الفصل الرابع
كلٌ غاص في فاجعته بعد الخبر الذي حطّ عليهم كالصاعقة، منهم من انهار أرضًا نائحًا بشدة، وهناك من ألجمته الصدمة ومنعته من إبداء أي ردة فعل، وبعضهم احتوى أقرب الناس إلى قلبه بين ذراعيه كـحال 'رنا' و'قيس'، بينما قبض 'مالكوم' على كف 'أليس' دون أن يجد ما يواسيها به.
-ألا يفترض أن نَفِر من هنا؟
تساءل أحدهم بهلع، لتجيبه 'أليس' بصوت هامد يعكس معاناتها:
-لا نملك وسيلة نقل، وحتى إن وجدت لن نتمكن من تجاوز المتحولين وتخطي حدود واشنطن في الموعد.
-ماذا سنفعل إذا؟!
-نترقّب انقضاء هذه السويعات، وندعو الرب أن تتمكن منظمة الصحة من ابتكار لقاح ضد الوباء.
أجابه 'مالكوم' محاولًا إظهار القوة حتى لا يتضاعف الهلع المتفشّي في المكان.
-الموت الحقيقي هو أن يُكتب على قبرك مات دون قتال، ويستحيل أن أخضع له عقِب كل ما جرى.
صاح 'قيس' بسخط وقد أحكم الانفعال قبضته على أعصابه.
-لا سبيل للفرار أو القتال هذه المرة، فما نجابهه هو قنابل نووية.
رد عليه 'مالكوم' بانفعال مكبوت في محاولة لإخماد غيظه.
تدخلت 'رنا' متشبثة بذراع شقيقها، قبل أن يتحول نقاشهما إلى شِجار:
-أعلم أننا لن نستطيع التحصّن ضد الموت، ولكن على الأقل فلنحيا ما بقي لنا ونحن نصنع ذكريات جميلة.
حدّق بها 'قيس' عاقدًا حاجباه وعدم الرضى بحديثها يظلل ملامحه، وقبل أن يرد عليها نهضت 'أليس' لتقول بحزم وملامح ساكنة لا تفصح عن شيء:
-لن تكون لنا قبور ليكتب عليها شيء، وما فعلناه حتى الآن شجاعة بحد ذاته، ولكنني سأتحلى ببعض الإيمان لأنتظر قدوم والدي نهار الغد ليخرجنا من هنا.
-أنتِ آخر شخص توقعت أن يخضع بهذه البساطة.
قابلت نظراته المستنكرة بابتسامة صغيرة أظهرت غمازة خدّها الأيسر، نقلت بصرها بين الجميع قائلة بتماسك:
-والدي لم يخذلني يومًا، وأنا واثقة من أنه لن يفعل الآن.
أنهت جولة نظراتها لتثبتها على 'رنا'، معقّبة:
-فلنفعل ما اقترحته 'رنا'، لنصنع ذكريات مبهجة لنرويها في المستقبل.
لم تكن واثقة مما تلفّظت به قبل لحظات، ولكنها تدرك جيدًا أن أي محاولة للفرار لن توفّق، من الأجدى بث الابتهاج في نفوسهم؛ فهو كل ما يحتاجونه الآن.
انقسموا إلى مجموعات، كل واحدة اتخذت موقعًا مريحًا ليصنعوا ذكرياتهم المبهجة برفقة أفراد العائلة، أو الأصدقاء، وربما جيران وزملاء عمل أو دراسة.
استندت 'أليس' على كتف 'مالكوم' وذراعه اليمنى تحيطها؛ لتبث لروحها دفئًا افتقدته لسنوات، برفقتهما التوأم وخمسة أشخاص آخرين، من بينهم العمدة.
-لنبدأ بالتأسّف لمن أخطأنا بحقهم.
استفتحت 'رنا' جلستهم بنبرة ذات مغزى فهمها 'قيس'، لينظر نحو 'أليس' التي بادرته بابتسامة:
-أبغض الاعتذارات، لنتظاهر أنه لم يحصل شيء.
بادلها الابتسامة متمتمًا بامتنانه وقد زال العبوس عن ملامحه المتعبة، ثم وجّه تركيزه نحو العُمدة الجالس قُبالته، ليقول بأسف:
-سيدي العُمدة، أعتذر بشأن تحطيم نافذتك الشهر المنصرم.
بادله بابتسامة ضاحكة:
-كنت أعلم أنه أنت أيها المشاكس.
نظرت 'أليس' نحو وجه 'مالكوم' على بُعد سنتيمترات منها، لتجده يراقبها بالفعل لينحني نحو أُذنها ليهمس بوله:
ما زلت أعرف أن الشوق معصيتي..
والعشق والله ذنبٌ لست أخفيهِ
أشتاق ذنبي ففي عينيكِ مغفرتي..
يا ذنب عمري ويا أنقى لياليهِ
-أنتَ هو المجهول!
لم تكن محتاجة لجملتها الهامسة لتتبين لها الحقيقة. رُسم على شفتيه طيف ابتسامة ليومئ إيجابًا.
-لماذا لم تخبرني؟
تعجّبت وقد طال الارتجاف قلبها وشفتيها الجّافتين؛ ليغمض عينيه مُسندًا جبينه على خاصتها.
-لم أُرد أن تشعري بالحزن لكون هذا المجهول ليس والدك.
-وهل تواصلت معه ليحادثني أيضًا؟
قبض على كفّها بيده اليسرى، ليرد بنبرة حنونة:
-كان خائفًا من أن ترفضي الحديث معه.
-لا أعرف كيف أجازيك على كل ما قدمته من أجلي طوال هذه السنوات.
همست بتأثر رافعةً كفّها الأيمن لتضعه على خدّه، ونظراتها تعانق ملامحه بمشاعر كافحت ظهورها لفترة طويلة.
-يكفيني وجودك بين ذراعَي الآن...
قاطع محادثتهما الحميمية شعورهما بنظرات شخص ما مسلطة عليهما، ولم يخب توقعهما إذ كان التوأم يراقبانهما بابتسامة بلهاء.
-هل نُخلي إحدى الغرف لتحظيا ببعض الخصوصية.
منع اندفاع أحد الحراس بملامح جزعة 'أليس' و'مالكوم' من الرد على جملة 'رنا' بنظراتها الخبيثة.
-المتحولون يحيطون بالمكان متسلقين السور.
ساد الهرج والمرج بين المتواجدين؛ ليصيح 'مالكوم' عاليًا يطالبهم بأن يحكموا رباط جأشهم حتى يتمكنوا من التفكير بروية.
أقفلت جميع الأبواب وتمركز عندهم كل من لديه القدرة على حمل السلاح، كان الجميع في حالة استنفار جنونية، ولم يظن أحد أن الموت مستعجل لحصد أرواحهم لهذا الحد.
وقفت 'أليس' على أحد المكاتب وقد غالبت أوجاعها؛ لتطالبهم بالصمت وعندما نفّذوا نظرت إليهم بعزم وقوة لتقول:
-لا أعرف رأيكم، ولكنني أفضل أن ألقى حدفي بقنبلة نووية على أن يقتلني شخص مصاب بداء الضحك...
قاطع حديثها صوت طائرة (هيلوكوبتر) لتتساءل بعدم تصديق:
-أتسمعون ما أسمع؟
كانت الضوضاء الصادرة عن الطائرة غير قابلة للشك، وقد صاحبها صوت طلقات نارية سببت تهشّم بعض النوافذ؛ لينخفض الجميع تفاديًا للإصابة.
كانت 'أليس' واثقة من أن أيًّا كانوا الذين يطلقون النار، فهم يستهدفون المتحولين وقد كانت ممتنة لهم، وهي تدعو أن ينجوا الجميع وتنتهي هذه الفترة العصيبة على خير.
بعد دقائق قليلة خيم على الأجواء صمت مشحون بالتوتر، لحقه صوت طرقات على الباب الرئيس وأحدهم يطمئنهم بخلو المكان من الخطر؛ لتتفشى بينهم البهجة المشبعة بدموع الفرح.
فُتح الباب على مصراعيه كاشفًا عن رجال يرتدون ملابس الجيش المميزة، ولكن ما زاد من سعادة 'أليس' هو رؤيتها لرجل في نهاية عقده السادس، وقد خالط الشيب خصلاته الشقراء.
ركضت نحو والدها الذي طال غيابها عنه؛ لترتمي بين ذراعيه سامحة لنفسها بالتعبير عن كل وجع شعرت به يومًا وهي بعيدة عنه.
لقاؤهما أدخل البهجة إلى قلوب المقربين منها، و'مالكوم' كان أكثرهم تهلُّلًا وقد بان ذلك على ملامحه المشرقة بابتسامة لم تفلح في تخبئة إرهاقه؛ كما هو حال الجميع.
...
لم يتم ابتكار علاج للوباء ولكنهم استطاعوا أن يحدّوا من تفشّيه في أنحاء أمريكا، وقد كانت المعلومات التي زودت 'أليس' بها والدها -في اتصالها- مفيدة للغاية، ولم يتبقَ سوى التخلص من المتحولين ليرجع كل شيء كيفما كان.
تم إرسال اللقاح لكل الدول حول العالم تحسبًا لانتشاره في مكان آخر، وقد تم إنقاذ الكثيرين أمثال أهالي 'لابوش' من جميع أنحاء واشنطن.
✳ ✳ ✳
تمت بحمد اللّٰه ❤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top