مغزى وراوٍ

دخلت الآنسة عاطفيّة حجرة المعالج النّفسي السّيد ناقد تبعًا للموعد المتّفق عليه، أشار لها لتتمدّد على الكرسيّ المخصّص بجديّته المعروفة بعد أن صافحها، فتحرّكت ببطء جالسةً ممدّدة السّاقَين معدّلةً ثوبها بتوتّرٍ.

جلست صامتةً برهة، عابثةً بخصلات شعرها الورديّة بشرود محتلةً ملامحها مسحةً من الحزن، جلس السّيد ناقد هو الآخر وعدّل ياقة قميصه الصّفراء واضعًا إحدى ساقَيه فوق الأخرى، ظلّ متابعًا لها في صمتٍ محرّكًا أصابعه بوتيرةٍ واحدة على بنطاله البنيّ منتظرًا اللّحظة المناسبة؛ فهو عالمٌ كم هي شخصيّةٌ حسّاسة ويلزم المزيد من الحكمة والتّؤدة أثناء محاورتها!

رفعت خضراوتَيها بهدوءٍ وهمست:
_أيمكنني الحديث الآن؟

فأومأ لها ممسّدًا على شعره البنيّ بحماسٍ وابتسامةٍ هادئة:
_يمكنك بالطّبع، بكلّ سرور.

_لا أدري سيّدي من أين أبدأ!

_خذي نفسًا عميقًا ثمّ أخرجيه بهدوءٍ وتحدّثي عن نفسك ودواخلك بهدوءٍ، سيخرج لي الحديث مرتّبًا كما اعتدنا في كلّ مقابلة.

فزاغت خضراواها في كلّ اتجاهٍ بسذاجتها الّتي حفظها ثمّ أردفت بخفوتٍ:
_إسألني إذن لأجيبك.

فتحدّث برزانة:
_الآن ستتحدّثين عن مشاعرك وأحاسيسك الدّاخلية، أليس كذلك؟

فأومأت توافقه ليكمل:
_إذن عليكِ برواية كلّ مشاعرك على لسانك أنتِ كشخصٍ.

_كأنّك تنوّه إلى أنّ أفضل راوٍ لقصصي وحكاياتي ما هو على لسان الشّخصية بضمير المتكلم، الأنا!

_أجل آنستي، الرّاوي على لسان الشّخصيّة هو الاختيار الأفضل في فئة العاطفيّة؛ حيث يُظهر المشاعر والمواقف بشكلٍ متدرّجٍ مع الأحداث، ويُظهرُ الشّخصيَّة بوضوحٍ.

سكتت هُنيهة تستوعب كلماته ثمّ تابعت:
_تعني أنّ هذا النّوع من الرّواة له علاقة بإظهار الجانب النّفسي للشّخصيّات ومن ثَمّ إظهار الصّراع النّفسي الدّاخلي.

فأكمل معقّبًا:
_ومنه جعْل القارئ يتفاعل مع الشّخصية في كلِّ لحظةٍ وحدَثٍ من القصة.

_وما فائدة هذا؟

_أليس الرّاوي يقوم بالشّرح والتّوضيح والتّفسير على كلّ ما يرد في القصّة؟

فأومأت برأسها توافقه هامسةً: بلى.

تنهّد السّيد ناقد معربًا:
_رجاءً انتبهي معي آنستي! ألستِ آنسة عاطفية؟ وأليس أهم ما يميّزك هو التّعبير عن مشاعر ذاتية عاكسة لبواطن الشّخصيّات بشكلٍ واضح؟ وبغض النّظر عن نوع تلك المشاعر سلبيّةً كانت أو إيجابيّة!

فأردفت: لكن يمكن التّعبير عنها بالرّاوي العالم بكلّ شيءٍ، أعني بضمير الغائب «هو».

_لكن آنستي مَن يعبّر عن مشاعره بنفسه وعلى لسانه هو أفضل بكثير ممّن يجعل أحدهم يعبّر عنها على لسانه، فما تشعري به بالضّبط، ما يجول بداخلك، ما يؤرّقك أو يسعدك... الجوانب الدّاخلية والمجهولة، ترى مَن الأدرى به وإن باح به على لسانه فسيحقق مصداقيّةً أكثر بكثير، وأيضًا المزيد من التّفاعل والتّأثّر ممّن يستمع إليكِ أو يقرأ كلماتك المكتوبة، وهذا بدوره يحقّق التّشويق.

أومأت الآنسة عاطفية توافقه ثمّ تنهّدت وسألته:
_لكن ما رأيك لو خلطت بين الرّواية بضمير المتكّلم وضمير الغائب؟ فحينًا أحكي على لسان الشّخصية وحينًا أجعل أي شخصٍ آخر يحكي، أو مثلًا لو منحت الفرصة لجميع الشّخصيّات وجعلت كلّ شخصيّة تحكي من وجهة نظرها؟!

سكت السّيد ناقد وقد حال على ملامحه القليل من الضّيق، لكنّه سجّل عدة ملاحظات في دفتره وهو يتنفس بعمقٍ زافرًا الهواء من فمه بهدوء، ثمّ رفع بنّيتَيه نحوها وأجاب عائدًا إلى هدوئه:
_ما تشيرين إليه من تعدد الرّواة يحتاج إلى حبكة مميزة، قدرة ومهارة كبيرة من الكاتب، حيث أنّ تعدّد الرّواة إن لم يتمَّ في حبكة نصّ الرّواية بإتقانٍ وحرفية يشتّت القرّاء ويقلّل من قيمة العمل، لذلك لا يُنصح به لأنّ الغالبية لن تنفّذه بطريقةٍ سليمة وسيتحوّل العمل إلى شيء مشوّش وغالبًا سيترك القرّاء العمل دون إكمال قراءته.

فوضعت يدَيها على فمها بتأثّرٍ وقد ترغرغت خضراواها بالدّمع، تنهّد السّيد ناقد وأعطاها محارمًا ورقية، جفّفت عينَيها وبدأت بتمرين التّنفس العميق المتباطئ رافعةً لسانها لأعلى سقف حنكها.

وبعد مرور بعض الوقت أومأت الآنسة هامسةً: لقد صرتُ أفضل الآن.

فأومأ السّيد ناقد بابتسامةٍ تشجيعية:
_رائع! والأروع هو سرعة لجوئك واستخدامك لهذه التّقنية.

_تعني أنّي في تحسّنٍ سيدي؟

_بالتّأكيد آنسة عاطفيّة…

سكت قليلًا ثمّ سألها:
_هل يمكنك إكمال الجلسة أم تشعرين بالإجهاد؟

أومأت براحة وابتسمت بلطفٍ:
_أجل يمكنني أن أكمل المزيد من الوقت.

_عظيم! وقبل أن نكمل، هل تذكرين شيئًا ممّا ذكرناه أم اختلط الأمر؟

أومأت الآنسة بهدوءٍ مرسوم على وجهها ابتسامة لطيفة ثمّ قالت:
_لقد تحدّثنا عن أنسب نوع راوٍ لي كفئة عاطفيّة وهو الرّاوي على لسان الشّخصيّات بضمير المتكلم الأنا، وهذا من شأنه أن يظهر الجانب النّفسي للشّخصيّات وأيضًا الصّراع النّفسي الدّاخلي، وهما أهم ما يميّز فئة العاطفيّة، كما يفضّل الابتعاد عن تعدّد الرّواة لما يحتاج إلى مهارة وإتقان وإلّا سيتشتت القارئ ويترك القصّة مللًا.

قالت الأخيرة وهي تلفظ أنفاسها، صبّ السّيد ناقد كوبًا من الماء وقدّمه لها قائلًا بابتسامته الفخورة بها مومئًا يوافقها:
_تفضلّي آنستي، يمكنك الاسترخاء قليلًا...

ثمّ التفت إليها وسألها: أم أدير بعض الموسيقى؟

فأومأت بسعادة وعفوية جعلتها أكثر شبهًا بالأطفال، وضع السّيد ناقد دفتره جانبًا على منضدةٍ صغيرة على مقربةٍ منه ثمّ سار بضع خطوات نحو مكتبه الأبيض فأمسك بجهاز التّحكّم الموضوع عليه وأدار الموسيقى فدارت الأسطوانة صادرةً لحنًا هادئًا كلاسيكيًّا؛ ممّا دفع الآنسة عاطفية للاسترخاء بظهرها إلى الخلف بانسجامٍ مع نغمات الموسيقى عابثةً ببعض خصلات شعرها الوردية المنسدلة على كتفها.

عاد السّيد ناقد جالسًا مكانه ولا زالت ابتسامته شاغلةً قسمات وجهه الحنطي ثمّ ابتدأ حديثه:
_بعد أن حقق الرّاوي في العمل العاطفي توثيق الأحداث والمواقف الّتي تُروى، القصُّ والإخبار وترتيب العناصر التي يقوم القارئ بتخيلها، والكشف عن الجوانب الدّاخلية والمجهولة خاصةً مشاعر الشّخصيّات بمختلف أنواعها، ولا ننسى التّعبير بأسلوبٍ أدبيٍّ مميّزٍ ومتناغمٍ وبسيطٍ، فلسنا بحاجةٍ إلى غطرسةٍ لغوية كما تعلمين!

فأومأت توافقه وأجابته:
_وكلّ هذا يبثّ عنصر التّشويق للقرّاء وجعلهم أكثر تشوّقًا لمتابعة الأحداث.

ضحك السّيد ناقد وقال:
_أراكِ تدورين حول نفس النّقطة وتحرصين على قرّائك!

-بالطّبع سيدي، فكلّ هذه المشاعر الفيّاضة الّتي سأنثرها تحتاج إلى قرّاء يتحمّسون إليها بشغفٍ وإقبال وإلّا فلا داعي لبثّ المشاعر إن لم تجدّ مَن يقدّرها...

قالتها ورمشت بخضراويها بضع مراتٍ بالعةً ريقها لألّا تدمع عيناها ثمّ شربت بعض الماء مجدّدًا وأعادت بعدها رسم ابتسامة باهتة لم تصل إلى عينَيها.

تابع السّيد ناقد:
_وبما أنّكِ تهتمين ببثّ المشاعر للقرّاء، في رأيك هل تكفيهم المشاعر مهما كانت فيّاضة؟

فرفعت كتفَيها لأعلى قائلةً بخفوتٍ:
_أعتذر منك سيدي، لكنّي لم أفهم مقصدك.

_أقصد كيف يقدِم القرّاء على قراءة عملٍ بلا مغزى؟

فسألته:
_هل من الضّروري وجود مغزى للقصص؟

أومأ السّيد ناقد مجيبًا:
_مؤكّد آنستي، يلزم وجود مغزى وبشكلٍ أوضح، ما هو المعنى المقصود من وراء قصة ما؟ يبدو كأنّه سؤالٌ صعبٌ أليس كذلك؟

أومأت الآنسة عاطفية وأكمل السّيد ناقد:
_وللتّمكّن من فهم مغزى أو معنى قصة نقرؤها علينا أن نربط بين عالم القصّة الدّاخلي والعالم الخارجي، وهذا الرّبط بحد ذاته يشكّل المعنى...

سكت قليلًا متأمّلًا ملامح عدم الفهم الّتي احتلت كلّ انشٍ في ملامحها، ثمّ أكمل بتفهّمٍ:
_محاولة اكتشاف المعنى هي تقرير مدى التّطابق بين ما تتحدّث عنه القصّة وبين ما هو فعلًا موجود في العالم، فهل الأفكار التي تتحدّث عنها القصة فعلا موجودة في العالم الذي نعيش فيه؟

مثلًا إن نشأت علاقة عاطفية بين فتاة وشاب، لكن للفتاة أمًّا مريضة تحتاجها وبعد صراع الأحداث تختار الفتاة أن تظلّ جوار أمّها، هنا قدّمت القصّة فيضًا من المشاعر المختلفة، لكن مع المشاعر قدّمت مغزى ومعنى واضح، بل وموجود في عالمنا الّذي نعيش فيه.

فنهضت جالسةً بتأثّر وقالت بصوتٍ مرتعش على وشك البكاء:
_هل تقصد أنّه لا يكفي مجرد قصة حب بين البطل والبطلة مع كمّ من المشاعر ثمّ تنتهي القصّة بزواجهما السّعيد أو انتحار أحدهما؟

اعتدل السّيد ناقد في جلسته وتحدّث بجدّيةٍ:
_آنستي، مثل تلك القصص بعيدة عن الواقع! إنّها تشعر القارئ أنّ هذان البطلان يعيشان في عالمٍ آخر غير عالمنا إضافةً لابتذالها وكثرة تكرارها حدّ الملل، ونحن نسعى إلى التّجديد والابتكار، وإن كان هناك قصّة عاطفيّة فتكون على أرض الواقع، نزيد من قيمتها بإضافة بعض القيم والمعاني وأيضًا تجعلها مختلفة وجديدة بالنّسبة للقارئ.

تنهّدت الآنسة عاطفية متسائلة:
_وكيف يحدث هذا؟

أجابها:
_يظهر المغزى من خلال ما يقوله أو يعلّق عليه الرّاوي -وها قد عدنا إلى الرّاوي مجدّدًا-  وفي هذا الصّدد علينا دائمًا أن نحقق من مصداقية الرّاوي إضافةً لما تقوله الشّخصيّات من حوار خارجيٍ أو داخلي، وكلّ ما يوضّح أحداث العمل، حتّى أنّ اختيار العنوان له دور لا يمكن تجاهله، وكلّها عوامل تساعد على تحقيق فهم القصّة وإظهار المعنى والمغزى.

اعتدلت الآنسة عاطفيّة في جلستها وبدا عليها الملل لتردّ عليه:
_إذن يلزم التّركيز والاهتمام بمعنى ومغزى القصّة مثل الاهتمام بإظهار المشاعر والأحاسيس المختلفة!

سجّل السّيد ناقد بعض الملاحظات في دفتره وهو مومئٌ لها أثناء حديثها ثمّ رفع بنّيتَيه نحوها وقال:
_في الحقيقة يجب الاهتمام بمعنى ومغزى القصّة في جميع فئاتها وليس فقط في العاطفية يا آنسة عاطفية.

ثمّ أغلق دفتره واتسعت ابتسامته قائلًا:
_انتهت جلستنا اليوم، حدّثيني عن فكرتك، شعورك وقرارك.

فأجابته:
_حقيقةً اتّضحت لي الرّؤية بخصوص استخدامي للرّاوي ووجود المغزى وشعرتُ بالحزن والضّيق تجاه أفعالي الحمقاء السّابقة الّتي تسبّبت بإهدار مشاعري في الكثير من القصص دون فائدة أو قيمة، لكنّي جاهدتُ نفسي لألّا أنهار وأسمع كلماتك بعقلي فقط لأستطيع تنفيذها.

قال السّيد ناقد بفخرٍ كبير:
_هذا تقدّم هائل عليكِ أن تفخري به، وسيزداد تحسّنك في المستقبل القريب ونتخلّص من حزنك السّائد ملامحك وتصبحين أكثر مرحًا كما تسعين ونسعى جميعًا.

مدّت يدها تصافحه بعد وقوفها وقالت بامتنان:
_شكرًا جزيلًا لك ولكلّ جهودك المبذولة لأجلي.

فأجابها مصافحًا بنفس ابتسامته المحفّزة:
_لا شكر على واجب آنستي، ولا تنسي رجاءً أنّي دومًا بالجوار.✨

-رفيف.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top