ تتحمَّلَ أكْثرَ إلى أن يصطادوا منْ أجْلِكَ ماموثًا"
"م...ماموث؟"
بدأْتُ بالتَّأْتأةِ و اللُّهاثِ بإرْهاقٍ في آنٍ واحدٍ، مرَّرْتُ كمَّ قميصي الغيْرِ ممزَّقٍ على جبْهَتي فابْتلَّ لفرطِ تعرُّقِ الأخيرَة، و للمرَّةِ الأولَى استسلمَ جفْنايَ إلى استِغاثَةِ جسدِي و فقدْتُ وعْيِي دونَ تدخُّلاتٍ خارجيَّةٍ
•
~
•
تنهَّدَتْ لاليسَا و هيَ تنظُرُ إلى ذلِكَ المُسْتَلْقي على ظَهْرِهِ فوْقَ سريره ثمَّ قالتْ بصوْتٍ خافتٍ و كأنَّ للجُّدرانِ أعينًا و آذانًا
"سأضطرُّ إلى فعْلِها"
أزالَتْ الطَّبقةَ الأولى منْ ملابِسِها الثَّقيلَةِ الدَّافِئةِ و تناوَلَتْ سكِّينًا من ذلِكَ الحِزامِ الذِّي يلفُّ خصْرهَا ثمَّ دنتْ من جينْ بخطواتٍ متثاقِلَةٍ في تزامنٍ مع تدفُّقِ أفْكارٍ عديدةٍ وليدةِ نفسِها الحائرةِ في رأسها العنيد
هلْ يستحقُّ التضحيةَ؟ ألنْ يخونَ لاحِقًا؟
*
*
*
أسْتسيغُ طعْمًا معدنيًّا مالِحًا في فَمي مِمَّا دفعَني إلى القيَامِ بضمِّ حاجبيَّ بغْيةَ التعرُّفِ على طبيعَةِ ذلِكَ المذاقِ لا تقزُّزًا منْهُ بمَا أنَّ جسدِي قدْ تكيَّفَ معَ أشْباهِ السُّمومِ التِّي كُنْتُ أتجرَّعُها لاخْتبارِ مدَى تأثيرِها على جسَدِي و مناعَتِي...و قدْ كانَتْ أفظَعَ بكثيرٍ و يفْضُلُ عدمُ ذكْرِ مكوِّناتِها
نعمْ و كما توقَّعْتُ منَ البدايَةِ، إنَّهُ دم!
قطراتٌ منْهُ كانتْ منْثورَةً على قَمِيصي الأبْيَضِ الذِّي كانَ أوَّلَ ما وقَعَ عليْهِ بصَري بعْدَ أنْ أعادتْهُ الظّلمَةُ إليَّ أنا...مالِكُهُ
لا إراديًّا و بِسُرْعَةٌ جلسْتُ على السَّريرِ بعْدَ أنْ انْتبَهْتُ إلى جونْكوكْ القابِعِ في زاوِيَةِ غرْفَتِي يحدِّقُ بي بازْدِراءٍ و احْتِقارٍ، ينْتظرُ منِّي بوادِرَ الشِّفاء و اليقظَة..أظنّ؟
أحطْتُ رأْسِي بيديَّ لمحاربَةِ الصُّداعِ الذِّي هاجمَهُ بغْتَةً بسبَبِ حركَتي المفاجِئةِ التِّي لم يتقبَّلْها جسَدي الضَّعيف
"و أخيرًا استيْقظْتَ بعْدَ أسْبوعٍ كامِلٍ منَ النَّوْمِ العميقِ؟"
نبسَ بتلْكَ الكلماتِ متسبِّبًا في تحْريرِ رأْسي منَ الصُّداعِ الذِّي نهشَهُ دونَ شفقةٍ، جزْءٌ ضئيلٌ منْ نفْسي يشْكُرُهُ على بلْسمِهِ الشَّفويِّ الذِّي قدَّمهُ لي و جزْءٌ آخرٌ ضخْمٌ من نفْسي سلَّمَ دروعَهُ إلى الحيْرَةِ و عدَمِ الفهْمِ خصوصًا بعْدَ أنْ أضافَ جونكوك
"جرْحُ معِدَتِكَ الْتأمَ تمامًا و حرارَةُ جسَدِكَ انخفضَتْ كثيرًا، أيْ أنْتَ و باخْتِصارٍ نجَوْتَ منَ الحمَّى و مِن الموْت، لكِنْ...كيْفَ لمْ تتفطَّنْ إلى الطَّعْنَةِ التِّي حصلْتَ عليْها؟"
أنا أيْضًا أتساءَلُ...ماذا؟! طعْنَة؟!
كُنْتُ مذْهولًا! رفَعْتُ قميصِي إلى مُسْتَوى صدْري لأُلاحِظَ أنَّ معِدَتي مغطَّاةٌ بطبقَةٍ رقيقَةٍ شفَّافَةٍ سألْتُهُ دونَ تردُّدٍ عنْ ماهِيَّتِها بعْدَ أنْ انْتصَبْتُ و تخلَّيْتُ عنْ السَّريرِ الذِّي لمْ يكُنْ مريحًا منَ الأساسِ
"جليدٌ شافي...شدَّةُ برودَتِهِ تدْفَعُ الجُّروحَ إلى الإلتئامِ و الجِّلْدَ إلى التَّلاحُمِ أسْرَعَ بأضْعافِ المرَّاتِ من الجُّروحِ الغيْرِ معالجَةٍ أوْ المقطَّبَة كخاصَّةِ النِّمسيس"
نهَضَ عن المِقْعَدِ و بلَّغني بما أرْسِلَ منْ أجْلِهِ مُنْذُ البدايَةِ
"عمومًا ليسَا تأْمُرُكَ بتَجْهيزِ نفْسِكَ إلى النُّزْهَة...و متأكِّدٌ منْ أنَّكَ لنْ تفْهَمَ طريقَةَ اسْتِعْمالِ أغْلَبِ الموادِ داخِلَ الحمَّامِ لكنْ لا تتوقَّعْ منِّي المُساعَدة، هذا لا ينْفي كوْنَكَ مُجْبرًا على الإغْتِسالِ و التهنْدُمِ لتبْدُو لائِقًا في أنْظارِ المَلِكَةِ و شعْبِها"
ابْتسَمَ و كادَ أنْ يُغادِرَ لكنَّني أوْقفْتُهُ و جمَّدْتُ جسدَهُ بنُطْقي لِ
"أنْتَ الوحيدُ كثيرُ التوقُّعاتِ هُنَا"
ترَكْتُهُ و دخَلْتُ إلى الحمَّامِ الذِّي كانَ في غُرْفَتي مبْتسِمًا بانتصارٍ
وجدْتُ في زُجاجَةٍ كبيرَةٍ مسْحوقًا أبْيضًا اكْتشفْتُ بعْدَ الإسْتِعانةِ بحواسي أنَّهُ ملْحٌ ممْزوجٌ ببيكرْبوناتِ الصودْيومْ و هما يُعْتبرانِ مطهِّرَيْنِ و منظِّفيْنِ شديدَيْ الفعاليّةِ
مزجْتُ القليلَ في كوبٍ زجاجِيٍّ و اسْتعْمَلْتُهُ كصابونٍ و معْجونِ أسنانٍ، نزعْتُ جميعَ ملابِسي و أنا مسْتَغْربٌ منَ الحرارَةِ التِّي تسْرِي في جسَدي، فالبُخارُ الأبْيضُ النَّاجِمُ عنْ ارْتِطامِ الهواءِ السَّاخِنِ بالبارِدِ و تفاعُلاتُ شعْرِ جسدي و مساماتهِ مع الجوِّ شهدَا لصالِحِ برودةِ الجوِّ ضدَّ إحْساسي المزيَّف
لماذَا أشْعُرُ بالدِّفئِ و كأنَّ الصقيعَ يحْتضِنني لا يخِزُ أوْصالي؟
لا أعْلمُ و لا يهُمُّ...
اقْتربْتُ مجدَّدًا من ذلِكَ الصُّنبورِ المختلِف، على شكْلِ رأْسِ ماموثٍ أحتاجُ إلى رفْعِ إحدى قرْنيْهِ ليفْتَحَ فمَهُ و تسيلَ منْهُ المياهُ الحارَّةُ..
سأسألُ لاحِقًا عنْ كلِّ ما هُوَ محيِّرٌ..
*
ما إنْ فتَحْتُ البابَ حتَّى قابلنِي وجْهُ أحَدِ الخدَمِ الذِّي أخذَنِي إلى ما يبْدُو أنَّها غرْفَتُهَا الخاصَّة، تتوسَّطُها طاولَةٌ كانتْ لاليسَا جالسةً أمامها و دعَتْنِي بإشارَةٍ منْ يدِها إلى الجُّلوسِ حذْوها، قبْلَ أنْ يتمَّ جلْبُ الطَّعامِ المؤلَّفِ من فاكِهَةٍ و لحْمٍ غريبَيْ الشَّكْلِ و القوامِ و المذاقِ بحيْثُ لا يشْبِهانِ شيْئًا و لكنَّهُمَا ألذُّ منْ كلِّ شيءٍ
°
ننْظُرُ إلى أطْباقِنَا و نمْضغُ طعامَنا تجنُّبًا لالْتِقاءِ أعْيُنِنَا و وجوبِ الكلامِ، لكنَّ فضولِي كالعادةِ خسِرَ أمامَ آدابِ المائدَة
"إذنْ!"
وضعْتُ كُرتِي في سلَّةِ انْتِباهِها لأفوزَ ضدَّ الصَّمْتِ عنْدَما رفَعَتْ رأسَها لتنْظُرَ إليَّ بعيْنيْنِ لامِعتيْنِ بعْضَ الشَّيْءِ ترقُّبًا لمَا أتوقُ إلى قوْلِهِ
"لمَ لا تضعينَ عدساتٍ في عينيْكِ كما يفْعلُ الجَّميعُ هنا؟"
لاحظْتُ من ردَّةِ فعْلِها أنَّ الطَّعامَ قدْ علقَ لثانيَتيْنِ في بلْعومِها قبْلَ أنْ تبْتَلِعَهُ و ترْتشِفَ القليلَ منَ المياهِ من كوبِها
"بالطَّبْعِ لنْ أرغبَ في اقْتِلاعِ مقلتيَّ لأضعَ أخريتيْنِ مكانهُما"
أنا حرْفيًّا غصصْتُ بطعامِي بعْدَ سماعِ ردِّها، و قبْلَ أنْ أنْطِقَ بحرْفٍ أخذتْ هيَ زمامَ الحِوارِ
"أعيُنُهُمْ الآن تحاكِي وظيفة عينيْ الببَّغاء، على عكْسِ البشَرِ الذِّينَ يمْلِكونَ ثلاثةَ أنواعٍ منَ الخلايا المخْروطيَّةِ التِّي تعْملُ كمُسْتقْبِلاتٍ لونيَّةٍ للأجْسامِ الحمْراءِ و الزَّرْقاءِ و الخضْراء في شبكيَّاتِ أعْيُنهِمْ للببّغاء نوْعٌ رابِعٌ منَ الخلايَا المخروطيَّةِ للكشْفِ عنْ الأشعَّةِ فوْقَ البنفسجيَّة، و كعدسةِ الببغّاءِ تسْمحُ عدساتُ تلك الأعيُنِ برؤْيةِ العالمِ بنظْرةٍ أدقَّ متبايِنةٌ ألوانُها أشدَّ التبايُنِ، إلى جانبِ احتوائها على محلِّلٍ لحركاتِ بؤبؤِ العيْنِ و اتّساعِ حدقتِها للكَشْفِ عن نفسيَّةِ من أمامك و طريقةِ تفْكيرِهِ، ناهيكَ عنْ الأشعَّةِ التِّي يمْكِنُها أنْ تسْمحَ لكَ بإلْقاءِ نظْرةٍ عنْ الأعضاء الداخليَّةِ و تحليلِ وظائِفِها"
استأنفتْ ما كانَتْ تفْعلُهُ بطبقِها و كأنَّ ما تفوَّهتْ بهِ شيءٌ عاديٌّ عن أفْعالٍ رائجَةٍ، لكنَّها ابتسمتْ فجأةً و قالتْ ببعْضٍ من تأنيب النَّفسِ
"ما كانَ عليَّ التحدُّثُ عنْ هذَا أثْناءَ تناوُلِ الطَّعامِ لأنَّهُ صعْبُ الإسْتيعابِ، سيبدو لكَ الجَّميعُ هنَا مجانينًا و أنا فقطْ اعْتدْتُ عليهِمْ فافعلْ المثْل! لكِنْ لأزيدَ منْ استِغْرابِكَ سوءًا دعنِي أعْلمُكَ بأنّهُمْ لا يتناولونَ الطعامَ مثلنا الآنَ بلْ يغْرزونَ إبرًا في أجسادِهِمْ منْذُ سنِّ البلوغِ ليصِلوا بِها محاليلًا مغذِّيَةً طائِرةً في السَّماءِ بفضْلِ الدِّماءِ السحريَّةِ، و لوْ طالبتْهُمْ أجسادُهمْ بسدِّ الرَّمقِ يقمعونَها بكمِّياتٍ كبيرَةٍ منَ المياهِ ، لذلِكَ أغلبُهمْ نسوا آخرَ مرَّةٍ وضعوا فيهَا طعامًا حقيقيًّا في أفواهِهِمْ"
"كيْفَ تحصَّلتُمْ على المِلْحِ؟"
ماذا لماذَا رفعَتْ حاجبَهَا الأيْمَنَ عالِيًا باستِغْرابٍ؟ لقدْ طرحْتُ سُؤالًا في السِّياقِ...منَ الجيِّدِ أنَّها تنهَّدَتْ و هالَةٌ منَ البرودِ و الهدوءِ أحاطتْ بِها فهذِهِ علامَةٌ على أنَّها بدأتْ تعتادُ على جنونِي
"دماءُ الماموثِ هيَ دِماءٌ غازيَّةٌ شديدَةُ الحرارَةِ، الغازُ المنحلُّ فيهَا أخفُّ بكثيرٍ منَ الهواءِ الجويِّ و لهُ قوَّةُ دفْعٍ كبيرةٍ إلى الأعْلى، لذلِكَ نأخُذُ جليدًا منْ أماكِنَ معيَّنةٍ مؤكَّدٌ أنَّ ماءهَا مالِحٌ و نضعُهُ في آلَةٍ صغيرَةٍ موْصولٌ في هيْكَلِهَا منَ الأسْفَلِ خزَّانٌ صغيرٌ هزَّازٌ يتمُّ ملؤُهُ بدماءِ الماموثِ ليسْتخْرجَ منْهَا الغازُ بفضْلِ حركاتِهِ السَّريعَةِ و المتتاليَةِ فينْتُجُ عنْ ذلِكَ طيرانُ الآلةِ إلى السَّماءِ بمسافةٍ يحدِّدها طولُ حبْلٍ مربوطةٌ بهِ الأخيرَة، بحيْثُ تقترِبُ منْ حرارةِ الشَّمسِ و لا تحترِقُ في نفسِ الوقت، و بعْد فتْرةٍ يغْلي الماءُ فنحْصُلُ على الملْحِ لنسْتعْمِلَهُ في التَّنظيفِ و الطَّبخ و بضعةِ تجاربَ تستدعي أن يكونَ من المكوِّنات، و أهمُّ شيءٍ إعدادُ المحاليلِ المغذِّية...
لولا الملْحِ لكانَ طعْمُ الماموثِ حلْوًا جدًّا بصفَةٍ مزعجةٍ و نكهةٍ غيْرِ متوازِنَةٍ لأنَّ كلَّ ما يتغذَّى عليهِ هوَ ثمارُ نبتَةِ 'الكارْما' و المياهُ منَ البراكينِ..
أعلمُ أنَّكَ تتساءلُ عن السَّبَبِ الذِّي منعَ جسدَ الماموثِ منَ الطَّيرانِ لوْ كانَتْ دماءهُ سحريَّةً إلى هذهِ الدَّرجَة؟ لأنَّ لحمَهُ و عظامهُ أثقَلُ من الغازِ المنحلِّ في دمائِهِ و جلدُهُ يشكِّلُ عازلًا قويًّا، أليسَ لحمُهُ قاسيًا فعْلًا؟"
نطقتْ الجُّمْلةَ الأخيرَةَ بمُزاحٍ و هيَ تحاوِلُ أخْذَ قضْمَةٍ منْ مأْكَلِها فبدتْ لطيفةً بطريقةٍ لاحظْتُها لكنْ لمْ تشتِّتني عنْ تساؤُلاتي، نعمْ الفضولُ سرقَ منها الأضواءَ و أنا انصعتُ إليْهِ كالأبلَه
مياه البراكين؟ نبتَةُ 'كارْما'؟ تناوُلُ لحْمِ ماموث؟
مهلا هل ما أتناولُه الآنَ هوَ لحْمُ ماموث؟!
"ما..؟"
قاطعتْني كالعادة
"غيْرُ مسموحٍ بإجْراءِ العمليَّاتِ الجراحيَّةِ أوْ ذكْرِ الطبِّ هُنا بسببِ الأخْطاءِ الطبيَّةِ التِّي تجْعلُ منْ مرتكِبِها آثِمًا و يتحوّلُ إلى نمسيس..
كانَ الأطبَّاءُ يتعرَّضونَ إلى السبِّ و الشَّتْمِ و الأذيَّةِ من قِبلِ النَّاسِ، إلى أن نفذتْ قدرةُ أحدِهِمْ على التحمُّلِ و طالبَ بإيقافِ المستشْفياتِ عن العمَلِ، عقدَ إجتماعاتٍ تدْعوا إلى ذلكَ و أقنعَ الضُّعفاءَ بالإنضمامِ إليْهِ و بعْدَ شهريْنِ تمرَّدَ باطِنُ الأرْضِ على مُحيطِها و أنبتَ منْ داخلِهِ زرْعًا شقَّ الجَّليدَ و احزر أين؟
بداخِلِ منْزِلِ ذلِكَ الطَّبيبِ و المساحةِ المُجاورةِ لهُ فتمكَّن من أن ينالَ الأحقيّة في إطلاقِ تسميَةٍ على ثمارِها و قدْ كانَتْ 'كارْما' نظرًا لأنّه مطلقٌ على فتاتهِ الوحيدةِ التي أنجبهَا من زوجتهِ المتوفّية-و قصّتها تعاطفَ معها النَّاس- ثمَّ أخْبرَ الجميعَ بأنَّ أفعالهُ الطيِّبةَ مع المرْضى و دعْوتهُ إلى إيقاف الجرائم الطبيّةِ المرتكبَةُ في حقِّهمْ قد أثْمرتْ-بالمعنى الحرفيّ- ثمارًا شهيّةً مغريةً لكلِّ الحواس لأنَّها مثاليَّةٌ بأتمِّ معنى الكلِمَةِ فآمن بقولِهِ الجميعُ من ضمنهِمْ جدِّي الأكْبَرُ و تمَّ تحريمُ الطبِّ في عقيدتِنا لا منعهُ فقطْ...لكن..."
نهضَتْ فجأةً عنْ مكانِها و اقْترَبَتْ منِّي بشدَّةٍ لتهْمِسَ على بعْدِ إنشاتٍ قليلةٍ منْ أذنِي
"اخترعَتْ عائلتُهُ بعْدَ فتْرَةٍ قصيرةٍ آلةَ 'المامسانْ' للمناعة المُكتسبَة و الشِّفاءِ الدَّائمِ، الجميعُ آمنَ بأنَّ نجاحَ تجاربِها كانَ تابعًا لمكافأةِ القدرِ لهُ على جهودهِ و مازالَ نسْلُهُ ذا مكانةٍ عاليَةٍ إلى يوْمِنَا هذَا..
أنا الوحيدَةُ، إلى جانبِ النمسيسِ الحاقدين على الجميع، من نؤمنُ بأنَّ جدِّي مخطئٌ و أنَّ ذلِكَ الطَّبيبَ فقطْ روَّجَ إلى آلتهِ بأفعالهِ الخبيثةِ لأنَّها أصلًا ليستْ بالرَّائعة لأنَّها لا يمكنُها إنقاذ البشرِ و إنعاشُهُمْ بعدَ توقُّفِ النبْضِ و لا يمكنُها العلاجُ سوى مع تواجُدِ الماموثاتِ صعبةِ الاصطياد مهما كان الصَّائدُ محنَّكًا..
بسببِ تربيَةِ جونكوك على أسسٍ خاطئةٍ كان عنيفًا قليلًا معكَ في لقائكُما الأوَّل، أعتذِرُ نيابةً عنْهُ"
تمَّ إخراسِي بكمِّ المعْلوماتِ الممطرَةِ على رأسي بنجاحٍ، و لأنَّ عقلي دسمٌ بالمعلوماتِ و ليْسَ أرضَ بورٍ أصبتُ بصداعٍ شديدٍ و صمتُّ
*
نسيرُ على طريقٍ أسودٍ خاصٍّ بالملكَةِ فقطْ، الجَّميعُ يبتسمونَ لي لوْ اتَّصلَتْ أبصارُنَا و أنا أُبادِلُهُمْ ببشاشةِ و ضحْكَةٍ صامتَةٍ مزيَّفةٍ
لاليسَا دنتْ منِّي أكْثرَ و همسَتْ في أذُني
"همْ غيْرُ معتادينَ على هذَا فلا تخْذلْهِمْ، همْ لا يمتلكونَ الوقْتَ للإبتسامِ لبعضهِمْ البعضِ حتَّى و لكنَّهُمْ صنعوهُ من العدمِ لأجْلكَ، هنا القانون هو العملُ و العملُ فقطْ!"
"لكن...لمَ كلُّ هذا الجدِّ؟ ألهذهِ الدرجةِ همْ مهووسونَ بالعملِ؟"
"كلّا هوَ الهوسُ بالحياةِ و الخوفُ المرضيُّ منَ الموتِ، و جميعُ البشرِ مصابونَ بهذهِ العلَّةِ...
نحنُ نصْنعُ مخبئًا لنا من مصيبةٍ قريبةٍ قادِمَة، الشَّمسُ تقترِبُ منَّا شيئًا فشيْئًا و أجسادُنَا قدْ لا تتحمَّلُ حرارتَها لأنَّها متكيفَةُ مع الجوِّ الباردِ و حتّى هرموناتُنا معدَّلةٌ لتتلاءَمَ معَ المناخِ الجليديِّ"
أومأتُ برأسي بالإيجابِ سعادةً بأبسطِ و أكثرِ كلامٍ معقولٍ سمِعْتُه هنا، و خطرَ على بالي سؤالٌ أجهلُ سبب غفلتي عنْهُ طوال هذه الفتْرة
"على ذكْرِ الأجْسادِ و الصحَّة..ما هوَ ذاكَ الشّيْءُ الذِّي وجدْتُهُ في فمِي صباح اليوْمِ؟ دماءٌ صحيح؟ رجاءً لا تقولي أنَّها لماموثٍ"
نطقْتُ جمْلتِي الأخيرَةَ بسخْريةٍ آملًا أنْ تُنفى شكوكِي فلا أصْدَم، لكنَّني صدِمْتُ بالرَّغمِ من أنَّها قدْ نفتْها
"كلَّا إنَّها دمائِي أنا..و قبلَ أن تسألَ كيْفَ ذلِكَ سأشرَحُ لك الأمْرَ
الجَّميعُ هُنا حصلوا على دواءٍ من جدِّي الذِّي ساهمَ في رفعِ السنواتِ المتوقّعِ عيشُها بعْدَ الولادةِ من خمسٍ و عشرينَ سنةً إلى ستِّينَ سنةٍ فما فوْقَ بفضْلِ ما يسمَّي 'البيكتاريوسْ' الحميدَة التِّي يتزايدُ عددُها إلى أضعافِ العدَدِ الأصليِّ و خلالَ فتْرةٍ قصيرَةٍ تتلاحمُ داخلَ الجَّسدِ مكوِّنةً طبقةً حارَّةً تغطِّي كاملَ الجسدِ منَ الدّاخل
نفذتْ كميَّةُ الدَّواءِ لأنَّها كانتْ محدودةً لكنْ يمْكنُ للدماءِ المُعالجَة عملُ نفْسِ المفْعولِ فقطْ لوْ تمَّ التبرُّعُ بها لمرَّةٍ واحدَةٍ و بنصفِ لترٍ فقطْ، التبرُّعُ للمرَّةِ الثّانيةِ سيكونُ قاتلًا للطَّرفيْنِ، لأنَّ البيكتاريوسْ و بعْدَ أنْ تكوِّنَ شبكةً داخِلَ الجَّسدِ يتوقَّفُ نشاطُها فلا تُعوَّضُ، هيَ تتلوّثُ بسرعةٍ لذلكَ نحمي أنفسنا قدر الإمكان من الجُّروحِ، و سببُ كونِ الكميَّةِ الدقيقةِ للدماء الموهوبَةِ هوَ نصفُ لترٍ فقطْ يكْمُنُ في كوْنِ البيكتاريُوسْ تستيقظُ لو وجدتْ نفسهَا في بيئةٍ جديدَةٍ و كميّة أكبر من نصف لترٍ تساوي نشاطًا مفرطًا لأعضاء الجسمِ الحيويَّةِ تليهِ حمّى قاتلةٌ أو مسبِّبةٌ لشللٍ دائمٍ"
أظنُّ أنَّها تتحدَّثُ عن البكتيريا، لكنَّ هذا النّوعَ منها مقيَّدٌ بمساحات معيَّنة، و أثناء تحميلِ المعلوماتِ بداخلِ عقْلي الذِّي بدأتْ قوّة ذاكرتِه بطلب النَّجدةِ تسلّل إلى مسمَعي صوْتُ بكاءِ فتاةٍ صغيرَةٍ
لمحْتُ منْ خمّنتُ أنَّهُما والِدَاها و هُما يقْتَرِبانِ منْها و غضِبتُ عندَما نبسا بجفاءٍ زادَ عنْ حدِّهِ بعْدَ فحصها
"هيَ بخيْرٍ ليْستْ هُناكَ دِماء"
.
اقْتَربْتُ منْها متخطِّيًا حدودَ الطَّريقِ الأسودِ واطئًا الأبيضَ تارِكًا تلكَ الملِكَة الغريبة خلْفي، و ركَعْتُ أمامها بعْد أن انتبهَتْ إلى وجودِي و التقَتْ أعْيُنُنا، لمْ أخفضْ نفسي إلى مستواها سوى لأنَّني لنْ أخاطِرَ بالجُّلوسِ على ركبتيَّ فأتجمَّد
وضعْتُ يدي على رأسهَا أربِّتُ على شعرِها بلُطْفٍ بعد أن ارتأَيْتُ في عيْنيْها نظرةً تعترفُ خلْسةً بأنَّ صاحبتهَا جائعَةٌ توْقًا إلى الحبِّ و الحنانِ ، علمْتُ أنَّها فتاةٌ ناعمةٌ نقيَّةٌ كالماءِ تتعرَّضُ إلى معاملةٍ جافَّةٍ قاسيةٍ كالجليدِ، فنبس قلْبي..أقصدُ فمي. بكلماتٍ دونَ طلبٍ مسبقٍ لإذْني
"بلْ أنتِ مصابَةٌ...هنَا"
أشرْتُ بسبَّابتي إلى جانبِ صدْرها الأيْسرِ تلاهُ تلقّي قامتي المنخفضة لعناقٍ دون سابق إنذار فبادلتُها إيّاه، و تشبَّثتْ بي
"هذا دافئ"
نطقَتْ كلمتيْنِ جذبتَا انتباهَ الجَّميعِ عدايَ أنا الذّي شدَّ انتباهي شعوري بتشكُّل ابتسامة على محياها ضدَّ بشرتي، لماذا الاستغراب منهُمْ؟ ألا تقالُ هذه الكلمةِ و مثيلاتُها هُنا؟
شعورِي بتبلُّلِ قميصي بدموعِها كان البرْهانَ على صحَّةِ شكوكِي، تبكِي و تبتسِمُ في آن واحد فيالَهُ من اضطرابٍ!
خصَّصتُ لها عشر دقائقٍ من الحبِّ و اللَّعِبِ على مرآهُمْ، عنْ عمْدٍ، ليتعلّموا
•
قالتْ لي لاليسا مبتسمةً
"أحسنتَ سوكْجينْ! و..أشكُرُكَ"
أنا ذُهِلْتُ، لساني الذِّي تحرَّكَ تلقائيًّا أيضًا فعل
"ماذا؟"
"فعلْتَ شيئًا راقني دون أن تدْركَ ذلك، لذلِكَ سأكافؤك بشيءٍ ما بما أنَّ صميمكَ دافئ كصميمِ كوكبِ الأرض"
لمْ أتحمّس كثيرًا إلى هديَّتِها، و لكنَّها قلبتْ مشاعري إلى صالحِها بقولِها
"سآخذكَ إلى مكانِ هبوطِ آلتكَ لتراها"
***
"ليسا ما هذا؟"
الطّريقُ كان طويلًا فطمحتُ إلى تقصيرهِ عندمَا استفْسرْتُ عن ماهيَّةِ تلكَ الطَّبقَةِ المضيئةِ بلوْنٍ أبيضٍ و القريبةِ جدًّا من الأرضِ
" 'إزونشيما' و هناكَ أخرى أبعدُ منْ هذهِ بكثيرٍ، الأولى تحمينَا و تضيءُ لنا المكانَ مع عزلهِ عنْ حرارةِ الشمسِ و تبريدِه و الأخرى يقالُ أنَّها ستحْمي البشرَ في المسْتقْبلِ...لكن كلتاهُما لن تنجُوا و ستثقبانِ"
إذن هي أوزون؟ إثنتان؟
انتشلتني من كوْمةِ أسئلتِي بقولها الذِّي لوَّنتْهُ بالحماس
"وصلْنا!"
من الطبيعيٍّ أنّني لم أتفاجأْ بحظِّي العثِر...و بأنَّ الآلة المحطَّمةَ التِّي أمامِي الآنَ ليستْ مكوكي الفضائيَّ
أستطيعُ سماع صوتِ تحطُّمِ قلبي و آمالي، رسميًّا سأُطلقُ على سفرتي تسميةَ
رحلَةِ اللَّاعودَة
~يتبع~
1: هل ستتحسن علاقة جينْ بجونكوكْ؟
2: ردة فعلكم عن تبرع ليزا بدمها إلى جين؟
3: تؤمنون بوجود أكثر من طبقة أوزون واحدة؟
4:أيّ نقد؟
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top