بين الماضي والحاضرِ

(الحَبكة والواقعيّة في القصّة التّاريخيّة). 

ولجتُ لحجرة القائد يحتلّني الخوف والذّعر؛ لا أقوى أبدًا على توقّع سرِّ استدعاءه لي بهذه الطّريقة، وبعد عدّة دقائق من الانتظار مرّت عليّ كساعاتٍ طويلة رفع القائد عينيه متحدّثًا بصرامته المعهودة: 

«أمامك مهمّةٌ خاصّة وسريّة، ستذهب كي تعين الواقعيّة في الفئة التّاريخيّة، لكن قبل كلّٓ شيء اذهب وابحث جيّدًا... ولا تغفل عن إلزاميّة السّرعة والدّقة! أرتقبُ تقريرك في الغد!»

أومأتُ مطيعًا برأسي ثم استأذنتُ وانصرفتُ، خرجتُ أجول المكان مفكرًّا من أين أشرع برحلتي؟

وبعد التّفكير والتّدبّر عزمت قراري متجهًا إلى المكتبة لأحصد المعلومات اللّازمة في البداية ومن ثمَّ أعرضها، وبالطّبع لن أجد أفضل من مكتبة الأسكندريّة، وهي مكتبة لإحياء مكتبة الأسكندريّة القديمة، أكبر مكتبات عصرها؛ حيثُ تمّ تشييد المكتبة من جديد في موقعٍ قريب من مكان المكتبة السّالف، وفي المكتبة مجموعة كبيرة من الكتب تُقدّر أعدادها بعشرات الآلاف المختارة باللّغات العربيّة ومختلف اللّغات الأوروبيّة والنّادرة. 

خطوتُ خطاي متّجهًا إلى القاعة الكبرى فيها، المكان مبهر بحقّ! هادئ ومنظّم، وتلو ذلك تفقّدتُ الطّوابق للوصول إلى القسم المناسب، وتجوّلتُ وسط رفوف الكتب حتى اخترتُ عدّة كتب، واتّخذتُ جانبًا كي أرسو فيه، ومن ثمُّ فتحتُ الكتاب لكنّي لازلتُ مشدوهًا بجلّ ما يسجني، شاردًا بخيالي أننّي جالسٌ بالقرب من مكانٍ عريق أو ربّما هو، مكان مكتبة الأسكندريّة القديمة والتي كانت أكثر المكتبات شهرةً على الرُّغم من وجود مكتبات أخرى سبقتها، ومن الجدير بالذّكر أنّ المؤرّخون اختلفوا حول المؤسّس الحقيقيّ للمكتبة، لكنّ أغلبهم نسب ذلك إلى بطليموس الأوّل (سوتير) حيث كان واسع الثّقافة.

أقمتُ عودي مجّددًا لأتخيّر كتابًا آخر، لكنّي تفاجأتُ بالتّغيير الجذريّ لكلِّ شيء! اختفت الكتب، مجموعات الرّفوف، أجهزة الحاسبات، تصميم المكان نفسه والسّقف الزّجاجي المائل...

وغدا المكان متّسعًا تعجه الأعمدة المطرزة، وتسيجه الرّفوف على حواف الجدران المُكدّسة بأعدادٍ ضخمة من المخطوطات والبرديّات الملفوفة!

جلتُ بحدقتاي المكان سريعًا؛ فأبصرتُ جلّ الإنس حولي بهيئةٍ رومانيّة حتّى أنا نفسي مرتديًا ثوبًا على الطّراز الرّوماني! وعندما فحسب تيقّنتُ أننّي الآن جوف مكتبة الأسكندريّة القديمة؛ فابتسمتُ حتّى وأنا لا أعرف كيف جئتُ إلى هنا!

تفقّدتُ المكان مجددًا بسعادة محملقًا في النّقوش والزّخرفات الرّائعة، سرتُ نحو المخطوطات؛ فلديّ فضول جسيم لقراءتها، ومعرفة ما فيها من العلوم والرّياضيّات التي لقت دفعات مستمرّة صوب الأمام على أيدى علماء المكتبة وأمنائها ومنهم (أريستارخوس) الذى اهتدى إلى دوران الأرض حول الشّمس، (أيراتوستينيس) الذي تمكّن من قياس محيط الأرض، كتاب (إقليدس) المعروف باسم العناصر واخترع (هيرون) الآلة البخاريّة وغيرها...

وبالفعل شرعتُ بتفقّد بعضها؛ لكنّي تفاجأت بصوت أذان العصر فأرسيت كل شيءٍ مكانه؛ لكوني أودُّ تفقّد الأسكندريّة القديمة في ضوء النهار.

بغتةً فتحتُ عينيّ لأجدني قد كنتُ آخذُ غفوةً فوق الكتب، لا مكتبة الأسكندريّة القديمة أو دونه! تعتدلتُ جالسًا لأنهيَ تقريري، لكنّ أحدهم نادني وكان جالسًا بالقرب منّي فالتفتُّ إليه سامحًا له بالسّؤال:

«معذرةً، لكنّي كاتبٌ ولديّ بعض التّشويش وكنتُ بحاجةٍ للمناقشة مع أحدهم، ومن خلال الكتب التي معك أعتقد أنّك الشّخص المناسب، أتأذن لي؟»

أومأتُ بالموافقة؛ فاسترسل:

«لقد قرّرتُ كتابة روايةٍ تاريخيّة؛ فبالإضافة لحبّي للتّاريخ هي فئة مهمّشة، لكنّي أخشى تحوّل الأحداث لفوضى لا تُفقه، خاصةً مع تشابك الوقائع فيها». 

همهمتُ أجيبه بعدما أرسيت قلمي فوق كتابي على مسكن الطّاولة قائلًا:

«بدايةً انسج نسيجًا محكمًا يجمع بين الشّخصيّات والأحداث مع بيئةٍ خاصّة من اختيارك، هذه البيئة لها مظاهر حياة وصور محّددة، مقدّمة بوضوح وسلاسة دون أن تحوي ضجرًا أو فتورًا، فوازن بين الإسهاب والاختصار، ولا توّلد الأحداث من اللاّشيء، فالأحداث تتولّد من أحداث أخرى وجميعهم مرتبطٌ ومدمجٌ بإتقانٍ وسلاسة، فقد نبدأ من حيث انتهت الأحداث ثمَّ نعود بسرد مسبّبات هذه الأحداث دون أن تنفلت خيوطها أو حدوث فجوات يستشعرها القارئ». 

ففتح الشّاب دفتره وسجّل كاتبًا ومردّدًا:

«إذًا أخلقُ أحداثًا مترابطة ومتسلسلة دون إسهاب أو إيجاز، وأحققُّ السّببيّة جاعلًا لكلِّ حدثٍ سببًا واضحًا». 

أومأتُ مبتسمًا و باشرتُ مُكملًا:

«ويجدر بي أن أؤكّد على وضوح الحبكة والأحداث؛ فكاتب القصّة التّاريخيّة من أهدافه الإشارة إلى زمنٍ ما بعينه، وهذا الزّمن يلزم توضيحه خلال الأحداث، فأنا كقارئ أستشعر هذا الزّمن من وسط الأحداث الواضحة بل كأنّي أراه». 

ضمّتْ عيناه بريق الفقه بين ثناياها وأعتق دفتره محرّرًا إيّاه من كنف يديه ليثويه لكنف الطاولة جوار قلمي وكتابي.

«أجل، قد فهمتُ مقصدك، ففي قصّة (سوق الغرور) مثلًا، والتي بدت أنّها تحكي عن فتاتين غريبتيْ المزاج (إميليا أوزبورن) و(ربيكا شارب)، لكن في الحقيقة هي ليست قصّة الفتاتين فحسب، وإنما قصّة المجتمع الإنجليزيّ في نهاية القرن التّاسع عشر». 

«أحسنت، أيضًا لا تنسى الإيقاع والتّوقيت، أي سرعة سير وتكشّف الأحداث، فنجد مثلًا كُتّاب العصر الفيكتوريّ وقد ساروا على نهج (ريتشاردسون) و(فيلدنج) حيث كانوا يطلقون للقلم العنان ويتحرّكون ببطء راسمين صورًا فضفاضة واسعة، في حين أنّ كُتّاب العصر ساروا بالأحداث بسرعة توافق سرعة العصر، لكنّ طبيعة العمل يجب أنْ تجمع بين القوّة والضّعف، التّراخي والنّشاط، الاستجماع والوثوب، أي من الطبّيعي أن تتغاير سرعة سير الأحداث تبعًا للمواقف، فيتأرجح اهتمام القارئ بين التّأجّج والخمود». 

«أي أجعلُ الأحداث حينًا خافتة وحينًا متأجّجة». 

تلبّستْ فمي بسمة خفيفة، وأطرأت عليه قائلًا:

«تبدو سريع الفهم، أحسنت! بالانتقال إلى عنصر آخر من أهمِّ عناصر أيِّ قصّة خاصةً الفئة التّاريخيّة، وهو عنصر الواقعيّة، حيث عليك وبدايةً احترام عقليّة القارئ مع تحقيق المنطق، فكما ذكرت أنّ القصّة التّاريخيّة هي ضرب من الأعمال يمتزج فيها التّاريخ بالخيال، تهدف إلى تصوير عهدٍ من العهود، أو حدثٍ من الأحداث الضّخام بأسلوب روائيِّ سائغ معربًا عن معطيات التّاريخ، أي عليك جمع المعلومات الدّقيقة عن الفترة الزّمنيّة التي ستتناولها، فلا يمكن ذكر أثر، إنجاز أو مكان لم يكن موجودًا في الفترة الزّمنيّة المعالجة داخل العمل القصصيّ، فعلى سبيل المثال لايمكن أن أتحدّث عن أحداث زلزال 1992 بمصر وأجعل أحد الأبطال يستخدم هاتفه الجوال! علمًا أنّ شركات الاتّصالات اللّاسلكية لم تتواجد في مصر قبل عام 1998». 

أرخيتُ رأسي للوراء أستهلك قسطًا من الرّاحة قبل أن أباشر مجدّدًا.

«أي أحرص على جمعِ المعلومات الدّقيقة التّفصيليّة عن الفترة الزّمنيّة المحدّدة داخل العمل القصصيّ». 

«وفي نفس الوقت ابتعد عن الواقعيّة البحتة، والتي تكون في القصص التّاريخيّة بالانغماس في ذكر الأحداث التّاريخيّة العامّةِ دون دمجها وسط أحداث القصّة فيغدو العمل على حين غرّة مقالةً تاريخيّةً!»

وحينما ودُّ لو يُعقب حديثي بكلماته التزمتُ الصّمت قليلًا.

«أعتقد أنّي قرأتُ قصّة هكذا، أسهب الكاتب فيها عن تفاصيل الحدث الحقيقي نفسه فلم أرى وقتها أحداثًا قصصيّة». 

«وأثناء ابتعادك عن الواقعية البحتة لا بأس من إضفاء بعض الخيال على الأحداث والشّخصيّات دون إخلال بالأحداث الحقيقيّة، مثل الأعمال الدّراميّة التي تؤخذ عن قصص حقيقيّة من ملفّات المخابرات؛ فنجد إضافة بعض المواقف والأحداث التي تجذب المشاهد وفي نفس الوقت لم تخلّ بالأحداث الأصليّة». 

«كنت أفهم هذا العنصر بالعكس من قبل، كنتُ أظنُّ أنّ الواقعيّة أن أنسخ الواقع بالضّبط». 

أعقبتُ حديثه نافيًا بقوة:

«قطعًا لا! فبالإضافة لما ذكرته فإن الواقع قد نجد فيه بعض الأحداث التي تنشب عبر لفظ «الصّدفة» لكن في العمل القصصيّ نحن نجعل لكلِّ حدثٍ سبب واضح وبيّن،  كما أنّنا نلجُّ بداخل عقول ونوايا ومشاعر أبطالنا، فمثلًا لو مجموعة من الجنود من جيش الحلفاء تخطّط لخطّة عسكريّة سريّة لاقتحام إحدى معسكرات جيش المحور، لكنّها ليست سريّة للقارئ بل إنّ القارئ مصاحبهم في كلِّ الخطوات من التّخطيط إلى التّنفيذ، حتّى لو أصيب أحدهم أو تعرّض للأسر فإنّه يتألّم معه داخل المعتقلات السريّ». 

وددتُ لو أجعل الحديث موجزًا؛ لذا أنبأت: 

«أي أجعل القارئ يعيش داخل قلب وعقل الشّخصيّات». 

« أجل، صحيح أنّ القصّة التّاريخيّة بحاجة للتّفصيل والتّوضيح، لكن عليك توضيح المهم فقط، أي لا تخوض في تفاصيل لا تلزم القارئ...»

فكرّر الفتى يقاطعني:

«أي أوازنُ بين الإسهاب والإيجاز». 

«أحسنت أيّها الذّكي! أعود وأكرّر، لا تخمّن! رجاءً لا تخمّن! 

في القصّة التّاريخيّة عليك تحقيق مصداقيّة الزّمكان، فأنت تتعامل مع تاريخ، أي أحداثًا قد حدثت بالفعل، فغير مقبول تمامًا العبث بالزّمكان، فلو كان بطل قصّتك أحد سكّان بلاد الأندلس وقت الفتح العربّي لها سيكون عبثًا لو جعلته جالسًا على شاطئ المحيط الأطلسيّ؛ فالجيش العربيّ جاء عبر مضيق جبل طارق كما كان اسم المحيط وقتها بحر الظّلمات». 

«كم يبدو الأمر متعبًا؛ لكنّه شيّقٌ! الفئة التّاريخيّة دائمًا ترتكز على عاتق جمع المعلومات الدّقيقة، والتّأكد من صحّتها حتى لا يتواجد حدثًا أو عَرَضًا غير مناسبًا للزّمن العام للقصّة، لكن ماذا لو دمجتُ التّاريخية بالخياليّة؟ كيف سألتزم بالمنطقيّة والقصص الخياليّة تعتمد على الخرافات والأساطير؟»

أجبته قائلًا بعدما موضعتُ قدمًا على قدم:

«حتّى الخيال له منطقيّته، فالعالم الخياليّ الذي تنسج فيه أحداث قصّتك أنت من تحدّد له قواعد وقوانين، لكن لا ينبغي تغيير هذه القوانين، فلو كانت قصّتك تواكب إحدى الأساطير الميثيولوجيّة فعليك أن تجعل الأحداث والشّخصيّات ممتزجةً بالحضارة الإغريقيّة بكلِّ تفاصيلها وهيئتها، فيمكن أن تمدَّ قدراتٍ خارقة لبعض شخصيّاتها على غرار أبطال الأساطير، كالتّحكم بالبرق،  لكن لو احترق بيت أحدهم فلن تمنعه قوّته الخارقة من الاحتراق! ا

المنطقيّة تلازم القصّة طوال أحداثها وحتّى نهايتها، فالنّهاية يلزم أن تكون منطقيّة، فلو أحداث القصّة في العصور الوسطى فلا يمكن أن يكون أحد أبطالها مصابًا بالسُّل ثمّ يتمُّ شفاءه في نهايةِ القصّة، وبعدها يتزوّج بحبيبته ويعيشان في سعادةٍ وهناء؛ فببساطة لم يُعرف هذا المرض إلّا في نهاية القرن التّاسع عشر ولم يُكتشف علاجه إلا بعد عقود طويلة». 

«في الحقيقة لا أجد كلماتٍ مناسبة أعبّر بها عن امتناني لك ونصائحك الثّمينة، أشكرك جدًا!»

قالها وقد نهض واقفًا لينصرفَ فابتسمتُ له مجيبًا:

«على الرّحب والسّعة، موفّق إن شاء الله». 

انصرف الفتى وتفقّدتُ الساعة؛ فالوقت قد مرّ ولم أكتب التّقرير المطلوب بعد أو أفعل أيّ شيء، ترى هل أجلس حتّى أنتهي منه وأنجو من غضب القائد؟ أم أتحرّك عائدًا للبيت وأنجو بنفسي من بطش أبي؟

وفجأة وجدتُ الحل! سأستعير الكتب وأعود إلى البيت فأنجو من بطش الاثنين!

وبعد الانتهاء من إجراءات الاستعارة متحرّكًا خارج المكتبة تذكرت بطشًا ثالثًا ينتظرني...إنّه غضب الآنسة واقعيّة!

لا أدري ماذا أفعل؟ إنّها تحاسبني حتّى على أحلامي لو فقدت الواقعيّة!

ساعدوني يا أصدقاء لأنجو من غضبها، ذكّروني أين اِفتقد منامي للواقعيّة وكيف أراضيها بتعديله؟

دُمتم بودٍّ، كانت معكم العضو رفيف. 

المراجع،

فنُّ القصّة: د. محمد نجم

أكثر 38 خطأ في الكتابة القصصيّة، (جاك م. بيكهام)

موقع تراثيّات، مقال (حرق مكتبة الإسكندريّة)

ويكيبيديا

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top