منارةُ الشخصياتِ
عندما شرَعتِ السّماءُ تلتبس الضّوء لباسًا لها، وعند صفعات موج البحر للحجارة، وبزوغ الفجر الذي أسفله الطّيور تفرد أجنحتها في رحاب السّماء فوق بحر الأبيض المتوسّط؛ كي تطلق زقزقتها معلنةً عن بداية يوم جديد.
وفي عرض البحر عند ذلك البرج، فنارٌ شاقٌ يتألَّف من أربعة أقسام، يتّخذ الأوَّل قاعدة مربَّعة الشّكل، هناك في ذلك الفنار الذي فُتح فيه العديد من النّوافذ، وتواجد به حوالي ثلاثمئة غرفة؛ مجهَّزة لسكنى الفنّيين القائمين على تشغيل المنارة وأُسرهم، أمّا الطّابق الثّاني، فكان مُثمَّن الأضلاع والثّالث دائريًا، وأخيرًا تأتي قمّة الفنار حيث يستقرُّ الفانوس، مصدر الإضاءة في المنارة، يعلوه تمثال لإيزيس ربّة الفنار ايزيس فاريا.
كان الفنار مشيّدًا على صخرةٍ تلاطمها مياه البحر من كل مكان وكان شامخًا يرتفع لعدّة طوابق ويحيط بكلِّ طابق منها دهليزٌ يدعمه صفٌّ من الأعمدة، في ضوء النّهار تتجلّى من البرج مرآة معدنيّة تنبّه السّفن للشّاطئ قبل ظهوره في الأفق، وفي عناق اللّيل يضيء الموجود أعلاه شعلتين يراهما المسافر على بعد ثلامئة غلوةٍ من عرض البحر.
https://ar.m.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D9%84%D9%81:Lighthouse_-_Thiersch.png
«نعم عزيزي القارئ، إنّها منارة الإسكندريّة».
دُهش لقارئ من صوتي الذي بزغ من خلفه.
رفعتُ رأسي وأطبقتُ جفنيّ أتلذّذ بانتعاش الفجر، ثمّ استدرتُ نحو ذلك الذي يربض التّفاجؤ في ملمحه.
ابتسمتُ بخفّةٍ له، وقلتُ: «لا تخف فأنا لستُ قاتلة، بل قاتلة القصص».
عقد حاجبيه بعدمِ فهمٍ، وأردف باستفهام: «قاتلة القصص؟!»
قهقهتُ بخفّة، ونبستُ وأنا ألوح بيدي: «لا تهتم، وركّز بهذه المنارة الجميلة، كم هي رائعة بحقٍّ وكم هي تاريخيّة بالفعل!»
وجدته يحاول تجاهل الشّعور بالغرابة الذي أطفيته لهذا الموقف، وراح بالكلمات ينطق قائلًا: «لا بدَّ أنّ الشّخصيّات التّاريخيّة القديمة قد اتّخذتْ سنينَ لبناء هذا الفنار الرّائع، إنّه مذهل بالفعل!»
هممتُ بنعم، وقلتُ بشرودٍ بعدما أخذ موضوع ما ببالي حيزًا: «نعم، الشّخصيّات التّاريخيّة».
ودون سابق إنذارٍ وجدتُ القارئ يصرخ: «نعم صحيح! يا إلهي لقد أتيتُ إلى هنا حتى أتّخذ الإلهام من هذه المنارة للكتابة عن رواية تاريخيّة، ولكنّي أواجه بعض المشاكل عند الشّخصيّات في هذه الفئة».
أطلقتُ قهقهاتي؛ لأننّي بالفعل كنتُ أفكّر بها، ورأيته يعقد حاجبيْهِ بعدم فهمٍ بعدما بحلق بي، وتساءل بفضول: «ماذا حدث؟!»
أحجمتُ نفسي بصعوبة عن الضّحك، ولفظت في حماسٍ بعد عدّة دقائق: «ربّما الحظُّ اليوم يصرخ بوجهك! هيّا قل لي أسئلتك وسوف أشبعها بأجوبتي».
تقرّب منّي بخطوات، وأردف بحماسٍ أكثر، ومقلتاه تصرخ بكلمة وأخيرًا: «حقًا! أريد معرفة كلِّ شيء الآن، وأوّل سؤال هو: كيف يجب أن يكون بناء الشّخصيّة التّاريخيّة؟»
هممتُ ببعض التّفكير لأجمع كلماتي، وأسردها بوضوحٍ: «حسنًا دع تركيزك كلّه معي».
أهبطَ رأسه بالمواقفة؛ فرُحتُ أروي إجابتي على مسامعه: «تنهضُ سردنة الشّخصيّة في سياق حضور التّاريخ والمكان على استكناه الفضاء العام والخاصّ، الخارج والدّاخل، المعلنُ والمخفيّ، من أجل تكوين معالم الشّخصّية داخل حاضنة السّرد، فللشّخصيّة والتّاريخ والمكان وتجلّياتها الفضائيّة حضورها في السّرد الحكواتيّ والقصصيّ على أنحاء مختلفة، ويمكن في هذا السّبيل معاينة المدوّنة للسّرد.
إذ يقوم بناء الشّخصيّة على مرجعيّةٍ تاريخيّةٍ وثائقيّة اعتمدها الكاتب في سياق سيريّ يتقصّد رؤيةً محدّدة، لتأتي الصّورة السّرديّة للشّخصيّة محاطة بحراسة سرديّةٍ مشدّدة لا تخرج عن هذا النّطاق المقصديّ، هل فهمتْ؟»
ليقول بعد فترة قصيرة كان يفكّر بها: «حسنًا حسنًا؛ لقد فهمتُ، إذًا بأيّ الجوانب يجبُ على الكاتب الاهتمام؟»
حلّقتُ بنظري إلى أعلى المنارة، ونبستُ برويّة: «عند دراسة أيّةِ نظريّة أو فكرة أو حركة يجب دراسة شخصّية الفرد المؤسّس لها من جوانبها كافّة كما الفكريّة، الاجتماعيّة والأخلاقيّة؛ كي يتمَّ التّعرف بعمقٍ على ماهية هذه الفكرة من خلال التّعمّق في شخصيّة مؤسّسها، ومتابعة ما إذا كانت هذه الشّخصيّة تنسجم كليًا مع مبادئ تلك الفكرة أو الفلسفة؛ لأنّ ذلك يتيح للباحث تقييم الفكرة ومدى تأثيرها وهيمنة أفكارها على صاحبها».
سكتُّ لثوانِي وأكملتُ حديثي النّاقص بعودة بصري إليه: «وعلى الكاتب أيضًا الاهتمام بالجانب الشّكلي للشّخصيّة، بحيث تكون الملابس ملائمةً للزّمن الذي تجري فيه الأحداث، وكذلك عن شكل الشّعر، الحواجب المتّصلة، الحُلِيّ، وتصرّفات الشّخصيّات أيضًا...وغيرها».
عقد حاجبيْه بتفكيرٍ، وعاد بسؤال جديد: «كيف يمكن أن تكون الشّخصيّة التّاريخيّة غير متّزنة؟»
أنار وجهي بهذا السّؤال، وأردفتُ: «سؤال جيّد جدًا، دعني أقول لك بأنّ العمل على الشّخصيّة ليس عملًا طارئًا وسهلًا؛ فالشّخصيّة التّاريخيّة تفرضُ على الكاتب جهودًا كبيرة ومضنيّةً عليه أن يتحمّلها، حيث أنّ كثيرًا من الكُتاب اليوم ينسون هذا الجانب ويريدون إنهاء كتاباتهم التّاريخيّة بأسرع ما يمكن».
كان القارئ يتابع حديثي بتركيزٍ شديد، بينما رحتُ أكملُ إجابتي، وبصري يتفحّص المنارة تارةً ويعود إليه تارة أخرى: «وعند الكتابة عن شخصيّةٍ في مجتمع كاملٍ وحياة مكتملةٍ، يجبُ أن يكتب عن اللّباس، الطّعام، الشّراب، البيوت التي يأوي إليها النّاس، الأحلام التي كانوا يحلمونها والطّقوس التي يمارسونها في أفراحهم وأتراحهم، ثمَّ يكتب بعد ذلك عن حدثه المتخيّل في ذلك الزّمان، دون مرجعيّةٍ صارمة ربّما تفسدُ النّص بصرامتها، وتقييدها للكتابة الحُرّة إذا لم تكتب بحرفيّة».
همهم السّائل بفهمٍ، وطرح سؤالًا آخر: «حسنًا، ما الذي يجعل الشّخصيّة شخصيّةً تاريخيّة؟»
أومأتُ قبل قولي، ووضعتُ مقلتيّ عليه:
«النّجاح في الشّخصيّة التّاريخيّة هو نجاح في الرّهان الذي ينطلق الكاتب منه، كما مسح كلِّ الظّلال التي تغطّي أو غطّتِ الشّخصيّة زمنًا طويلًا، أيْ يحرّرها الكاتب من عقال الحقيقة المفترضة، والتي ليست بالضّرورة أن تكون هي الحقيقة، لكنّها حقيقةٌ من كتب تاريخها، والجهود التّاريخيّة التي يبذلها الكاتب تجاه شخصيته مهمّة وتفيد الرّواية، وهي في صالح مصداقيتّها، كذلك مراعاةُ جميع الظّروف التي تعرّضتْ لها هذه الشّخصيّة وعرضها عبر الملابس، الفِكر، الثّقافة، وغيرها...».
أخذ بعض اللّحظات بجمع أفكاره، ثم ّظهرتْ الابتسامة على محياه، وأردف بامتنان بعد عودة بصره إليّ: «شكرًا لكِ حقًا على المساعدة».
بادلته البسمة، ونبستُ: «لا يوجد داعٍ لشكري، لم أقم بشيء، والآن دعنا نركز بشروق الشّمس على بحر الإسكندرية».
ولكنّه قال بفضول: «ما اسمكِ؟»
ضحكتُ بخفّة، وأجبته: «ما بك مستعجل هكذا يا عزيزي القارئ؟ انتظر قليلًا وسيغدو سؤالك مشبّعًا بالإجابة، ولكن الفصل لم ينتهي بعد...»
--------
مرحبًا!
أتمنّى أن تكون الشّخصيّات في الفئة التّاريخيّة واضحة وبيّنة الآن ولكن لم ينتهي الفصل بعد! بل هناك مهمّة بسيطة لكم.
عليكم نقد الشّخصيّة التّاريخيّة في هذا النّص من ناحية الملابس، هيّا جميعكم، أرونا إبداعكم!
«يقف أمام المرآة الطّويلة المزحرفة بأشكالٍ عدّة على الجوانب واتّخذ شكلها اللّون الذّهبي، وعينيه الزّرقاء الصّافية كما صفاء المياه كانت شاردة، بينما أنامله تغلق أزرار القفطان الذي كان مخمليًا أكحل اللّون، يصل بطوله عند كاحليه يعتليه بعض زخارف زهرة اللّوتس منسوجة بخيوط الفضّة وضيقًا من عند الرّقبة، متّسعًا عند الخصر مع إضافة قطع مثلثّة الشّكل على الجانبين مع فتح الجبهة، إلى جانب فتحات جانبيّة تمتدُّ إلى خمسة وعشرون سنتيمترًا.
فكره كان مشغولًا بالظّروف القاهرة التي تمرُّ الآن ببلاده، إلى أن وضع الخادم القبّعة المصنوعة من القماش الإيطاليّ على رأسة أيقظه من الغرق أكثر جوف تلك الأمور.
«السّلطان محمد، الشّعب ينتظرك».
نطق ذلك الخادم وهو مطأطأ الرأس على بعد مسافة قليلة منه، أغمض عينيْه للحظاتٍ، وجملة واحدة صدحت برأسه: «العدل على الجميع وحتّى على زوجته الخائنة».
كادتْ الدموع تتجمّع في عينيه على حرقة قلبه، إلا أنّه وضع حدودًا ولن يسمح لذاته أن يتجاوزها، ليس لأجل شخص لا يستحقُّ وإن كانت حبيبته التي تملّكتْ قلبه...»
كان معكم العضو نيرفانا، وفضلًا وحبًا لا تخلقوا الإشاعات؛ وإلّا سأقوم بقتلكم جميعًا بسيفيَ البلاستيكيّ وبمسدّس الماء، احذروا فأنا خطيرة جدًا -ضحكة شرّيرة- حسنًا سأذهب دون إلقاء الأحذية أرجوكم.
- دُمتم بودّ.
المصادر:
-سردنةُ الشخصيّةِ والتاريخِ والمكانِ.. رؤيةٌ نقديّةٌ جماليّةٌ
-معضلات الشخصية التاريخية روائيًا.
-كتابة التاريخ روائيًا
-أهمية دراسة الشخصيات التاريخية «المقالات».
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top