الفصل الثالث | لا كعك ذُرة، لا حساء.

" كُنت البارحة، أدهم" تحدثت تلك السيدة بنبرة تحذوها الشك عاقدة ذراعيها.

أخفى الفتي تَعرُقه راداً مع محاولة تمالك نفسه : كُنت أدرُس.

" لا تَقُل لي أنك قابلت ذاك المُتشرد مُجدداً !" صاحت السيدة بحنقٍ موجل.

"لا" إكتفى بتلك الإجابة، أو بالأصح لم يستطع التفوه أكثر.

دعكت السيدة ما بين عقدة حاحبيها، ثم أخذَت نفساً عميقاً قبل أن تتخذ مجلساً بجانبه.

تفسَّح لها بينما بادرت : بُني، بعض الأشياء لن تُدركها باكراً.
نحن لا نَعرف أي شئ عنه، بالإضافة أنه غريبُ الأطوار.

عانق الفتى كُتبه شارداً أرضاً.
أكمَلَت : إنه شخص دنئ يسعى لإستغلال براءة صِغرك.

"لكنه يُساعدني أُمي."قال أدهم خائباً.

"بحق الله يساعِدُك في ماذا ؟! لن يفعل شئ مجاني على أي حال"

قبض أدهم على كُتبه : هو لا يَطلبُ أي مال.

" أدهم، عِدني أنك لن تقابل ذاك الغريب مجدداً"

انتفض أدهم يلتفت لوالدته بأعين راجية : لَكِن أُمي !

أعطته نظرة أسكتته تماماً، قبل أن يطأطِئ رأسه خائب الأمل.

أردفَ بنبرة منخفضة : حسناً، أُمي.

طبعت والدته قُبلة على جَبينه، قبل أن تردف : هذا هو عزيزي.
أعطاها أدهم إبتسامة بلاستيكية.
ما إن خرجت من الغُرفة حتى تجتاحه تعابير الشجن.

___________________
بعد مُضي اليوم الأول، أسرع مما توقعت.
شعرتُ بالموت أقربُ مما كنتُ أتصور.

للأسف أجاويد ليس فاه كبير.
حسناً لديه فاه كبير بالفعل لكن، عندما يَعِد او يتوعد أحدهم فإنه ينفذ.
خصيصاً بما يتعلق بحياة أحدهم.
و خصيصاً بما يتعلق بي.

أين أنا الأن؟
أمام فُرن المطبخ، إكتشفت أن تلك المرأة تُخفي عني المال داخله.

إنه لا يَعمل على أي حال مُجرد خُردة.

"مـاذا تفعلُ هنا !"

اللعنة، لما تَظهر فجأة !؟
إلتفتُ ببطئ : اااا... أبحث عن قلم"

إنتفضت تسحبني من طرف ما أرتدي صارخة : هل تَسرقُ أمكَ المسكينة التي لا حوّل لها و لا قوة !

" إسمعي يا هذه سأموت خلال أسبوعين إن لم أدفع المال لذاك العِجل !"

" سننام على الأرصفة إن لم ندفع الإيجار !"

أعطيتها نظره -ماذا ؟ -
تلك المرأة بحاجة لترتيب أولوياتها.

دفعتني للخارج بإستحكام.
من يُصدق أنها جاوزت السِتين ؟
تلك العجوز المزعجة.

تخلخل إلى ما مسامعنا فجأة صوت جدُ عالٍ، حتي أني وضعت راحة يدي على أُذناي عسى يخفف هذا من سوء الصوت.
لقد كان صوت نقنقنة مرتفع جداً.

تباً، إنها العجوز درعاء مُجدداً.

تلك العجوز، و صَدِقوني حين أقولها
غريبة الأطوار فِعلاً.

إن أخبرني أحدهم أنها مجنونة لن أُظهر أي تعبير متفاجئ.

فها هي الآن مجدداً تقوم بنتف ريش الدجاج دون أي سبب يُذكر.

لما لا يموت المزعجون بسرعة؟!

"إلى أين أنت ذاهب ؟" صخبت أمي بينما كنت أتوجه للباب.

إلتفت حانقاً : و ما شأنك أنتِ؟

ردَت مقوسة حاجبيها : لا تخاطبني هكذا سِراج!
يعز عليَّ أن أراكَ في هكذا حالة.

وجهت لها نظرات عَيِيّة : إن كنتِ تأبهين حقاً لما أضمرتِ عني المال!

ثم زلجتُ الباب بعنف مغادراً.
_________________
سئمت الجميع، سئمتُ كُل شئ.

الجميع يملك للمال، يملكون الكثير منه.
ما ضيرهم إن أعطوني القليل !

وجدت من يُربت علي كتفي.
إلتفتُ نصف إلتفاتة...تباً إنه الرجل العجوز من محل البقالة.
لا أتذكر أني سددتُ دينه !

" مرحباً يا بُني"

حسناً إهدأ، خُذ نفساً عميقاً، و إهرب !

_______________________________
إن أردتُ المال، فأنا بحاجة لمن يملك الكثير منه.
حسناً آخر مرة فكرتُ هكذا...تسببت بجعل أجاويد يريد اقتلاع رأسي.

إذا...سأتعلم من أخطاء الماضي؟ بالطبع.
________________
دخلتُ سوق بقيع.
إنه ضخم، و حين أقول ضخم فأنا اعنيها.
إنه من أشهر أسواق عسير.

يعيش التُجار هنا، حيث يرِصون موائد متلاصقة و يعرضون بضاعتهم.

الموائد متراصة لإمتداد البصر، بشكل غير منظم.
و السقف الخشبي الذي يعلو الحي بأكمله، قد غار عليه السوس و تآكل.
لذلك يضعون الكثير من الأقمشة.

لن تُشم شئ سوي فاكهة المانجا و البندورة و العفن.
و ستعتاد على رائحة أسرع مما تتوقع.
كما إعتادها كُل الشُرّاء هنا
إنهم أفواج ضخمة، إخذر وسط مسيرك أن تتعثر بقدم أحدهم، كيس بطاطا، او طفل سمين.

هنالك ثلاث أنواع من الضجة دوماً هنا
ضجة التجار كـ"باذنجان بنصف السعر او بازلاء خضراء اللون" بحق الله ما المفترض أن يكون لون البازلاء أصلاً ؟

الضجة الثانية هي عراك تاجر مع -إمرأة-
و صدقني...يجب أن تكون إمرأة.
حول هل هذه البطاطا أتت صباح اليوم أم ساعة قبل صباح اليوم ؟
الرحمة!

الضجة الثالثة نحيب أطفال، أجل هم ذاتهم الأطفال التي تدحرجت أرضاً ليصطحبهم أهلهم إلى السوق.

شرعتُ أدخل و بدأت أمر عبر دفع الناس بكتفي.

ما إن إتقربت من الوصول لقُرب منتصف سوق بقيع.

حتى أشم رائحة زَفرة و مقززة.
أُعرفكم بالرأس الكبير "نشأت"

أكبر تاجر أسماك و مأكولات بحرية في بقيع، و ربما في عسير كُلها.
قهقهته يعرفها السوقُ أجمع.

إقتربتُ نحوه، بينما يقطع الأسماك إرباً.
إنه أضخم عن قُرب، أشعر أنه إن بلع حسكة سمك سيسعُل فقط.

حمحمت مقاطعاً : نشأت كيف الحال ؟

تباً إن نصف السوق يحاوطه.

لم يسمعني حتى...

دفعتُ الناس قدر إستطاعتي لكني قُبلت بالعُنف. -قوبلت-

الناس هي الأسوء.

حسناً شققتُ طريقي نحو الأسفل و تحركت خطوة زحفاً للأمام.
ثم نهضت بقوة محتجزاً مكاناً لي في المُقدمة.

"نشأت، هلا انتبهت ؟"

أداره مقلتاه نحوي، إحداها زجاجية بالمناسبة : أوه سِراج أمازلت حياً ؟

"ح..حي؟" تلفظت بتلعثم

"نعم شنة مقلمة متوفر" قال رداً على أحد الزبائن -يعني ايه شنة مقلمة؟-
ثم أعاد الحديث إلى دون مقلتاه -كان يواصل التقطيع- " كما تعلم، أجاويد أخبر الجميع بينما كان سَكِراً كنوع من التباهي"

بدأتُ أتصببُ عرقاً، ذاك العجل لم يكن يبالغ البتة...

حمحمت قبل أن أتفوه : إذا...أحتاجك في خدمة.

" لا "

لحظة ماذا !؟
قُلتها بصوت عال بالفعل

قال بينما يعطي الاكياس للناس حوالي : لم أُعد أُقرض الناس بشكل عام، و أنت بشكل خاص.

"ماذا؟ أعدت لك المال المرة السابقة"

أحضر سمكة حمراء كبيرة و بدأ الناس حولي بالهمهمة : أنتَ لم تُعِد شئً، السيدة جليلة تكفلت بكل شئ، و لن أوُرطها معك مرة أخرى.

ما اللعنة انا المتورط هُنا ؟ ألم يقل بنفسه أنه عَرف بالفعل كون مقتلي قريب جداً ؟!
إن كان أغنى أسياد بقيع رفض إقراضي المال من سيفعل !
أنا ساخط على عسير الحقيرة بأكملها.
و أكره تلك العجوز القاطنة بمنزلي، و أمقت أجاويد. و أبغض إسحاق.
و أمقتُ نشأت !!

إستشطت غضباً و لم أعي نفسي سوى بعد أن ركلتُ بكُل ما أوتيت من قُوة طاولة نشأت.

ثم تبعه مشهد في غاية البشاعة.
سقطت أحد أقدام الطاولة -يبدو أنها مكسورة أنفاً و مدعومة بقطعة خشبية مهترئة-
و تبعها سقوط بضاعة نشأت كلها من الأسماك أرضاً !

كُل الأسماك تساقطت فوق بعضها و انزلقت في مساحة كبيرة.

رجع الناس جميعاً للخلف و لم يلبثوا حتى بدأوا بالهمهمة.

و انا ...ما إن رفعت مقلتاي لنشأت، حتى أجد وجهه مُحمر من الغيظ.
أطبق فمه غيظاً و أعطاني نظرة شحناء.
تشنج وجهه و ظهر عرقُ رقبتِه.
تطاير الشرر من عينيه قبل أن يصيح بصوت جهوري أجش !
" أنــــتْ!"

اللعنة.....
شُلت حركتي لوهلة قبل بدأ تلك المطاردة العويصة!

"أمسـكـــوا بــــــه !" صوت نشأت توغل للسوق من أوله إلى أخره.

هدأت الاصوات للإلتفات لضجة المطاردة التي انا ضحيتها.

رجال نشأت جميعهم خلفي، أنهم نحو أربع، خمس...او ست !

اللعنة لما يسهدفني الجميع ...إن تعثرت سيسحقني ألف شخص.
أصوات الدمدمة عالية جداً ...ركضت بشكل عشوائي في متاهة بقيع أدفع جميع من أمامي بعنف إمرأة كانت أو صبياً.

يا ويلي، يا ويلي، يا ويلــي
لا أرى سوي وجوه مُحدقة...أتمني لو أن بوسعي صفعها جميعاً !!

انا مذعور من ينتشلني احدهم من الخلف !
قفزتُ من سور السوق و دخلتُ في أكثر الشوارع زحاماً.

"إنهُ هناك ! إلحقوا به !"
اللعنة هنالك ثلاثة خلفي !
واصلتُ الجري دون النظر ورائي سالكاً الكثير  من الأزقة و شتاها، اي شئ قد يغير بالغرض و يضِلُهم.

رفعت ناظري لشُرفة قريبة من أرضِ الشارع
قفزتُ منتشلاً غِطاء سرير من حِبال الملابس.
لففته كلقنسوة علي راسي و واصلت الركض بين الزحام.

ما إن شعرت أن أعينهم فقدتني، بدأت السير بطبيعية حتي لا أُحدث ضجة مثيرة للريبة.

إن كان هنالك شئ انا بارع به فهو الهروب من شخص يود قتلي.
___________________

مرت دقائق طَويلة منذ وصولي لزُقاق بِرنقاع..
و أدهم لم يكن هنالك حتى.
إعتدتُ دوماً على وصوله أولاً.

كِدت أفقد الأمل قبل أن آتي لاهثاً
" أعتذر عن التأخر يا مُعلم"

"أين كُنت؟! انتظرت طويلاً، ليس لدي وقت لألاعيب الأطفال!" وبختهُ عابساً.

نظر أسفاً قبل القبض علي حقيبته : أحضرت لكَ الكعك الذي تحب.

من أخدع، ما عُدت أريدُ شئ.
أخرجت تنهيدة طويلة مُشرقباً قبل أن أُطأطئ رأسي و انزلق للجلوس على الأرض.

" مُعلمي هل أنتَ بخير ؟ انا أعتذر لم أشأ إغضابك أبداً حدثت مشكلة فقط و..."

لا أهتمُ بأيٍ من هذا...
قاطعتهُ بصوت خائب
" أدهم، ما أنا لك ؟"

توقف عن الحديث بسرعة قبل يعطي صمت ينم على عدم فهمه السؤال - او سماعه -

"مــا أنــا لــك ؟"

حملق بعينيه البُندقية قبل أن ينتفض : أنت مُعلمي الفضيل، يا مُعلم أنت من أهم الأشخاص الذين حظيتُ بهم يوماً، ساعدتني كمن لم يساعدني يوماً.. أنا أُدين لك بالكثير حقاً.

"هل يُمكن أن تَرُد ؟"

أخرج "هاه" من فاهه جاهلة لأتبع كلامي : هل يمكن أن تَرد دينك.

تشنج عن الكلام للحظات، كانت ملامحه غير مقروءة البتة.
تواصلنا بأعين فارغة لفترة طويلة
قبل أن يعطيني نظرة عازمة : أجل يا مُعلم.

عادت تقاسيم وجهي قليلاً ..ربما لن أموت بعد.

"أمهلني يوماً، فقط يوم واحد"

تفتحت مُقلتاي للجملة، شخص ما لم يطرُدني..
لم يرفُضني.
لم يلكمني في وجهي أو يواصل السخرية.
شخص ما أخيراً...

مالايزال يُمكنني أن أعيش، أن انام دون حِمل هم أجاويد في رقبتي.

ستنتهي هذه المهزلة، ستنتهي تلك القصة المُقرفة
سيعود كُل شئ لمجاريه!
اخيراً يوم فقط....
.
.
.
.
.
لقد مرَّت ثلاث أيام، و أدهم لم يأتِ.

يُتبع...

٢٠٢٢/٨/١٠

_____________

مرحباً يا قوم 😆

الاحداث على وشك التصاعد

ما رأيكم في سراج؟

لما لم يأت أدهم ؟

أراكم قريباً✨😳

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top