رسالة نازل
"الآن وقد دار الفلك في حياتي بعضا وسبعين دورة ، وآن أوان إخفاء ساعديّ كما شمرت عنهما ..الآن وقد جاء
يومي الموعود المنشود لأضمر أنيابي كما كشرت عنها لما حاربت نوائب الدهر فيما مضى ..الآن ولم اعد اجد بدًّا
من أن أقلق بشأن مستقبل يؤرقني ويحرمني لذة النوم إن أنا اضطجعت إلى مخدعي .. الآن وقد بدأت أنزل من
حيث صعدت ، رويدا رويدا، خطوة بخطوة، ..اترقب كل ما عبرته وانا صاعد ، أتلفت يمنة ويسرة فإذ بي أبصر
ما لم أبصره وأتا صاعد ، فصرت أنظر الى كل هفوة من هفوات شبابي ف"أبصر "فيها من الخير بقدر ما كنت
" ارى" فيها من الشر ، وأنظر فيما قدمت يداي وشفتاي وعيناي ساعة الغضب والشدة واابؤس والشقاء ، فأبصر
فيها الآن من السذاجة والتهور ما يجبرني ان اشيح ببصري عنها فإذا هي ملتصقة بي لا ارى غيرها ولا سواها ،
تطادرني ههنا و ههناك فإن مضيت قدما وتقبلتها تلاشت لكأنكما لم تكن.الآن وقد خلفت في الدنيا ثلاث بنين
فلما اشتدت اعوادهم وكبر اللب والقلب ،اتخذوا لأنفسهم زيجات يؤنسن وحشتهم ، وانتشروا في بقاع الارض
بحيث لا اجد لمرآهم سبيلا اللهم الا حين يأتونني ..الان وقد رحلوا عني بعدما رحلت "هي" ؛زوجتي ومؤنسة
وحشتي وحامية قلبي وسندي ، لم يعد لي من يؤنس وحشتي غير جدران أخلو إليها وتخلو إلي نسامر بعضنا إن غدر بنا الكرى وءوى إلى غيرنا ...
الآن وقد وصلت إلى سفح جبل حياتي ، بات بوسعي أن أبصر بها تلوح لي ليست بمنأى عني ، ولا يفصلني عنها
ولا يفصلها عني اللهم سوى بضع أمتار او بضع دورات يدورها الفلك فيما تبقى من حياتي ..الآن بت أراها ، لا
كما عهدتها ؛ ولكن كحورية من حوريات النعيم او واحدة من حور العين تهمس لي وأنا في عداد النائمين أنْ
امسكْ بيدي وإلحق بي , فما اكاد امسّها حتى يتلاشى الحلم وأجدني في فراغ موحش مدلهم! ألا يا حبيبتي قد
دار الفلك في حياتي مادار ،فألفيت وحيدا ، وقد رحلت عني وما دار في حياتك اللهم الا ثلاث دورات بعد
الثلاثين افتخالينني اقوى على الابتسام وانا لا زلت محزونا مهموما ارثيك اليوم وقد مر على ذهابك اربعون
سنة خلتني فيها خالدا ماكثا ابد الدهر في الحزن والهم والرثاء ؟الا يا حبيبتي قد ذهبت وتركتني من بعدك في
دهليز فارغ مدلهم لا أجد منه مخرجا ولا نورا غير نور ذكراك .ألا يا حبيبتي قد بات يخيل لي كما لو اني كويكب
شارد يطفو في مياه الفضاء الراكد حوله وقد هوت باقي الكواكب والنجوم -من بعدك- والتهمها ثقب اسود مهول
يتوعدني ويهددني ، فلما ألفيت وحيدا في هذا الفضاء المدلهم -من بعدك- تلاشت نفسي فأخبرته ان اِفعل بي
مايحلو لك ويطيب ، فإني الآن وقد تبخرت الحبيبة بين احشائك لم يعد لي هم أصبر عليه ولا حياة اتوق لها
ولا مشاكل احاربها فاني فقدت سلاحي ودرعي ، فهلّم بي إلى غياهب احشائك لعلي ألقاها.فأبى ان يرحمني
وآثر تركي أهيم على وجهي ههنا وههناك .نعم يا حبيبتي ، الآن وقد وصلت إليك ،لم أعد أجد بدا من أن أقاوم
جيوش دمعي حين اذكرك لحظة حضرك الموت وسرقك مني ، ولم يعلم انك سرقت روحي وقلبي فلم تتركا لي
شيئا غير لبّ لا ادري من اين امتلأ حكمة ووقارا.الآن وقد عشت ما عشته ،وخلفت ما خلفته ، ورايت ما
رأيته ،وابصرت ما ابصرته ،وندمت على ما لا ينفع الندم عليه، وبكيت على ما جفت العين عليه ،وعملت فيما
عملت وتخاذلت فيما تخاذلت ،الان وقد عرفت ان الدنيا ما سميت بالدنيا الا لانها دنيئة تغوي المرء ، وتأخذ منه
بقدر ما تعطيه بغير إنذار ،الان وقد عرفت ان الوجود ما خلق الا لان الزوال قد خلق ،الان وقد بت ألمحك
بقربي ، اصبري ..اصبري فإن الثقب الاسود قد اشفق على حالي ورثى لي ، الآن قد اتى وقتي المنشود الموعود ،
إني قادم ، قادم ، قادم فابتسمي !
الآن سلمت لك أمري يا فلك فدر بي من الصفر واذهب بي الى حيث تبتسم ارملة جنتي ، واخبر فلذات اكبادي
اني ماملكت إرثا ولا مالا ولا ذهبا ، وانما عشت لا لأبقى ، وانما لاتجهز الى حيث سابقى فوداعا ، وداعا ، وداعا.."
ولم يلبث طويلا أن عادت روحه من حيث اتت ، وقد وصل الى سفح جبل حياته نازلا كما صعد ، ومات مبتسما وفي يده ميراثه الوحيد ، رسالته الاخيرة الى كل قادم من قريب او بعيد ~
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top