(18)

بقلم : نهال عبدالواحد

نزل عزيز من القطار وسار بضع خطوات ثم سُمع فجأة صوت غارة، فجرى الجميع نحو المخابئ وفجأة صوت أحدهم ينادي عليه: عزيز.

فالتفت ناظرًا للواقف خلفه، وكان رجلاً أربعينيًا بشرته سمراء بفعل الشمس، شعره قصير أسود إلا من بعض السوالف المفلفلة ببعض الشعر الأبيض، طويل القامة وله شارب .

تحدث الرجل: كيف حالك يا عزيز ؟ أين أنت؟

أجاب عزيز معانقًا له بحرارة: مرحبًا سيدي، أنا موجود.

أبعده الرجل قليلًا وأكمل بجدية : موجود! أين ذلك؟ في بيتكم!

فسكت عزيز وشعر ببعض الحرج، فأكمل الرجل: متى عُدت؟ ولماذا لم تقوم بتسليم نفسك لوحدتك؟

أجاب عزيز على استحياء: معذرةً سيدي لكني لا أقوى، لقد واجهت الموت وعندما عُدت لم أجد سوى السخرية والتهكم وعدم التقدير، صرت لا أستطيع مقابلة أحد ولا رؤية أحد.

فأمسكه الرجل من ياقة قميصه وقال له بشدة: وهل عندما فكرت في الحربية والتحقاقك لتكون أحد أبناء الجيش لم تكن تعلم أنك تقدم روحك وتحملها على كفيّك؟!

- أعلم كل هذا، لكن ما حدث لم يكن بالسهل أبدًا لقد حطمني وانهارت تمامًا.

- وعندما تتحدث هكذا أنت وأمثالك، كيف سنحررها؟

- أقسم لك أني متعب جدًا سيدي!

- إذن عندما تعود رجلًا مثلما كنت فأنت تعلم أين ستجدني.

وفي نفس الوقت تدخل صوت آخر: كأني قد أخطأت في العنوان!

فالتفت عزيز لمصدر الصوت فوجد مسعد ابن الشيخ بدر فعانقه وسلّم عليه بإقبال وقال: مرحبًا أخي، كيف حالك يا مسعد وحال والدك الشيخ بدر؟

فسكت مسعد ثم قال بحزنٍ كبير لدرجة أنه كاد ينفجر بالبكاء: قتلوه الأنجاس، كنت بالخارج وقتها وعندما عُدت وجدت دارنا قد هُدم وسُوي به الأرض بعد أن قتلوا أبي، لم يعد لي أحدًا متبقيًا، وكنت أريدك لتدلني كيف أتطوع فدائيًا في الجيش، ألم تحتاجوا لفدائيين؟! لقد زاد الحساب و ثقل، عندما تطوع أخي مسعود بالجيش طلب مني أبي أن أظل معه لأرعى مصالحنا وكنت أتمنى أن أتطوع معه، لكني أطعت والدي وقتها، أما الآن فقد ذهب أخي وأبي، وذهبت الأرض والديار، ولو قُدّر لي الموت إذن فأموت رافعًا رأسي.

طأطأ عزيز رأسه وتنهد بألم وقال باختناق: أنا السبب أليس كذلك؟!

أجاب مسعد: بعد أن غادرت ديارنا ظل ذلك الكلب الملقّب بيعقوب يعس ويتقصّ أخبارك حتى تأكد من شكوكه وكونك ضابطًا مصريًا، فقتل والدي لأنه آواك وهدم البيت كعادتهم، واليوم جئتك طامعًا في مساعدتك لآخذ بثأر أبي وأخي.

فربت عزيز بكتفيه وقال: إذن تعالي معي الآن ثم نتحدث بشأن هذا في وقتٍ لاحق.

تدخل القائد: يمكنك أن تحضره إلينا ثم عُد أنت لتتدفّأ ببيتك في حضن أمك.

وقبل أن ينطق عزيز بكلمة كان ذلك الرجل قد انصرف، كم آلمه حديثه رغم إنه محق!

بينما قال مسعد: لم أكن أحب أن أراك في هذه الحالة، بالرغم من أن أبتي قد نصحك وتواعدت معه لكن يبدو أنك قد نسيت! يبدو أنك تلقي أذنك لأقاويل الناس رغم أنه قد نصحك بأن تغلق أذنك عن حديثهم!

صاح عزيز بقهرٍ وضعفٍ واضح: أنا بشر وقد تعبت.

فالتفت مسعد منصرفًا من أمامه فتذكر فعلة والده الشيخ بدر وكيف أنقذ حياته، وكيف عرّض حياته للخطر بل لقد دفع حياته ثمناً لنجاة عزيز .

فأسرع عزيز وناداه: انتظر مسعد، تعالى معي فقد انتهت الغارة، هيا هيا معي!

- أشكرك أخي، لكن لم أعد أرغب.

- لا والله! لابد وأن تجئ معي، أنا لست بندلٍ ولا خسيس، لكني متعب للغاية ولا أحد يقدر ولا يشعر بما أعاني منه وأمر به.

- ربك ييسّر العسير ولكل عقدة ألف حل، فقط توكّل على الله فهو حسبك.

- ونعم بالله، هيا بنا لنكمل حديثنا.

مسعد مترددًا: لكن...

فقاطعه عزيز وهو يجذبه من ساعده: ليس بالبيت سوى أبي وأمي، أخواتي البنات متزوجات وتعيشن في قرية بأسيوط، و والداي أيضًا سيذهبان للعيش هناك.

سار الشابان معًا حتى وصلا لبيت عزيز فطرق الباب ففتحت أمه وتفاجئت بالضيف الذي معه، وكانت قد جمعت الكثير من الأمتعة لتستعد للتهجير لقرية أهل زوجها.

لكنها استقبلته أفصل استقبال خاصةً عندما علمت أنه السبب في نجاة ابنها هو وأبيه، أما ترحيب عبد المنعم فكان لإحساسه بأن ظهوره كان في الوقت المناسب فربما يسهم في عودة ابنه لرشده.

وبينما هم كذلك إذ سمعوا نداء أحد أهل المنطقة: يا أستاذ عبد المنعم، يا أبو عزيز!

فخرج إليهم عبد المنعم من الشرفة وقال: ماذا هناك؟

فصاح بقوة: لقد أُصيب الأستاذ يوسف في تلك الغارة وقد نقلوه إلى تلك المستشفى القريبة، فهيا إلحق به.

فدخل عبد المنعم وهو يهم بلبس حذاءه قائلًا لعزيز: لقد أصيب يوسف في تلك الغارة.

صاحت حميدة بصدمة: لا إله إلا الله، الخير منك يا الله، كان الله في عونك يا عديلة يا أختي! يا وجع قلبك يا حبيبتي!

صاح فيها عبد المنعم: اكتمي فمك يا امرأة، هل ستجئ معي يا عزيز؟!

أومأ عزيز بسرعة: أجل أبي، فهو في مقام العم، هيا بنا يا مسعد.

أجاب مسعد بحماس: أكيد يا عزيز.

وغادر الثلاثة وانطلقوا ذاهبين إلى المستشفى، بالطبع كانت مليئة بالمصابين، الجرحى والحالات الحرجة، رائحة الدم والدخان في كل مكان، وشبح الموت يحوم حول المكان.

ظلوا يتلفتون ويبحثون وسط المصابين الذين بالطبع لم يكونوا ممددين على أسرّة، فالاستعدادت لا تكفى لاستقبال هذا العدد، فكان المصابين على الأرض وفي الممرات، منهم من مُعلّقًا في ذراعه محلول ومنهم من لازال ينتظر مجئ الطبيب أو من يسعفه، فالعجز لم يكن في الاستعدادات فحسب بل كان في طاقم العمل أيضًا.

وما أن لمحوا يوسف حتى أسرعوا نحوه، كانت حالة يوسف تغني عن الكلام بل ليست في حاجة لإسعاف، فإصاباته بالغة الخطورة ولا يُعتقد أنه يمكن أن يبقى حتى يجئ إليه أحدهم ويقوم باللازم.

صاح عبد المنعم بلهفة: يوسف،ألم يراك طبيب حتى الآن؟!

يوسف بصوت متقطّع: لم يعد هناك داعي.

فصاح عزيز: طبيب! من فضلكم أين الطبيب؟!

همس يوسف وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة: أرسلوا سلامي لعديلة و الأولاد...

ولفظ أنفاسه الأخيرة، فوقف عبد المنعم ونظر لعزيز وعيناه تترقرقان بالدموع ثم انحنى نحو يوسف ومسح بيده على عينيه يغمضهما.

ظل عزيز واجمًا متجمّدًا مكانه، فقد عاش يوسف بينهم لأعوامٍ وكان هو وأسرته بمثابة الأهل وليسوا مجرد جيران، وظل يمر أمامه ذكريات تلك الأعوام، يغمض عينيه و يفتحهما، كأنه عاد لرشده فوجد أبوه يبكي بحرقة جالسًا أرضًا جانب السرير.

و بعد قليل بدؤا يعدون تقارير وفاة يوسف ويجهّزون أنفسهم للسفر إلى الأسكندرية، وبالطبع سافرت معهم حميدة لتواسي صديقة عمرها.

وفي تلك الليلة كانت عديلة في بيتها بالأسكندرية يجافيها النوم شاعرة بغصة تختنقها، وكلما غفلت عيناها للحظاتٍ رأت يوسف يصيح مرة، وأخرى يسقط في بئرٍ عميق فتنظر فيه مادّة يدها إليه فتجده ينزف دمًا من كل أنحاء جسده، فتهب من نومها مفزوعة تتصبب عرقًا وتتلاقط أنفاسها فتنهض تشرب رشفات قليلة من الماء ثم تعاود لفراشها.

لكن كثرت كوابيس هذه الليلة فاتجهت لشرفتها فتحتها ووقفت للجانب حيث يُرى منه البحر.

ورغم فصل الصيف إلا أنها ترى أمواج البحر متلاحقة كأنما البحر يغلي، أو ربما ذلك من وحي التخيلات.

أغمضت عينيها، أخذت نفسًا بعمق فامتلأت رئتيها بالنسيم القادم من البحر المشبّع برائحة اليود ربما تذيب تلك الغصة، لكن بلا فائدة.

وجاء الصباح أخيرًا فساء صباحها ومساءها وكل أيامها، فإذا بأصوات أناس كثيرين بالخارج غير مفهومة مع طرقٍ على الباب، وكلما اقتربت اتضح الكلام.

وأول شيء سمعته هو أصوات كأصوات بكاء، ثم تداخلات أصوات قائلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، سبحان من له الدوام،إنا لله وإنا إليه راجعون.

بدأت ترتعد فرائسها، تكاد لا تحملها قدماها وتود لو دفعها أحد لتكمل حتى تصل إلى الباب رغم أن المسافة ليست كبيرة لتلك الدرجة.

ولازال الباب يطرق فخرجت نور من حجرتها وهي بضفيرتين على جانبيها وشعرها مبعثرًا قليلًا فهي قد استيقطت توًا ولازالت مرتدية جلباب النوم.

لكن نور قد أسرعت لتفتح الباب فوجدت أمامها أناس كثيرين فجذبت عديلة منشفة كانت على إحدى الكراسي ووضعتها على كتفيها تسترهما، ثم عدّلت من وضعية تلك العصبة على رأسها.

فوجدت أمامها وسط هذا الجمع حميدة جارتها وصديقة السويس وهي مرتدية ثوبًا أسودًا، واضعة وشاحًا أسودًا على رأسها وتنتحب بالبكاء.

وما أن رأت عديلة حتى عانقتها بحرارة، ولازالت الثانية لا تفهم ماذا يجري، بل بمعني أدق تفهم وتنكره، حتى رأتهم يحملون جسدًا آدميًّا ملفوفًا به بعض البقع من الدم.

وهنا أدركت وتيقنت مما حدث وأخذت تصرخ بكل ما أوتيت من قوة ونور الأخرى تصرخ وتبكي بشدة ممسكة في جلباب أمها وتنفي ما يحدث فمؤكد أن الأمر التبس عليهم.

و ما أن جاء وقت صلاة الظهر حتى كان الجميع الأهل و الجيران عند مقابر عمود السواري ليُدفن فيها يوسف حيث مقابر العائلة.

وبين عيشة وضحاها فقدوا الأب، الأخ، الزوج، الحبيب، السند، العائل وكل شيء.

فسبحان من له الدوام ولا باقي إلا وجه الله...

NoonaAbdElWahed
Noonazad

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top