مؤسسة الابتذال


صوت نعيق غربان قريب لفت انتباه هُمام، استدار نحو مدخل الكهف ليلمح في الأفق سربًا من الطّيور يفترش السماء، علت الأصوات وتعددت مصادرها وأخذت الأرض تهتز بقوة. إنّه زلزال! 

ركض يحاول الخروج من الكهف، إلّا أنّ جلاميد سبقته واحتلت المكان، محاولة تحريك الصخور. مسح وجهه محوقلًا قبل أن يسمع صوتًا من الكهف يقول: «قلت لك أن ننتظر حتى حلول الغدّ. انظر ما حلّ بك! حلّ الليل وعلقنا في كهف المهدد بالانهيار علينا.» 

توجس هُمام والتفت بسرعة يشهرّ سكينه ليرى رجلًا يلبس ثيابًا عادية، تعكرت ملامح وجهه للاستغراب والحذر قائلًا: «من أنت؟» 

كان الأخر خائفًا ومرعوبًا، الرجفة احتلته من اقتراب السكين من حنجرته فقال بسرعة: «ماجد! من سكان الجزيرة القلال وقد اقتحمت بيتي قبل قليل يا رجل، يمكنني مساعدتك كدليل لكن أبقِ على حياتي!» 

أبقى هُمام السكين باتجاه الرجل، بمساعدة بعض نور الشمس المتسلل من بين الصخور والأوراق المتناثرة أخرج المشعل المجهز من قبل معه بالحقيبة وأشعله بقداحته ليتبين له رجل أسمر البشرة يلبس الجلود الحيوانيّة.

أنزل هُمام السكين وتلمس الأدوات في حقيبته وأخرج لفافة ورق عريضة، ناول المصباح لمرافقه المتبرم وفتح الخريطة قائلًا: «لم أكن أود الثقة بك، لكن مصيبتنا واحدة، علينا عبور الكهف اليوم لإشارة الورقة له، لكن ليس هنااك خيار يفترض أن هناك طريقًا عبر الجبل يقود إلى الجهة الأخرى، أليس كذلك أيها الدليل؟» 

ارتبك المعني كما لو لم يتوقع، وأجاب متوترًا: «كيف علمت هذا؟ من أين أتيت بهذه الخريطة؟ كلا، بل ابتداءً من أنت؟» 

طوى هُمام الخريطة وتناول الشعلة ليسير إلى الأمام: «أنا أجمع صفحات الكتاب المفقود»

 مع أن هذه لم تكن إجابة لأيٍّ من الأسئلة، إلا أنّها أكّدت شكوك الدليل ماجد بأن من أمامه ليس مجرد سائح لهذه الجزيرة الاستوائيّة، إنّما رجل قد ينبغي التخلّص منه قبل طلوع شمس الغدّ. 

كان هُمام يراقب الخريطة بتركيز، لكنّها كانت عامّة جدًّا للحدّ الذي لا تقول الكثير حول مداخل ومخارج الجبل، هي فقط تقول أن في الجبل طريقًا مفتوحًا، وفي مكان ما في ذلك الطريق رُسمت نقطة حمراء تشير إلى مكان تواجد إحدى رزم الكتاب المفقودة، لذا أعاد الخريطة وأخرج البوصلة ليحدد الاتجاه الذي عليه السير فيه، إلا أن الإبرة كانت تدور على غير هدى، ردد هُمام في داخله: «إذن فالاتجاهات ستكون مدونة هنا.» 

زاد الشعلة شّدةً ببعض السائل المشتعل ودار حوله متفحصًا المكان فإذا برسومات جدارية تغطي السقوف والجدران، لوحة كبيرة لحشد غفير من الناس، لُوّنت ملامحهم وثيابهم بألوان ترابيّة باهتة إلا شخصين، فتاة بفستان وردي وتاج ذهبي تقف على سارية سفينة، وشاب يحمل سيفًا ويسير في طريق آخره صولجان وتاج. 

كان ماجد سارحًا يفكر لفترة لكنه انتفض فجأة قائلًا: «الاتجاه من هنا، حيث يتجه الأمير والأميرة.» 

التفت هُمام يسأله مستغربًا: «لمَ تظنّ هذا؟» 

شرح ماجد: «أظن أن الكتاب المحفوظ هنا يشير لشيءٍ ما.» 

دقق هُمام بالرسمة وتمتم: «عن الأفكار والعقد في روايات المغامرة ربما؟» 

سمعه الرجل ولكنّه تظاهر بأنّه لم يفعل وأكمل: «هذا الرسم يشير حتمًا إلى الأميرة التي كرهت حياة الملوك وقررت عيش حياة القراصنة، أما الشاب فهو الفارس الشجاع الذي أنقذ البلاد من الفساد وخلّصها من حكّامها الظالمين، وحكمها بالعدل والإحسان.» 

نظر له هُمام نظرة معناها كيف تعلم كلّ هذا؟

فهم ماجد ما يعنيه فقال: «أعتقد أنّي مثلك، لكنّ طريقي سُدَّت ويئست البحث.»

سأله هُمام بعد هذا: «كون هاتين الشخصيتين بالذات هما من تشيران لهذا الاتجاه هو ما يجعلنا نسلك الطريق الآخر، بالمناسبة كيف علمت بمحتوى الرزمة؟» 

ظهر توتر خفيف في عيني ماجد، فسبق هُمام للمدخل المقابل بينما يجيب: «أخبرني كبار الباحثين عنه قبل وصولي هنا.» 

ردّ همام: «لا بُدّ أنهم نسوا إخبارك أنّ الكتاب يحارب الأفكار المتكررة المبتذلة.» 

-«مبتذلة؟» سأل ماجد معترضًا واسترسل: «ما المشكلة في سرد حكاية امرأة سئمت نمط حياتها وأرادت خوض مغامرة؟ أو شاب يبدأ من الصفر ليصل في النهاية إلى أقصى مرتبة بشريّة على الإطلاق؟» 

سأله هُمام بالمقابل: «هل القرصنة هي المغامرة الوحيدة على وجه الأرض؟ كلا بل هل الأميرات فقط هن من يشعرن أن حياتهن تنقصها أجواء المغامرة؟ ثم لم عليهن أن يكن سيدات في القرن التاسع عشر؟ هل ولدت وماتت المغامرة في ذلك القرن أو ماذا؟ ثم ذلك الفارس القوي، الذكي، المغوار، الذي لم تعرف البلاد قبله ولا بعده مثله، ألم تستهلك قصته كثيرًا؟» 

لاحظ ماجد علوًا في نبرة صوت هُمام لذا حاول تهدئة الوضع قائلًا: «لم أكن أدافع عنهم، كنت أسأل فقط»، نجحت هذه الجملة في رسم ابتسامة على وجه هُمام الذي ردّ: «أليس الأولى أن تسأل عن كيف نأتي بفكرة لقصة مغامرة؟» 

تظاهر ماجد بالاهتمام: «أهناك طريقة محددة؟» 

أجابه: «ليس حقًّا، لكنّ هناك بعض النقاط التي يمكنها أن تساعد، أوّلًا يجب أن نتفق أن كلّ حدث يخرج عن طبيعة حياة الشخصيّة هو مغامرة، التسوّق، الطهو، الدراسة، حتى هذه اليوميات العاديّة بالنسبة لنا ستصبح جزءًا من مغامرة طالما لم تكن من طبيعة الشخصيّات. لذا لنتوقف عن حصر المغامرة في صراع الملوك، وحكايات القراصنة. 

بعدها نحدد شخصيتنا الرئيسيّة، نحاول معرفة نوع التجارب التي ستعتبر غريبة ومثيرة بالنسبة لها، المغامرة رحلة، قد تكون رحلة لتعلم شيء ما، لإيجاد شخص ما، لتحقيق هدف أو بلوغ منصب أو إيصال رسالة.» 

همهم ماجد معقبًا، بدا أنّه كاد يقتنع، في خضم حديثهما لم يلحظ أنّهما يسيران في اتجاه مسدود فعاد لتذمره وتهكمه من همام قائلًا: «الطريق مسدودة! انظر أين أوصلتنا ثقافتك، قُلت لك أن المدخل في الجهة الأخرى!» 

عينان زمردتيان حدّقتا في هيئة ماجد لثوان، شاب نحيل وقصير على عكس همام قوي البنية مفتول العضلات، ابتسم همام بينما يربت على جيب في حقيبته، ثوان كانت كافية لينطلق ثعبان بني متسلقًا على كتفه، هلع ماجد ودوت صرخته في المكان، فتحررت الخفافيش من مخابئها مهاجمة كِلَي الواقفَين هناك، حاول ماجد الهرب لكن همام كان أسرع منه إذ عثر ثعبانه على دهليز ضيّق يمكّنهم من إكمال طريقهم. 

دخلا بعد الدهليز منطقة تبدو كأنّها بئر مياه جوفيّة، المياه تتسرب من كلّ ناحية، وصواعد وهوابط ملحيّة تزين جنبات الطريق، كان انعكاس المصابيح وسط هذا المكان ساحرًا، إلا أنّه لم يمنع ماجد من التّخلي عن خوفه من الثّعبان. حاول مداراة الوضع فسأل: «لم قد تحضر ثعبانًا معك؟ أتود أن تموت مسمومًا في مكان مقطوع كهذا؟» 

أجاب هُمام بنبرة سؤال: «ليجد لي الطريق؟ الثعابين أفضل منّا في معرفة الوجهة التاليّة، خاصة في الظلام.» 

سأل ماجد ثانيةً: «سابقًا أيضُا، بدوت واثقًا من وجود منفذ.» 

أجابه هُمام يتفقد الورقة: «بالطبع! لأن الرسومات التي قادتنا إلى هنا ستصبح حدثًا بلا معنى، سيكون هذا خللًا في منطقية الحبكة.» 

رد ماجد:«الحبكة؟» 

شرح هُمام: «هي تسلسل الأحداث السببي، بحيث يقود كلّ حدث منطقي للحدث التالي، تبدأ القصة عادة بالوضع الطبيعي للشخصيّات ثم تتالى فيها أحداث لتُراكم المشاكل مجبرةً البطل على اتخاذ قرارات حازمة ومصيرية تقود للحل.» 

همهم ماجد متفهمًا وسأله ما خطر بباله: «هكذا تكون القصص عادة، إذن ما الجديد؟» 

رد همام«في روايات المغامرة من السهل جدًّا أن يحيد الكاتب عن موضوع القصة الأساسيّ لغاية التشويق، فيضيف مغامرات جانبيّة باعتبارها أكثر متعة وتشويقًا، هذا النوع من المغامرات الجانبيّة عادة لا يخدم حبكة القصة، أو قد يهمشها حتى. تعرف قصة القرصان الشهير قبعة القشّ، أليس كذلك؟ يمر طيلة الوقت بقصص لا تخدم أبدًا بحثه عن الكنز، ويخرج من جزيرة تلو أخرى دون أيّ تقدم حقيقيًّا في الحبكة، دعك منه، المحقق كونان مثال أكثر شهرة ربما، يحلّ مئات القضايا وما زال بالكاد يعرف المنظمة السوداء، ليس لديه خطة حقيقيّة لمواجهتهم، ولم يتقدّم تقريبًا في بحثه عن طريقة ليعود بها لهيئته، إذا كان الكاتب سيستمر هكذا فلن أُنهي قراءة القصة إلا بموتي!» 

ضحك ماجد وقد بدأ أسلوب هُمام يروق له، ستكون خسارة التّخلص من شاب كهذا، تفقد المكان حوله يتأكد من أن المكان الذي وصلوا له هو نفسه الذي خاف من وصول هُمام إليه من قبل. أرض صخريّة زلقة، يجري على جانبيها نبعا مياه حارّة، وهناك في السّقف فجوة ضيّقة مدعّمة بالصّفيح، لم يرد ماجد قطّ أن يجد همام رزمة الكتاب، لكنّ تفحصه للسقف فضحه ودلّ مغامرنا على ضالّته. 

ألقى هُمام خطافًا مربوطًا بحبل نحو قطعة الصفيح وتأكد من ثباته، ثم أخذ يتسلق تجاه تلك الفجوة، كانت قطعة الصفيح تلك الصنيع الوحيد للبشر على طول الرحلة بعد الدهليز، لذا سيكون ثمة دليل هناك، ولو كان محظوظًا فستكون الرّزمة نفسها، لم يلبث أن وصل هُمام الصفيحة حتى صرخ ماجد: «لا تخرجها من مكانها، سينهار المكان لو أخذتها.» 

ضحك هُمام هذه المرة حتى بانت نواجده، فتح صندوقًا صغيرًا أمامه، فإذا هو يحتوي رزمة مربوطة من الصفحات عنوانها «أفكار وحبكة المغامرة» وبجانبها خريطة مفصلة لطرق الجبل لتساعده على الخروج، حمل هُمام الصندوق وقفز عبر فتحة السّقف، لكنّه فوجئ بماجد يحمل خطافه ويلوّح به أمامه فقال: «ما الخطب؟ أهناك مشكلة؟» 

أشار للنبع القريب مهددًا: «ارم الصندوق في النبع.» 

سأله هُمام غير مهتم: «وإن رفضت؟» 

-«ستجد رأسك والصندوق في النبع إذن!» 

ابتسم المعني قائلًا: «أليس هذا مبتذلًا جدًّا؟ كهف سينهار إذا أخذت منه شيئًا، ومرافق غدّار مع نهاية القصة؟ أليس هناك أفضل من هذا؟» ابتلع الصمت بينما يتجه إلى حقيبته ثم قال: «أعتقد أن عليك التركيز على ما عندك عوضًا عن التركيز على ما عندي.» 

التفت ماجد حوله كردّ فعل فرأى ثعبان هُمام يقترب منه، بدأ يلتف حول ساقه ويشد الخناق عليها، اعتراه الخوف حتى ما عاد قادرًا على الصراخ، سأله هُمام: «ما الذي تسعى إليه بالتّخلص من هذا الكتاب؟» 

تلعثم ماجد وترددت الكلمات في حلقه، لكن مع اقتراب الثعبان من وسطه اعترف: «إن طُبّق ما في الكتّاب، ستنبذ كل أعمال الفئة السابق كتابتها، ستخلو المكتبات حاملة هذه الكتب وسينظر إليها على أنها مبتذلة وسخيفة، لا مصلحة لنا بوصول شيء كهذا إلى النّور.» 

همهم مغامرنا متفهمًا ثم قال: «اترك تلك المؤسسة.» 

-«ماذا؟» 

أشار هُمام للثعبان يبتسم مهددًا هذه المرة: «أنت لا تودّ أن تموت مسمومًا في مكان مقطوع كهذا، أليس كذلك؟» 

كان الرّعب قد فاض بماجد لذا أومئ سريعًا فصفّر هُمام فعاد الثعبان إلى جانبه، لم يجرؤ ماجد على السير بجانب هذين المتوحشين لذا آثر ترك مسافة أمان، وعندما لاحظه هُمام قال: «بالمناسبة، الثعابين ليست سامة، إنها تقتل من خلال عصر ضحاياها وخنقهم... أيّها الكاتب المبتذل.» 

ردّ ماجد حانقًا: «خدعتني!» هزّ هُمام كتفيه بلا اهتمام: «أنت من أتيت بسيرة السّم أولًا، ككاتب في مجال المغامرة ألا يجب أن تكون لديك خلفية معلوماتيّة على الأقل؟» 

لم يكن ماجد في حالة تسمح له بالاعتراض، وكره الاعتراف أيضًا، لذا لم يقل شيئًا. لنقل فقط أنه كان محظوظًا بكون هُمام هو من يبحث عن الكتاب وليس نوعًا من القراصنة أو المأجورين، كان حقًا سيموت معصورًا في مكان مقطوع. 

خرج بالنهاية باستعمال الخريطة وماجد، تركه الأخير ليكمل رحلته وحده وعاد للكهف ممتنًا لحياته الهادئة بهذه الجزيرة المجنونة. 

-فلك

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top