لغة مسنفرة!


أمام مكتبة القرية، كانت كائناتنا الزّرقاء الصّغيرة تتجوّل هنا وهناك تُنجز أعمالها، لم يُعرها الكثيرون اهتمامهم، بينما أربعةُ مشاغبين كانوا يبعثرون الكتب في الدّاخل.

«يا إلـٰهي! ما هذا؟ هذه الصّورة تبدو لذيذةً ومسنفرةً جدًا.» صرخ أحدهم بينما يقلّب كتابًا بيسراه، في حين كانت يده اليمنى تمسك بقطعة حلوى، وهناك كعك وبعض الشّطائر بجانبه.

«أكول كم مرّة عليّ إخبارك؟ عليك إبعاد طعامك عن الكتب، وكما يقول بابا سنفور دائمًا الحذر واجب، و...»

«مُفكّر أغلق فمك قليلًا، أحاول قراءة قصيدة مسنفرة هنا!» نطق الثّالث بعصبيّة محاولًا إسكات رفيقه، لتنطق الفتاة الوحيدة في المكان: «هل كنتم تعلمون أنّ هناك أزهارًا جميلةً جدًا تُسمّى الياسمين؟»

كان كلّ واحدٍ منهم ممسكًا بكتابٍ يقرؤه، حتّى دخل أزرق آخر يبدو عجوزًا ذو لحية بيضاء كثيفة ويعتمر قبّعة حمراء، تأمّلهم لبرهة ثمّ نطق متسائلًا: «هل وجدتم ما طلبت منكم يا صغاري؟»

كان هذا بابا سنفور، وبالطّبع يبدو أن البقيّة هم أكول، مفكّر، شاعر، وسنفورة، كائناتنا الزّرقاء اللّطيفة.

ركض مُفكّر وسنفورة نحوه لتريه الأخيرة صورةً بكتابها قائلةً: «بابا سنفور اُنظر، هناك الكثير من الأزهار الجميلة في هذا الكتاب، وتبدو جميعًا ذات روائح زكيّة.»

هزّ مُفكّر رأسه بيأس وعدّل نظّارته قائلًا: «بابا سنفور لا أحد منهم بحث عمّا طلبته منّا عدايَ أنا طبعًا، وكما أقول دائمًا عليك أن تكُفّ عن تدليلهم بابا سنفور، وتبدأ بعقابهم على عدم تنفيذ طلباتك، و...»

-صمت مُفكّر بعد أن تمّ رميُه بعيدًا، وسقط رأسًا على عقب-

«حسنًا يا صغاري، اقتربوا لأخبركم بهذا» قال بابا سنفور وهو يتناول أحد الكتب من الرّف، ويتّجه ليجلس على أحد الكراسي، تبعه السّنافر الثّلاثة وعاد مُفكّر راكضًا ليستمع أيضًا.

ارتدى بابا سنفور نظّارته وفتح أحد صفحات الكتاب، وقبل أن يقرأ نظر نحوهم، وأردف: «جميلة هي لغتنا العربيّة بكلّ مفرداتها وبلاغتها، وبذاك الكمِّ الهائل من التّعبيرات والتّشبيهات الّتي يمكن للكُتّاب ابتكارها، وكما نعلم فإنّ الكتابة باللّغة العربيّة الفصحى أفضل من الكتابة بالعامّيّة لأسباب كثيرة من وجهةِ نظري الشّخصيّة، وقد اختلفت وجهات النّظر بين الكتّاب وكلٌّ منهم عرضَ وجهةَ نظره في الأفضليّة بالنّسبةِ له، وقبل أن نعرض الأسباب؟ أيّها تفضّلون؟ الكتابة بالفصحى أم باللّغة المسنفرة-العامية-؟».

نظر بابا سنفور إلى الكتاب بين يديه قبل أن يستهلّ: «لغتنا العربيّة لغة معروفة ومشهورة، ويمكن ترجمة الأعمال المكتوبة بها بسهولة ودون كثير من التّعقيد، كما وأنّ الأعمال العربيّة المميّزة تحظى بشهرة واسعة، هذا غير مميّزات اللّغة العربيّة، من علم النّحو، الحركات، الفصاحة، والألفاظ المميّزة، وتفرُّد العربيّة بالقواعد الإعرابيّة والصرفيّة.»

تنحنح بابا سنفور بعدما شعر بتحجّر حلقه من كثرة الكلام، طلب كوبًا من الماء لتسرع سنفورة وتحضره، شرب بِـرويّة قبل أن يضع الكوب جانبًا ويستهلّ حديثه مجدّدًا، وقد بدا أنّ حماس السّنافر قد بلغ أشدّه: «كما وأنّ الكتابة في الفئة الكوميديّة لا تعني أبدًا التّخلّي عن اللّغة العربيّة، واللّجوء لغيرها من اللّهجات أو اللّغات، بحجّة أنّ اللّغة العربيّة لغة رسميّة أكثر من كونها فكاهيّة، بل على العكس، اللّغة العربيّة لغة مرِنة، مليئة بالمفردات المختلفة الحيويّة، اللّفظ والتّهجّي الّذي يُميّز اللّغة العربيّة عن بعض اللّغات الأوروبيّة، فتهجئة الكلمة مُوافقة لطريقة لفظها، كما ومفردات اللّغة، حيث تُعتبر معاجم اللّغة العربيّة من أغنى معاجم اللّغات، وتحتوي على أكثر من 12 مليون مُفردة.
أي ببساطة، اللّغة العربيّة تحوي كلّ شيء، تفي لكلّ الفئات، فلمَ لا نستغلّ لغتنا العريقة في كلّ كتاباتنا على اختلافها؟»

صمت بابا سنفور وقد أنهكته كثرة حروفه مجدّدًا، فقرّر مُفكّر أن يكمل عنه، عدّل نظّاراته قائلًا: «قد نلجأ إلى اللّهجات العربيّة من وقت لآخر في الفئة الكوميديّة لنُضفي لمسة فكاهيّة مميّزة، ولكنّ هذا يحتاج دمجًا متقنًا ذا وقعٍ فريد، ويكون هذا بدمج كلمات اللّهجة في سياق الحوار الخارجيّ أو المحادثة الكوميديّة، لترك أثر فريد للكلمات.»

قاطع أكول مفكّر، وهو يقضم قطعة من حلواه: «فقط كفّ عن التّفاصح ودعنا نستمع لبابا سنفور.»

ضحك بابا سنفور واسترسل في الشّرح: «وبالرّغم من كلّ محاسن ومزايا اللّغة العربيّة فإنّ البعض لا يزال يستخدم العامّيّة، وحجّة البعض منهم هي «تقريب الشّخصيّات لواقعها، فإن كان مكان الأحداث بمصر، فيُفضَّل أن تتكلّم الشّخصيّة باللّهجة المصريّة حتّى يشعر القارئ بالألفة ولتكون القصّة أكثر واقعيّة.» شخصيًّا لا أوافق ذلك الكاتب، الواقعيّة لا تتأثّر إن تحدّثت شخصيّة بالفصحى، والخطأ يقع هنا في كتابة بعض المفردات الّتي يكتبها الشّخص كما ينطقها بالعامّيّة، فمثلًا «شاي، ويقصد بها شيء» فما الصّعوبة لو كتبت كما هي بلغةٍ صحيحة؟

وبالطّبع أن يكون السّرد والوصف بالعامّيّة هو خطأٌ لا يغتفر، ودفن للغتنا. نحن عندما نكتب فإنّنا نعيد تصوير الواقع بطريقتنا، أي نكوّن الواقع من جديد، ويبنى في خيال الكاتب، وما يبني الفكاهة هو المواقف لا كلماتٌ تُكتب بالعامّيّة.»

ثمّ التفت نحو سنفور شاعر قائلًا: «أعتقد أنّ شاعر قد يعلم ما أقصد، ويمكنه أن يُحدّثنا عن عيوب الاستخدام الخاطئ للعامّيّة في النّصوص»

«بالتّأكيد بابا سنفور» نطق شاعر ثم أكمل بحماس: «أوّل عيوب استخدام العامّيّة في النّصوص صعوبة نشرها، ﺇﻥّ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍﻟﻠّﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴّﺔ ﺍﻟﻔﺼﺤﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﺮّﻭﺍﻳﺔ ﻳﻌﺰّﺯ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠّﻐﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﻫﻮﻳّﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲّ، ﻭﺗﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻰ ﺗﺮﺍﺛﻪ ﻭﺛﻘﺎﻓﺘﻪ، ﻭﺗﺴﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﺍﻟﻮﺣﺪﺓ ﺑﻴﻦ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﻌﺮﻭﺑﺔ، ﻭﺗُﺒﻘﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻭﺍﺻﺮ ﺍﻟﺜّﻘﺎﻓﻴّﺔ ﻭﺍﻟﻘﻮﻣﻴّﺔ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺗﺨﻠّﺖ ﺍﻟﺴّﻴﺎﺳﺔ ﻋﻦ ﺩﻭﺭﻫﺎ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍﻟﺮّﻭﺍﺋﻲّ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﻮساطتها ﺍﻟﻮﺻﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺮّﺍﺀ ﻣﻦ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺍﻷﻗﻄﺎﺭ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴّﺔ، ﻣﻤّﺎ ﻳﻀﻤﻦ ﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺗﻪ ﺳﻌﺔ ﺍﻻﻧﺘﺸﺎﺭ ﻭﺍﻟﺘّﻮﺯﻳﻊ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺎﺑﻞ ﻓﺈﻥّ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻡ ﺍللّغة ﺍﻟﻌﺎﻣﻴّﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺮّﻭﺍﻳﺔ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﺤﺼﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﻌﻴّﻨﺔ، ﻻ ﻳﻔﻬﻤﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﻗﺮّﺍﺀ ﻣﺤﺪّﺩﻳﻦ، ﻭﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﺗﻐﻴّﺮﺕ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ، ﻭﺗﻔﺮّﻕ ﺳﻜّﺎﻧﻬﺎ ﻓﺈﻥّ ﺍﻟﺮّﻭﺍﻳﺔ ﺗﺘﻘﻠّﺺ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﺑﻞ ربّما ﻳﺘﻼﺷﻰ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ، ﻓﻲ ﺣﻴﻦ أﻥّ ﺍﻟﺮّﻭﺍﻳﺔ ﺍﻟﻔﺼﻴﺤﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻘﺮأﻫﺎ ﺍﻟﻨّﺎﺱ ﻣﻦ ﺃﻱّ ﺟﻴﻞ، ﻭﺗﺼﻠﺢ ﻟﻠﻘﺮﺍﺀﺓ ﻓﻲ ﻛﻞّ ﻋﺼﺮ!

كذلك كون الكتابة بالعامّيّة تُعتبر نشازًا أدبيًّا، فيصعب قراءتها، فاللّهجات هي شيء ننطقه شفهيًّا لا يتمّ كتابته، فتقع إشكاليّة لو تمّت كتابته وصعوبة.»

ابتسم شاعر منهيًا حديثه، في حين تململت سنفورة قائلة: «ولكن بابا سنفور، ألا تستطيع أن تريني موقفًا كوميديًّا مكتوبًا بالفصحى الآن كمِثال؟»

اتّسعت ابتسامة السّنفور الكبير، ليجيب بحماس: «بالطّبع سنفورتي، ولكنّ تلك المهمّة ستُوكّل إلى مُتابعينا الأعزّاء، فسيكون لطيفًا منهم أن يعرضوا علينا موقفًا كوميديًّا حدث معهم أو ربّما ابتدعته عقولهم، ولكنّ شرطنا الوحيد هو أن يكون بالفصحى.»

ابتسم شاعر: «إذن، ننتظر كلمات متابعينا الكرام.»

     _ضعوا مشاركتكم في الفعاليّة هنا_

إذن أعزّاءنا، ما رأيكم بما قيل في الفصل؟ أتتّفقون مع كائناتنا الزّرقاء أم لديكم مشكلة مع ما قالوه؟ شاركونا أسئلتكم في التّعليقات.💫

هذا الفصل من كتابة العضوين لياما وبابلز، دمتم لنا وهجًا يضيء سُبُلَنا.❤

المصادر:

-مقال من موقع الموضوع.
-كتاب صادق بن محمد المهدي أهمّيّة اللّغة العربيّة ومميّزاتها.
-ويكيبيديا.
-سحر السّرد للدّكتور فائق مصطفى.
دمتم بخير. ❤

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top