مفهوم الخيال الحي
مفهوم الخيال الحيّ.
كان يومًا مشرقًا ومشمسًا، انجرفت السّحب البيضاء عبر السّماء الصّافية، موزّعة أشعّتها في أرجاء المروج الخضراء. هناك في تلك السّماء سربٌ من الطّيور البيضاء الجميلة تحلّق بأجنحتها، كأنّها ذاهبةٌ إلى قرص الشّمس! خرجت آليس من ذلك البيت الذي يتوسّط المروج وأخذت تسير وهي تلعب بجدائلها الصّفراء اللّامعة، وقد ارتدت فستانها الأزرق الذي كان لونه متناغمًا مع لون عينيها.
مشت عبر الحشائش حتى وصلت إلى شجرةٍ عالية، فروعها تشكّل مظلّة للأغنام من أشعّة الشّمس.
مسحت على صوف أحد الأغنام المستظلة بظلّ الشّجرة، ثمّ جلست محتميةً معها.
نظرت إلى الطّبيعة الخلّابة بضجرٍ شديد وقالت متأفّفة: «لم يمرّ أسبوع على وجودي هنا في بيت جدّتي، وها أنا أشعر بالملل! يا إلهي كيف سأتحمّل بقائي هنا حتّى نهاية العطلة الرّبيعية؟!»
هبّت رياحٌ خفيفة حرّكت الحشائش الطّويلة قليلًا، والأزهار التي تحيط بالمروج بألوانها الزّاهية الجميلة. لا تزال الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا وآليس تشعر بالملل، إذًا كيف ستنهي يومها هذا؟
فجأة تذكّرت كلام جدّتها التي حذّرتها من عبور السّياج الذي يقع في الجهة اليمنى من نهاية المرعى، فقرّرت بدون تفكيرٍ أن تذهب وتعرف لماذا منعتها جدّتها من ذلك ورفضت أن تطلعها على السّبب.
سارت حتى صارت على بُعد بضعة أمتارٍ من السّياج فوجدت آثار أقدامٍ لأرنب لكنّها كبيرة، استغربت ذلك فأخذت تبعد الحشائش لترى وتتأكّد أن ما رأته حقيقي.
«يا إلهي، إنّها قدم أرنب!» قالت آليس مذعورة لكنّ هذا الذّعر سرعان ما تحوّل إلى حماس عالٍ، فهي قبل قليل كانت ضجرة إلى حدّ أنّها كانت تودّ أن تعود إلى المدرسة على بقائها هنا في بيت جدّتها، والآن تجد أثر قدمٍ كبيرة لأرنب، لن تفوت هذه المغامرة أبدًا.
لم تأبه للمخاطر التي قد تواجهها في مغامرتها هذه، وأكملت طريقها رغبةً منها في معرفة ماذا يوجد خلف السّياج، وصلت للسّياج وعندما عبرته استغربت مما رأته.
«نهر! منعتني جدتي من عبور السّياج فقط كي لا أقع في النّهر؟!» قالت آليس بغضبٍ شديد وقرّرت أنّها ستكمل طريقها لرؤية ماذا يوجد أيضًا.
سمعت صوتًا يتكلّم وكأنّه شخصٌ يتحدّث معها، اتّجهت إلى مصدر الصّوت فصرخت مذعورة عند رؤيتها لأرنب ضخم جدًا حجمه بحجم الإنسان البالغ!
« لا تخافي، لا تخافي، أرجوكِ اخفضي صوتكِ؛ من فضلك سوف يسمعونكِ» قال الأرنب بخوف محاولًا إسكات آليس التي كان صراخها قد وصل إلى بيت جدّتها تقريبًا.
«ما.. ما هذا، لم أرَ أرنبًا ضخمًا هكذا في حياتي! لقد أفزعتني بحقٍ!» قالت آليس ذلك وهي تضع يدها على قلبها واليد الأخرى على رأسها وتتنفّس بسرعة.
الأرنب:« نعم صحيح! أنا مريض وقد جئت إلى هنا لكي أشرب من ماء النّهر وأُشفى.»
وهنا قاطعته أليس قائلةً باستغراب: «تشرب من ماء النّهر!»
«لقد أخبرني أحد السّناجب أنّ ماء هذا النّهر يشفي الأمراض».
قاطعته أليس مرة أخرى قائلة: «وأيُّ مرضٍ هذا الذي أصابك؟ غريبٌ جدًا كيف لمرض أن يجعل حجمك كبيرًا هكذا؟!»
استشاط الأرنب غضبًا وصاح بها لمقاطعتها إياها: «ألا تدعيني أكمل كلامي؟»
«حسنًا، حسنًا أيها الأرنب الضّخم، أنا آسفة لكنّني لا أفهم ما الذي يدور حولي هنا» قالت آليس بعد أن مسحت البصاق الذي تطاير من فم الأرنب على وجهها وهو يصرخ بها.
«حسنًا إذًا ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟» قالَ الأرنب بصوت حاد بعد أن عقد ذراعيه على صدره وأخذ يضرب الأرض بقدمه.
« لقد مللتُ من الجلوس هناك تحت الشّجرة العالية، وكانت جدتي قد منعتني من عبور هذا السّياج، فقرّرت أن أقوم بمغامرة صغيرة وأعرف ما يوجد خلفه لأقتل الملل الذي أشعر به» قالت آليس بصوتٍ هادئ ومتوتّرٍ أيضًا، وهي ترسم دوائر على الأرض بقدمها.
«إنّه لأمر خطيرٌ ما فعلتِ، لكن يبدو أنّكِ تحبّين المغامرات مثل جدّتكِ» قال الأرنب موجهًا كلامه إلى آليس وهو يغمز بإحدى عينيه الحمراء الكبيرة بعد أن تغيرت نبرة صوته من الجديّة إلى المزاح.
«ماذا؟»
لم تكمل آليس كلامها حتى صرخ الأرنب قائلًا: «النّهر! النّهر! لقد تغيّر لونه! سوف تظهر البوابة وعليّ أنّ أشرب من الماء قبل ظهورها!» قال الأرنب وهو يحاول إبعاد آليس عن طريقه ليشرب من ماء النّهر الذي بدأ يتغيّر إلى اللّون الزّهري.
قالت آليس بعد أنّ قطعت طريقه: «لكن ما الذي يجري هنا، أخبرني كيف أنّ جدّتي تحبّ المغامرات؟»
دفع الأرنب آليس وحاول أن يركض باتّجاه النهر لكن آليس جرته لكي تستجوبه.
«اتركيني أيّتها الفتاة المشاكسة، عليّ أن أشرب من ماء النهر قبل أن تظهر البوّابة، وبعدها سأخبرك لماذا قلتُ لكِ أنّ جدّتك تحب المغامرات!»
لكن آليس رفضت ذلك وأخذت تجرّه وهو يحاول الإفلات منها حتى سقطتْ عليه وأخذا يتقلّبان فوق الأرض وأحدهما متشبّث بالآخر باتّجاه النهر، وفجأة أحسّت آليس بأنّها تسقط من مكان مرتفع، وسمعت الأرنب الضّخم يصرخ قائلًا: «إنّني أسقط! ساعدوني! لا أريد أن أموت!»
نظرت إليه آليس فكان مغلقًا عينيه، لتضحك بعد أن شعرت بحماسٍ شديدٍ رغم سقوطها هذا، نظرت من حولها فاندهشت من رؤية نفسها تغطس في الماء وهي تستطيع أن تتنفّس بصورة طبيعيّة.
«عجبًا! ما الذي يجري هنا أيّها الأرنب الضّخم؟ أخبرني» قالت آليس بدهشةٍ وهي تلتفُّ من حولها لتستكشف المكان غير آبهةً بصراخ الأرنب الذي كان يملأ الأرجاء، وهو يطلب المساعدة.
استمرّا بالنّزول للأسفل ليسقطا أخيرًا على الأرض، شعرت آليس بألمٍ شديدٍ إثر سقوطها على ظهرها، فقالت متأوّهة وهي تضع يدها على رأسها: «مؤلم للغاية!»
نظرت تبحث عن الأرنب الذي انقطع صراخه فجأة، فوجدته بجانبها وقد سقط على وجهه، سحبته من أذنيه الكبيرتين لكي تخرج رأسه من الأرض فظهر وجهه الذي أصبح لونه أحمرًا أثر السّقوط عليه.
«أنظر إلى وجهك، تبدو مضحكًا جدًا!» قالت آليس ضاحكة.
«أتضحكين أيّتها الفتاة المشاكسة؟! انظري ماذا فعلتِ بيّ؛ إنكِ مزعجة تمامًا مثل جدّتكِ»
تذكرت آليس كلام الأرنب الضخم عن جدّتها قبل سقوطهما في هذا المكان الغريب، فقالت للأرنب صائحة به: «لم تخبرني لماذا قلتَ أن جدتي تحب المغامرات؟»
تأفّف الأرنب وقرّر أن يخبرها بدون تهرّبٍ؛ فلا مفرّ من هذه الفتاة الفضوليّة: «حسنًا، حسنًا، سأخبرك، جدّتكُ تعلم بأمر هذا النّهر، وعندما أخبرتها به لم أكمل كلامي حتى وجدتها تعبر البوّابة، وكانت ما تزال شابّة صغيرة».
«رائعٌ جدًا! لكن لماذا لم تخبرني بذلك؟» قالت آليس بعد أن تحوّل صوتها من الدّهشة إلى الحزن.
قال الأرنب وهو يفرك أنفه الذي كان يؤلمه :«لأنّ هذا المكان خطرٌ جدًا، وخروجكِ منه مستحيلٌ تقريبًا».
«لكن كيف خرجت جدّتي إذًا؟» قالت آليس وهي تلتفتُ حولها لتستكشف المكان.
«في هذا المكان توجد بوّابات عديدة لا يمكنك اجتياز البوّابة الأخرى إلا بعد أن تحلّي اللّغز الذي سيظهر في تلك البوّابة» قال الأرنب بعد أن نهض وأخذ ينفض التّراب عن جسده، ثمّ استدار نحو آليس وقال بصوتٍ غاضب: «والآن أيّتها الفتاة المشاكسة، كيف سنخرج؟ أُنظري ماذا فعلتِ بي أيتها المشاغبة!»
قالت آليس بدهشة بينما تجول ببصرها في أرجاء المكان: «يا له من مكانٍ ساحر!»
أشار الأرنب إلى آليس لكي تتبعه، ففعلت دون أيّ تفكير وهي ما تزال تنظر حولها. قال لها الأرنب: «كفّي عن النّظر هكذا كالمجنونة وابحثي معي عن مخرجٍ لا يستدعي اجتياز الاختبارات».
أخذا يسيران لعلّهما يجدان طريقًا يخرجهما من هذا المكان، كانت على الأرض سفينةٌ كبيرةٌ قديمة وطحالب، وقد شاهدت آليس نجم بحر! وكأنّهما كانا في قاع البحر.
« لكن كيف وتوجد شمس وغيوم؟» قالت آليس محدّثة نفسها وهي ترفع رأسها إلى أعلى لتجد سربًا من الأسماك يطير في سماء هذا المكان العجيب.
أحسّت بيد الأرنب تسحبها بعد أن رأى مجموعةً من الأسماك تسير على زعانفها السّفلية وترتدي زيّ محامٍ ونظّارات وكأنهم ذاهبون إلى المحكمة! اتجه الأرنب إلى السّفينة الكبيرة وآليس تتبعه.
«ما الذي تفعله؟» قالت آليس بصوتٍ عالٍ.
«اصمتي» الأرنب هامسًا.
«لكن لماذا؟» آليس وهي تهمس مثل الأرنب وتمدّ برأسها من خلف السّفينة لترى ما الذي يجري.
لمحها أحد الأسماك فتوقّف ثم أخذ يسير في اتجاه السفينة، قالت آليس بكلّ هدوء مخاطبةً الأرنب:«إنّهم يتّجهون نحونا»
«ما.. ماذ.. ماذا تقولين؟»
«يتّجهون نحونا» قالت آليس وهي تلتفت نحو الأرنب بعد أن أحسّت بتوتّره.
جرّ الأرنب يد آليس مرّة أخرى ودخلا إلى السّفينة، وصلت الأسماك إلى المكان الذي أطلّت آليس برأسها منه فلم يجدوا شيئًا. أقسم للآخرين اللذين معه أنٍه رأى فتاةً بشريّة فلم يصدّقوه.
«إنّهم يتحدّثون لغة البشر!» قالت آليس بصوتٍ يملؤه حماسٌ شديد.
«سوف أموت بسببكِ أنت!» تفوه الأرنب وهو يلهث وصدره يرتفع إلى أعلى وأسفل بسرعة، وكان يتّكئ على جدار السّفينة وينظر إلى الأمام.
ضحكت آليس بمرحٍ ووقفت وهي تمدّ يدها إلى الأرنب لكي تساعده على الوقوف هو أيضًا.
وقف الأرنب بمساعدة آليس وقال لها: «والآن ماذا نفعل؟»
سارت آليس إلى الأمام بخطواتٍ واثقةٍ وتلفّظت:« نبحث عن مخرجٍ كما أخبرتني.»
سار الأرنب خلف آليس لكي يخرجا من السّفينة، وفجأةً شاهدت آليس ورقةً بيضاءَ تطير في الجوّ وتتّجه نحوهما حتى وصلت عند وجه آليس، انفتحت الورقة واخذت تتكلّم
«حسنًا، ماذا لدينا هنا، زائران! مرحبًا بكما أيّها الضيفان الكريمان، يبدو أنّكما واجهتما صعوباتٍ كثيرة حتى وصلتما إلى هنا، أليس كذلك؟» طرحت سؤالها الأخير وهي تتّجه نحو الأرنب الذي يمسك بقبّعته ويرتجف.
«لا لم أواجه مشاكلَ كثيرة، فقط عندما سقطنا على الأرض» قالت آليس للورقة المتكلّمة.
«انظروا ماذا لدينا هنا! زائرةٌ جميلةٌ وشجاعةٌ أيضًا، أتمنى أن تكوني ذكيّةً بما يكفي لكي تحلّي الألغاز وتستطيعا الخروج من هنا» قالت الورقة وهي تتطاير يمينًا وشمالًا في الأعلى ثمّ تهبط نحو آليس وتتّجه نحو الأرنب بشكلٍ سريع جعل آليس والأرنب يحركان رأسيهما كالمجنونين مع حركتها.
«ألا يوجد مخرجٌ آخر غير حلّ الألغاز؟» قال الأرنب وقد وضع قبّعته على وجهه وغطّى بها فمه وأنفه.
«لا، لا، فقط حلّ الألغاز» قالت الورقة المكتلمة بصوتٍ مخيفٍ وهي تهبط نحو الأرنب.
«هاتِ لغزكِ إذًا» قالت آليس بتصميم.
«أعجبتني شجاعتكِ» تكلّمت الورقة وهي تلتفّ حول آليس ثمّ تلتصق بوجهها وتطير بسرعة.
«اللّغز يا جميلتي يقول أنّ هذا المكان لم يخلق هكذا، خُلق بالخيال...»
آليس: «خيال؟!»
«نعم إنّه الخيال... شخصٌ ما بخياله الخصب خلق لنا هذا العالم وجعله واقعيّا وليس مجرد خيال، فجعل في كل بوّابة لغزًا يخصُّ عالم الخيال. إذا أستطعتِ الإجابة عليه، أو استطعتما أنتما الاثنان ذلك فسوف تخرجان من هنا إلى البوّابة التّالية.» قالت الورقة وهي تتطاير هنا وهناك.
سألت آليس بفضول: «لكن كيف يمكن لشخصٍ ما أن يجعل من خياله حقيقة؟»
«أعجبتني حقًا أيّتها الصّغيرة، يبدو أن لديك خيالًا خصبًا أنت أيضًا» قالت الورقة بعد أن وقفت أمام وجه آليس وظهرت كلمات عليها وكأنّها عيونها.
«انظري يا عزيزتي، إنّ أفعال الإنسان تسيّرها الرّغائب، إلّا أنّ بعض هذه الرّغائب هي حاجات مثل الطّعام والدّفء والمأوى، لكن ثمّة رغبةٌ في الحصول على شكل بشريٍّ اجتماعي في الوجود، شكل المدن، الحدائق، المزارع أو ما تسموه حضارة. إنّ حيواناتٍ وحشراتٍ كثيرة تمتلك هذا الشّكل الاجتماعي أيضًا، لكن الإنسان يعرف أنّه يمتلكها، ويقارن بين ما يعمله وما يتخيّل أن بمقدوره أن يعمله، وهكذا نبدأ بمعرفة أين يكون الخيال في مخطّط الشؤون البشريّة.
إنّه القدرة على إنشاء نماذجَ ممكنة للتّجربة البشريّة، ففي عالم الخيال كلُّ شيءٍ ممكن، لكن لا شيء يحدث واقعيًا، فإن كان لابدّ من الحدوث، فمن الضّروري الانتقال من عالم الخيال إلى عالم الحدث، وهذا ما فعله صاحب هذا العالم الخيالي».
«وكيف استطاع ذلك؟»
«إنّه الخيال يا عزيزتي...إنّه الخيال»
«لكن كيف يمكن للشخص أن يملك خيالًا كخيال صاحب هذا العالم؟»
«انظري يا حلوتي، في الخيال لا يُشكّل الإيمان الخاصّ سوى بعض الممكنات، لكنّنا نستطيع أن نرى بعض الممكنات في إيمان الآخرين أيضًا. إنّ التزمت والتّعصب قلّما يقدّمان للفنون خدمة؛ لأنّها مأخوذة بإيمانها وأحداثها، بحيث يُعتقد أنّها حقائق ومسلّمات وليست ممكنات. ومن الممكن أن ينتقل المرء إلى الطّرف المقابل، فيكون هاويًا بحيث تذكره الممكنات التي لا يملك الفرد تقاليد لها أو لا يملك القدرة على العمل بها إطلاقًا. لكنّ أمثال هؤلاء أقلّ بكثيرٍ جدًا من المتزمّتين، وهم في عالمنا هذا أقلّ خطرًا بكثير أيضًا».
«ماذا؟ لم أفهم» قال الأرنب الذي كان يحرّك رأسه مع حركة الورقة وهي تتحرّك بعشوائيّة وتتحدّث بما لم يفهمه عقله.
اتجهت الورقة نحوه بسرعة قويّة جدًا جعلته يتجمّد في مكانه، وقالت موجّهة كلامها للأرنب الخائف: «إن عالم الخيال هو عالم الإيمان الذي لم يولد بعد، أو الذي ما زال جنينًا. فإذا آمنت بما تقرأه في الأدب، فلاشك أنك بالتالي تؤمن بكل شيء».
ثمّ اتجهت نحو آليس وقالت لها بهدوء: «والآن عزيزتي أخبريني أنتِ، ما سرّ هذا الحماس الذي آراه لديكِ؟»
«لا أعلم، أنا فقط أحبّ المغامرات مثل جدّتي»
«جدّتكِ؟»
«نعم، لقد قال الأرنب ذلك وقال أيضًا إنّها دخلت إلى هذا العالم، لكنّها لم تخبرني بذلك سابقًا» قالت آليس كلامها الأخير بحزنٍ ظاهر.
قالت الورقة المكتلمة لآليس مواسيةً إيّاها:
«يا عزيزتي الجميلة، يبدو أنّ جدّتكِ تخاف عليكِ من هذا المكان، فقد عانت كثيرًا حتى خرجت من هنا. الجدّة المسكينة كانت لطيفةً جدًا معنا لكن الألغاز كانت صعبةً جدًا.
ولأجلِ جدّتكِ يا عزيزتي أعطيتكِ مساعدةً وشرحت لكِ عن الخيال... والآن، اذهبي إلى الأمام هناك، ثم اتجهي إلى اليمين، ذاك هو مكان البوابة. لكن عليك أن تجيبي على اللغز لن تخرجي من هنا بسهولة»
أنهت الورقة كلامها ثم طارت بعيدًا في الهواء إلى أن اختفت عن عيني آليس والأرنب.
«يا لها من ورقة مزعجة! لو لم تستمتعي بالحديث معها أقسم لكِ لكنتُ مزقتها» قال الأرنب وهو يضع قبعته على رأسه ويحاول تثبيتها.
نظرت إليه آليس مفكرةً بكلام الورقة المتكلّمة، ونظر هو الآخر لها وقال: «أقسم لكِ لكنت فعلتها».
ضحكت آليس وقالت: «يا لك من جبان كاذب!»
وأخذت تسير إلى الأمام فتبعها الأرنب يسألها إلى أين هما ذاهبان، لتردّ عليه أنّها تسير بالطريق الذي أعطتها إيّاه الورقة المتكلّمة.
أثناء سيرهما قابلا العديد من الأسماك الذين كانوا ينظرون إليهما ويتهامسون، لم يستغربوا وجودهم كما اعتقدت آليس عندما رأتها السمكة الأولى، إنهم فقط لم يروا ضيوفًا منذ زمن.
بعد مسافةٍ ليست بالقليلة، وصلا إلى نهاية الطّريق فوجدا منعطفين،اتجها إلى اليمين مثلما أخبرتهما الورقة، فوجدا قرشًا كبيرًا مهيبًا يمسك قضيبًا طويلًا بإحدى زعانفه، وبأسنانه الثّلاث المدبّبة البارزة يقف ليحرس حائطًا.
«عرفتُ ذلك، لقد خدعتنا! انظري، لو أنّني مزّقت تلك الورقة اللّعينة» قال الأرنب متذمّرًا.
«اصمت يا هذا!» قال القرش بصوتٍ مخيف بعد أن رآهم،
خلع الأرنب قبعته ووضعها على ركبتيه وهزّ رأسه بالإيجاب.
قال القرش موجّهًا كلامه إلى آليس:«مرحبًا أيّتها الصغيرة، لقد أخبرتني الورقة عنكِ. إنّكِ حفيدة تلك الشّابّة التي زارتنا قبل ثلاثين عامًا، لقد مضى الكثير من الوقت منذ زارتنا جدّتكِ.»
حدّق القرش في الأفق ثمّ أكمل كلامه بهدوء: «انظري يا عزيزتي، لقد سمحت لي الورقة بأن أجعلك تمرّين بدون حلّ اللغز لأنّه يبدو أنّ لديك خيالًا خصبًا ولن تحتاجي إلى حلّه أيتها الصّغيرة، وسوف نسمح لكِ أيضًا بأخذ هذا الأرنب الغريب معكِ.» قال القرش كلامه الأخير بسخريةٍ وهو ينظر إلى الأرنب متفحّصًا إيّاه.
آليس بودٍ: «شكرًا لكَ يا سيّدي القرش، أنا ممتنّة لك وللورقة المتكلّمة، لكن لديّ سؤال».
«تفضّلي بطرحه»
«كيف يمكنني أن أطور من خيالي لكي أستطيع أنا أيضًا أن أبني عالمًا مثل هذا؟»
القرش: «يبدو أن الورقة لم تخطئ أبدًا عندما خمّنت أنّ لديكِ خيالًا خصبًا»
حرّك القضيب الذي بزعنفته بعد أن كان يغرسه في الأرض وتخلّى عن وقفته المهيبة وأكمل كلامه قائلًا: «إنّكِ يا عزيزتي ترين العالم بعقلك وعواطفكِ، فلديك شعورٌ بالوحْدة مع العالم المحيط بكِ. ولكنّ الأرجح أن يزداد شعوركِ بالوعي الذّاتي، فتنقطعي عن العالم المحيط بكِ. انظري، مثلًا روبنسون كروزو افتتح رحلته ودفتر حساباته، إنّ كل ما دونه في دفتره كانت الأشياء المضادّة لموقفه والملائمة له، وربّما نستطيع أن نرى الآن لماذا كان من المهمّ تدوينها، لو قمتِ بتطوير خيالكِ في عالمكِ الجديد المنتمي إلى هذا العالم، فستبدئين التّدوين كما يلي:«أشعر بالانفصال والانقطاع عن العالم المحيط بي، لكنّي أشعر بأنّه جزءٌ منّي، وأتمنى أن أشعر بذلك مرّة أخرى، فإذا انتابني هذا الشّعور لن يفلت منّي».
هذه خلاصة ضبابيّة قاتمة للقصّة التي تروي الحياة التي عاشها الإنسان في العصر الذّهبي، أو جنّة عدن، أو هسبريد، أو مملكة الجزيرة السّعيدة في الأطلنطي، وكيف فُقد ذلك العالم، وكيف يمكن أن نستردّه نحن في يوم من الأيّام.
أنا قلت منذ البداية أنّ هذا الشّعورهو شعور فقدان الوحْدة مع العالم، وأنّ الشّعر أو الأدب إذا استخدما المجاز والوحدة يسعيان إلى إرجاع حياتنا إليها.
على أيّة حال، إليكِ ما زعم بعض الشّعراء أنّهم يحاولونه، فلنستمع إلى ويليام بليك:
«إنّ طبيعة عملي هي طبيعة رؤيويّة أو تخيّليّة، إنّها محاولةٌ لاستعادة ما سمّاه القدماء بالعصر الذّهبي».
بعد أن أنهى القرش الكبير كلامه ابتسم في وجه آليس ابتسامةً كشفت عن أسنانه المدبّبة كاملة، فقالت آليس بعد أن بادلته بابتسامة هي الأخرى: «رائع جدًا!»
فتنحّى القرش جانبًا فاتحًا الطّريق لكي يعبرا من البوّابة، لم تفهم آليس ما الذي يقصد فسألته عن مكان البوّابة فقال لها: «أمسكي بيد صديقكِ الأرنب وسيري باتجاه الحائط، ولا تنسَي أن تستخدمي خيالكِ عند العبور فهذا سيخفّف من سقوطكِ».
ضحك القرش وأشار إلى الحائط فأمسكت آليس بيد الأرنب الذي كان يرتجف كعادته وعبرت الحائط.
* المصدر كتاب الخيال الأدبي لنورثروب فراي.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top