مولد العاطفية
غرفةٌ بيضاء جميلةً تبعث على الشّعور بالرّاحة والسّلام، يقبع بها مكتبٌ عريضٌ يجلس خلفه رجلٌ يبدو عليه الوقار والهدوء، له بشرةٌ حنطيّةٌ مميّزةٌ تماثلت مع لون عينيه وشعره المموّج، مستمتعًا بالهدوء حوله وهو يصبّ جلّ تركيزه على الأوراق أمامه، ليقاطع هدوئه ذاك دخول فتاةٍ بشعرٍ ورديٍّ غير مهندم وعيون خضراء منتفخةً صارخة:
«ناقد، ساعدني على النّوم»
حوّل ناقد نظره من أوراقه إليها بكلّ هدوءٍ، ليقول:
«صباح الخير لكِ، يبدو أن ليلتك لم تسر على ما يرام بالنّظر إلى لون ملابسك القاتم»
نظرت الفتاة إلى ملابسها، قميصٌ بدون أكمامٍ باللّون الأبيض المائل إلى الأصفر مع كنزةٍ خضراء فاتحةً وبنطال جينز باللّون الأزرق، ألوانٌ كهذه تُعتبر قاتمةً بالنّسبة لها بالفعل، فهي معتادةٌ على الألوان مثل الأحمر، والأصفر، وكلّ الألوان الفاتحة والمبهرجة، وأيّ شيءٍ يمتّ للورديّ بصِلة.
زفرت بضيقٍ لتقول:
«لا، لم تكن جيّدةً بالمرّة، لم أستطع النّوم أبدًا أبدًا.»
ليسألها ناقد بهدوئه المعتاد:
«ما الّذي منعكِ من النوم؟»
تنهّدت وهي متّجهةٌ للأريكة الّتي تجدها مريحةً جدًّا، لتقول:
«لا أعرف، أفكارٌ كثيرة»
تبعها ناقد وهو يجلس على الكرسيّ المقابل للأريكة:
«أفكارٌ مثل ماذا؟»
عبست قليلًا؛ وهي تتذكّر كلّ تلك الأفكار الّتي أخذتها في تيّارٍ عميقٍ من المشاعر ليلة أمس حتّى انتهى بها الأمر بالبكاء:
«ظللت أفكّر في كيف آل بي الحال إلى هذا، من صراعٍ إلى صراعٍ آخر، لم آخذ حقّي في الازدهار كما يجب، لما على الجميع أن يكون لئيمًا معي؟»
رتّب ناقد شعره البنيّ المموّج، ليقول:
«أنتِ الفئة العاطفية، أنتِ من تعطيهم وصفةً جاهزةً للتّعبير عن مشاعرهم، هم يحبّونك حتّى وإن كانوا يرتكبون بعض الأخطاء»
صمتت العاطفيّة قليلًا حتّى قالت بحزن:
«ّإذا كان الجميع يحبّني هكذا، لما اضطررتُ للتّعامل مع كل هذه الصّراعات إذًا؟»
ردّ عليها ناقد:
«وماهي تلك الصّراعات الّتي تتحدّثين عنها؟»
تنهّدت العاطفيّة مجدّداً قبل أن تقول:
«قبل أن أولد، كان الجميع يرون أن التّعبير عن المشاعر، هو نوعٌ من الرّفاهيّة والغباء، وإن فعلتَ ذلك فأنت لست بأديبٍ حقيقيٍّ، قدّموا العقل على كلّ شيءٍ، لا يستمعون إلّا لتعاليمه وأوامره، وليس للمشاعر أو القلب مكانةٌ عندهم.»
أكملت بفخر:
«ومن ثمّ ظهرتُ أنا، في عصر الفلسفة والتّنوير، ذاك العصر الذي عُرف بأفكاره الخاصّة، فأضفتُ له رونقًا خاصًّا من الحماس والحرارة، ولكن عندما بدأت أخرج للنّور على يد بعض الشعراء هاجمني الجميع بقسوةٍ، مع أنّني جئت لأحرّر الجميع!»
تساءل ناقد بفضول:
« تحرّريهم من ماذا بالضّبط؟»
ردّت العاطفيّة بسرعةٍ وبانفعال:
«كلّ شيء! من كلّ شيء، حرّرتهم من كلّ تلك القوانين التي أطبقت على أنفسهم في الكلاسيكيّة، أعطيتهم الحرّية الكاملة في التّعبير عن دواخلهم وعن ما يشعرون به، فتحت لهم آفاق جديدةً، جعلتهم يختبرون أشياء جديدةً لم يسبق لهم أن فكّروا فيها حتّى»
«ماذا تقصدين بالأشياء الجديدة؟ أقُدرتهم على وصف دواخلهم؟»
«ليس هذا فقط، لقد مكّنتهم من الحلم، كانوا يحلمون ويتخيّلون كلّ ما لم يستطيعوا فعله من قبل، الكثير بدأ في وصف الطّبيعة وعن كم أنّه يحبّها، من خلالي كانوا قادرين على إيصال حبّهم إلى الجميع، على إظهار حبّهم للخالق، على التّعبير عن مشاعر المجتمع وحالته كلّه ببضعة أسطرٍ فقط»
عدّل ناقد ربطة عنقه الصّفراء الّتي تناسبت بشكلٍ مثاليٍّ مع بذلته البنّية، قبل أن يتساءل:
« لا أعتقد أنكِ أثّرتِ على الكُتَّاب فقط، يبدو أنّكِ أثرتِ على الجميع»
صرخت بانفعالٍ:
«بالطّبع فعلت!»
تحوّلت نبرتها لأخرى حزينةً قائلة:
«لكن كلّ هذا لم يشفع لي»
استطردت بعدها قائلةً:
«في فترةٍ ما كنتُ محبوبةً جدًّا، كان الجميع ينتظرني في شوقٍ وولعة، استطعت أخذ قرّائي دائمًا لمكانٍ جديدٍ، لقارّةٍ جديدةٍ، لعالمٍ جديدٍ، لثقافةٍ جديدةٍ، تعرّف العالم على بعضه بسببي، أخذت الإنجليزيّ لحشائش السّافانا في أمريكا، والفرنسيّ للأهرامات في مصر، استطاع النّاس من خلالي على تذوّق بهارات مومباي والشّعور برمال الصحراء، كما بنوا رجل ثلجٍ في طريق عودتهم بعد أن رأوا كلّ الآثار العظيمة الّتي خلّفتها الحضارات السّابقة، بينما الآن كلّ ما اُقتصرت عليه هو كيف جعل تلك المراهقة الفقيرة تقع في حبّ ذلك الغنيّ المغرور»
أنهت كلامها بسخطٍ وانزعاجٍ لما آل إليه حالها، لتستطرد بمرارةٍ:
«أنا من قدّمت روائع ما زال البشر يتفاخرون بها إلى اليوم، أنا من هرب إليها النّاس من واقعهم المليء بالحروب والنّزاعات، أنا من انتشلتهم من عواصف العالم لأرسو بهم لبرّ الأمان، استطعتُ جعلهم يناقشون القضايا المجتمعيّة الّتي تؤرقهم وكيف يشعرون بشأنها، عندما كانت النّساء مضطهداتٍ لم يستطع أحدٌ فعل شيءٍ إلّا الهرب إليّ حتّى أواسيه، كنتُ الصّدر الحنون، انحصرت اليوم في ركنٍ صغيرٍ من ما أستطيع فعله، لقد وصل بهم الحال إلى التخلّي عن عناصري المميّزة وجعلها شيئًا يسخرون منه»
استلقت على الأريكة وغطّت عينيها بيدها وهي تقول آخر سطرٍ، بينما استمع لها ناقد إلى النّهاية، ليقول:
«لقد ظُلمتِ وعانيتِ كثيرًا، من الطبيعيّ أن تشعري بهذا، وهذا حقّك الكامل، لا بأس كذلك من إظهار سخطك عليهم وحزنك منهم، لكن لا تنسي أولئك الّذين يحاولون، لأنّهم موجودون ويأخذون على عاتقهم مسؤوليّة أن يُعيدوا لكِ حقّك الكامل»
ردّت عاطفيّة بغضب:
«إذًا لمَ لا أراهم؟ لمَ أرى فقط ما يجعلني حزينةً وغاضبة»
ردّ ناقد بهدوئه الّذي يستفزّ عاطفيّة في بعض الأوقات:
«ليس لأنّكِ لم تريهم بعد يعني أنّهم غير موجودين، هم هناك يتعبون ويقدّمون كل جهدهم حتّى لا تكوني غاضبةً أو حزينة، ربّما لم تستطع كلّ تلك الجهود الخروج إلى النّور بعد، لكنّها ستخرج قريبًا، وسترين أنّكِ لستِ وحدك، هناك من يهتمّ لكِ ولحزنك ولمشاعرك، من يريد أن يردّ جميلك للبشريّة، من يريد أن يراكِ تزدهرين مرّةً أخرى»
أخذ نفسًا ثمّ استطرد:
«حاولي أن تركّزي على هذه الجهود الصّغيرة وتجاهلي أولئك الّذين يجعلونكِ غاضبةً»
عبثت العاطفيّة بشعرها لتبعثره أكثر ممّا كان لتقول:
«أيًّا يكن، أشعر بالنّعاس، سأذهب للنّوم»
ليردّ عليها ناقد بصوتٍ عالٍ قليلًا كونها ركضت إلى الباب:
«نومًا هنيئا، ولا تنسَي جلستنا القادمة»
لتصرخ العاطفيّة:
«لا داعي لأن تذكّرني بهذا»
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top