زلّاتُ عاطفيّة

«وأخيرًا!»
تمتمت بهذه الكلمات عندما وصلت لوجهتها المنشودة، وهمّت من خلال البوّابة التي كانت تعتليها لوحةٌ قد دُوّن عليها ما يلي: «النّاقد، معالجٌ ومستشارٌ نفسيّ.»

تمشّت باستحياءٍ كعادتها نحو المستقبِل الذي كان منغمسًا في عملهِ، ممّا جعلها تقف متردّدةً عن طرح سؤالها، وبينما كانت هي مُنتظرةً المُبادرة، همّ الآخر يرحب بها ويتأكّد من موعد حجزها، فيخبرها أنّ بعد قليلٍ سيأتي دورها للدّخول.

ذهبت لأحد مقاعد الانتظار، الّتي تقبع بعيدًا عن الأنظار، لكي تنعم بالهدوء.

عندما حان موعد دخولها، أشار إليها الموظّف بالتّوجّه إلى غرفة المُعالج، فدخلت عليهِ وابتسامتها الحزينة قد سبقت حديثها، ممّا جعل ذو الشّعر البُني يُدرك البعض من حالتها.

«أهلًا بكِ آنسة عاطفيّة، كيف حالك؟»

«في الحقيقة لستُ بخير.»

أجابت ذات العيون الزُّمردية بصوتٍ يشوبه الحزن وتبعت جوابها بعد ذلك بتنهيدةٍ قصيرة، جعلت على إثرها استفسار ناقد بلُطف:

«من الواضح أنّكِ مستاءة، هلّا شرحت لي سبب ذلك؟ فكُلّي آذان صاغيةٌ لكِ.»

بعدما أنهى جُملتهُ، ارتسمتْ على شفتيهِ ابتسامة هادئةٌ كمظهرهِ، جعلت من الأُخرى ألّا تتردّد بالإفصاح عن ما أتت من أجلهِ:
«عندما طرقتُ بوّابة عالم الواتباد، ذُهلت من إقبال الكُتاب عليَّ، وظننتُ حينها أنَّي سأسمو بأقلامهم في سماء الأدب العربي وسأتفوّق بتميّزي على نظيراتي -الفئات- ولكنّ الأمور جرت على عكس ما كُنت أتوقّعه، تمامًا.»

كانت تتكلّم مطأطأةً الرّأس، فشعر النّاقد وكأنّها خجلة من وضعها، فعزّز منها متفوّهًا باهتمام: «وما الذي كان عكس توقّعاتكِ؟»

لكنّها لم تنبس ببنتِ شفة، ووضعتْ يدها على كتفها وشعور الخيبة لا يكفُّ عن الظّهور على ملامح وجهها. بادر المُعالج في تقديم كوب ماءٍ لها مُعلّقًا باطمئنان: «تفضّلي، واعلمي أنّ ليس كُل ما نتعرّض له نحن مسؤولين عنه بل تتجلّى مسؤوليّتنا في حلِّ مشاكلنا وتقبّلها.»

وافقت على كلامهِ بهزِّ رأسها، وبعد ارتشافها لقليلٍ من الماء أخذتْ نفسًا عميقًا وأردفتْ بخفوتٍ: «قد استعملني الكتّاب بطريقة سيّئة وقد تكون شنيعةً بحقّي!»

كان النّاقد مستمعًا لحديثها الّذي بدت نبرته منفعلة: «تخيّل معي سوء أحوالي! الفكرة والمغزى الذي يُبنى عليه أساس العمل الأدبيّ سيّئان ومُبتذلان لدرجة أنّه يُضرب المثل بهما على مدى سوئهما، كرواية جونغوك واسمك!»

تنهّدتْ بعُمق، ومن ثُمّ أكملتْ بعدما رأت إنصات النّاقد الذي يبعث للنّفس بالارتياح:
«أمّا عُنصر الواقعيّة فقد قرّر الاستقالة من  فئتي، عندما شَهِدَ مجزرة المنطقيّة تلك.»

وأضافت بسخريّةٍ أثناء مسحها لدموعها: «إنّني لا ألومه على تصرّفهِ، فمن يرضى بعملٍ أدبيٍّ تدور فكرته حول زواجٍ إجباري تتعرض له البطلة، وتعنيفٍ جسديٍ ونفسيٍ في القبو، وفي النّهاية يصبحان عشيقين وتسامحه المسكينة، لأنّه يحبّها ولا يقصد ضربها، فهو فقط شخصٌ عصبي. أين المنطق هنا؟ وأيُّ كرامةٍ تحمل هذه المرأة؟ أيوجد حبٌ هكذا؟ هذا تصوير خاطئ عن مشاعري.»

وجّهت نظرها إليه وأردفت بيأس: «ما الحلُّ إذًا أيّها النّاقد؟»

لاحظ المُعالج انفعالها، فطلب منها قائلًا بعطف: «استلقي على السّرير أولًا، وبعدها سأفسّر لكِ الحلول.»

امتثلت لذلك ذات الفستان السّماوي، وانطلق صاحب الهيئة الحيويّة بالحديث: «يجب عليكِ صياغة أفكاركِ من الابتذال إلى الابتكار.»

انتبه لعدم إدراكها لمقصدهِ، فأكمل موضحًا: «فعلى سبيل المثال، قصّة جونغوك واسمك، عليكِ أن تضعي لكلِّ سببٍ مُسبّب.»

فأردفتْ مستفهمةً: «ولكن كيف؟»

عدّل معطفهِ الأصفر، وأجابها بلينٍ: «بدلًا من جعلكِ الأبطال يقومون بتصرّفاتٍ بلا سبب، ضعي سببًا مقنعًا وبذلك ستجعلين عُنصر الواقعيّة يحضر عملكِ، وبدورها الحبكة ستقوّي من نفسها، . مثلًا أن تجعلي سبب خضوع البطلة -اسمك- للتّعذيب واستسلامها له هو مرضها باضطرابٍ نفسي، كمتلازمة ستوكهولم، أو حادثةٍ حدثت معها في الطّفولة، وهكذا مع كُلِّ علّة تتواجد في القصّة.»

فهمهت قائلة: «حسنًا.»

ومن ثمَّ استرسل النّاقد مُكملًا: «أمّا الصّور النّمطية لكِ، كأن يكون الفتى شابًا وسيمًا وذكيًّا، والفتاة حسناء من طبقةٍ فقيرةٍ، وغيرها من السّمات المتكّررة بشكلٍ مُملٍّ لشخصيّات القصّة، فاحرصي على تجنب الرّتابة والتّكثيف من الإبداع الذي تفتقدينه غالبًا، بابتكار صفاتٍ ومعانٍ تحمل الابتكار مابين طيّاتها. ببساطة، حاولي أن تتحّدثي عن أشخاصٍ بسطاء واقعيّين. فتاة بشعرٍ مجعّد مثلًا وبطن منتفخة قليلًا؛ فهذا عادي جدًا؛, لا يجب أن تكون الفتاة مثاليّةً ذات قوامٍ ممشوقٍ ليقع في حبّها أحد، أليس كذلك؟ والأمر سيّان على الشّاب، فلا بأس لو كان لباسه بسيطًا، لا بأس لو كان يعمل عمًلا عاديًا وليس رجل عصابات. وأيضًا لا بأس لو كان مراعيًا مهتمًا لا معذبًا قاتلًا، فالبساطة جميلة، لكن هذا لا يعني أنّ الصّفات الأخرى مبتذلة بل تكرار وسوءُ استخدامها هو ما جعلها على حالتها تلك.»

فتلفّظت قائلةً: «معك حقّ.»

وبعد هنيةً، نادت اسمه بترددٍ: «أيّها النّاقد.»

فترك القلم على الطّاولة فيما كان مشغولًا بتدوين المُلاحظات، وأجاب: «نعم؟»

فاستفهمت بضجرٍ بينما كانت تعبث بأصابع يدها: «كثيرًا ما يُردّد القُرّاء بأنّ قراءة رواية تصنّف ضمن فئتي بأنّها مضيعةٌ للوقت، فبرأيك لو اعتنيت بمُلاحظاتك السّابقة هل ستحلُّ هذه المُشكلة أيضًا؟»

ختمت جُملتها بالكفِّ عن العبث بأناملها، ووجّهت نظراتها الحزينة نحوه، والآخر كان مُنصتًا  ومُحللًا لكلِّ حرف تتفوّه بهِ، لكي يفهم تركيبة شخصيتّها بشكلٍ أدق.

فأجاب وابتسامتهِ المُطمئنة لا تُفارق وجهه الحنطي: «سيُحلُّ قسمًا ضئيلًا منها، أمّا القسم الأكبر فلم نتكلّم عنه بعد.»

وتزامنت معالم الحيرة مع نبرتها التي تساءلت: «وما هو هذا القسم؟»

أخذ المُعالج وضعيّة الشّرح، من خلال بسط يديه وتثبيت بصرهِ عليها، وشرع في الحديث قائلًا: «نحن البشر بطبيعتنا نُحبُّ استنتاج قيمةٍ مُفيدة عندما نتتهي من مُمارسة شيء ما، بالتّالي عندما نقرأ عملًا لا يحوي مغزىً يتطبّع في أذهاننا، بل نجد بدلًا من ذلك أفكارًا مبتذلةً وسيّئةً بقوالب نمطيّة -كما ذكرنا آنفًا- فمن الطّبيعي أن يتذمّر القارئ من اشتمال فئة العاطفيّة فقط على العلاقات مابين الفتى والفتاة. مُتناسين بذلك الكُتّاب أنّكِ تحتضنين جميع العلاقات الإنسانيّة ما دامت تحتوي على مشاعر الحُب والمودّة، مثل: العلاقة ما بين أفراد العائلة، كحُب الابن لوالديه، أو حتّى العلاقة ما بين الأصدقاء، والإخوة وهكذا حتّى ينتهي الأمر بنا إلى علاقة الطّفل مع لعبته المُفضّلة.
فعندما تخرجين من منطقة الأفكار التي أودت بكِ إلى هذا الحال إلى منطقة التّجديد والابتكار فالمغزى سيتواجد تلقائيًا ضمن العمل الأدبي، إذ ما وظّفت الفكرة وبقية العناصر بشكلٍ مُمتاز. هل كلامي واضحٌ ومفهومٌ إلى هُنا؟»

غيّر نبرتهِ في آخر حديثهِ إلى التّساؤل، فأجابت وهي تدلّك رأسها: «أجل.»

تبع ردّها تنهيدة، حلّلها النّاقد على أنّ العاطفيّة تشعر بالتّعب، فابتسم وتفوّه بنشاطٍ: «إلى هنا نصل إلى ختام جلستنا المميّزة هذه، فيبدو أنّكِ مُرهقة نوعًا ما.»

سكت منتظرًا ردّة فعلها، فأومأت بخفّة، فأكمل كلامهِ بينما استقام للتّوجه إلى مكتبهِ: «موعدكِ القادم بعد غد، وأرجو أن تكوني مطبّقةً لما تناقشنا فيهِ اليوم، لكي يسعني الاستماع إلى ما تبقّى من مشاكلكِ.»

عندما أنهى كلامه أرفق قصاصةً تحوي موعد الزّيارة القادمة، فتناولتها وهي تشكره على حُسن الاستماع،  ثمَّ ودّعته منصرفةً إلى الباب.
_______

ما رأيكم بمشكلة الفئة العاطفيّة؟
وهل أعجبتكم حلول ناقد؟

وكذلك هل لديكم حلول أخرى تودّون أن تطرحوها للفئة؟ فهي تحتاج مساعدتكم لكي تتدارك وضعها، أُتركوا أجوبتكم في قسم التّعليقات.✨

كانت معكم مزن.🖤

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top