الفصل الثاني

فاق صخب أفكارها ضجيج الأمواج المتلاطمة على بُعد مسافة قصيرة منها، تأمّلت بزوغ الفجر من موضعها على سطح منزلها الخشبي الذي غابت عنه منذ انتشار الوباء.

داعب نسيم الصباح خصلاتها الكستنائية الفاتحة، وعيناها الفيروزيتان شاردتان في الأفق القَصِيّ، تفكّر في عمرها الذي أفنته ولم يكن يمت للعيش بأي صلة؛ كانت فتاة دون أهداف أو مبادئ.

بذّرت أخْيَر سنوات حياتها بعيدًا عن الشخص الوحيد الذي أحبها بصدق، فرّت مع عشيقها إلى هذه البلدة البعيدة، منفصلةً عن عالم لم تكن ترى فيه أحد غيره، ولكنه خانها عند أول فرصة أُتيحت له.

لم يوجعها ما ارتكبه بحقها بقدر ما يعذبها أنين ضميرها، الذي يرهقها في كل مرة تتجلّى فيها ملامح والدها في مخيلتها.

كانت مراهقة طائشة وأنانية لا تراعي مشاعر أحد، مدللة للحد الذي لا حد له، لا يمكنها لوم أي شخص آخر على ما حَلّ بها، هي المُدانة الوحيدة بهذا الجُرم العظيم.

أضْنَت على نفسها براحة البال والسعادة، حرّمت على عينيها ذرف عبراتها وأبقتها في جوفها حتى أضحت أسيدًا يكوي كل خلية يطالها.

أحالت بصرها إلى الوريقات بين أناملها، التي فصَلتها عن الجرائد المجموعة طوال الشهرين المنصرمين، منذ أن بدأ ذلك المجهول بنشر قصائده الغزلية كل يوم جُمعة، ولم تُكشف هويته حتى اللحظة، ولكنها أدركت من يكون منذ أن وقعت عينيها على توقيعه الذي يُرفقه عند نهاية كل قصيدة (إلى مُدللتي)، وهو اللقب الذي أطلقه عليها والدها منذ طفولتها.

بلّغوها إذا أتيتم حِماها * أنني مِت في الغرام فِداها

واذكروني لها بكل جميل * فعساها تحِن عساها

إن روحي تناجيها * وعينَي تسير إثر خُطاها

لم يشفني سوى أملي * أنني يومًا أراها

عانقت حدقَتَاها الفيروزيتان الأحرفَ المطبوعة على قصاصة الورق بين أناملها، غالبت غصّتها لتنهض نافضةً عنها ذكرياتها الأليمة ووجعها الذي أدمى قلبها المكلوم.

...

رَبَضت 'رنا' بقرب شقيقها القاعد على إحدى درجات السلم المؤدية إلى السطح، واضعًا رأسه بين كفّيه ومُسندًا مرفقيه على ساقيه، تمتمت 'رنا' بكآبة دون أن تزيح عينيها عنه:

-لقد بزغت الشمس منذ ساعة، و'أليس' لم تَعُد بعد.

-أيمكنك التلفظ بشيء يخفف من تأنيب ضميري عِوضًا عن زيادته؟

ردّ عليها دون أن يغيّر من وضعه، مالت عليه لتتوسد كتفه لتهمس بنبرة مهزوزة:

- لا أدري، ولكن 'مالكوم' يكاد يفقد عقله وهواجسه تتآكله ببطء، أظن أنه مغرم بها.

رفع رأسه عن كفيّه ليحدّق برأسها المستكين على كتفه، ليتساءل رافعًا حاجبيه بتعجّب:

-هل أنتِ واثقة من هذا؟

أزاحت رأسها عن كتفه لتجلس باعتدال، والتجهّم يظلل ملامحها السمراء المَليحة، التقت نظراتهما لتجيبه بنبرة مهزوزة:

-طلب يدها للزواج قبل أيام من الوباء ولكنها رفضته، ومع ذلك ما زال يعاملها بكل حب.

-لا يمكن لومها عقِب فِعلة ذاك السافل.

تمتم 'قيس' بغِل مُشيحًا بعينيه بعيدًا لترد عليه بعزم:

-ولكن 'مالكوم' متوجّع بشدة، ويجب أن نفعل شيئًا حيالهما.

-لنفكّر كيف ننجو من المأزق الذي نحن فيه الآن، بعدها سنبحث عن طريقة لنجمعهما.

-أي مأزق؟

صفع جبينه على بلاهة شقيقته، ليقول بسخرية:

-سلامتكِ أختي الغالية، كل ما في الأمر أننا في قرية تحوَل أكثر من نصف سكانها إلى آكلي لحوم البشر، ولا نعرف كيف نخرج منها.

قاطع شجارهما الذي أوشكت 'رنا' بدءه اندفاع 'مالكوم' نحوهما، قادمًا من الطابق الثاني متوجهًا إلى السطح.

-مالكوم...

لم تسترسل 'رنا' في حديثها وهي تراقبه يتعداهما راكضًا وقد ظلل الجزع ملامحه الشاحبة، متجاهلًا نداءاتهما ليستنهض 'قيس' شقيقته لاحقَين به.

عند بلوغهما السطح وجدا الكل في حالة استنفار، يراقبون شيئًا ما من خلال مناظيرهم.

-ما الذي يجري هنا؟

تحيّر 'قيس' لتجيبه امرأة في عقدها الثالث، والهلع جاثم على ملامحها ذات السُمرة الخفيفة:

-إنها 'أليس'، يطاردها خمسة متحولين.

اجتاح الهلع ملامح الجميع ولكن 'مالكوم' كان أشدّهم فزعًا، إذ صاح عبر جهازه اللاسلكي في يمناه، ويده الأخرى تُثبت المنظار أمام عينيه ذات اللون الأسود.

-ألي، ارجعي إلى هنا.

أتاه صوتها منقطع الأنفاس؛ إثر عَدْوها لفترة من الطرف الآخر:

-إصابتي ستحول دون إدراكي للمركز، رجاءً مالك، ابقَ حيث أنت.

نبرة الاستسلام في صوتها كانت واضحة؛ سببت لـ'مالكوم' حالة هستيرية من الهلع والبؤس الشديدين، وقد فرّت عبراته لتنحدر على خدّيه، خارت قواه ليقع أرضًا وصُدر عنه أنين مكتوم، دفع 'قيس' جسده نحو الحافة ليتعلّق بأحد الحبال المُعدّة للنزول وعلى إثره 'رنا'.

...

(السفارة الأمريكية/لندن)

يستكين جسده المُهلك إثر الفاجعة التي أصابت قلبه المكلوم على قُرّة عينه، أهلكه نبأ الوباء الذي أصاب مدينة واشنطن بأسرها من ضمنها قرية لابوش، التي فرّت إليها ابنته بصحبة عشيقها قبل سنوات.

-سيد ويلكنز، يجب أن يتم هذا وإلا لن يتفشّى الوباء في أنحاء أمريكا فقط بل العالم بأسره.

تحدث رئيس أركان الجيش الأمريكي الجنرال 'رودريغز'، محاولًا إقناع الجالسين حول المائدة البيضاوية التي تتوسط غرفة الاجتماعات.

-تفجير العاصمة بالقنابل النووية ليس حلًا واردًا.

أجابه وزير الخارجية السيد 'جايكوبز' بتردد والكآبة جاثمة على ملامحه كما هو حال الجميع.

-يتواجد ناجون في المدينة، لا يمكننا نسفها بهذه البساطة.

أعقب نائب الرئيس السيد 'ويلكنز' حديثه المهموم بوضع رأسه بين كفّيه المرتجفتين، والهلع الشديد يمنعه من التفكير بروية.

-لقد تمكّنا بأعجوبة من إجلاء الرئيس، هو على متن الطائرة الآن، لا نقدر على التريث أكثر من هذا وإلا سنضيّع أمريكا بأسرها.

بعد تفكير طويل أذعن السيد 'ويلكنز' لحديث الجنرال، والأسى يتآكله على فقده الثمين.

...

(لابوش/واشنطن)

بالكاد تمكّنت 'أليس' من الحفاظ على توازنها أعلى أحد البيوت الخشبية ذي السطح المثلث، وقد استطاعت تسلّقه بأعجوبة بسبب إصابتها في جانب خصرها الأيمن.

موقعها لم يمنع بعض المتحولين من إدراكها محاولين النَّيل منها، وقد أسقطت معظمهم ولم يتبقَ سوى واحد فقط.

حدّقت به والأسى يمنعها من التخلص منه كما جرى مع من سبقوه، راقبت ملامحه التي تحفظها عن ظهر قلب، استحضر فؤادها ذكرياتهما معًا، على الرغم من تخلّيه عنها منذ أكثر من تسع سنوات، إلا أنها لم تُرِد أن ينال مصيرًا بشعًا كهذا.

-إد، لا ترغمني على هذا.

همست بنبرة حذرة متراجعة خطوة للوراء، ولكنها لم تنَل منه سوى زمجرة كشفت عن أسنانه الملوثة بالدماء، كـباقي جسده.

تقدم نحوها بنظرات متعطشة للدماء مادًا ذراعيه أمامه، استمرت في التراجع حتى بلغت الحافة؛ لتدرك أن النهاية قد دَنَتْ منها للغاية.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top