مطرحُ الرمالِ


مرحبًا بالمحاربين والمحاربات بساحةِ الأدب ومعركة القلم العربيّ، أرحّب أنا بنفسي سقراط العرب بكم في قصري «قصر الرّياس» والذي سيكون حصنًا لأفكاركم العظيمة؛ لتخلّد بين أسطر التّاريخ، تغافلوا عن أنّهم سيرفسوني للخارج إن أنصتوا حسًا لما أقوله، ولنشرع بقصِّ درسنا لليوم بين زوايا القصر الملكيّ.

سأقف في انتصاف قاعته الكبيرة وستكون جدرانه حولنا تعطينا القوّة وتثبّت عزمنا، أظنُّ أنّ صوتيَ سيصل للجميع من هنا؛ لذا سأبدأ الشرح ولن يعاد، فاصغوا جيّدًا.

من عنوان فصلنا ستفقهون سريعًا أنّنا سنتحّدث اليوم عن الزّمكان في القصّة التّاريخيّة، أي زمانُ ومكانُ الرّواية التّاريخيّة، عندما تودُّ -عزيزي الكاتب- أن تخطَّ حكايةً تاريخيّةً عبر أسطر قصّتك فلا يكفي أن تكتبها مباشرة دون تخطيطٍ أو صورةٍ كاملةٍ وواضحة عنها، ولمَ هذا؟ لأنّ تفاصيلها ستكون مجّردة من الواقعيّة تمامًا ما لم تقم ببحثٍ شامل حول أماكنها، ووقت حدوثها، وتاريخ شخصّياتها وحالتهم الاجتماعيّة، ولو تطلّب منك هذا بضعة أشهر؛ ففي الختام ستغدو روايةً عظيمة!

وبما أنّنا تطرّقنا للمنطقيّة، فأودُّ أن أطرح سؤالًا هنا وهو: كيف يمكن جعل الزّمكان منطقيًا؟

الزّمان والمكان عنصران مهمّان في الرّواية، وعلى ركيزتهما تتّكِئ بقيّة العناصر وتتكوّن الصّورة الصّحيحة والمناسبة للقارئ، وأيضًا ستزيد حصيلة الرّواية الجماليّة، ذلك عوضًا عن دقّة تفاصيلها التي تضفي غبارًا سحريًا مميزًا لزواياها.

يمكنني القول أنّ الرّواية العربيّة في القرن الماضي ارتكزت على كهل التّاريخ بقوّة؛ لأنّه يهبها سندًا دلاليًا وفنيًا كبيرًا.

والرّواية العربيّة في بداياتها استلهمت النّضال، وانخرطت في الدّفاع عن المواطنين ورفع الظّلم عنهم، وانغمست في قضايا التّحديث والتّطوير.

إذًا الرّواية في بداياتها ارتكزتْ واستندت إلى التّاريخ، ولا شكَّ أنَّ الفنّ الرّوائي يتيح الفضاء الواسع والخصب أكثر ممّا تتيحه الوثائق والمستندات التّاريخيّة.

فتناول الرّوائيّون الأحداث والوقائع التّاريخيّة بسبلٍ فنيّة، جميلة، هادفة ومشوّقة، ولم يكن للمؤرّخ أنْ يتقنها ويجيدها، فالرّواية تعود إلى التاريخ كي تفتّش عن العِبر وتعمل على إضاءتها، وتختلسها كي تعيد إنتاجها بأسلوبٍ جديد يسلب بصيرة القارئ.

وبما أنّ الرّواية التّاريخيّة تقوم على تصوير الأشياء كلها، بالتّالي هي تدلف إلى أحداث الحياة اليوميّة وتفاصيلها الدّقيقة وتهتمُّ بزمن الحدث، وتُبرِز أهمّيته من خلال التّفاعل بين التّفاصيل الحياتيّة اليوميّة، فلوكاتش يقول: «إنّ الرّواية لا يكفيها التّاريخيّة العامّة للصّدام المركزيّ التي تشكّل طابع الدّراما التّاريخيّة، فلا بدَّ لها أن تكون موثّقة تاريخيًا».

ولا يكتفي الكاتب بسرد الأحداث والوقائع التّاريخيّة والأُسَر والسّلالات الحاكمة، بل إنّه تغلغلٌ في العلاقات الدّاخليّة العميقة التي تؤسِّس المجتمع والمنظومات السّياسيّة المهيمنة وحركة الاقتصاد.

إذًا قبل أن تكتب قصّةً تاريخيّة يجب عليك دراسة المكان جيّدًا لكي تكسو جميع الأماكن التّاريخيّة فيها بكساء يحوي جل تفاصيلها من بلدان وقصور وأديرة.

وكذا بالنّسبة للزّمان، فعوضًا عن دراسته تأكّد من أنّ جميع ماتصفه هو غرضٌ قديم لن يحوي هاتفًا ذكيًا أو سيارةَ فيراري، فحتّى الرّوايات التّاريخيّة الخياليّة لها شروطها! ولن تحوي تقنياتٍ متطوّرةً ما دامت خياليّة، علی الكُتّاب الاكتراث بهذا الجانب أكثر.

وبهذا علمنا كيف ندمجُ الوصف بالزّمكان، ويكون عن طريق وصف الأماكن التّاريخيّة فيها، والجوِّ العامِّ الَّذي يوضّح زمنها وزمن نشوب أحداثها، وصفًا بيِّنًا جميلًا يكون كما لو أنَّه صورةٌ حيّةٌ، أقلُّ ما يقال عنها أخَّاذة، ستأسر قلوب قُرّائِكم.

وبما أنّنا عرجنا على منحدر الوصف، فهل الوصف المعقّد هو الأفضل؟ أم البسيط الذي يصوِّر لنا جمال الرّواية؟ ومن المسؤول عن كلِّ هذا تحديدًا؟ لغة الرّواية.

وفي هذا المنحنی من الجميل أن يكون الأسلوب أسلوبًا لغويٍّا سرديٍّا بسيطًا ، قريبًا من فهم الناس؛ كي يُرفد الكاتب إليهم معلوماته التّاريخيّة بأسلوبٍ واضح سهل وسلس، فيفضّل الابتعاد عن المحسّنات البديعيّة والبلاغيّة التي تركّز علی الشّكل فقط، وبدل ذلك يتمُّ اعتماد لغةٍ فصيحةٍ ميسورةٍ وعصريّةٍ، عذبةِ الإيقاع تركّز علی الفكرة والمضمون.

وأتساءل من يضمُّ كل ما تكلمنا عنه في إطارٍ مرصّع بالزّخارف؟ أجل، إنّها الفكرة.

فلنصعد بجانب الجدار المطلِّ علی المدينة، الآن ترون من سطح القصر أنّ المنازل في هذه النّاحية تتماثل من النّاحية الاجتماعيّة والطبعيّة، وحتّی أحيانًا النّفسيّة، ولن يكون من المنطقيّ أن تحيا طبقةٌ تتغاير عنهم كليًا بجانبهم، كذا بالنّسبة لفكرة الرّواية، لا يمكن أن تدمج الخيال العلميّ مع الرّواية التّاريخيّة، كما لا يمكنك أن توظّف فكرةً لرئيس مافيا في نفس الرّواية، إذ علی فكرة قصّتك أن تكون مناسبةً للفئة المختارة كي تدمجها بصورةٍ شيّقة.
كما أنّ علی فكرة الرّواية أن تتقيّد بما تحدّده من عناصر أخری، فإن كانت فكرتك تحوي قصّة أمير منفيٍّ سُرق منه الحكم في العصور القديمة، وبذلك تفشّى الظلّم بين بقاع المدينة، هل سيكون بيت الأمير مرصّعًا بالذّهب ومجهّزًا بكلِّ التّقنيات والأجهزة الحديثة؟ بالطّبع لا، الفكرة تتكلّم عن أمير تمَّ طرده، ولا بدَّ أنّ حاله كان مزريًا؛ لذا لن تتقبّله الأُسَر ذات الطّبقة الاجتماعيّة الراقيّة، إذًا؟ سيكون مع عائلة فقيرةِ المسكن وبالطّبع لن يُقدّم له الطّعام والشّراب دون مقابل، هنا فكرة القصّة حدّدت بالزّمكان؛ لذا لن تُخلَّ أو تؤثّرَ علی أيِّ عنصرٍ آخر.

ختامًا ناقش في روايتك قضيّةً مهمّة، وقِيَّمًا تودها أن تخلّد، واجعل سطورك ذهبيّة. ورجاءً ادرس الزّمكان لها جيدًا.

والآن كدرسٍ تطبيقيٍّ، أيمكنكم دمج الزّمن الحاضر مع مكان تاريخيٍّ كقصرنا مثلًا؟ ستكون التّجربة ممتعة.(;

-كان معكم العضو الوسيم آرمي من العصور الوسطی.

دُمتم نجومًا لمجّرتنا.

المصادر:
-تحولات الرواية التاريخية في الأدب العربي.
-الرواية التاريخية.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top