الفصل الرابع
كان شعب الأروجيريا شعبا خشنا، لا ينقص اللحم من بيوتهم، يعلم فيهم الصبي كيف يكون صيادا منذ أن يفطم، وتعلم البنت كيف تصنع أطيب الأكلات من كل الكائنات الحية، الصيد عندهم لا يقتصر على الطعام دائما فلا مانع لهم أن يصطادوا من يهدد استقرارهم، وقد شاع عنهم أنه لا يسلم البشر منهم.
مؤسس الأروجيريا وزعيمهم كان تعريفاً لشعبه وممثلاً عنهم دون نقص، رجلاً صلباً لا تهزه الكروب ولا الصعاب، تناقلت الشعوب على مر السنين ابتسامته المستمتعة أثناء الصيد ومبادراته حين تكون القوة موضوعاً مطروحاً.
اليوم يوم مميز في الأروجيريا..حيث سيكون الليل طرادا بالمشاعل، هو مهرجان الشعب القديم، المهرجان الوحيد الذي ابتكره المؤسس، لذلك توافدت اللحوم من كل صوب، وخرج كل أبناء القبيلة للصيد متنافسين على أحسن فريسة، كانت النساء ينتظرن ببيوتهن مبتسمات وكل تطمع ان تدخل الفريسة الأفضل بيتها، والأطفال لم يكونوا أقل حماساً لهذا المهرجان.
لكن هناك ضيف مميز جداً بينهم على عكس المعتاد اليوم، وطأت قدما المؤسس أراضيه وهو يشد على كتفه حبلاً ثخينا صلباً.. قد ربطت بنهايته عدة فرائس ضخمة يسحبها على الأرض، لم يكن من الصعب له تدليل شعبه في المناسبات، ولم يكن مستبعداً إقامة ولائم لاتنتهي باسمه.. كان مبتسماً كعادته حتى رأى في استقباله ضيفه المميز، ضيفاً أكثر تميزاً من جميع الضيوف.
اندهش فعلاً لرؤية زعيم السايوري أمامه، اعتادوا على أن يبتعدوا في مناسبات الأروجيريا دائماً فكيف يقف رئيسهم هنا الآن؟ لم يكن يبخل زيارته بالتأكيد، لكنه كان يفسح لهم مجالاً للراحة، ولو كان المجيء لأرض الزهرة سهلاً لما تكبد شعبهم مشقة الذهاب للسايوري بأنفسهم، لكن لم يسعه غير أن يبتسم بسخرية، أشار لرجاله فأخذوا غنيمته في حين يتحدث ساخراً «ما لذي أتى بك إلى هنا؟»
قابل المخاطب سؤاله ذلك بضحكة ثم أجاب في هدوء عميق «أردت رؤيتك»
«كفاك»
رفع مؤسس الأروجيريا حاجبه بحيرة في نهاية كلامه، مما زاد ضحك الثاني، كانت لمؤسس السايوري رغبات لا تنتهي، وكان يجد ملذته في التناقش وميله للأحاديث الفلسفية يناسب شخصيته الهادئة فأضاف مبتسماً «هذا قاسي، أنا فعلاً أردت رؤيتك.. لدي ما أقوله لك»
بدت الجدية مسيطرة على أخر كلماته فقد ضيق عينيه كمن يحمل معانياً خفية.. استطاع إدراك ذلك في نبرته بسهولة فكتف يديه لصدره وقال «سيكون عندنا الليلة احتفال يستحق الفرجة، ولا أحسب أنك على غير دراية بهذا، فأحضر العشاء وشاهد إسقاط الزهور في البحيرة، فنجتمع بالآخرين ونشهد الطقوس باستمتاع»
ظهر أن بقاؤه لازم بعد الدعوة، فلباه.. وشهد معهم أحد أهم مناسباتهم، وعبق الجو برائحة الشواء والأدخنة المتصاعدة.. فزاد الليل سخونة، وعلقت المشاعل في كل صوب.
بعدها ظل المؤسسان معاً يتناقشان حول موضوع جدي، لم يكن النقاش إلا من طرف واحد حينها، من طرف مؤسس السايوري الذي يسرد حكاية طويلة والآخر مندهش.. دهشته ببطء تتحول لصدمة مع كل كلمة يقولها صديقه!
في نهاية ذلك الحديث كان زعيم الأروجيريا وبوضوح قد أنهك من سماع مستقبل السايوري، وضع يده على جبينه مدلكاً إياه محاولاً استيعاب ما أتى به رفيقه فهمس بهدوء «لا يمكنني إيقافك؟»
ابتسم المخاطب ببعض الحزن، لم يكن حب أحدهما للآخر متفاوتاً، مادام رئيس الموعودة قد وصل لمثل هذا القرار، فلا يمكن لأحد إيقافه.. لا يمكن أن يشك بأنه أغفل التفاصيل، أو غابت عنه مصلحة أناسه فتنهد الأقوى بينهما بهدوء مفكراً لثواني معدودة، ما وجد بعدها سوى أن يعيد بسمته الواثقة، وضع يديه على الطاولة الخشبية القديمة، وسط هذه الغرفة الشبيهة بالكهف وكل ضوء فيها ينتج عن نيران المدافئ والمشاعل المثبتة بالسقف البعيد، أسلوب بناء الأروجيريا كان مميزاً، فهم وبقوتهم حفروا الجبال صانعين فيها بيوتاً لا تحطم.
ثم انساب الحديث بسلاسة وثقة من المؤسس الأول «لي عندك طلب»
اهتم صديقه طبعاً بما يرغب بطرحه، وقف زعيم هذه الأراضي من مجلسه واستقام بثقة ثم اقترب من رفيقه طارحاً طلبه «خذ مهرجاننا»
اتسعت عينا السامع بشدة، هل فه ما يعنيه صديقه؟ أم أن وحش الأروجيريا بالفعل يقدم مناسبته الغالية لهم.. بانت دهشته فضحك صاحب الطلب وأضاف «خذه واجعل شعبك يتوارثه، إن روابط شعبينا يستحيل أن تنقطع.. إن ذهبتم هكذا سيعانون من ألم الانفصال على مدى سنين، ذلك المهرجان سيحمل أصواتكم إلينا»
لم يكن زعيم أقوى شعب في المنطقة حساساً كهذا، ونبرة الهدوء التي لازمت طلبه بينت ذلك، فلم يكن يؤمن يوماً بمثل الأقوال التي بدرت منه، إلا أن صديقه يعلم أتم العلم أنه لا يقول هذا لإيمانه به، بل لإيمان شعبيهما بذلك.. ودوره كرئيس لا يقتصر على توفير الأمان الخارجي والأطعمة، بل قد تأصل فيه الشعور بالمسؤولية لحماية الشعبين الاثنين من الأحاسيس المؤذية.
سيكون في تلبية ذلك مواساة لأهل السايوري وتذكير لأهل الأروجيريا فابتسم صاحب الموعودة، الحلول السياسية بسيطة للتحكم بالشعب، لكنها ذات فوائد أكبر و تأثير أعمق في حمايتهم، وضع الأخير يده على كتف صديقه قائلاً في ثقة «سيحفر اسمكم وسينقش في روح شعبي مهما حصل.. ألفيس»
.........................................................................
في منزل سيا كان الصغيران مستلقيين معاً بذات السرير وكلاهما يحدقان بالسقف بشرود، كان أريم مشغولاً بالتفكير في المكان الذي ذهب إليه عمه بعد أن هدء أخيراً، جو الصمت في الغرفة يساعده على ترتيب أفكاره فعلياً وتذكر ترتيب مهامه التي يقوم بها في اليوم، فقاطع حبل أفكاره صوت حديث سيا الهادئ «أريم.. أتعرف ما سأفعله؟»
همهم المعني بحيرة، لم يركز معه فسيا كثير الكلام.. هو كثير الحماس ولو جاراه بطاقته فسينهار سريعاً، هو لازال جامداً مكانه فابتسم سيا بلطف وتحدث «سأشارك بالبايريس»
ما إن انساب ذلك الاسم لسمعه حتى اتسعت عينا أريم فجأة فنهض بلهفة محدقاً بصديقه، تأمل نظراته الراضية على رد فعله فنطق بدهشة «أسُمِح لك بالمشاركة؟ أليست مسابقة للمحترفين؟!»
ابتسم سيا وأغمض عينيه في هدوء وسرور لدهشة رفيقه، إحساسه بالإنجاز يكبر ويتضخم هكذا فقال «إن كان بإمكاني تخطي الامتحان هذه السنة، يمكنني الوصول للنهائي بحلول سنتين فقط، أبي قال أنه لا بأس بالمشاركة مع هوية مزيفة»
ابتسم أريم بفرح لأجل صديقه وتحدث «فخور جداً بك سيا!»
لم تخفى لهجته المرحة عن الأصغر فاستدار ليتكئ على جانبه و يحدق بأريم قائلاً «مر زمن طويل، متى آخر مرة نمنا معاً فيها؟»
وجد أريم نفسه مجبراً على الاستلقاء بقربه ثانية مع تلك النظرات البريئة التي امتلكها سيا.. مسابقة البايريس العالمية للرسم والفنون، مخصصة للعباقرة فقط، للأطفال الموهوبين بسن الرابعة عشر فما فوق والمحترفين البالغين، وتقام كل خمس سنوات، أصبحت تلك المسابقة معروفة عالمياً ولم يسبق أن شارك شخص من السايوري المخفية من قبل أبداً.
التصفيات لهذه المسابقة الهائلة تستغرق سنة كاملة، والجوائز بغاية الأهمية.. كان حدهم الأدنى أربعة عشر ربيعاً، أن يكون طفل بالعاشرة قادراً على الوصول إليها مستحيل، لكن في نفس الوقت وجود طفل كسيا مستحيل أيضاً، كان هذا وحده يدعو للمفخرة.
أراد ذو الشعر الأحمر إيقاف صديقه عن التفكير بعمه وقد نجح فعلاً لفترة مؤقتة على الأقل تسمح لأريم بالنوم فيها، لأن أريم بالقلق فعلاً من فكرة ابتعاده عن عمه، ولا أحد منهم يفهم سبب هذا، لم يعد ينادي هانا بوالدته مثلما لم ينادي سيا بأخي منذ زمن، فتحدث الأخير بهدوء «أريم لم لا تأتي لمنزلنا دائماً.. لم لا ترغب بالمبيت معي؟»
بعض الارتباك بان على ملامح المخاطب فقال «ليس أنت سيا، لا يمكنني ترك عمي وحده»
همهم سيا باستياء فهو بالفعل يكره ديفران بشدة، كشخص بتلك القسوة يشرف على تدريبات بدون معنى لطفل في العاشرة، سرعان ما عبس قائلاً «أو تسخر مني لأني أحبك..»
اتكئ أريم على جانبه ليصبح مقابلاً تماماً لسيا و تحدث بجدية «سيا، أنا لا أحب شخصاً غيرك فلا تخرف»
«ووالداي؟!»
سأل سيا بتعجب، تعريف الحب مختلف من شخص لآخر، يأتي كثير من الناس إلى حياتنا، منهم من يبقى ومنهم من سرعان ما يذهب، لكن اقدامهم تطبع آثاراً على قلوبنا، لم يبقى أريم مع هذه العائلة طويلاً لكنه لا زال وسطهم حتى الآن، إن هذا الشعور المتضارب بداخله يقلقه فيهرع لمحوه مباشرة، فوضع يده على صدره وهمس «هذا.. مختلف، لا أعرف ما يعنيه لكنه.. شعور مختلف»
زوى أريم حاجبيه ببعض الانزعاج وأكمل ببرود «هذا صعب علي، ترجمة هذه المشاعر صعبة»
تنهد سيا بملل و تحدث «فهمت أريم..»
ابتسم ذو الشعر الأسود و أغمض عينيه قائلاً «لكن يكفي أنني أملك شخصاً واحداً، و يكفي أن أرتاح هذه الأيام»
أخيراً بدء أريم يفكر بعقلانية، ويفهم أن حياته لن تنتهي في اليوم الذي يذهب في ديف لعمل بعيد.
...........................................................................
في الناحية الأخرى من حدود السايوري كان ذلك الرجل المنزعج يمسك سيجارته بيده اليمنى و يسراه بجيبه.. محدقاً بعدد الجثث التي أرداها أرضاً بقبضتيه!
لكن اللعب بدء يحتدم لذا ألقى سيجارته أرضاً وتحدث بغضب «تعالوا إلي»
رغم امتلاك خصومه لأسلحة نارية فهذا لن يكفي لإخافة ديفران فهو ما سمي بحامي الحدود منذ سنوات.. هو وحش السايوري الخاص الذي يكفي اقترابه من خصمه ليلوي عنقه.. تراشق الجميع بدماء بعضهم في تلك الثواني بينما ديف لم يخدش بعد، حتى شعر فجأة برصاصة تصيب خده مخلفة جرحاً نازفاً..
توقف ديف مكانه ليرفع يده ببطء و يلمس دمه النازف.. ازداد الغضب بأعماقه أضعافاً فتحدث بحقد «لقد قال ألا أصاب بخدش!»
متذكراً ما أوصاه به أرسلان والذي أخلف به الآن فزمجر بغضب «سأعيدك لأجدادك قطعاً الآن!»
وأرسلان في الناحية الأخرى لم يغمض له جفن فظل يكتب بأوراقه ليلة كاملة، لا تمتلئ الورقة حتى يبدء برسم مخططات أخرى في التالية مفكراً بقلق.
{فلتصمد ديف، سأفهم ما يجري}
باستعمال حاسوبه وكتبه بجانبه وهاتفه الذي لم يكف عن الرنين دقيقة واحدة فالجميع يرسلون معلوماتهم لأرسلان .. أما هانا فمن باب غرفتها حدقت بزوجها بقلق متسائلة هل تخبره بشأن الغرباء الذين رأتهم في الغابة؟
...........................................................................
مثلما يجتمع البشر عند الأفراح ومثلما يطول التحضير للمهرجانات والاحتفالات فالتحضير للخراب يحصل على نفس المعاملة.. ويستغرق ذات الوقت.
يسيطر على العالم الحالي دول بسيطة.. إحداها مملكة الباريد، تلك التي كانت تحتضن موكباً غريباً منذ أيام، أخفته بين جدران أحد قصورهم التي لا تنتهي.
وهناك تماماً وُضعت آلاف الخطط لأجل هدف مجهول، باحثين عن طريقة ما لدخول السايوري بأي ثمن، لم يكن عدد الرجال هناك يتجاوز العشرين، قد بدى عليهم الانزعاج.. وبدى كما لو أن كل تجهيزاتهم التي دامت لسنين متوقفة تماماً، الإضاءة البيضاء في غرفة مغلقة رمادية تصيب الشخص بالجنون حين يقضي بداخلها ساعات طويلة، لكن أين يمكن لهم الخروج وهم لا يملكون رموزاً حتى؟
وفي تلك الطاولة التي جمعت أوراقهم وخرائطهم، حولها كان أكثر من أربعة رجال يفكرون بجدية بشأن ما يحملون بين أيديهم، فاقترح أحدهم خطة أخرى وتحدث «ندخل من الحدود الشرقية و..»
لكنه لم يكد يكمل حتى ضرب قائده الطاولة ببعض القوة مقاطعاً وبانزعاج نطق «ديفران»
ذكره بذلك الاسم فشعر المتحدث بخطته تفشل، فاقترح غيره «وماذا عن الميناء؟»
ضيق الرئيس عينيه بانزعاج وكرر بغضب «ديفران!»
سيظل هذا الاسم يتردد بالقاعة ويفسد مخططاتهم جميعها، وضع اسم ديفران بالمعادلة سيفسدها فهمس القائد بنفاذ صبر «أين هو ديفران الآن؟ والمدعو أرسلان، أريد تقريراً عنهما حالاً»
انتهى من إصدار أمره ثم أعاد النظر للمخططات قائلاً «لن نُسَلَّم الموقع الحقيقي لها بدون إكمال الخطة، أسرعوا بالبحث»
وسرعان ما اقترح أحدهم اقتراحاً آخر «لنتخلص من وريثي النبوءة وننتهي»
جميع الأعين اتجهت نحو المتحدث فضيق القائد عينيه بانزعاج و هو يحسب خطورة هذا.. إلا أنه لا حاجة لهم من أجل هدفهم الأساسي فصارت صورة الرجلين هي أساس خطة الجويش!
..........................................................................
شهر كامل منذ ذهاب ديفران من العاصمة، كعادته لا يرسل رسالة واحدة ولا يطمئن أحداً، مسبباً القلق للجميع عدى أرسلان، ذلك الأشقر للمرة الألف يحدث أريم ضاحكاً على طاولة الفطور «صغيري اهدء.. إنه ديفران، لم يولد من يقدر على الإطاحة به ولن يولد»
حدقت هانا بزوجها في قلق ونطقت بوجل «يفضل لو تقلق على صديقك»
كانت محادثة عادية بأسرة صغيرة هادئة، أو ربما كان من المبالغة وصفها بعض الشيء وصف حياتهم بالهدوء، فإن حياة الأسرة لا يمكن أن تتسم بالهدوء أبداً، فما ينفكون من حل مشكلة مرض حتى ينتقلوا للمشكلة التي تليها، والحياة مهما تكن هي عبارة عن سلسلة من المآسي الصغيرة فالكروب الفظيعة، وعلى الرغم من أنهم اشخاص متكيفون إلا أن العالم حولهم لايمكن أن يتصف بنفس تكيفهم، ولا يمكن للشخص أن ينتظر تكيف غيره معه.
كانت هانا منزعجة من ليونة طبع زوجها مما أضحكه بخفة، سرعان ما نهض من كرسيه بعدها مسرعاً بينما يتحدث بابتسامة «آسف علي الذهاب الآن»
هو مشغول بشدة مؤخراً، اقترب ليطبع قبلة على جبين زوجه ثم وضع آخر قطعة خبز بفمه هاماً بالرحيل، نهض من مكانه ليأخذ حاسوبه وهو يعدل ربطة عنقه السوداء على عجل في حين كان سيا ينظر إليه بعبوس، لم يكن عبوسه جديداً أو مفاجئاً لكن لا قدرة لأرسلان على الهرب من نظراته فبعثر شعره فحسب ثم خرج بلهفة من المنزل..
هذه العجلة لم تعد تعجب سيا فهو لم يعد يقضي وقتاً مع والده منذ ذهب ديفران، كان الأمر لا يحتمل أصلاً لكن لم يبقى سوى أسبوع حتى المهرجان مع هذا والدهم لا يحضر معهم لهذه المناسبة، فسأل الصغير بعد أن شد ثياب أمه «ماما .. ما علاقة أبي بالوزارة؟»
سيخرج عن صمته بعد أن يطرح الأسئلة التي ترضيه، كان سؤالاً مهماً للغاية حتى إن طرحه طفل صغير فابتسمت هانا قائلةً «أنت ابن وريث المؤسس الأول للسايوري صغيري، الوريث له علاقة بكل تغير يطرأ في السايوري»
اتسعت عينا أريم الجالس بقربها بدهشة ثم سأل «قال عمي أنه وريث مؤسس الأروجيريا .. أهو حقيقي؟!»
كان يعتقد تلك الألقاب مجرد خرافة، ابتسمت هانا بخفة ونهضت عن الكرسي لتجلس على الأريكة ببطء شديد مراعية بطنها، بينما يتابعها الاثنان خلفها بنظرات حائرة فقالت مبتسمة «في قديم الزمان سمي قادة القبائل بالمؤسسين.. لأنهم اختاروا لشعوبهم بلدانا ووضعوا القوانين وأسسوا نظم الحياة والقواعد التي نتبعها لوقتنا الحال، أنتما تعرفان.. المؤسسون تركوا نبوءة قبل موتهم»
النبوءة التي تعلم لجميع من في السايوري.. طبعاً يعرفانها لكنهما سيحبان سماع هذه القصة ثانية فجلس الاثنان على الأرضية الخشبية قربها فأكملت بابتسامة «قالوا أنه سيأتي زمن ويظهر فيه جيش الضياع.. جيش لا أساس له ولا مبدأ، قائم على الخداع وسائد بالخيانة .. في ذلك الوقت ستكون السايوري بخطر، حينها وعد مؤسس الأروجيريا بأن شعبه سيحمي شعبنا مهما حصل»
حين تكون بلاد بنقاء القمر مدعومة بشعب بعمق الليل، فإن نوعاً خاصاً من الأمان يسود الأجواء، لون خاص يسمح للشعبين بالنوم بقرار، مع تسلسل مثل هذه الصورة النقية لفكر الاثنين ابتسم أريم بخفة، فهؤلاء هم شعبه.. دمهم يسري بعروقه، لكنه حرم من رؤية موطنه للأسف، مع ذلك لا يزال بداخله حب للسؤال والمعرفة «أكان الجميع يوافق المؤسس ؟»
وضعت السيدة عدة التطريز من يديها بعد أن كانت تحضر لتبدأ العمل، تأملت الصغير ببعض الدهشة، ربما أريم يحن لهذا البلد.. ربما يرغب بمعرفة المزيد عمن ينتمي لهم فربتت على رأسه بخفة وتحدثت «حين قال المؤسس كلمته وافق شعبه .. قال أن من يحمل دمه سيقبل التحدي وسينفذ رغباته لآخر يوم في هذا الزمن، والأروجيريا لن تتخلى عن شعبنا يوماً، النبوءة تقول أن من يجسد إرادة المؤسس سيظهر في كل جيل، حتى حين يظهر جيش الضياع سيكون للوريثين الدور الأعظم في حمايتنا منه، وريث الزهرة و وريث الموعودة .. وهما في جيلنا ديفران و أرسلان»
التمعت عينا سيا ليقفز بمرح هاتفاً «عرفت أن أبي رائع!»
لكنه سرعان ما اختفى حماسه لتظهر علامة استفهام ضخمة على ملامحه فسأل «لكن كيف يختارون الوريث ؟»
ابتسمت هانا وقالت «حسناً، لذلك علامات كثيرة جداً.. لا تهمك في هذا الآن، كل ما يهمك أن تكمل دراستك ربما تكون وريث الجيل القادم»
ضحكت بنهاية كلامها ليبتسم الصغير على وسعه فهو بالفعل مهتم بالدراسة ثم تحدث أريم بارتباك «لا أظن الدراسة ما تختار الوريث»
وقفت هانا متجهة للمطبخ وهي تضحك بخفة .. أحدهما يصدق كل ما تقوله ويسأل ويرغب بالفهم والثاني من الصعب ترسيخ معلومة ما بذهنه، سيكونان بالفعل بخير إن عالجاً أي قضية معاً، شخصيتهما متعاكسة لكنهما متفقان.. خيوطهما لا تلتقي لكنها تترابط وتتكامل، هذا ما كان أريم وسيا عليه.
.............................................................................
وفي ناحية أخرى كان أرسلان وسط قاعة المراقبة محاطاً بالأجهزة وملامح الانزعاج عليه، عشر عمال ولا أحدهم استطاع فعلها في الوقت الملائم؟ لكن أخيراً استطاعوا التواصل مع ديفران فظهرت ابتسامة واسعة على وجهه وهتف بما ينافي فرحته «أين أنت أيها الغبي؟!»
لم يرسل لهم معلومة واحدة منذ شهر.. لكن ديفران انزعج من اختراق صديقه للكاميرا التي يأخذها معه ليصور الوضع فتحدث بغضب «ااه اخرس، أنا مشغول جداً»
«بماذا؟»
سأل أرسلان ببعض القلق وهو يرى المكان الغريب الذي صديقه بداخله، يبدو ككهف غريب.. إن مثل هذه الأماكن تكون متشابهة ومثيرة للحيرة!
صور ديف إحدى الجثث التي كان يتعامل معها لتتسع عينا أرسلان بدهشة ونطق بدهشة خالطها التوبيخ «ماكان عليك الوصول لهذا الحد ديف!»
سمع زفير ديف المنزعج الغاضب.. لابد أنه يمل هذا التوبيخ المستمر.. لكن لا أحد سيفعلها إن لم يكن هو فقال «بأي حال.. لا رمز»
اتسعت عينا أرسلان مثلما كان كل من في تلك القاعة فتحدث ديف «لا رمز.. بحثت كثيراً، بحثت بأغراضهم ربما يخبؤونها هناك.. ربما كان وشماً، ربما كان في منطقة ما من أجسادهم.. حتى بأعضائهم إن جنوا لهذه الدرجة لابتكار نوع رمز جديد، لكن لم أجد شيئاً.. بحثت كثيراً كثيراً!»
رفع صوته بغضب شديد فتحدث أرسلان «ربما تخلصوا منها»
لا يوجد شعب في هذا العالم دون رمز، إنه بمثابة الوجود.. رجل دون رمزه لا يعتبر موجوداً وهي إهانة، لا يوجد من يضيع رمزه فهو سيعود إليه في النهاية.. مهما حصل ومهما كان سيعود الرمز لمالكه.. تدمر الرمز يعني موت صاحبه هذه قاعدة يسير بها العالم!
وعدم وجود رمز يعني شيئاً واحداً فقط.. نزل ديفران من أحد المرتفعات وهو يتحدث بانزعاج «النبوءة.. ربما تكون صحيحة»
كانت تلك القصص مجرد أساطير شعبية تناقلتها الأجيال، كانوا يعملون بمقتضياتها لأن الوريث دائماً يكون مفيداً للدولة، لأن الوريث دائماً يكون إما بالقوة الكافية للدعم أو الذكاء الكافي للتحكم.. قطب أرسلان حاجبيه وهمس «تعني.. أن جيش الضياع موجود؟»
«لا أعرف! عملك أن تبحث بهذا أنا أرسل لك المعلومات فقط! عثرت على معسكر تحت الأرض بالقرب من الحدود! وكانوا مسلحين! لم أجد هوية لهم سوى بطاقات بها الأسماء والألقاب، لكن لا رمز أو بلد الولادة، كأنهم خرجوا من تحت الأرض هؤلاء الملاعين الحمقى !»
وضع أرسلان يده على رأسه بتعب يقلب الاحتمالات للخطوة القادمة ثم تحدث «ديف اهدء.. لم لا تراسلنا بانتظام كنت بدأت العمل باكراً»
«تعرفني لا أحب التقيد بموعد»
حديث صديقه الغاضب كالمعتاد فرفع أرسلان يده بإشارة ليقف كل من بغرفة المراقبة لأعمالهم بعد أن كانوا يشاهدون البث معه، بعض لإخبار السلطات ما توصلوا إليه وبعض لتحليل ما يرسله ديف فتحدث أرسلان بابتسامة «احرص على نفسك قليلاً»
«كف عن توصيتي لست زوجتي !»
«لا تملك واحدة»
ابتسم أرسلان بسخرية فقطب ديفران حاجبية بغضب ليتحدث الأول «أريم قلق عليك»
«كلمة أخرى عديمة النفع وأحطم هذا الجهاز!»
ضحك أرسلان بخفة ليتقرب أحد الرجال منه ويتحدث بأذنه «حصلنا عل كل الملفات، تقارير طويلة»
«أراك لاحقاً ديف»
تحدث أرسلان بعد ما سمعه مودعاً صديقه ليندمج بعمله.. جيش الضياع يعني شيئاً واحداً، السايوري بخطر إن كانت النبوءة صحيحة.
..........................................................................
بينما أريم يتدرب كان سيا يحدق بصديقه باستياء وعبوس، يتأمله شارداً لزمن فوقف أريم على إحدى يديه ليحدق بصديقه ويسأل «مابك؟»
ازداد استياء سيا فقال «يمكنني رسم كل شيء.. أليس كذلك أريم؟»
ابتسم المخاطب ليحرك رأسه إيجاباً بهدوء فتحدث سيا بغضب «لكن مع هذا.. لا يمكنني رسمك.. لا أفهم، لا يمكنني حفظ شكلك مهما فعلت»
«هذا قاسي»
تحدث أريم بضحكة فصرح سيا بغضب «لا هذا ليس عدلا! شكل أمي أكثر تعقيداً منك بكثير وقد رسمتها! رسمتها بكل زينتها وتفاصليها الصغيرة لكنني .. لا يمكنني رسمك»
جلس على العشب عابساً باستياء شديد فضحك أريم ووقف ثانية لينفض يديه قائلاً «ربما تحتاج وقتاً أكثر.. أنت أصلاً موهوب جداً لكن لا تضغط على نفسك»
«فقط انتظر! سأرسمك كما لن يفعل شخص في العالم!»
ذلك العبوس يجعل سيا أظرف، فهو وبحكم وجهه الأبيض ووجنتيه المنتفختين يشبه الفاكهة فتحدث أريم بضحكة «تبدو كعكة»
انتفض سيا بغضب و قال متذمراً «مجدداً؟! لا أحد يشبهك بالكعك أريم وأنا من يسمع ضحك الجميع عليه بسبب شكلي!»
ليست أول مرة يتحدث الجميع عن شكل سيا.. كالفراولة، كالكعك، كأنه شيء طري لذيذ بفضل شعره الأحمر الملتوي، لكنه كصبي لن يحب أن تطلق هذه الصفات عليه فغضب.
وما هي إلا لحظات بسيطة للغاية من هذا حتى سمع الاثنين صوت فتاة صغيرة مرحة تهتف باسميهما.. استدار سيا للخلف لتقفز بحضنه طفلة بالرابعة من عمرها ضاحكة.. ابتسم سيا هو الآخر ليربت على رأسها قائلاً «نينا نشيطة اليوم»
عاد أريم للوقوف متوازنا بينما يتحدث ذلك الشاب القادم من بعيد«كيف لصغيرة أن تركض أسرع مني ؟»
ضحك الاثنان بخفة لقوله.. كانت نينا صغيرة ذات شعر بني وعينين خضراوين.. شابهت أخاها الأكبر بهما تماماً والذي وضع يده على رأس أريم عابثاً بشعره «تتدرب مجدداً يا تلميذ ديف؟»
حرك اريم رأسه بهدوء مرحبا به.. زاركس.. المرشح الأول ليكون وريث مؤسس السايوري، شابهم البارع العبقري، كان زاركس مثالاً وقدوة لكل شباب البلاد.. بما في ذلك أريم.
ابتسم الشاب ليتحدث بهدوء «أريم ايمكن أن أسأل أين ذهب السيد ديف ؟»
خفض المعني رأسه باستياء طفيف و أجاب «حسناً، لا أعرف أيضاً»
همهم الأكبر بهدوء ثم ابتسم قائلاً «لابأس أعلماني بعودته رجاء»
حرك الطفلان رأسيهما إيجاباً حتى قال سيا بانزعاج «هو لن يقبل تعليمك شيئاً، ويفضل لو تبتعد عنه»
حدق أريم بصديقه بعبوس خفيف فضحك الشاب بخفة قائلاً «لم كل الصبيان يكرهونه؟ أنا لا أريده أن يعلمني.. عادة يأتي لذكرى وفاة والدي لكنه لم يأتي هذه المرة لذا قلقت»
انخفضت نبرة صوته بنهاية كلامه لكنه سرعان ما ابتسم ثانية بهدوء وتحدث «أبلغ والدتك تحياتي سيا، لنذهب نينا»
وقفت الفتاة من حضن سيا لتركض ناحية شقيقها وتمسك يده بمرح وطفولية.. وهنا تذكر أن يخبرهما فقال «بالمناسبة أريم.. أيمكنني أن أطلب منك مراقبة الغابة الشرقية ليلاً؟ إنها قريبة من منزل السيد أرسلان..»
رفع سيا حاجبه بحيرة وقال «لم؟ عليه أن ينام..»
ضحك الشاب بخفة على ذلك السؤال الهادئ وقال «لا يمكنني توليها فهي بعيدة.. شعرت بحركة غريبة فيها هي والإقليم الجنوبي حين زرته آخر مرة ولا يمكنني أن أخبر الحراس بهذا لذا حتى أتأكد»
حرك ذو الشعر الأسود رأسه إيحاباً مطيعاً فقال سيا مبتسماً «إن الغابة الشرقية غير مناسبة ليكون بها أي نوع من الأعمال الغريبة»
رفع زاركس حاجبه بحيرة محدقاً به فقال سيا مبتسما وبمرح «إن كنت أريد الحرص على أمان العاصمة فإن الغابة الشرقية أشبه بمصيدة! هي واضحة للعيان جداً وتستقبل الكثير من السياح صباحاً لكنها المكان الذي يتجمع فيه الحراس للهو»
اتسعت عينا الشاب بصدمة محدقاً به وهمس «كيف تعرف هذا؟ هي خالية وكثيفة ومن المداخل للعاصمة»
ابتسم الفتى بخفة وقال «فقط أعرف»
لم يبدو مقنعاً لكن أريم قال بهدوء محدقاً بعيني الشاب «سيا لا يتحدث عبثاً»
يعرف زاركس أن ابن أرسلان بغاية التميز كوالده لكنه أصر على معرفة تلك المعلومة فقال سيا ضاحكاً «على الحراس العمل طوال الوقت.. إن رآهم أحد فيها فمن السهل عليهم التظاهر بالحراسة في تلك الغابة، لن يشك أحد لأنها إحدى المداخل للعاصمة.. لكنهم لا يقدمون تقاريراً عنها، لذلك حزرت كونهم يلهون فيها ولا يرغبون بأن تعرف الإدارة»
«سيا هل تعبث بالتقارير التي تقدم لوالدك؟»
سأل زاركس بتعجب شديد فقال سيا بعبوس «لا! هو يطلب مني أن أرتبها! لهذا أعرف كل ما يصله»
أرسلان مثالي الصورة، لا يمكن تخيل أنه مستهتر هكذا مع ابنه.. عليه فقط تأمل أن أرسلان يفعل هذا لسبب وجيه.. لكن سيا بالفعل مثير للإعجاب، ليست أول مرة يدرس فيها الوضع فابتسم زاركس بخفة و لوح لهما ذاهبا .. إلا أنه كان جاداً، هناك غرباء بالعاصمة.
..............................................................................
قبل أن يحتل البشر كل قارات العالم، وقبل أن تمسح الغابات والحيوانات من نصف أراضي العالم، كانت الأشجار ترتقي للسماء، وكانت الخضرة تعج بالحياة، حتى في الصباح الباكر أو في غياهب الليالي.
أشجار الصنوبر العملاقة تساعد بإخفاء الأشخاص الذين يحتمون بظلها، السماء رمادية تبلدت بغيوم مهمومة، كان الجو تعيساً.. مع الجو البارد الرطب في غابات الصنوبر السوداء كانت الصورة الكئيبة المناسبة لوصف أحد مشاهد الرحيل القاسية، مع تتابع تدفق قطرات الندى المتبقية على الأوراق كان شعب السايوري يشد الرحال، في مثل هذا الوقت كل ما كان يسمع هو صوت الحبال الغليظة وصوت جر الصناديق الخشبية على التربة والحصى المبللة، وسط جو عبق برائحة البحر وصوت الأمواج الباردة.
وقف مؤسس السايوري غير بعيد عن رجاله وهو يوجههم، كانوا في الساحل الجبلي، ساحل مخبئ ببراعة في الطبيعة خلفه جبل شامخ رؤيته تزلزل الكيان، كان من الصعب أو من المستحيل لأحد أن يتسلق ذلك الجبل لصعوبة تضاريسه، وحولهم غابة كثيفة امتلأت بالوحوش، ثم أمامهم كان البحر.. المحيط البارد الذي رست عليه عشرات من سفنهم الخشبية البدائية
والتي كانوا يملؤونها بمتاعهم، كانت النساء يركبن بالفعل مع أطفالهم، وبقي الرجال والشباب لإتمام باقي العمل، لكن لن يتأخروا أكثر حتى ينطلقوا إلى سبيلهم الخاص، لقد أخبر المؤسس باقي رفاقه من الزعماء عن رحيله بشعبه.. لكنه لم يعلم أي شخص بالوجهة، ولم يخبر أحداً عن وقت الذهاب، بدى واضحاً جداً رغبته بألا يقتفي أحد أثره، أحد قد يفسد له خططه.. هو كان قلقاً، كان يعلم أن خطوته خطيرة، يعلم أن فعله لم يقم به أحد لسبب وجيه، لكنه على استعداد لقبول هذه المخاطرة حتى لو اكتنفوا أرضاً في أقصي العالم لوحدهم.
وسط مراقبته لسير العمل سمع أصواتاً قادمة من عمق الغاب، ترك ما بين يديه بسرعة واستدار مبتعداً عن خيمته الصغيرة متجهاَ إلى بداية الغابة، لكنه لم يكد يتحرك حتى خرج من بين الأشجار رجل يرتدي قلنسوة طويلة غطت جسده و رأسه!
رفع الرجل يده ليرفع القلنسوة عن رأسه فاحتلت الدهشة ملامح المؤسس، من بين كل الناس مالذي يفعله زعيم الزهرة هنا.. إلا أن لحظات الوداع ماكانت لتكتمل بدون وجوده، كانت الأسئلة تتدافع دون توقف بعقل المؤسس وهو يرى صديقه مبتسماً أمامه لكن كل ما استطاع قوله بين دهشته «لم أنت؟»
لم يكن المؤسس لوحده أبداً فقد أحضر الكثير من شعبه معه، ابتسم في ثقته المعتادة وقال «وضعت عشرين رجلاً في طريقي إلى هنا، لن يتبعنا أحد سيحرسون المنطقة كلها»
أفلتت ضحكة خافتة من فاه صاحب السايوري في حين يكمل الأول «لم تظن أنكم ستذهبون كالهاربين هكذا؟»
أشار بيمناه لرجاله خلفه الذين كانوا يحملون على ظهورهم حقائباً جلدية ضخمة ممتلئة فتحدث الأخير «هذه الجلود ستكفيكم جميعاً بالشتاء، اخترنا لكم أحسن الفرو الباقي من المهرجان»
كان ما يقدمونه للرجال كثير جداً فتحدث الثاني باسماً «هذا كثير فعلاً، لدينا ما يكفينا حقاً»
لم يكن ذلك كما أحضره معه، فقد وفر لهم لحوماً كثيرة تكفيهم بالشتاء القاسي، كانت تلك طريقة المؤسس القاسي في إظهار قلقه، أو لنقل في ترك وصية لصاحبه بأن يعتنوا بأنفسهم، لكن هناك سبب آخر لمجيئهم.
حالما وضعت الهدايا في مكانها، حتى حان وقت الوداع، حتى حان وقت فياض المشاعر والعناق، ما قاله مؤسس الأروجيريا عن الروابط بين شعبيهما لم يكن مبالغة ولا كذباً، فلم تفتح الأروجيريا ابوابها يوماً لغيرهم، فوجد اليتيم من السايوري والديه في شعب جيرانهم، ووجد الشاب فيه إخوتاً يستند عليهم، ووجدت المرأة عائلة خارج عائلتها، فلم تدم ثوان حتى أطل الناس من أعلى السفن كل عين تبحث عن عزيز لها، فانهمرت دموع البالغين قبل أن يبكي أطفالهم، حتى لو كانوا يحضرون لرحيلهم ببسمة فإن قناع الرضا الذي كان على وجوههم تحطم حالما رأوا رفاقهم الذين سيتركونهم.
فترى الشاب من السايوري يقبل جبين عجوزين أتيا لزيارته من شعب الزهرة، يقبلهم بحرارة مودعاً بألم والشيخ يوصيه بابتسامة «اذهب يا ابني فإن بطريقك خيراً لا تدرك بدايته من نهايته»
وإن لوحت بناظريك أبعد قليلاً سترى رجلين يعانق أحدهم الآخر وهما يوصيان نفسيهما، حين ترى امرأة تنادي فتاة لا تحمل دمها بأختي، حين تجد الأمان بين ذراعي شخص ليس من بلدك، وحين يحول القدر بين بقائكم معاً سيكون الفصل حائلاً وسط أي شخص ، فجأة بدأت كلمات الاعتذار تنساب من كل شخص راحل.
«سامحني يا أبتي إن قصرت بحقك»
«اغفري لي إن أخطأت بحقك يا أختي»
لأن لا لقاء بعد هذا، كانت هذه اٌقسى وأدفئ صورة للرحيل والوداع، والصغار في أعلى السفينة مع النساء يحدثون رفاقهم في الأسفل بحرارة.
كان لابد من تجرع تلك الحرارة باكراً، من تذوق هذا الألم الآن، كي تبقى ذكريات أنهم رأوهم لآخر مرة على الأقل، كي لا يبقى كلام عالق في الحلق، حيث أن أي شيء بعد الفراق يغدو بطيئاً، تصبح الدقائق والساعات حارقة، ويكتوي الناس في ثوانيها وهذا ما لن يسمح شخص بعناد مؤسس الأروجيريا، فهو أتى بشعبه ليعاند الجفاء حتّى تبقى القصائد بلون ضحكاتهم، وتبقى الكلمات عاشقة لحواراتهم، وترسخ دموعهم التي راها أمامه في ذاكرة كل طفل بهذا الجيل، حتى لا يكون الصّمت مِحوراً لحديثهم يوماً، وحتّى لا يمارسوا الخيانة لذكرياتهم مع النّسيان، وتبقى أحاسيسهم مُشتعلة للعيان، حنقاً بكل شخص استهزئ بروابطهم المميزة.
وبعد منحهم وقتاً يرضي رغبات وعواطف كل منهم، انتهى الوداع، وانتهت الأعمال، ولم يبقى على الأرض حامل لقلادة السايوري غير المؤسس الذي تأمل صديقه لآخر مرة فوجده ثابتاً كما عهده، امتدت يد الأخير حتى وصلت كتفه مشجعاً إياه، فابتسم ونطق سعيداً «حتّى تصبح أيّامنا الماضية رائعة فريدة، وتبقى ذكرياتنا خالدة مجيدة، وتغدو أوجاع ماضينا سعيدة، فإني سأجعل إرثي مرتبطاً بك»
حرك المخاطب رأسه إيجاباً في هدوء وأضاف «اذهب يا أخي، ولا تنظر خلفك»
كان لابد من هذا اللقاء الأخير، حتى يتذكروا بعضهم بحنينٍ، وتبقى دموعهم دموع شوق بعيدة عن الأنين، فحتى إن افترقوا لسنين، لن تتشوّه سنوات عمرهم، وستبقى أيّامهم خالية من عارِ فراقهم، حتّى هذه اللحظة.. حيث صعد المؤسس على سفينته بروية، فقال هذا اليوم بسلام، وداعاً يا أغلى إنسان.
ساد السواد الأرض وأظلمت السماء، كان فراقهم في مثل هذا الليل الأهيم، وطويت صفحة الماضي الأهم حين كانت السايوري واضحة للعيان، لكن قبل أن يدير المؤسس ظهره للأرض الذي عاش فيها سمع هتافاً حيث جيرانهم، هناك حيث رفع مؤسس الأروجيريا يده حاملة رمزه الذي أضاء بلون أزرق مشع، لون يشابه تماماً الرموز المرسومة على جبينه، وكانت جميع قلادات الأروجيريا تشع بنفس اللون وهم يهتفون هتاف شخص واحد.
ضج الساحل بصوتهم المتحد، صوت المحاربين القساة، وبدى كما لو أن النجوم سقطت على الأرض.. لم يكن هناك فرق بين الأرض والسماء في مثل ذلك الظلام، لكن يمكن الجزم بأن أجمل سماء رآها شعب السايوري في حياتهم كانت السماء التي كان شعب الأروجيريا نجومها، حيث كانت قلاداتهم تضيء لهم فقط.. نجومهم لا تشع لغيرهم.
كانت الغابة تنبض يومها، كان المؤسس يستطيع أن يسمع توديع كل كائنات الغابة لهم فلم يشعر إلا وقد التمعت الرموز بجبينه جاعلاً رموز شعبه على السفن التي تبتعد عن الساحل بروية تضيئ، فابتسم المؤسس على وسعه وركض إلى طرف السفينة هاتفاً «لن أنساك آلي!»
رفع صوته بقدر ما يستطيع فلم يجد مؤسس الأٍوجيريا إلا أن يضحك بقوة على تلك العبارة وهو الذي لم يضحك هكذا منذ زمن بعيدـ تلك الأشعة التي تلاقت وترابطت، التي نبعت من قلائد شعبين اثنين لن تنقطع يوماً، حتى حين غابت السفن واختفت عند الأفق، رفع المؤسس يده واستدار عائداً وشعبه خلفه متحدثاً في سكينة «لنعد ونكتشف هذا العالم لوحدنا»
لكنه لم يكن الوحيد الذي بحث عن السايوري في هذا اليوم...
يتبع..
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top