ثروةُ في طفلٍ.
منذ أن تلقّيتُ دعوةً لإحدى حفلات دور الثّقافة لأقصّ عددًا من قصص الأطفال أثناء العرض، وأنا كلّما جلستُ في أيِّ مكانٍ أجد نفسي متقمّصةً دور الحكواتيّة، ولا أنسى ذلك اليوم الّذي كنتُ جالسةً في أهدأ ركنٍ بأحد المقاهي، وكنتُ مندمجةً آنذاك.
«... وكانت السّمكة سوسو مغترّةً بجمالها وترفض اللّعب مع أصدقائها، لأنّها أجمل منهم، حتى سقطت في شبكة الصّيّاد وظلّت تصرخ مستغيثةً، فتفاجأت بالجميع حولها يساعدها على الخروج والنّجاة من شبكة الصّيّاد...»
قاطعني سؤال أحدهم: «كأنّها قصّة للأطفال!»
فأومأتُ برأسي أوافقه رافعةً ناظريّ نحو ذلك الغريب الّذي اقتحم جلستي، فتابع: «لكنّي أرى لها مغزىً وهدفًا، وليست مجرد قصّةٍ للتّسلية».
سكتُّ أُتمتمُ داخلي: «وهل معنى أنّها قصّة للأطفال أن تكون مجرّد سُخفٍ لا معنى له؟ ألا تعلم أنّ الأطفال هم ثروة أساسيّة للأمّة؟ ألا تعلم أنّ حاجتهم للتّثقيف كحاجتهم للطّعام والشّراب؟ ألا تدري أنّ القصص هي إحدى وسائل أدب الأطفال والّذي بدوره إحدى أدوات التّنشئة الاجتماعية؟»
تنحنحتُ وأجبتُ بهدوء: «هو هكذا بالفعل، مزيج من التّسلية والأهداف، لأنّه أحد أنواع الأدب الموجّه للأطفال».
أبدو غبية نوعًا ما فسألته ما يجب أن أبدأ به بمجرّد رؤيته: «مَن أنت؟»
احتلت علامات الدّهشة ملامحه وأجابني بغرابة: «يمكنك قول أنّني عابر سبيل».
حملقتُ في ملامحه، هو شخصٌ عاديٌّ للغاية لكن بدا ظهوره مفاجئًا، ربما دخل من ذلك الباب المفتوح!
قاطع شرودي مرّةً أخرى وأسرع يسألني: «إنّ كلمة أدب مفهومٌ كبير، لا يمكن أن يُصنّف منه مجرد قصّة للأطفال!»
ابتسمتُ وتابعتُ بهدوء: «دعنا نتفقُ أولًا أن أدب الأطفال ما هو إلّا نوع من الأدب مقدّم للأطفال، أليس كذلك؟»
فأومأ يوافقني ثمّ جلس أمامي، ارتبكتُ قليلًا بعدها أكملتُ: «حسنًا، فهذا النّوع من الأدب له العديد من الوسائط والصّور الّتي تُقدّم من خلالها الألوان والمواد الثّقافية والأدبية للطّفل، والّتي منها الكتب، الصّحف والمجلّات، الإذاعة المرئية والمسموعة، مسرح الطّفل، وبالطّبع قصص الأطفال».
لم أنتظر المزيد من التّساؤلات وتابعتُ: «إذا بدأنا بالكتب والّتي هي المصدر الدّائم للمعلومات وأيضًا للرّاحة والسّرور، فإنّها تزوّد الأطفال بالمعلومات بشكلٍ مبسّط وموجز وسريع مقدّمةً لهم الصّور الذّهنية والفكرية والوجدانية أي ما يوافق عاطفتهم، ومفسّرةً لهم المعاني والتّصوّرات في شكلِ كلماتٍ أو رسومٍ مطبوعة.
لكنّ كتاب الطّفل الحقيقيَّ ليس كلّ كتابٍ مصبوغٍ بألوانٍ مبهرة أو حافلٍ بالحيوانات والطّيور والدّمى، إنّما في الأساس هو رسالة لنقل الخبرات الإنسانية والإبداعية والحضارية والمعرفية من إنسانٍ أكثر وعيًّا منه، لذلك عليه أن يحترم ويتفهّم ذلك الصّغير المتلقّي.
لذلك هناك خصائص وجب توافرها في أيِّ كتاب للأطفال:
١-أسسٌ نفسيّة:
تتمثّل في حاجة الطّفل إلى الاطّلاع وكثرة أسئلته الّتي لا تنتهي، حاجته للتّعبير وأيضًا حاجته إلى الاستمتاع.
٢-أسسٌ معرفيّة:
تتعلّق بتنمية معارف الطّفل ومعلوماته، خاصةً ما يتعلّق ببيئته، ومراعاةُ أن المادة المعرفيّة المقدّمة للطّفل ستكون جزءًا من خبراته.
٣-أسسٌ اجتماعيّة:
وفيها تنمية القيم والاتجاهات المرغوبة الّتي ترفع قدرة الطّفل على التّكيّف مع وسطه الاجتماعيِّ وتطويره.
٤-أسسٌ تربويّة:
وفيه مراعاة التّربية والتّأهيل دون افتراء على العنصر الفني في المادة الأدبية والّتي يجب أن تتّسمَّ بالجاذبيّة والمناسبة لعمر الطّفل».
أومأ لي قائلًا وهو يمسّد على لحيته البيضاء: «عظيم! وإن كنتُ لم أتفاجأ بكتب الأطفال كونها أحد وسائط أدب الطّفل، لكن ماذا عن الصّحف والمجلّات؟»
فأجبتُ: «هي أيضًا لا بدَّ أن تناسب عمر الطّفل والّتي قد تأخذ شكل الأبواب، وهي تتواجد في بعض الصّحف العاديّة الّتي تحتوي على ركنٍ أو باب للطّفل، ووقتئذ يكون تأثيرها هامشيًّا وهي تحتاج جهدًا حتى يمكن لتلك المساحة الضّئيلة أن تفيد الأطفال.
وهناك الصّحف المخصّصة للأطفال من الألف إلى الياء، فتجدها تقدّم تنوّعًا بين المعارف، الصّحّة، الآداب، الفضيلة، الأخلاق الحميدة والإحساس بالتّمتّع بالحياة، ولعلّ أشهرها مجلّات ميكي وبطوط...»
-«إذن ما الفرق بين الصّحف والكتب؟»
-«حقيقةً، لا يوجد وجه مفاضلة بينهما؛ فالمجلّة تأخذ من الكتاب عمقه ومعرفته، وتأخذ من الصّحيفة دوريتها ومظهرها وطريقة عرضها. أيضًا تكون لغتها أبسط، إضافةً إلى وجود أنشطة كالرّسم والتّلوين وحل الأحاجي والألغاز...»
ثمّ أكملتُ تلقائيًّا: «ننتقلُ لنوعٍ آخر وهو الإذاعة المرئية والمسموعة، والإذاعة المسموعة من اسمها، أي تعتمد على حاسّة السّمع في كلّ ما يصل إلى الأطفال، مع استعمال المؤثّرات الصّوتية المشوّقة، وهو يختلف عن الكتب والصّحف، فالكتب والصّحف يمكن التّوقّف والعودة إليها في أي وقت آخر، بعكس البرامج الإذاعية الّتي وجب أن تكون في منتهى الوضوح والسّلاسة والتّشويق لجذب الأطفال دون أن تتيح لهم أيِّ فرصةٍ للشّرود أو الانصراف عمّا يستمعون إليه.
ولغة البرامج الإذاعيّة يجب أن تكون بسيطةً وخالية من الألفاظ الغريبة والمعقّدة، ومن الضّروري أن تكون ذات خطٍ فكريٍّ متكامل وإلّا تحوّلت إلى مجرد فقرات متفرّقة.
ومن الألوان الّتي تُقدّم في البرامج الإذاعيّة: القصص والشّعر الغنائي ربّما بعض الأخبار المشوّقة والمقابلات...
لكنّ أهمَّ ما يميّزه انفعالات المقدّمين ونبرات أصواتهم ولهجاتهم المناسبة إضافةً لأهميّة وجود المؤثرات الصّوتية. ومهمٌ جدًا أن تكون الأصوات واضحةً ومحدّدة لا تختلط أو تتشابه. ولعلّ من أفضل الأصوات أداءً وتأثيرًا في نفوس الأطفال والكبار أيضًا (أبلة فضيلة)»
-«فعلًا، أحبُّ صوتها وحكاياتها!»
قالها بانتشاءٍ شديد فتابعتُ: «وأنا أيضًا أحبّها وأبحث عن تسجيلاتها في مواقع التّواصل الاجتماعي. أمّا الإذاعة المرئيّة والّتي تعتمد على حاستيّ السّمع والبصر معًا وما تستقبلانه من صور وحركات وأصوات. وهي تمثّل بديلًا للخبرة الحقيقية، فالطّفل لا تُتاح له فرصة مشاهدة حياة الحيوانات المختلفة في الغابات والكائنات في أعماق البحار فيمكنه مشاهدة ذلك من خلال برنامجٍ مرئيٍّ.
ولا يمكن إغفال مدى ما يتعرّض له الأطفال من سلبيات نتيجة مشاهدتهم لبرامج غير مخصصة لهم، لذلك وجب إشراف الآباء والأمهات.
ولأنّه أمر بالغ الصّعوبة فنتمنّى التّوسّع في إنتاج وعرض البرامج المناسبة للأطفال وإشباع خلفيّاتهم الثّقافية والإعلاميّة بالألوان الأدبيّة والفنيّة المختلفة. خاصّةً مع اتّساع فرص المشاهدة لأبعد من مجرّد جهاز التّلفاز بعد انتشار مواقع التّواصل الاجتماعي، وهذا ما يلزمه تقنين في استخدام الهواتف الذّكيّة والحاسبات.
وتتميّز الإذاعة المرئيّة بوجود الصّورة والحركات بتقنياتٍ مختلفة، وكما هو معروف أنّ وسائل الإيضاح كلّما اعتمدت على أكثر من حاسّة يكون أثرها التّعليمي أكثر جدوى وعمقًا، لذلك وجب وجود رسالة معروضة ذات مضمونٍ ومغزىً. حيث تتفوّق الإذاعة المرئيّة عن المسموعة والمطبوعة.
وما يزيد من خطورة تأثير هذه الوسيلة هو القدرة على نقلها إلى ملايين المشاهدين في مختلف الأنحاء بمجرّد كبسة زرٍ واحدة».
فأعرب قائلًا: «أرى الإذاعة المرئيّة أكثر أنواع الوسائل انتشارًا واستخدامًا من غيرها من وسائل أدب الأطفال».
فأومأتُ أوافقه: «فعلًا، ومن أسوأ أنواع البرامج المرئيّة تلك الّتي تبتعد تمامًا عن الواقع. صحيح أنّها تشبع رغبات الطّفل كثيرًا، لكنّها تسهم بشكلٍ كبير في تشكيل ألوان من السّلوك والابتعاد عن الواقع ثمّ تصادمه به عندما يجد أن هناك أصدقاء سيّئين وأنّ الجميع ليس بتلك الطّيبة والمثالية. أيضًا قد يختلط الأمر بشأن وجود أبطال خارقين أو تخيّله أنّه واحد منهم أو ربما يكون هكذا بالفعل. ولعلّ من أفضل برامج الأطفال المرئية الّتي راعت كلّ المعايير برنامج (عالم سمسم)».
فأومأ برأسه قائلًا: «أجل أعرفه، شاهدته ذات يوم وأتّفق معك بشأن التّأثير السّلبي للبرامج المرئيّة السّيئة، لكن ماذا عن شعر وأغاني الأطفال؟»
فأجبتُ: «شعر الأطفال يختلف عن شعر الكبار في بساطة فكرته، وأنَّه يحمل أفكارًا تمدّ الطّفل بمختلف الخبرات والقيم، المعاني الحسيّة الّتي يستطيع الطّفل إدراكها، إضافةً لبساطة المفردات نفسها ورِقّة الألفاظ. والشّعر أيضًا يشارك في تنشئة الطّفل الاجتماعيّة، ويزوّده بالحقائق والمفاهيم، واهتمَّ هذا الصّنف باحتياجات الطّفل الوجدانيّة، إضافةً لوجود نوع من الإيقاع الّذي يوحي بمعنى تلك الألفاظ. وبالطّبع تتلاءم شكلًا ومضمونًا مع مستويات نموِّ الأطفال الأدبيّة، العقليّة، العاطفيّة والاجتماعيّة.
أمّا أغاني الأطفال فهي لونٌ أدبيٌّ يصوّر جوانب الحياة، معبّرًا عن العواطف الإنسانيّة، مع وجود إيقاع ولحن يقبل عليه الطّفل، ذلك المحبُّ للأنغام والموسيقى منذ نعومة أظافره، وهي وسيلة لترفيهه وجلب السّرور له، تعبّر عن انفعالاته، تسمو بحسّه الفنيّ، تكوّن اتجاهاته وقيمه وطبعًا وسيلة ارتقاء بلغته».
أومأ مبتسمًا: «رائع بحق! ذلك الشّيء البسيط وأهميته القصوى!»
فعقّبتُ: «دومًا أبسط الأمور تكون بالغة الأهميّة والاستهتار بها ذو تأثيرٍ سلبيٍّ. ننتقل إلى مسرح الطّفل كوسيلة من وسائل أدب الأطفال. بالرّغم من قلّته لكن لا يزال وسيلة تفاعل حضاريّة متأثّرة بآليات كل عصر، خاصةً وأنّ الأطفال تكون جماهيرًا واقعيّة داخل صالة المسرح ممّا يتيح الاندماج المباشر مع العروض المختلفة، سواءً مثّل فيها الأطفال وحدهم أم بصحبة الكبار أو مثّل فيها الكبار وحدهم، أو عروض قائمة على العرائس والدّمى بمختلف أنواعها في عرض المسرحية، مثل: (اللّيلة الكبيرة)».
أومأ مجددًا معقّبًا: «اللّيلة الكبيرة بالفعل من أفضل عروض العرائس الّتي قُدّمت مظهرةً جانبًا شعبيًّا في الثّقافة المصريّة، لكنّه شيّق على أيّةِ حال رغم قدمه منذ عشرات السّنين...»
ثم أكمل بجدية: «ألا ترين أن مختلف الوسائل الّتي ذكرتيها قائمة على قصص الأطفال إلى حدٍّ كبير، الإذاعة المرئيّة والمسموعة، الكتب، الصّحف والمسرح، جميعها تحتوي على قصص بل ويعتمد على القصّة بشكلٍ أساسيّ؟»
فأومأتُ أجيبه: «أجل، فالقصّة تحظى بمكانة متميّزة في أدب الأطفال؛ حيث تُعدُّ من الفنون الأدبيّة المؤثّرة على السّلوك القيمي للأطفال، وبقيّة الوسائل تُعد صورًا لها. وهي أقرب الفنون الأدبيّة إلى نفس الطّفل، تشدّه بأبطالها وتثيره بأحداثها، فيستمتع بها ويطلب المزيد منها مرّاتٍ عديدة. فهي تبدأ من واقع الطّفل وتقترب به تدريجيًّا من عالم الكبار، جاذبةً للأطفال ليعيشوا أحداثها وقد تكون جادّة أو مرحة، واقعيّةً أو خياليّة.
ويُعدُّ من أهم أهدافها إثارة انبهار الطّفل والتّرفيه عنه وإسعاده، وهذا الانبهار يؤدي بدوره إلى إثارة ذكاء الطّفل وتذوّقه للجمال وتنمية حب الاستطلاع إضافةً إلى التّثقيف. وهي تنمّي بصفة عامّة الانتباه للأطفال، كما تدعم الثّقة المتبادلة بين الطّفل ومَن يحكي له القصّة».
-«لذلك وجب أن تكون قصّة الأطفال ذات مغزى وقيمة!»
فأجبته: «هذا صحيح، إضافةً لوجود أسسٍ ينبغي بها اختيار قصص الأطفال، ستجدها تتشابه مع أسس اختيار مختلف وسائل أدب الأطفال، فمن أهم معايير اختيار القصّة:
١-مناسبتها للطّفل، تناسب خصائصه العمريّة، مدى نمو قدراته العقليّة؛ لاستيعاب الخطاب الثّقافي بها.
٢-الاهتمام بالمحتوى، فيجب أن تكون موضوعاتٍ شبيهةً بخبراته الحياتيّة الّتي يتعرّض لها، كالعلاقات الأسريّة أو مع الأصدقاء، وأن يقدّم هذا المحتوى إجابات عن تساؤلات الطّفل من خبرات، تفسير للظّواهر الطّبيعية أو حقائق علمية، تاريخية أو اجتماعية. إضافةً لإثارة خيال الطّفل، وتساعده على الانطلاق في عوالم القصّة، وتنتهي نهاية سعيدة بانتصار الخير ومعاقبة الأشرار، وأن تكون حبكة القصّة متسلسلة دون وجود أحداث جانبية مع تجنّب الأحداث المبالغ فيها.
٣-أن تكون الشّخصيات مألوفةً لعالم الطّفل سواء من عالم الأسرة، الأصدقاء، الحيوانات، الطّيور...، وأن يكون عدد الشّخصيات قليلًا في الحدث ومناسبًا للخبرة الاجتماعية للطّفل. وأن يتضمّن أبطالًا يشبهون الطّفل في العمر والقوى، فيتوحّد معهم في عالم الخيال ويستمد من وجودهم الثّقة في قدراته. إضافةً إلى وضوح ملامح الشّخصيّات وطباعها وسلوكها.
٤-الأسلوب يكون قادرًا على إثارة عواطف الطّفل وانفعالاته، وأن تكون الجمل متوافقة وأيضًا تتماشى لغته مع قاموس الطّفل اللّغوي، إضافةً إلى بساطته وخلوّه من الزّخارف البيانية و...»
مع مَن كنتُ أتحدّث؟ أين اختفى؟ هل كنتُ أحدّث نفسي؟! أُصبتُ بسحر ساحرة البحار! يا إلهي!
كانت معكم رفيف المسحورة تحملق في ساقَيها متأهّبة للتحوّل إلى عروس البحور لتنقذ السّمكة سوسو.
ترى هل تعاملتم بصورةٍ مباشرةٍ مع أحد وسائط أدب الأطفال؟ أيُّ وسيلة منهم أثّرت في طفولتكم أكثر وأقبلتم عليها؟
المراجع:
أدب الأطفال- د/ محمد حلاوة، د/السّعيد بيومي.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top