جلسة تعارف
في غرفةٍ واسعة يُغلّفها البياض من كلَّ جهة جَلسَ السّيد ناقد على تلك الأريكة المريحة المطابق لونها للونِ الغرفةِ بالضّبط، والمقابلة للكنبة التي تَفصل بينهما مسافةٌ لا بأسَ بها، ومائلةٌ بزاويةٍ بسيطةٍ لتحاذي الطّاولة البيضاء القابعة أمامها والخالية مِنْ أيِّ شيءٍ، عدا كوبٍ مِن الماء وعلبة مناديل ورقيّة للحالات المستعجلة.
سَحبَ مسند أوراقهِ الأسود، وتصفحَ بعينيه البنيتين مواعيدَ اليوم مَعَ حلولِ الوقت الّذي مِن المفترض أن يكون صاحبه حاضرًا ولكن الظّاهر أنّ شيئًا ما قد أخره، لم يبدُ عليه الانزعاج مطلقًا فكانت بوادر وجههِ هادئة، وكأنّه يَعلم أنّ مريضه في الطّريق وهو قريبٌ جدًّا من الوصول؛ لذا أراحَ ظهرهُ على الأريكة وشبكَ يداه ببعضها واضعًا إيّاهما على بطنهِ، وبالفعل ما هي إلّا دقائق معدودة، وكانَ قد دخلَ مريضهُ بَعدَ أن طرق باب العيّادة ليأذن له بالدّخول، ويتحدث مُرَحِّبًا بابتسامته الواسعة والصّادقة: «أهلًا آنسة عاطفة، يبدو أنّه هناك ما آخركِ عن الموعد.»
«مرحبًا، أعتذر لتأخّري حقًا فزحمةُ المواصلات كثيفةٌ اليوم.»
أومأَ المعالج النّفسي للفئةِ العاطفيّة الّتي طَلّت بزيها الزّهري الفاتح والمريح للعين، مُبعدةً خصلاتٍ مِنْ شعرها الزّهري عن وجهها بقليلٍ مِنْ الإحراج لتأخّرها بموعدها الأوّل، بَينما تفكّر في بقيّة المواعيد مع معالجها النَّفسي وماذا سيحدث لها، إن كانت أوّل مرّة لها هكذا.
بقيت واقفة بالقربِ مِنْ البابِ تُمسك بحقيبة يدها والتّوتّر بادٍ على ملامحها المريحة للعين، فحاولَ الآخر أن يجعل الأجواء طبيعيّةً لكي يُبعد التّوتر عنها وأشارَ لها أن تتقدّم نحو الكنبة وتأخذ راحتها في المكان، فأومأت له الأخرى مبادلةً إيّاه الابتسام.
جَلست، ليجلس هو بدورهِ كذلك على أريكتهِ البيضاء، وكبدايةٍ رسميةٍ عَرَفَ بنفسهِ لها قائلًا:
«أنا ناقد، معالجك النّفسي وصديقكِ في آن واحد، أرجو أن نتعرّف أكثر على بعضنا البعض في الأيّام القادمة، ونصبح مقرّبين أكثر، ورجاءً خذي راحتك في المكان، وتصرّفي بكلِّ طبيعيّة.»
ابتسامةٌ طفيفة ارتسمت على محيا الفئةِ العاطفيّة وأومأت برأسها بخفةٍ مُزيحة أنظارها خجلًا عن ناظريه وتَلفّظت بالردِّ عليهِ بصوتها النّاعم قائلة:
«تَشرّفتُ بمعرفتكَ سيّد ناقد، وبالمناسبة أنا عاطفة.»
«تشرفنا، إذا كيفَ حالُكِ آنستي؟»
كان يعلم أنّ لهذا السؤال تأثيرًا كبيرًا لكشفِ دواخلِ الفئةِ العاطفيّة وما يثقلها لذا حرصَ على بدءِ حديثهِ معها به، وبالفعل ما بانَ مِن الفئة العاطفيّة غيّر الحزنِ الّذي غَلّفَ بريقَ عينيها الخضراوتين وجعلها تَبهت، ما أجابت فورًا بل رسمت ابتسامة حزينة على ثغرها وطالعت الأرض بحسرةٍ لبضعِ ثوانٍ ثُم نَبست بخفوتٍ قائلة:
«لا أعلم، كلّ ما أشعر بهِ هو الحُزن الشّديد على ما يعتريني من أخطاءٍ كثيرةٍ ومفهوماتٍ خاطئةٌ عني.»
كان جوابها كفيلًا لتوضيح الضّياع في نفسها ومدى معانقة الحزنِ لها، ممّا جعلَ الطّبيب يَشعر ببعضِ الحزنِ عليها ولما تعانيه فتحدّثَ قائلًا بعدَ أن أتمّت حديثها:
«لا بأسَ حقًا، سأساعدكِ على تخطّي حزنكِ هذا والتّخلص مِنْ كل ما يعتريكِ وما هو معروفٌ عنكِ.»
ابتسمت برضى مع وقعِ كلماتهِ على مسامعها، فاستأنف حديثهُ قائلًا:
«إذًا كبدايةِ سيسعدني كثيرًا لو تعرّفتُ عليك أكثر، على ما تحبّينه وما تكرهينه، على عاداتك ويوميّاتك، كلَّي آذان صاغية.»
ابتسمَ بمرحٍ عند نهاية كلامهِ فضحكت بخفة وسَحبت نفسًا قَبلَ أن تُنفّذ ما طَلبهُ منها:
«أنا الفئةُ العاطفيّة، في عقدي الثّالث مِن العُمر، كما هو معرفٌ عني بشكلٍ واسعٍ أنّي أُمثل العاطفة، المشاعر الذّاتية التي يتم التّعبير عنها من خلال الكتابة، فأنا أحتوي الأعمال الأدبيّة التي تُعبر عن تِلك المشاعر التي تَعكس بواطن الشّخصيّات بشكلٍ واضحٍ.»
كانت كلماتها غيرُ متتابعة، فتفكّر لبضعِ ثوانٍ لِتكوينِ جملتها بَينما تُقلّب أنظارها بَينَ عُلبة المناديل الورقيّة وأنظارِ السّيد ناقد التي بَدت لها أنّها مهتمّة ومركّزة على كُلِّ حرفٍ تَنطُقهُ وهذا ما جَعلها تُحاول التّعريفَ عن نَفسها بشكلٍ واضحٍ ومُرتب.
تَبعَ تَعريفها همهمات مِنه، ليتحدّث قائلًا وعلى محياهُ استقرّت ملامح الهدوءِ مما منحها بَعضَ السّكينةِ والرّاحة بشكلٍ غريب:
«هَل هنالكَ شيءٌ ما يُميّزكِ بما تَحتويه وتُمثيله؟»
رَمشت الفئةُ العاطفيّة عدة مراتٍ قَبلَ أن تستوعب كلماته وتُجيب هازة رأسها بالإيجابِ:
«نَعم! نَعم! هُناك ما يُميّزني بالفعل، إنّها الحيويّة والقوّة؛ لكوني أنقل مشاعر الشّخصيّات الرّوائية للقارئ فبالتّالي يتطلّب الأمر الحيويّة والقوّة ليؤثّر بذلكَ على مشاعر القُرّاء؛ لهذا لي أثرٌ كبيرٌ في نفوسِ القُرّاء وهذا ما يجعلني مستمرةً وثابتةَ التّأثير.»
«جيّد، إذًا بما أنكِ تتميّزين بالحيويّةِ والقوّة هل يوجد شيء معيّن تعتمدين عليه بالأعمالِ الرّوائيّة؟»
كانت نبرته هادئة ورزينةً ساعدت الفئة على الاندماجِ معها، فَلم تَشعر بنفسها إلّا وهي تُجيب بِكلِّ سلاسةٍ وثقة وقد زالَ الخجلُ الذي كان يلازمها بسببِ تأخّرها، فراحت تتحدّث قائلة:
«كما ذَكرت سابقًا ما يُميّزُني هو الحيويّة والقوّة؛ لذا ما أعتمد عليه مُرتبطٌ بهما، فأوّلًا أعتمد على قوّة الأسلوب، فالأسلوب يعتبر مدخلًا كبيرًا في إثارة العواطف، فلا يستطيع الأديب نقل أحاسيس وعواطف شخصيّات روايته إلَّا بقوةِ أسلوبه وكذلكَ أعتمد على ترابط العواطف طوال الرّواية بعضها البعض؛ فلا ينتقل الأديب من عاطفة إلى أخرى من غير صلةٍ بينهما فهذا يسبّب التّشويش للقارئ.»
عَدّلت شَعرها الزَّهري مُقلّبة أعينها بالمكانِ كأنّها تَستذكر ما لديها مِنْ كلامٍ بَعد، فَتركَ ناقد المساحة لها وأعطاها وقتها للتّذكر وترتيب كلامها بشكلٍ جيّد؛ لتتلفّظ بعدَ ثوانٍ عديدة مِن التفكير قائلة:
«يَجب أن تكون العواطف الظّاهرة في العمل الأدبي خصبةً غنيّةً ومتنوّعة، فحتّى يتمكّن الأديب مِنْ خلقِ شخصيّةٍ تُمثّل نواحي الحياة ووصفها وصفًا دقيقًا، يحتاج إلى غزارة العاطفة وتنوّعها.»
أنهت كلامها مُبلّلةً شفتيها ومُركّزة مع السّيد ناقد وبما سيجيبها، فهمهمَ الآخر بتفهّمٍ وشبكَ يداهُ معَ بعضهما موزّعًا ناظريهِ بينما يتحدّث بينَ مسندِ أوراقهِ على الطّاولة والفئةِ العاطفيّة:
«يُشاع الكثير عَن أنواعكِ بأنكِ تتناولينَ فقط الحبّ بَينَ رجلٍ وامرأة، فهل لي بقولكِ عن هذهِ الإشاعات؟»
بدا الحُزنُ جليًّا على محياها بَعدَ سماعها لكلامِه فَزمَّت بشفتيها حَسرةً قَبلَ أن تتحدث مجيبة إيّاه:
«إنّها فقط إشاعات شوهت سمعتي، فالحبّ لا يقتصر على مشاعرٍ بينَ رجلٍ وامرأة.»
«صحيح.»
وافقها الرأي، ثم طَرحَ سؤالهُ عليها قائلًا:
«إذًا، ليس هذا النَّوع الوحيد الذي تتناوليه مِن الحبّ؟»
«نَعم ليسَ هذا فقط.»
«أتوجد أنواعٌ أخرى؟ إن نعم عرّفيني عليها.»
تساءلَ وأخذَ يُركّزُ بكلماتها التي بدت متحمّسة بعض الشّيء، كما سعيدة وذلك راجعٌ لكونها وأخيرًا ستوضّح ما تحتويه مِنْ أنواع الحبّ المختلفة والمتنوّعة ومن تتحدّث معه مستمعٌ جيّدٌ لها وهذا ما زادها حماسًا:
«حقيقةً لا أقتصر بتناولِ نوعِ الحبِّ بين العاشقين فقط، بل هنالكَ أنواعٌ أخرى تَندرج تَحت مضمون الحبّ وأحتويها بدوري، فأنا في الواقع أرتبط بجميع المشاعر، منها حبّ الأبناء لآبائهم، ومشاعر الحبّ والاحترام بين الأخوة، وغيرها من المشاعر الأخرى، وليست حِكرًا على نوعٍ واحدْ فقط كما يُبين الكثير مِن الكتّاب، لذا أنواع الحبِّ كثيرة وجميعها تندرج ضمنَ أنواعي.»
ابتسمَ السّيد ناقد لحماسها اللّطيف ولبريقِ عيونها الخضراء الصّافية وأومأ بتفهّم بينما يتلفّظ:
«أنواعٌ كثيرة تندرج ضِمنكِ، ولكن ما هو شائعٌ ومتناول هو حبّ العاشقين فقط.»
«بالضّبط!»
بنبرةٍ مرتاحة يشوبها بعض الحماسِ تَحدّثت فئةُ العاطفيّة وسعادةٌ تغمرها فأخيرًا قد فَهمَ شخصٌ ما أنواعها الكثيرة، فابتسم هو بدورهِ لها وحدّقَ بساعةِ يدهِ قبلَ أن يُصوّب أنظارهِ البنيّة نَحوها قائلًا:
«يبدو أنّ وقت جلستنا قد انتهى.»
«بهذهِ السّرعة؟»
تَحدّثت بعفويةٍ، وما أن استوعبت ما قالتهُ حتى اكتسحَت الحمرةُ خدّيها ووضعت يدها على فمهما مطأطأة رأسها للأسفلِ خجلة، فما كانَ مِنْ السّيد ناقد إلّا أن يبتسم بودٍّ ويوضح لها قائلًا بنبرتهِ الهادئة:
«لقد مَضت ساعتان ونحن نتحدّث، لا بأسَ حقًا لدينا جلسةٌ أخرى يومَ غد وسنتحدّث بها أكثر.»
ابتسمت بخجلٍ بَعدَ أن أنهى كلامهُ ونهضت لينهض هو بدورهِ مودّعًا إيّاها بعدَ أن شكرته لحسنِ استماعهِ لها، لتغادر الغرفة وشيءٌ مِنْ الراحة يعتلي روحها، ربّما لأنّ أنواعها قد عُرفت الآن؟ من يدري.(؛
-كانت معكم ضاد.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top