Chapter 21
لم أكن أدرك حقيقة الأمور التي كنت أقع فيها ، كنت أتحاشى دائماً الحقائق لذلك كان أحياناً وقعها صادماً لي .
كنت أجلس أمام أبي ، أحدق بيداي ، حركة يداي المتوترة جعلته يدرك أنني أعلم عن ذلك الأمر ، لم يغضب لإخفائي الحقيقة ، كان هادئاً عكس العادة ، لذلك أخذت نفسًا عميقًا و زفرته بهدوء و أُجيب سؤاله :
" نعم يا أبي ، عامر أخبرني بكل شئ .. لم يكن هو القاتل للعم خالد بل .."
سكت للحظات ، هل يجب إظهار السر ؟ .. أم يجب قول الحقيقة ؟
" أكمل .. من كان القاتل ؟ "
سألني بهدوء ، لا يوجد و لو تعبير وجه واحداً فقط! ..فأومأت أقول :
" ج.. جابر الذي قتل عمي خالد رحمه الله."
لازال هادئاً ، و كأن بأعماقه كان يدرك الحقيقة ، وجه عيناه لما خارج النافذة ، ثم نهض يتجه إليها ، و وقف يحدق بالسماء يفكر بالأمر حتى سمع شهقة مصدومة من فارس فنظر له ليجده يحدق بالتاريخ قبل أن ينهض ، فاتجه نحوه مستغرباً يسأله :
" ماذا يا فارس؟ "
نظر نحوه فارس للحظة لا يستطيع التفكير بشئ ، و كل تفكيره أنه كيف نسى هذا اليوم؟!!
بشئ من التردد و الخوف :
" أبي أريد الذهاب لنادر ."
عقد جبينه ، في هذا الوقت؟! .. لذلك نطق برفض :
" الساعة السابعة ، لتذهب غداً ..."
قاطعه بقلق شديد و ترجي:
" أرجوك أبي ، أن اليوم هو ذكرى موت والديه ! نادر تكون حالته صعبة جداً بهذا اليوم ، دعني أذهب لأراه! "
بعد تردد قليل تنهد :
" حسناً لنذهب سوياً ."
لم يكد يكمل الجملة حتى ركض فارس يرتدي معطفه ثم سبقه للسيارة ، خلال ساعة كان فارس يقف أمام باب الشقة بأنفاس متسارعة ، يؤنب نفسه على النسيان! لم يكد ساهر يفتح الباب حتى دلف فارس تحت تفاجؤ ساهر الذي ابتسم بخفة حين رؤيته لسالم .
حين دخلا وجدا فارس يجلس بجانب نادر الذي نهض بابتسامة متعبة لصاحبه الذي يعتذر له بشدة على تركه بمفرده ، و الأخر كان يتجاوب معه مما جعل ساهر يبتسم ، فقد كان بعالم أخر قبل مجئ فارس ، لو يعلم أن فارس سيخرجه من حالته كان سيتصل به يطلب مجيئه أفضل .
" أنا بخير ! "
" أنت تكذب! أنظر لحالتك! "
تنهد نادر بقلة حيلة ، حتى شعر بيد فارس تمسح بقايا دموعه فنظر له وابتسم ، لحظة حتى نطق :
" ما رأيك أن نذاكر ؟ الامتحان بعد عشرين يوماً فقط ."
لم يرد فارس بل نهض نحو مكتب نادر ليمسك بالكتاب و دفتر و قلمين ثم عاد له مجدداً ، وضعهم أمامه ثم نزع سترته و شاركه بالسرير
دافعاً إياه للجانب ، لحظة حتى ابتسم فارس و أمسك الكتاب ليخاطبه :
" نبدأ؟ "
" نبدأ."
عقب نادر و الابتسامة تعلو شفتيه ، رؤية فارس كانت كفيلة بتهدئة قلبه المشتعل ، كان دائماً كالمهدئ له ، كان بلسماً!
ساهر و سالم كان يراقبانهما ، ساهر ابتسم لأنه يعرف مكانة كلا منهما بقلب الأخر بينما سالم كان مندهشاً قليلاً ، لم يكن يعلم أن فارس و نادر بهذا القرب ، صداقتهما ذكرته بصداقته مع عامر و خالد بالاضافة لجابر رغم أنه كان يرى أحياناً أن جابر مختلف قليلاً ، أكثر غروراً لكنه كان يعتبره كصديق قبل أن يقتل أخاه؟!
" خطأ يا فارس! "
" بل إجابة صحيحة أنا متأكد ! "
نفي نادر متشبثاً بكلامه ، فعبس فارس الذي ترك الكتاب بعبوس :
" أكتب الصحيحة إذاً ! "
" غضبت مجدداً !! "
تنهد فارس بغيظ قبل أن يجذبه نادر محيطاً رقبته بذراعه ، لكنه هدأ فجأة ، ذلك جعل فارس يسأله بحزن :
" أنت بخير؟ "
نفى نادر و هو يهمس إليه بتعب :
" مشتاق لهما ."
لم يجد فارس الإ أن يعانقه ، يحتضنه محيطاً ذراعيه حوله ، يحاول بقدر الإمكان إحتوائه ، شعر به يبكي ، جسده يرتجف لاإرادياً ، همس إليه أن يبكي كما يشاء معه ، فلف نادر ذراعيه حول ظهر فارس يشرع بالبكاء مجدداً ، هذه المرة صوته كان خافتاً لكنه أكثر حرقة ! أكثر ألماً ، تركاه و تركا فراغاً ما إستطاع ملئه بحبهما بل بذكريات الألم التي تنهش بأعماقه فقط!
نهض ساهر يتجه نحوهما ثم جلس بجانبهما ماداً يده يمسح بها علي ظهر أخاه ، كان يزداد بكاءاً ، يزداد تشبثاً بفارس الذي أغمض عينيه يمنع دموعه عن الإنسياب كذلك ، رؤيته لصديقه المرح بهذا الحال جعله يدرك ما كان يخفيه طول ذلك الوقت!
ربت على ظهره و غمر أصابعه بين خصلات شعره من الخلف يدفنه أكثر بعنقه ، يستشعر دموعه بألم و صمت ، يود لو أن يضعه داخل أعمق مكان في قلبه ، يحتويه ، يبعده عن كل ألام العالم أجمع ، عن الحياة و قسوتها ، عن الألم ، تمنى لحظتها لو أن ألمه ينتقل إليه ، يشعر به هو و ليس رفيق روحه ، تلقى خده دمعة إنزلقت رغماً عنه حين أغمض عيناه دافناً وجهه بكتف رفيقه يهمس إليه بكلمات تمنى لو تكون كافية لإذابة الألم في قلب الأخر رغم معرفته أنها غير كافية :
" لا أتمنى رؤيتك حزيناً .. لا تحزن أنا معك ! .. قلبي يؤلمني لأجلك ! .. "
ثبت الاثنين على هذا الحال ، لبعض الوقت تحت أنظار سالم و ساهر ، و حين بدأت الساعة تتجاوز العاشرة مساءاً بدأ نادر يستفيق من حزنه ، لم يبتعد عن حضن رفيقه ، و كأنه يستمد طاقته منه ، يستند عليه في مَيّلتِه .. قريب منه هو ، قريب من قلبه ، من فؤاده .. شعور أن تمتلك شخصاً بمثابة وتين لروحك هو أجمل ما قد حدث لنادر !!
" أنت غبي! "
سمعها نادر و ابتسامة لاحت على شفتيه بتعب ، رغم إستشعار نبرة الصوت المهتزة و المستاءة ، الا أنه كان سعيداً لسماعه تأنيب فارس له ، هو الذي لم ينكسر في أصعب الظروف ، هذا اليوم يكسره ، يوم واحد يذكره بكل معاناة عانها ، بموت والديه أمامه لمدة ستة عشر ساعة متواصلين ، لكن وجود فارس قربه و لو لعده دقائق فقط كان مريحاً ، و ذلك ما جعله يبتسم و هو يعتدل يهمس إليه :
" شكراً لوجودك يا فارس ."
حدق فارس بعينيه التي تورمت من البكاء ثم هز رأسه يميناً و يساراً نافياً ثم رد باستياء :
" لا تقول سوى أسف ، لأنك تكاد تقتل نفسك بذلك الأمر .. موت والديك لم يكن بارادتهما بل أنه قدرهما .. الموت لا ينتظر أحد و لست سبب موتهما .. هما كانا يحباك جداً ، و لذلك يجب عليك أن تكون شجاعاً لا أن تنهار!! "
كان تقريباً يزداد ضيقه مع كل كلمة ، ثم ترك مكانه و استقام يخرج قائلاً بصوت مخنتق دون النظر نحوه او التوقف :
" أريد المغادرة يا أبي ."
لم تختفي ابتسامة نادر الذي يحدق في مكان مغادرته قبل أن ينتقل سالم إليه و يربت على رأسه بابتسامة حنونة ، فبادله نادر التبسم برفق ليعانقه سالم بحنان أبوي غامر قبل أن يفترق عنه و يطلب منه الإعتناء بنفسه ثم ودعه و شقيقه الأكبر و غادر خلف فارس !
هناك وجده ينظر للسماء بحزن ، فدخل السيارة و مد يده يربت على رأسه بابتسامة يخبره :
" نادر أصبح بخير ، ابتهج قليلاً ."
" لست غاضباً منه ، أنا فقط ... لا أريد منه المغادرة ."
همس يمسك جهة قلبه ، لم يفهم سالم ، عن أي مغادرة يتحدث؟ ، لكن ما كان يعلمه أن إبنه يخاف البُعد و الفراق ، يخشاهم ، تصيبه فوبيا عند الهجر ، يخشى أن يأتي يوماً ما و يتركه أكثر المحببين لقلبه أو ينشغلوا عنه .. رغم كل ما يحدث ، محبة نادر ، محبة أسرته ، الا أنه مازال يربط المحبة بالفراق .. والديه كانا يحبانه لكنهما غادرا حياته لخمس سنوات دون مكالمة واحدة يعتذران إليه فيها ،و كما هما فعلا قد يأتي نادر و يفعل او غيره!! أو تختلف الطرق بينهما فيضطرا للبُعد عن بعضهما !
حين توقفت السيارة أمام الفيلا ، فتح فارس الباب و غادر قبل والده الذي قام أولاً بركن السيارة ثم هَمَّ بالدخول قبل أن يتوقف و يلتفت لذلك الذي يقف بالطرف الاخر من الفيلا ، تغطيه تلك القلنسوة السوداء كما يغمره الظلام من كل حدبٍ و صوب ، شعور القشعريرة الذي ينتابه من وجوده يجعله يجن ، يود لو يعرفه ، و ما كاد يتحرك خطوة حتي إلتفت الأخر يغادر ، لم يستطع سالم أن يسير خطوة واحدة لمعرفته رغم رغبته الشديدة بذلك ، رغم قلبه الذي يخبره ' هيا يا سالم ، مطاردته ستمكنك من معرفته! ' لكن لا جدوى! تصلب جسده و قرر أن يعود أدراجه لداخل الفيلا .
قابلته زوجته تعانق وجهه ، تنظر لعيناه التي حملت هماً و ألماً لا يشعر به أحد ، ثم من دون كلمة أمسكت بيده كالطفل و اتجهت لغرفتهما ، دخلت و أدخلته ثم أوصدت الباب ، لم تحتاج لكلمة لتفهم ما يمر به حبيبها من ضغط ، لم يطلب منها اسناده فهي كانت تفعل دون أن تحتاج لمن يصوغها لذلك ، جلست أمامه على المقعد و ابتسمت بوجهه قائلة :
" ها أنا هنا ، لتخبرني بكل ما يشغل بالك يا عزيزي ؟ "
لم تمر لحظة حتى ابتسم بحب لها قائلاً بخفوت :
" تفهمينني دون أن أنطق ."
بادلته تمد كفها و تلامس خده برفق ، ثم مسحت على خصلاته ترجعها أكثر للخلف حيث اعتادت ، انتظرته أن يتحدث و ما لبث أن لبى رغبتة عينيها بالحديث ، يخبرها بكل شئ لحظة نطق هيثم باسم جابر مروراً بالشخص الذي يظهر له مروراً بفارس و ما قاله ، و انتهت بذهابه لنادر و مجيئه ليري نفس الشخص قبل أن يدلف للفيلا .
هي كانت مصدومة ، متفاجئة من الأمر كله لكنها استطاعت احتواء الأمر و هي تربت عليه بحنية قائلة :
" لا تقلق يا عزيزي ، الحقيقة ستظهر يوماً ما."
" أتمنى ذلك يا حبيبتي."
ابتسمت تنهض ثم جلست إلى جانبه ليميل إليها و يعانقها فحاوطته بذراعيها في حب تمسح على شعره لعله يستكين و يهدأ من كل تلك الأفكار ، دقائق مرت في الصمت حتى قطعته قائلة بحيرة :
" هل نادر بخير؟ .. لم استطع إكمال معرفة السبب منك لأن فارس كان مستعجلاً ."
أومأ دون ترك حضنها مجيباً بتنهيدة :
" أجل هو بخير الآن ، الأمر فقط أن اليوم ذكرى موت والديه .."
سكت لحظة يبتعد عنها فيها و يحدق بوجهها و ابتسامة بسيطة ترسم على وجهه حيث أكمل:
" لم أخيل رؤية فارس هكذا .. إبنك يتغير كلياً ما دام هو مع نادر ، صداقتهما ذكرتني بعلاقتي مع أخي خالد رغم كل المشاكل التي كنا نخوضها الا أن كنا نعود لنستند على بعضنا مجدداً .. و كذلك فارس و نادر ، كلاهما يعرفان ما بداخل بعضهما ! "
ابتسمت بالفعل ، هي تعلم جيداً أن فارس متعلق بنادر ، تعرف صداقتهما العميقة ، ربتت على يده و قالت :
" المهم أنه وجد من يهتم لأمره ، هما صديقا طفولة ، منذ ولدا .. نحن و عائلة كامل عمران كنا أصدقاء و هما كذلك رغم أن ساهر ليس له علاقة قوية بنا لكن نادر لديه مع فارس و هذا يكفي ."
سكتت للحظة و هو يومئ لها مؤيداً لتكمل :
" سالم رجاءً لا تتركهم ، أعني ساهر و نادر ، كلاهما يتيمان ووحدهما ، قف إلى جانبهما ."
ابتسم لها :
" دائماً ما أفعل ذلك ، لا تقلقي عليهما .. قريباً سأحدث ساهر عن مجيئه للعمل معي ."
" فكرة جيدة ."
" أجل ، هيا لننام يا أميمة ."
..
تقدم نحو الغرفة ليفتحها ، كان يظن أنه نائم لكنه وجده يذاكر فتبسم و دلف للغرفة مما جعل الفتي يلتفت نحوه يحدق به بابتسامة مستغربة استيقاظه حتى وقت متأخر، ليسأل الأكبر :
" ألم تنهم للآن يا مراد ؟ لديك إمتحان بالغد ."
عدًّل مراد المقعد أمامه و تقدم لوالده ليسحبه معه ، جعله يجلس قبالته ليجلس أيضاً ، تحت نظرات ماجد المستغربة كان مراد يبتسم قبل أن ينطق :
" أبي أود شكرك كثيراً ، اليوم و لأول مرة أستطيع فعل شئ أريده ."
ابتسم والده :
" ماذا فعلت حبيبي مراد؟ "
زادت ابتسامة مراد ليرد :
" استطعت أخيراً أن أختار من يبقي و من يرحل ، دائماً ما كنت أصاحب أي شخص لمجرد كلمة لطيفة منه ظناً أنه صديق رائع و جيد لكن بعد كل مرة أرتمي بين يديك و أخبرك بألمي ، كنت تحتويني ، تقدم لي الدعم و النصيحة ،اليوم استطعت قول 'لا' لمن كان رفيق لي ، كان يريد مصلحته ، لا أعرف إن كان فعلي صحيحاً لكن أنا أشعر بالراحة بعد ذلك."
مسح على خصلاته بابتسامة ليرد علي كلماته :
" ليس من العيب قول ما بقلبك ما دام يريحك و طالما لا تتصرف بسوء يؤدي للإساءة للغير أو إيذائهم اذاً أنت بالطريق الصحيح .. كلنا فترات بحياة بعضنا يابني .. و العمر هو فرصة واحدة سنحظى بها ، علينا فعل الشئ الصحيح .. إختيار أصدقاءك هو إختيار طريقك ، أنت في مرحلة المراهقة .. إن إخترت صديق السوء سترافقه للأسوأ و إن إخترت رفيق جيد سيجعلك تسير معه نحو الخير .. "
سكت يتنهد بتعب ثم أكمل بابتسامة و يديه تحتضن كفيّ إبنه :
" أعرف أن الأمر الوحيد أنك إجتماعي بطبعك و يشغلك أمر الصداقة ، لا تريد أن تصبح وحيداً .. لكن الأمر ليس هكذا بني .. حتى لو لم تجد صديقاً بالوقت الراهن ، هذا ليس نهاية الطريق أو الخُطى! .. الصديق هو موجود للسير معاً للطريق الصحيح و مساعدتنا إن مِيلْنا .. لكنه لم يكن أبداً أمنية في الحياة او نتوقف عن السير لأجل ذلك .. لا تتسرع ، اختار أصدقاءك بالتآني .. يوماً ما ستحصل علي صديق و إن لم تحصل فعليك أن تتيقن أن قوتك تكمن داخل قلبك ، و أنك مهما كنت وحدك تستطيع العبور و الوصول لما تصبو إليه ، ثق بنفسك و قدراتك بني ، فهناك الكثير من العظماء استغلوا الوحدة فأصبحوا عُظماء ."
بعثر شعره و نهض يغادر الغرفة ، نظرات مراد لم تتركه مع ابتسامة حب زينت وجهه ، أباه كان أكثر قرباً منه ، أكثر محبةً و دفئً ، دائماً ما يحتويه ! يحتضنه في أصعبها مواقف!
.
.
.
تركت عجلات السيارة صوتاً مدوياً بقوة ممزوجاً مع الرعب الذي شعر به لحظة تزامن استماعه الى صرخات الناس الهلعة وعيناه التي تتوسع بذعر رويدًا رويدًا مع تقدمها منه قبل أن يجد جسده يندفع بعيدًا!
*
*
*
يتبع...
اسفة للتأخير 🤦♀️
اعلم وعدتكم بانهائها هذا الشهر و ان شاء الله سأفي بوعدي ☺️❤️
المشهد الذي عجبكم؟
التقييم؟
التوقعات؟
الأراء؟
الانتقادات؟
و الي اللقاء ❤️✨
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top