سردية فانتازية وبعض الحيل

«انهض هيا!»
صرخت أليس تحثُّ الأرنب على النّهوض ما إن خرجت من البوّابة وقلّبت أنظارها في المكان، بستانُ زهورٍ متنوعة تعلوا مِنهُ قهقاتٌ خافتة رقيقة، عِشبهُ داكنٌ بشكلٍ غير طبيعيّ ويطغى عليه ألوان الأزهار والورود المتنوّعة والتي تتراقص مع نسمات الهواء العليلة.

استقام الأرنب بوقفتهِ متأفّأفًا من سقوط أليس عليهِ عند دخولهم البوّابة، وسارَ بمحاذاتها حينما أخذت تسير بين الأعشاب متقدّمة للأمام وأعينها مذهولة مِنْ جمال المكان.

«من أين يأتي صوت الضّحكات الرّقيقة هذا؟»

تساءل السيد أرنب بينما يتلمّس أسنانه التي باتت كبيرة عكس ما كانت عليه، فأجابت أليس بسؤالٍ أكثر من كونهِ جواب:

«أعتقد أنّها من الأزهار نفسها؟»

اقتربت بحذرٍ مِنْ تجمّع أزهارٍ لم يعرف أيًا منهما نوعها، كان على مقربة منهما، فرآى أنّ هذه الأزهار هي من تضحك برقّة وتتمايل بخفّةٍ وحين اقتراب أليس مع الأرنب الضخم غطينّ وجوهنّ خجلًا من الضّيوف الجدد لعالمهم.

تجرّأت إحداهن ذات لون أبيض ومتدرّج بنهاية أوراقها إلى البنفسجي الفاتح، حيثُ كشفت عن وجهها الحَسن المُتمثّل بعيونٍ ناعسة ورموشٍ طويلة وفَمٍ ورديٍ صغير اصطبغ بلون حواف تويجاتها، راحت ترمش عدّة مرات بدلالٍ بينما احمرّت وجنتيها البيضاء خجلًا من تحديق أليس فيها بإعجابٍ مع الأرنب الضّخم بصمتٍ.

لم تشأ الزهرة أن يستمر الوقت على هذهِ الحالة فنطقت بنعومةٍ تامّة بينما تتحرّك بدلالٍ لطيف خافضة بصرها للأرض:

«مرحبًا بكم...»

لم تَعرف ماذا تقول أكثر من هذا، فَتحدّثت أليس والابتسامة تعلو وجهها بينما بدأت بقيّة الأزهار بالكشف عن وجهها وتنظر بفضولٍ للضّيوف الجُدد:

«أهلًا، أنتنَّ جميلاتٌ للغاية!»

احمرّت الزّهرة خجلًا وغطّت وجهها مجدّدًا مع رفيقاتها، فشعر الأرنب بالضّجر قليلًا وتحدّث محاولًا طرد الخجل عنهنَّ؛ ليعرفوا ماذا يجب عليهم فعله:

«إذًا سيّداتي، أين يُمكننا أن نَحلَّ اختبار هذا العالم؟»

رمشت تلك التي رحّبت بهما عدّة مرّات ووزّعت نظرها على رفيقاتها، من ثمّ تلفّظت موضّحةً:

«لسنا كُلنا سيّدات، يوجد سادة كذلك» توقّفت أذنا الأرنب بصدمة وهو يوزّع أنظارهُ على الأزهار محاولًا معرفة مَنْ الذّكر فيهم، لكنّه لم يستطع ذلك، فقال محرجًا: «أعذريني لست أعرف كيف أميّز جنسكم».

قهقهت أليس بقوّة على الموقف، وما توقّفت إلّا بعدما وكزها الأرنب بإظفرهِ الطّويل، فتحدّث الزّهرة بعد سكوت أليس عن الضّحك مجيبة عن سؤال الأرنب السّابق: «السّيد مُزهر هو وجهتكم».

«وأين يمكننا أن نجده؟»

تساءلَ الأرنب، فعلت هسهسات من مجموع الأزهار وأخذن ينظرن لبعضهن البعض تحت نظرات الاستغراب التي علت ملامح كُلٍّ من أليس والسيد أرنب.

تباعدن عن الأعشاب الطويلة خلفهن فظهرَ من ّبينهن كائنٌ بدين، قصيرٌ مغطى بشتى أنواع الأزهار حتى أن وجهه لم يتبين من بينها، كان يسير بتثاقل ويقهقه بصوته الذي لم يَكن غليظًا بالنّسبة لسيّد.

«مرحبًا يا سَيّدات وسادة الحُسن، اشتقتُ لكم فعلًا!»

تَحدّثَ مخاطبًا الأزهار حولهُ ليصيبهم الخجل مجددًا وتتعالى منهم قهقات خجلة وناعمة، ثمّ وجه نـظرهُ صوب أليس والأرنب الضّخم، وتلفظ مرحبًا بهما أيضًا: «أهلًا، أهلًا بالضّيوف، مضى وقتٌ طويل مُنذ لم يزرنا الضّيوف».

شبكت أليس يديها خلف ظهرها ورفعت جسدها للأعلى واقفة على أطراف أصابعها كدلالة على حماسها، وتحدّثت بابتسامة واسعة: «أهلًا سيد مُزهر! يُسعدنا لقاؤكَ حقًا! أنا أليس وهذا السّيد أرنب».

باعد يديه الصّغيرتين عن جسده وصفقهما ببعضهما ولشدّة صغرهما بدا أنّه من الصعب للغاية تشابكهما أمام صدره، كان واضحًا عليه السّعادة بكلام أليس ولم تتبين لتكشف عن سعادته فخمنت أليس ذلك من صفقة يديه. بدا الأمر مضحكًا بالنسبة للسيد أرنب فغطى وجهه بأذنيه وأضحك يضحك بصمت، انتبهت لهُ أليس وقالت ساخرة منه قَبلَ أن تخاطب السّيد مُزهر:

«لَستَ تَفرق عنه كثيرًا... إذًا سيد مُزهر نَحن هنا للقيام بالاختبار، هلّا تُفصح لنا عنه؟»

«بالتأكيد!»

قالَ بحماسٍ مفرط، ففزعت الزّهرات وتعانقن بخوف، لتضحك عليهم أليس مع الأرنب الضخم. تلفظ السيد مُزهر قائلًا: «آسف عزيزاتي لم أقصد ذلك، إنّهن رقيقات للغاية الصّوت المرتفع يفزعهن».

أومأت أليس برأسها متفهمة، وشعرت بالإحراج لضحكها عليهن عكس الأرنب الذي لم يراوده الإحراج أبدًا، تجاهل السيد مزهر الأرنب الضخم وتَحدث مع أليس عن غايتهم هنا: «لقد عبرتما المراحل السّابقة بمهارة، لنرى ما إذا كنتما ستعبران هذه المرحلة بسهولة كذلك».

تبع كلامهُ ضحكة خافتة وترت أليس قليلًا مع حركته حول مجموعة الأزهار ببطئ وتثاقل، وأكمل كلامهُ قائلًا: «للفانتازيا تقنيات سرد متعدّدة ومختلفة يُمكن للكاتب استخدامها حسب ما يراه مناسبٍ لعمله الرّوائي».
شبك يديه خلف ظهره المليئ بالأزهار فأمسك الأرنب الضخم ضحكتهُ بصعوبة لقصر يداه محاولًا التركيز بكلامه لفهم الموضوع، بينما انزعجت أليس من رفيقها السيد أرنب فوكزته بمرفق يدها وحدقت به بغضب قبل أن تعيد تركيزها للسيد مُزهر سائلة وحاثة إياه على الشّرح: «وكيف يكون ذلك؟»

«في العمل الرّوائي، لا يكفي مناقشة الحبكة أو الصّراع فقط، أو تحليل الشّخصيّات وإظهار علاقاتها مع المجتمع وعمق مشاعرها وتفاعلها مع الأزمة، لدينا أمور أخرى تستحق النّظر لها والاهتمام بها كالخطر العجائبيّ على الشّخصيّات، مثير للاهتمام أليس كذلك؟
أو مناقشة الفكرة العلميّة ومدى اتّساق النّظريّة الطّبيعيّة مع معالجة الكاتب لها، ويحتاج الكاتب إلى معرفة وفهم هذه الفكرة حيث لا تغني أهميّتها عن بقيّة الأدوات النّقديّة الأخرى، لكنّها تكملة هامّة لها مرتبطة وخاصّة بالفانتازيا».

همهمت أليس بتفهم، وعلامات استفهام علت رأس الأرنب الضخم، فأكمل السيد مُزهر شرحه: «ولهذا توجد عدّة تقنيات سرديّة خاصّة بالفانتازيا يُمكن للكاتب أن يستخدمها؛ ليسهل عليه فهم الفكرة العلميّة لعمله الرّوائيّ، فهل تعرفان ما هي هذهِ الطّرق السّرديّة؟»

نفيا برأسيهما فتنهد السّيد مُزهر بينما يُكمل دورانهُ حول الأزهار اللّاتي أخذت أنظارهن تدور معه وتستمع لكلامه بتركيز كما أليس والأرنب الضّخم بينما يُحرّك أظافره الطّويلة جاذبًا انتباه المجاميع الأخرى من الأزهار المختلفة النّوع ومرعبًا إيّاهن.

أكمل السيد مزهر كلامه قائلًا: «من تقنيات السّرد المستخدمة في الفانتازيا (تقنيّة السفر عبر الزمن) ألديكما أيُّ معلوماتٍ عنها؟»

فرقعت أليس أصابعها وقالت مندفعة قبل الأرنب الضّخم: «انتقال الأبطال من زمنٍ لآخر قد يكون ماضي أو مستقبل!»

صفّق السّيد مزهر بيديه الصّغيرتين، وقال مُثنيًا على أليس بفخر: «أحسنتِ! والآن لأشرح لكم عن هذهِ التّقنية قليلًا».

هزّت أليس رأسها بحماسٍ لمعرفة هذه التّقنية السّرديّة بينما الأرنب سرح بتفكيره حزينًا على الحال التي انتهى به المطاف عليها ومتمنيًا عودته كما كان، لم يكن السّيد مُزهر مهتمًا للأرنب كثيرًا بقدر اهتمامه بأليس فقد شدّه شغفها لمعرفة الموضوع وكسب المعلومات وأعجب بهذا بشدّة.

توقّف عن الدّوران حول مجموعة الأزهار بعد أن لحظ أنّهن شعرنَ بالدّوار فتقدّم نحو الرفيقين وأكمل كلامه: «في آداب الفانتازيا الحريّة الأكبر تقابلها فرص ومشاكل أكثر؛ فالزّمن ليس تيارًا جامدًا في اتّجاه ثابت، خاصّة بعد ابتكار أدب الخيال العلميّ لفكرة السّفر عبر الزمن.
للسّفر عبر الزّمن معالجتين هل تعرفين أيًا منهما؟»

فكّرت أليس قليلًا موزّعة أنظارها على أزهار جسد السّيد مُزهر قبل أن تنطق بما لديها من معلومات: «أعتقد أنّهما الزّمن الصّارم وتأثير الفراشة... لست متأكّدة».

أنهت كلامها بنبرة متوتّرة، ليتحدث السّيد أرنب قائلًا: «ما هذان بحق خالق السماء!»

قال السّيد مزهر موضّحًا للأرنب ومكملًا شرحه: «إنّهما معالجتا تقنية السّفر عبر الزّمن وصحيحٌ جوابكِ يا أليس، سأشرح عنهما قليلًا، معالجة الزّمن الصّارم يكون مضمونها أنّ ما حصل قد حصل ولا مجال لتغييره رغم الانتقال للماضي أو المستقبل، وباستخدام هذه التّقنية يجب تركيب الأحداث في صورة مركّبة متناسقة، حيث لا يغير البطل شيئًا بالزّمن الذي سيعيشه مرّتين، ويكشف جانبًا آخر ويركّز على فكرة القَدريّة بالعيش مرّة أخرى بالزمن، فالقدر ثابت ولو تغيّرت المعطيات الثّانويّة».

رمشت أليس عدّة مرّات محاولة استيعاب ما قاله السّيد مُزهر، ليتساءل الأرنب قائلًا: «ماذا عن المعالجة الثّانية؟»

«والمعالجة الثّانية تأثير الفراشة، نفترض فيها حدوث تغيير هائل بالأحداث بسبب تغيّر بسيط»

«كيف هذا؟» تساءلت أليس.

«تتغيّر الصّورة الكليّة في كلِّ مرّة يتمُّ بها السّفر عبر الزمن، والتركيز هنا لا يكون على مجرد حدوث اختلاف في الزّمن وإنّما على حدث بسيط أدّى عبر الزّمن وإلى سلسلة من أحداث متتاليّة لفارق ضخمٍ غير متوقّع، ولهذا تكون الفكرة مبنيّة على نظريّة تأثير الفراشة، خفقات أجنحة الفراشة قد تؤدّي إلى إعصار» أجاب السّيد مُزهر ففتحت أليس عينيها على وسعها باهتمام، وحكَّ الأرنب أذنيه باهتمامٍ كذلك، ليكمل السيد مُزهر مضيفًا: «وفي هذه المعالجة لا شيء فوضويّ أو عشوائيّ وأيُّ اختلاف متغيّر بسيط يبدو ثانويًا قد يؤدّي إلى إحداث تغييرات هائلة... هل تعرفان تقنية ثانية للسّرد الفانتازي؟»

حكّت أليس رأسها وصمتت لبعض الوقت قبل أن تقول: «قرأتُ ذات مرّة في أحد فهرسة الكتب عن تقنية اسمها (عرقلة السّحر في صالح البطل) ولكن لست أعرف عنها شيء فقد قرأت الفهرست فقط».

هزَّ السّيد مزهر رأسهُ بتفهم، ووجّه سؤالًا للأرنب الضّخم: «أنت! هل تعرف عنها شيئًا؟»
ارتعب الأرنب قليلًا السّؤال وتردّد بالإجابة، لكنّ نظرات مجموعة الأزهار شجّعته التي لم يعرفا نوعها للآن بحماسٍ لإجابته، فاسترسل ببطئ قائلًا: «حسنٌ... أعتقد بأنّه أن يكون السّحر ضد البطل فإنّه يزيد من فرصة وقوة الصّراع عبر إضافة مشاكل أخطر له أو هكذا».

حمحم بعد جوابه متوترًا مع حضور الصّمت من الجميع، ليُكمل مع بعض الشّرح البسيط: «القوى الملحميّة لمعركة قوى الخير والشّر أكثر استخدامًا في أدب الفانتازيا، والسّحر أو القوى الخارقة أحد أدوات هذا الصّراع، صحيح؟»

أومئ السّيد مُزهر وصفق بيديه سعيدًا بالإجابة، وأكمل معقبًا على كلام الأرنب الضّخم ومكملًا الشّرح: «أحسنتَ فعلًا، استخدام السّحر لصالح البطل تقنية صعبة للغاية؛ لأنّها إمّا أن تعني أنْ يواجه البطل صراعه بالسّحر قبل أن يشتدَّ هذا الصّراع فيكون انتصارًا سهلًا، أو أنّه لا يستخدمه أصلًا، ويكون لدينا سؤالٌ هنا لمَ لا يستخدمه؟»

صمت منتظرًا جواب من أحدهما، فتحدّثت إحدى الأزهار قائلة بحماسٍ طفيف: «توجد تقنيات هنا لعرقلة السّحر».

«صحيحٌ يا جميلة أزهار الجُنجُر!»

خجلت الزّهرة من مديحه فاختبأت خلف إحدى رفيقاتها وعلت ضحكات بقيّة الأزهار، بينما أكمل السّيد مُزهر مقهقهًا بقوّة: «لدينا ثلاث تقنيات لعرقلة السّحر، سأشرح لكما عنهم، أوّل تقنية هي (تقنية التّعليم) ويكون البطل فيها غير مدركًا لقوّته إلا بالتّعلم والدّراسة، وظهرت هذه التقنية حتى لا يساء استغلال ما يتعلّمه، هل تعرفان التّقنية الثّانية؟»

نفيا برأسيهما، فأكمل بينما يداعب إحدى الأزهار بلطف: «التّقنية الثّانية هي (تقنية التّحريم)، ويكون استخدام السّحر محرمًا في حالات معيّنة، وتمتاز هذه التّقنية بالقدرة على اختراقها في بعض الأحيان، أمّا عن الثّالثة فهي (تقنية الكربتونايت أو العجز) وهي مستوحاة كما هو موضّح من نقطة ضعف سوبرمان أمام تلك المادّة التي تبطل قوته أو تضعفها، وهي تشبه كعب أخيل ولكنّها ليست جزءًا من البطل وتستخدم لمنعه من دخول مكان أو تكون سلاحًا ضدّه».

أنهى كلامه، موجّهًا رأسهُ عديم الملامح إلى أليس والأرنب الضخم، فطرحت أليس سؤالها: «معلوماتٌ قيّمة! ألم نصل للاختبار الآن؟»

«بالتّأكيد! لقد حللتم الاختبار بالفعل!»

صدما كلاهما من كلامه فتساءل الأرنب خافضًا أذنيه للأسفل: «وكيف ذلك؟»

«الأسئلة التي طرحتها عليكما واجبتما عليها هي كانت الاختبار! أحسنتما عملًا، يُمكنكما عبور البوّابة الآن» ضحكَ بينما يتحدّث مخاطبًا إياهما، واقترب من الأعشاب العالية خلف مجموعة الأزهار وأزاحها جانبًا ليظهر بابًا خلفها، سعادة غمرت كلاهما لسهولة اختبار هذه المرحلة فصرخت أليس بفرحٍ شاكرة السّيد مُزهر والأزهار كذلك، وركضت نحو البوّابة جارّةً الأرنب الضّخم معها الذي أمسك بقبّعته محافظًا عليها من السّقوط.

ارتطمت أليس بكتف السّيد مُزهر حينما مرّت من قربه قبل أن تدخل البوّابة فسقطت من جسدهِ وردة بيضاء تنزفُ دمًا، عَبرتْ معهم البوّابة.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top