التمهيد
احذر صديقك القديم دائما قبل أن تحذر عدوك، لانهم يعرفون أن الرمز هناك.. هناك في مكان ما !
لطالما كانت الخيانة مؤلمة و مفزعة.. فالسر دائما ينبثق من الأعماق.
البلاد الموعودة مختبئة في غياهب الدنيا، متلثمة بديجور عميق.. هي أسطورة من الأساطير الحية التي لم تمس للآن، بين اشتياق أفرادها للاختلاط بالعالم، وبين تلهف أرواح الغير لملاقاتهم، إلا أن بالاخرين طمعاً عميقاً وجشعاً منقطع النظير، كما لو أن أوان الحق آن أن يبين، بل هو مجرد شعار يطاع يخفي ظلمات أرواح المشردين المنبوذين !
أشارت إحدى الأيادي لموقع غير معلم على الخريطة، في قاعة كبيرة توسطتها طاولة بيضاوية، فرشت القاعة و وزينت بالشاشات العريضة والأوراق والمخططات، كما احتضنت بين جدرانها أثقل الناس نفوساً وأسوئهم طبعا، وقد تم تعليم ذلك الموقع على الخريطة بعد الإشارة.. وإذا بابتسامات ماكرة تفتري عليها شفاههم الغليظة.
ظهر الجد على محيا قائد هذه الجلسة وهو يستمع للهمسات التي يطلقها كل واحد في القاعة، لكنه ضرب يده على الطاولة بقوة مصمتا إياهم حتى يتسنى له الكلام «إن كانت معلوماتكم صحيحة، فنحن عثرنا على الكنز»
انفتلت بضع ضحكات ساخرة من المخاطب، لكن القائد أردف و هو يمسد شاربه الأشعث، غير مدرك للفعل العظيم الذي يقوم به نطق بحدة «لنجعل الكنز ملكا لنا»
والفعل الصغير الذي قام به لم يزد عن ضغطة بسيطة على زر بجانبه الأيمن، لم يتجاوز حجم الزر العشرة سنتيمات، إلا أنه وما إن قام بعمله، حتى ارتفع الصراخ والنحيب، حتى دمرت الأحلام وحطمت المباني واحترقت الأراضي.. حتى فرقت العائلات وتشتت النفوس.. وتفتت كيان الموعودة !
وهنا بعد أن كانت تروس الزمن فقط التي تتحرك.. تحركت أخيراً عجلة القدر محررة نفسها من الغبار والشباك.. محضرة أسوء أنواع العذاب لتختبر هذا العالم..
«أعدك أننا سنعيش وأننا سنفهم المعنى من الرموز وسنفهم كل ما حصل.. وسننتقم لهم جميعاً ! أتسمعني ؟!»
«لم حصل ذلك؟ لم كان على السايوري أن تحترق ؟»
«لم أتخيل يوماً.. أن علي الموت وحيداً»
«على عروس الزهرة أن تقدم كامل دعمها للموعودة ! فلنحرك هذا البلد ! فلنحرك هذا العالم !»
«كيف أمكن لمثل هذا الفتى القيام بكل هذا؟ إن هذا الصغير هو من أوقف الحرب!»
«أريم أتوسل إليك أن تأخذني معك، لأن العالم أبى أن يستمع أو أن يرى»
.....................................................................
إن القصة كانت منذ زمن بعيد، فقيل كان يا مكان في قديم الزمان.. قرية تدعى السايوري، لم تكن تلك القرية في أي مكان، لقد انفصل المؤسسون عن إخوانهم، قبل أن يبدء تسجيل التاريخ كان لابد من افتراقهم.. وقد اتفقوا يومها على شيء واحد، اجتمعوا عند أمهر صانعي التحف في القارة، ليصمم لهم أربعة رموز.
تختلف كل تحفة عن أختها من ناحية المركبات والأشكال والمعاني فقد كان الصانع غريب الأطوار. وأمهلوه في صنعها الأشهر الطويلة، لأنها كانت بدعة الزمان وأحسن الرموز.
حان موعد التسليم فوقف الرؤساء الأربعة في تلك الخيمة القديمة، طغى اللون الأحمر على الإضاءة و بعث جوا مميزا من الرهبة بينما المدعوون الأربعة ينتظرون مرادهم.
وفي مشهد بطيء ابتعدت الستائر عن واجهة الخيمة ليظهر ذلك الرجل العجوز الملثم، عباءته لم تظهر سوى عينيه الحادتين و بشرته المجعدة، تقدم ناحية ضيوفه يحمل بين يديه صندوقا خشبيا مزخرفا.
وضع الصندوق فوق المائدة المستديرة وسط الخيمة الممتلئة بأغراض عجيبة الشكل والصنعة، فتح العجوز الصندوق وتحدث بصوت جهوري «أنتم ستبدؤون تاريخاً جديداً، ستبدؤون أجيالاً متفرقة وستصنعون دولاً وعوالماً كبرى!»
رفع أول الرموز فاحتلت الدهشة وجوه القادة الأربعة من جمال تلك القطعة الرخامية السوداء الرفيعة بيده والتي زخرفت بلون أحمر قان، أعطيت تلك القطعة لأحد القادة وقال «هذه شيميلا.. وهي تجمع الدماء المغدورة»
تحير صاحب القلادة وتعجب من سبب إعطائه هذا الوصف فقال العجوز «إنك لن تفهم، وإنه لمقدر لك حمل هذه القلادة وإن فيها من السحر ما سيدوم لأطول القرون، ثم إنه مقدر لجيلك أن يتناقلها»
ولم يزد عن تلك العبارات كلمة واحدة تاركاً الرجل يحدق بقلادته بصمت وحيرة، ثم اتجه نحو الثاني معطيًا إياه حجراً صخرياً أقرب للون الأبيض مزخرفا بلون أسود وقد عرف أنه أقل جمالاً لهدوئه، فقال «إن هذه سيلفونيا، إنها عنقاء صامتة، والصمت كالحجر لا ينفع ويضر، وإني ارتأيت من الخير إعلامك أن الصمت جريمة ببعض الأحيان»
اعتبر الرجل تلك القلادة إهانة عظيمة وقد عبر محياه عن الاستياء تماماً وعدم الرضى بما يقدم له إلا أن العجوز قاطعه «اعذرني يا سيدي إلا أنني لا أقصدك بهذه الكلمات فإنها رمز لا يخلو من جمال كغيره وقد أتممت عملي فلا يغرنك وصفي، لكن حري بي تذكيرك أن هذه القلادة ستورث لجيلك، فأخبرهم سيدي عن الصمت، أبلغهم أن الصمت ليس سوى زناد وفتيل مشتعل»
ولم يضف عن كلامه كلمة، بخطوات ثقيلة اتجه ناحية صندوقه واختار الحجر التالي، وقد كان مثيلا للإعجاب بجمال من نوع قوي واثق، قُدمت للرجل الثالث فانبهر من حسنها، تلك القلادة لم تكن معدنية ولا فولاذية ولا فضية أو ذهبية، بل كانت مزيجا منها جميعاً.
«هذه أروجيريا، وهي عروس الزهرة»
ابتسم حاملها بثقة و نطق في سخرية «الزهرة؟ إن شعبي أقوى من هذا»
لم يرد العجوز محدقا بثبات روح الرجل أمامه واتزانه الموافق لقوته ثم العاطفة الجميلة التي يخفيها خلف صلابته، ثم قال «إن عروس الزهرة أقوى الرموز إن تعلق الأمر بالاحتمال والتضحية، إنها تعني الوفاء.. تعني التماسك والوِحدة، إنها تعني التضحية والمأساة بكامل أشكالها، وقد كتب عليك تمرير المآسي وألم الثقة إلى جيلك، لقد قدر عليكم تحمل أخطاء العالم على كاهلكم.. وحكم عليكم بأن تبقوا متماسكين تحت ضغط العالم، ويؤسفني أن يتوجب عليك نقل جميع المهام على عاتق أبنائك»
لم يحصل العجوز على رد من الرجل بل على ابتسامة واسعة واثقة لن تتغير يوماً، إن كان أبناؤه سيحملون نفس دمه فهم سيحملون مشاعره كذلك وسيقبلون التحدي، إن كان العالم ضدهم فيا أهلاً.
آخر رمز.. كان رمزاً زجاجياً.. «إن هذه السايوري.. إنها البلاد الموعودة»
حدق صاحبها بها متأملاً جمالها الخلاب المختلف وهشاشتها العجيبة، فقال العجوز «السايوري هشة وضعيفة، لكنها تحمل من القوى مالا يعلم عنها غيرها، هي مراعية لتحمل هذا، حنون وخبيرة، لكنها تحمل معاناة من نوع من مختلف.. وحري بأبنائك تحمل المعاناة أكثر من غيرهم، لأن السايوري ستكون مفتاح بداية ونهاية العالم، لأن السايوري هي الإشارة للنهاية»
شعر الرجل ببعض القلق من كلام العجوز إلا أن يد أحدهم أحاطت عنقه وتحدث صاحبها بثقة «لا مانع من أن تستعمل رمزي لحماية رمزك»
ابتسم صاحب السايروي ثم ضحك بخفة بعد كلام صاحب الأروجيريا، لأنه رجل في وعوده فأضاف «حتى آخر الزمان، عروس الزهرة ستقدس الموعودة»
وفي تلك الأثناء تحددت الوعود والصفوف والتفرعات وانقسمت البلدان.. وتحدد المستقبل وتبينت شخصيات الحكاية، ورحل أصحاب السايوري، واختبؤوا عن العالم أجمع.. ذلك لأنهم سلالة نادرة عليها العيش في الخفاء.
وقد عاشوا على أرضهم لسنوات تليها سنوات و صاروا لغزا بالنسبة للعالم إلا للثلاثة الباقين.
وتحركت تروس الزمن، تحولت الرموز من وحيدة إلى مئات ثم آلاف وازدادت بطريقة عجيبة.
لكن الذي لم يتغير أن عجلة القدر لم تتحرك بعد، وأن السايوري لازالت مختبئة عن العالم تستودعه سر مكانها لدى أخوتها الثلاثة فقط.
......................................................................
تحت الضوء الأبيض الذي يتخلل الظلمة، فوق بركة من المياه العذبة، تمثالان حجريان عملاقان بدى كما لو أنهما يعومان فوق المياه، لم يكن التمثالان تجسيدا لهيئة شخصين، بل كانا أشبه بزخرفة أو كرمز لقوم ما يتوهجان بطريقة عجيبة !
يخيل لمن يراهما أنهما يضيئان بشوق، يشعان بحزن، يصرخان بصوت صامت متألم يبدو كتحذير.. نعم كان كذلك.. هو تحذير لسكان هذه الأرض أن ينتبهوا، وأن يهربوا احياناً، وأن يواجهوا أحياناً أخرى، لكن الضوء الباهت لهما كان أبعد ما يكون عما اعتادا عليه، فهما في الأصل أشبه بمنارة بهتت وذبلت.
و لأنهما في الانتظار الآن، أن يكشف عنهما العالم ويرى دموع شعب الرمزين.
.............................................................................................
كانت السماء مندمجة مع اسوداد عجيب كأنها تخلت عن النهار إلى غير رجعة، فالليل دامس شديد الحلكة بهذه الأوقات.. الغيوم احتلت قلب السماء، لكنها سمحت لنور القمر بالتسلل عبرها منيراً بضع مناطق.
تحت السماء المقمرة، مختلفين في الأرض تحت ذات السماء كانا، اثنان قد استنفذا جسدهما إلى آخره، وقد توقفت عضلاتهما عن الصراخ لتركد تماماً بعد أن تمزقت، أحدهم أثقل بجراح عميقة خطت على جسده، والثاني أثقل قلبه بجراح لن تلتئم.
أولهما كبل بأغلال وأصفاد معدنية ثقيلة امتدت للأرض لم تراعي صغر جسده ولا الجراح التي تخلفها من شدة ربطها، وثانيهما كبل أيضا إلا أن تلك الأغلال كانت روحية أصعب من الأولى بكثير، كانت وهمية وثقيلة وكثيرة و كانت تضيق على جسد الفتى بشدة !
فانهمرت دموعه بغير إرادته بتلك الليلة !
«تعبت.. أنا فعلاً آسف لأي شيء فعلته، لينهي أحدكم هذا، اشتقت لأخي»
«فليخبرني أحد ما الهدف من القصف والقتل والاغتصاب؟ لأني بصدق تعبت من رؤية كل هذا، ما الهدف من العبودية و الإذلال؟ لأني سئمت بُعده»
..............................................................................
يتبع..
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top