الواقعية في الفانتازيا ٢
استيقظت تتثاءب وهي لا تدرك ما حلّ بها، فقد تعطّل ترس ذاكرتها مؤقّتًا بعد صدمة الاستيقاظ الموجعة، التفتت حولها تبحث عن صديقها الأرنب قبل أن تتنهّد في راحة؛ فقد وجدته على بعد خطوتين منها فاقدًا للوعي.
أمسكته من أذنيه ببسمةٍ شرّيرةٍ وراحت تصفعه عدّة مرّاتٍ بحجّة إيقاظه، قبل أن تشهق فزعةً في ذهولٍ قائلة:
«ما هذه النّتوءات البارزة على ظهرك؟»
راحت تتحسّسها في تعجّبٍ قبل أن تلمح استيقاظه، صرخ فيها غاضبًا وابتعد عنها خطواتٍ يحاول فيها استرجاع وعيه وحيدًا، متناسيًا بشكلٍ مؤقّتٍ ما ينبت على ظهره من جنون.
لم يقطع عليه لحظة سلامه الذّاتي تلك، سوى صوتها يقول:
«هل تذكر البيت الّذي أخبرتك عن مدى غرابته بعد أن رأيته في أحلامي؟»
نظر لها بفتورٍ وكأنّ الأمر لا يعنيه، قبل أن يلتفت في مللٍ حيث يشير اصبعها لتتّسع عيناه دهشةً؛ وهو يرمق ذاك المنزل الغريب، كتابٌ مفتوحٌ هو تتراصّ أمام بوّابته مجموعةٌ من الأقلام على شكل درجٍ بسيط.
رآها تتّجه نحوها هامّةً بالصّعود، كاد يستوقفها منبّهًا إيّاها على ضرورة لزوم الحذر، لكنّه تذكّر أنّ كتلة الطّين في رأسها المدعوّة بالعقل لن تفهم، هي لا تجيد سوى ثلاثة أشياء، التهوّر والعناد وما بينهما.
وما إن دلفا للمنزل المشبوه حتَى اعتمرتهما الدّهشة، ممرٌّ طويلٌ تتربّع الغرف على جانبيه، يسمعان ضجيجًا آتيًا من الأسفل، التفتا لبعضهما البعض في قلق، قبل أن يقرّرا مواصلة المسير، نزلا الدّرج الحلزونيّ الّذي يقود للأسفل وهما يراقبان في ذهولٍ ما يدبّ به من نشاط!
حروفٌ تتقافز هنا وهناك، وأخرى تمسك بأكفّ بعضها تنتظر في طابورٍ طويلٍ دورها، فالقلم في أوّله يمسك كلّ مجموعةٍ يطبعها على كرّاسةٍ لتخرج من جديدٍ ككلمةٌ كاملةٍ لا حروف متقطّعة.
ميّزَا من هذه الكلمات التّاريخيّة، العاطفيّة، الرّعب، الخياليّة... تبعوا الأولى ليروا دورها من كلّ هذا، قبل أن يدركوا أنّ الطّابق العلويّ أكبر ممّا تصّوروه! به عدّة أجنحةٍ وكلّ جناحٍ يمتلئ بالكثير والكثير من الغرف. دخلت كلمة التّاريخيّة لجناح الفئات، أراحت قدميها على كرسيٍّ قريب، وراحت تتشمّت مع صديقتها الاجتماعيّة في المغامرة الّتي لا تملك سوى ثمانية حروفٍ.
«يا حبيبي مجتمعٌ بأكمله!»
قالها الأرنب في ذهولٍ فاتر، في حين ردّت عليه أليس بشيءٍ من التّفكير:
«حسنًا يجب أن نسمع الآن صوت بكاءٍ مكتوم!»
عقد ما بين حاجبيه ينظر لها في غير فهمٍ، قبل أن تهزّ كتفيها بلا اهتمامٍ قائلةً:
«لا تطالعني هكذا، نحن أمام خيارين إمّا أنّ الأمر كلّه يخضع لقانون الصّدف العجيب بأن يتشابه الحلم مع الواقع في أدقّ تفاصيله، وإمّا أنّه أمرٌ مدبّرٌ له بخطّةٍ مُحكمة.»
«إن كان الخيار الثّاني فنحن سنسمع صوت بكاءٍ لأنّك سمعتيه في الحلم صحيح؟ السّؤال هل تعلمين أين يجب أن نذهب حتّى نسمعه؟ وماذا سيحدث بعدها؟»
«لا أعرف انتهى الحلم عند هذه النّقطة!»
تأفّف الأرنب في انزعاجٍ من سذاجتها، قبل أن تلتقط أذناه صوت بكاءٍ مكتوم! راح يجرّها من يدها يبحث كالمسعور عن مصدر الصّوت قبل أن تشاركه في ذلك، ملّا البحث في نهاية المطاف إذ لا جدوى تُرجى منه، دلفا لغرفةٍ واسعةٍ خاليةٍ من الحروف، في منتصفها وضعت سجّادات حروفٍ على الأرضيّة مشكّلةً كلمة وجود.
راحت أليس تتذمّر من إعيائها وهي تتوجّه نحو الأريكة بغية الرّاحة، قبل أن تتعثر فجأةً بحرف الواو في الكلمة، شتمته علنًا وراحت تضربه برجلها صارخةً في حنق:
«ّأيّها الحرف الغبيّ!»
هنا انفجر الحرف المسكين بالبكاء وسط ذهول الأخرى، وهو يحاول في يأسٍ تمالك نفسه قائلا:
«ليس ذنبي أنّي أردت أن أشعر بالانتماء، أعرف أنّ للكلمة جودٌ وأنّه ليس عليّ أن أفسدها لكنّه ليس ذنبي!»
وكأنّ الأرنب لم يسمعه فقد تمتم قائلًا:
«لأوّل مرّةٍ تُجدي هذه الفتاة نفعًا!»
رمقته بحنقٍ وراحت تحاول في يأسٍ تهدئة حرف الواو الملتاع قبل أنْ ينضمّ إليها رفيقها في ذلك، وما إن استرجع أنفاسه أجاب بحزنٍ على سؤالهما عن سبب بكائه قائلًا:
«أنا مظلوم! ليس من العدل أن أمنح اختباراً صعبًا يحول بيني وبين أن أشكّل كلمةً كغيري!»
«هل يجب أن تجتازوا اختبارًا قبل أن تنضمّوا لكلمات؟»
«أجل وكلّما كانت إجابتنا صحيحةً كلّما كانت كلمتنا أجمل!»
قالها الآخر في حماسٍ سرعان ما أُحيل حسرةً وحزنًا، فأسئلة اختباره لا تؤهّله حتّى لتكوين كلمة، الجماليّات آخر ما يهمّه!
«ابتهج سنساعدك لحلّها، ومن يدري قد نستطيع!»
قالتها أليس بابتسامةٍ واسعةٍ قبل أن يجيبها حرف الواو بسعادةٍ متوجّسة:
«حقًا؟»
«ليس حبًّا فيك بل لأنّنا مجبرون!»
جملةٌ نبس بها الأرنب كانت نتيجتها لكمةٌ حطّمت أضلاعه من أليس، وهي تنعته في غضبٍ بالوقح، قبل أن يقودهما حرف الواو لبابٍ عظيمٍ نهاية الممرّ استغربا عدم انتباههما له قبلًا، فُتح على مصراعيه قبل أن يلمسوه حتّى، ليجدوا أمامهم مكتبًا صغيرًا، تجلس عليه كلمة اختبارٍ تعدّل من وضع نظّاراتها، قبل أن تصيح في الواو قائلةً:
«ستحاول مجدّدًا أيّها البائس؟»
أشاح بوجهه عنها في ضيقٍ، وتقدّم في تؤدة يضغط زرًّا على جانب الجدار الجليديّ، ليسقط من الأعلى جيشٌ من الحروف يتقافزون بشكلٍ مثيرٍ للدّوار قبل أن يشكّلوا جملةّ قابلةً للقراءة.
«لم لا يشكّل هؤلاء كلماتٍ ثابتةٍ مثل من سبقوهم؟»
سأل الأرنب قبل أن يجيبه الواو بتمنّي:
«هؤلاء هم النّخبة أصحاب العلامات الكاملة، يعملون هنا بتشكيل ما يحلو لهم من كلماتٍ معطين بذلك اختبارًا لبقيّة الحروف.»
«كيف يحيل الكاتب قصّته من الفانتازيا إلى اللّامنطقيّة؟»
قرأت أليس بتهجئةٍ ما تجلّى لها من كلماتٍ كوّنتها نخبة الحروف كما سمّاهم حرف الواو، قبل أن تلتفت إلى الأرنب قائلة:
«منقذي يا منقذي ماذا يعني هذا الهراء؟»
رمقها بسخرية، الآن صار منقذًا؟ ماذا عن صفعات الصّباح واللّكمة الجميلة الّتي ابتلعها قبل سويعات، هل نسيتها بهذه السّرعة؟
«حسنًا الواقعيّة تقتضي السّبب والنّتيجة، الأولى تتسبّب في الأخيرة، يوجد تسرّبٌ في الغاز، إذًا الإنفجار الكبير حال تشغيل الكهرباء واقعيّ، موت السّمكة بسبب خروجها من الماء واقعيٌّ وهكذا دواليك.»
ابتسمت أليس متابعةً ما بدأه حرف الواو قائلة:
«إذًا اللّاواقعية تقتضي أن يحصل الحدث بلا سببٍ مقنع وتحلّ المشكلة بمعجزةٍ ما بلا تفسيرٍ واضح، هي الإخلال بقانون: حصل هذا فهذا فنتج هذا، الكهرباء مقطوعةٌ فكيف حدث الانفجار؟ السّمكة الخارقة قادرة على التّنفس خارج الماء فلماذا ماتت؟ ولكن ما علاقة هذا باللّامنطقية؟»
«الواقعيّة أشمل من المنطقيّة فالأخيرة ترتكز على حصول أحداثٍ نتوقّعها إثر بوادر وأحداث سابقةً، التّلميذ المهمل من المنطقيّ أنه رسب، ولكن قول أنّه مثلا استعان بجنيّةٍ لتحلّ مكانه الأسئلة أمرٌ غير منطقيٍّ لكنّه واقعيٌّ جدًّا لوجود سببٍ مقنعٍ حتّى لو كان خياليًّا.»
قالها الأرنب معقّبًا عليهما، لتصفّق أليس بيديها قائلة:
«إذًا كلّ حدثٍ غير واقعيٍّ هو بالضّرورة لامنطقيّ والعكس غير صحيح، فليس كلّ حدثٍ لامنطقيٍّ هو غير واقعيّ.»
صاح الواو في سعادةٍ مجيبًا على السّؤال بلهفة:
«إذًا يحيل الكاتب قصّته إلى اللّامنطقية بالإخلال بواقعيّتها.»
ومن العدم سمعوا صوت بابٍ يُفتح قبل أن يخرج حرف الألف في زهو، صافح الواو في ترحيبٍ قائلًا:
«أنا زميلك الجديد سنكوّن كلمتنا سويّة.»
أومأ الواو في حبورٍ وهو يطالع تقافز الحروف من جديدٍ مشكّلةً سؤالًا جديدًا بعد أن نجح في الأوّل، ليقرأ هو هذه المرّة:
«ما هي أهميّة الواقعيّة في القصص الخياليّة؟»
ضحكت أليس بشدّةٍ قبل أن تقول بفخر:
«سؤالٌ سهل! الواقعيّة هي من تحفظ ترابط الأحداث وتجعل تصديقها لدى القارئ سهلّا، فتضمن أن لا يوجد أيّ عدم فهمٍ لما يحصل أو حتّى سوء الأخير، هي مسؤولةٌ عن سدّ ثغرات لامنطقيّة القصص الخياليّة. كما أنّها تتكفّل بجعل القصّة كاملةً لا يتخلّلها خطأٌ من ناحية الأسباب والنّتيجة.»
شعرت بثقتها تهتزّ حين لم تر أيّ بادرةٍ لصحّة إجابتها، قبل أن تسمع حرف الواو يكرّر ما تقول، لتستنتج أنّ صوته من شروط الإجابة، وبالفعل تكرّر ما حدث قبلًا وجاءهم حرف القاف منضمًّا لزميليه السّابقين.
في هذه الأثناء شكّلت الحروف سؤالًا جديدًا مقتضاه ما هي الأشياء الّتي تفسد الواقعيّة في القصص؟
صمتٌ أطبق على المكان قبل أن يقول الأرنب في فتور:
«سهلٌ يا أصدقاء، لا يحتاج الأمر لعبقريّةٍ حقًّا...»
كاد ليكمل لولا أنّ أليس قاطعته قائلة:
«حسنًا أظنّ أوًل شيءٍ هو المعجزات؟ أحيانًا يعقّد الكاتب الحبكة بشكلٍ كبيرٍ ثمّ يعجز عن إيجاد حلولٍ مرتّبةٍ لها فيلجأ لمنح البطل حظًّا ذهبيًّا يخرجه ممّا هو فيه بفرقعة اصبع.»
«أجل وأحيانًا أخرى يختار مكانًا وزمانًا خطأً، فيضع فرعونًا ما في وسط نيويورك، ويجعل المستذئب يتحوّل والقمر هلالٌ، دون منح سببٍ مقنعٍ حيال هذا التّغيير.»
قالها القاف ليعقّب عليه الألف متابعًا:
«حسنًا أظنً أنّ نقطةً أخيرةً تبقّت وهي مناقضة قانون وضع، مثلًا جعل أحد الكتّاب بطله قادرًا على المشي فوق الماء، لكنّه عند أوّل مغامرةٍ أرغمه على الالتفاف حول بحيرةٍ كاملةٍ من أجل تحريك الأحداث، دون منح سببٍ مقنعٍ لهذه الحركة.»
هنا لخّص الواو كلّ ما قالوه مجيبًا على السّؤال:
«تفسد الواقعيّة بكثرةٍ الحظوظ واستخدام الصّدف، وكذا اختيار الزّمكان الخطأ، وأيضا مناقضة قوانين سبق وضعها، وأضيف عليها أخيرًا بناء شخصيةٍ لا تلائم الأحداث فتخلّ بها.»
أتاهم حرف العين هذه المرّة، وقد تكفّل من باب المجاملة بقراءة السّؤال التالي:
«كيف يؤثّر عنصر الواقعيّة على الشّخصيّات؟»
هرشَ الأرنب ظهره في عذابٍ تبدّى على ملامحه، وهو يستمع لأليس تثرثر:
«حسنًا الأمر يتعلّق بمدى ملاءمة الشّخصيّات للأحداث، وحتّى ردود أفعالها، لا تقنعني أنّ شابًّا سيستقبل قاتل والديه بالأحضان، أو أنّ طفلًا متوحّدًا لن يتوقّف عن الكلام، كذلك الأمر يعتمد على الأحداث الجوهريّة في حياتها، فشابٌّ رياضيٌّ طموحٌ لن يتمتع بنفس الرّوح حين يُشلّ وهكذا.»
«شيءٌ أخيرٌ، بناء شكل الشّخصيّة أيضًا يلعب دورًا، فجعلك لها بجناحين لن يجعل سقوطها من الجبل خطرًا محدقًا، وكونها تتنفّس تحت الماء فلن تقلق من الغرق، قدرتها مثلًا على الرّؤية في نطاق ألف ميل لا يجعل من الصّائب إقناع القارئ أنّها تاهت في الصّحراء، والحديث قياسٌ على ذلك.»
راح الواو يقوم بالتّلخيص مجدّدًا قائلًا:
«إذًا تأثير الواقعيّة على الشّخصيّات يتمثل في مدى ملاءمتها للأحداث، وفي ردود أفعالها والأحداث الجوهريّة في حياتها وكذا بناء شكلها وقدراتها.»
خيّم صمتٌ ثقيلٌ قبل أن تختفي كلّ الحروف بما فيهم الألف والعين والقاف، تملّك الخوف من الثّلاثة المتبقّين أليس والأرنب وحرف الواو، أتراهم يوفّقوا هذه المرة؟
لكنّ خواطرهم تلك سرعان ما أُزيحت حين رأوا الجملة المحبّبة تمشي في تؤدةٍ نحوهم، أجل إنّها جملةٌ ناجحةٌ بامتياز تسلّم على حرف الواو وتخبره أنّه وبكل فخرٍ من النّخبة، ليرقص الأخير طربًا وهو لا يصدّق ما يسمع.
في ذات الأثناء جاءت كلمة دليلٍ نحو أليس والأرنب، قادتهما نحو شرفةٍ غابت عن نظرهما قبلًا، ليلمحا من بعيدٍ أسطورة الطّيور قائدًا نحوهم، العنقاء يحلّق بكبريائه المعهود، انخفض لمستواهما حتّى استطاعا الرّكوب عليه، وقد أدركا أنّه السّبيل للانتقال للمرحلة التّالية.
كان الأرنب مشغولًا في حكّ ظهره في حين راحت أليس تودّع حرف الواو الّذي شكّل مع زملائه من النّخبة: الواقعيّة أساس القصص الخياليّة.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top