الفصل الثَّاني: بين الأشجار.
ضاعَ هُمام بين الأشجار، مصدومًا، لأنها المرة الأولى التي يعجزُ فيها عن تحديد الاتجاهات الصحيحة. تبدو هذه الغابةُ له من أغرب الأماكن، لاسيَّما الأشجار، وكأنَّها تلقي السلام وتصافح بعضها.
تساءل في نفسه: «هل قاطعتُ حفلة شاي نباتية؟» ستطول هذه الرحلة، ولكن لا بأس، فالهدفُ واضح، والمعلومات التي وجدَها حتى الآن قد أشعلَت فضوله. عليه أن يعثُر على البقية.
إن ما جعلهُ يرى الورقة التالية كان فحيحًا أصدره ثعبانه لينبهه بوجودِ ورقة على شجرة، ولكنَّهُ لاحظَ أنها غريبة، تقف وكأنَّها شخصٌ لا شجرة. حتى أنها تبدو كمغامِرٍ بيده سوط، إن أطلق العنانَ لمخيِّلَتِه. حقًا، غابةٌ مريبة! همس لنفسه: «ها أنتِ ذي يا فريستي»، وكما هو متوقع من هُمام، لم يستغرقه الوصول إليها أكثر من دقائق. أمسكها كي يقرأها، ولكنه عجز عن قراءةِ إحدى الورقات لأول مرة!
لاحظ بعد برهة أنه يُمسكها بالمقلوب. التفت لكيلا يرى أحدٌ ما فعله، ثم عدَّلها فتوضَّحَت المعلومات، وكانت كالآتي:
...تخيَّل قصةً بدون شخصيات، هل ستتكلَّمُ العناصر مع بعضها وكأنَّها نجومٌ بلا سماء؟ من ستظهرُ عبره؟ هنا يسطُع دورُ الشخصيات لتُحرِّك القصَّة، فما بالك بقصَّةٍ تدورُ أحداثُها حول مغامرتها؟ أجل، هي عنصرٌ مهمٌّ جدًا في قصصِ المُغامرة، إذ إنَّ الشخصيات هي من تحرِّك الأحداث، هي التي تبرُز بصفاتها، وهناك جانبان يخدُمان الفِئة ونوعها بشكلٍ بارِز وهُما: النفسي والخُلقي.
أما عن الجانب النفسي فهو...
لم يستطع مُتابعةَ القِراءة، لأنَّ نِصفها الآخر كانَ ممزَّقًا. لذلك أكمل رحلة البحثِ عن النِّصف الآخر، ولكنهُ بقي يفكر طوال الطريق، فتطايرت الأفكارُ من حوله وكأنَّها فراشاتٌ تحوم حول شجرة بادليا مُزهرة. حاولَ هُمام الربط بين ما بين يديه الآنَ من أوراق تتحدَّثُ عن فِئةِ المغامرة وما لديه من معلوماتٍ عن النَّقد. إذ إنَّهُ للشخصيات دومًا جوانبُ مهمة، ما بين خَلقي وخُلُقي ونفسي واجتماعي. جميعُها جوانب بتكاملها وتواجُدِها في الوقتِ المناسب تكوِّن لوحةً فنية تنعكس فيها الحياة وتنبض بالخيال.
بدا شاردَ الذِّهنِ بعض الشيء. كان يفكر بعمق يُحاوِلُ أن يطُوفَ بعقله داخِلَ فضوله حولَ هذه الفئة. فضوله الذي أوصله إلى هُنا. همس بينما تلتمع عيناه ببريق الشغف: «إنَّ الشخصية يحرِّكُها الزمكان، ناقلًا إيَّاها من حدثٍ لحدَث، من حبكةٍ لأُخرى. وفي فئةِ المغامرة يبرُز جانِبُها النَّفسي، يعكِسُه الأخوان السَّرد والوصف، وقد يكونُ للحوارِ يدٌ في الأمر، كما يكونُ جانِبُها الخُلقي هو اللمسة التي تعطي للقصة واقعيتها».
وهكذا سرح بتفكيره إلى أن صرخ بحماسةٍ كسرت هدوءه: «أجل! وجدتُ طرَفَ الخيط! الغابةُ تُريدُ أن تعطيني العُنصر عبر تجسيده عبر الأشجار، ولذلك بدت الأشجار من حولي وكأنَّها أشخاص. تقصدُ هنا الشخصيات. إذًا، كيف سأجِدُ الورقة التالية؟»
التفتَ للثُّعبانِ محدِّثًا إيَّاه: «عليَّ إيجادُ أشجارٍ تعكسُ الجانبين النفسي والأخلاقي. هيا لنبدأ رحلةَ البحثِ بينهم. سنكتشف شخصيَّاتِهم ونغوصُ في غِمارِ المُتعة، متعةِ الاكتشاف».
وبالفِعل بدأ بحثه. حاول أن يبحثَ عن أشجارٍ قد نُقِشَ عليها كلامٌ ما. لم تخطُر بباله وسيلةٌ أخرى لعرضِ الحِوارِ الدَّاخِلي، والذي سيكون وسيلةَ التعبيرِ عن جانِب الشخصية النفسي. ولكنه أدرك لاحِقًا أنَّهُ قد يجِدُها أيضًا قد تجلَّت بين سطور السرد. لا جدوى من العشوائية، وكذلك لن يعتمد على الصُدفة.
بدأت الشمسُ تغرُبُ في خجل، فاكتست السماءَ بلونٍ أحمر غزاها بدفء. في هذا الوقت تصبح الغابات خطِرة، وهذا بالفعل ما دفع هُمام لبدء عمليةِ البحثِ عن مأوى.
يبدو أن الغابةَ تحبُّه! وجد شجرةً عِملاقة لفتت نظره، وعندما اقترب مِنها وجدها مُجوَّفَةً من الدَّاخل وبها أدوات ومكانٌ للنَّوم. جلسَ لضِيق المساحة، فتساءل وقد غزاهُ شعورٌ بالرِّيبة لكثرةِ الصُدَف الغريبة: «إمَّا أنَّ الغابةَ سحرية، أو أنَّه هنالِكَ من يلعبُ بي وكأنَّني دمية، يستدرجني لحيثُما يشاء لأجمعَ هذه الأوراق. علي أن أعرف سِرَّ هذه الفِئة وأخرُجَ سريعًا. لا يبدو الأمر مريحًا. أو ربَّما يكونُ مجرَّدَ مأوى لأحدِ سُكان الغابة، وأنا أبالِغُ بالتفكير، وكأنَّني أحلِّلُ عُنصُر الواقعية ولكن في حياتي بدلًا من قِصَّةٍ ما».
وهكذا أمضى ليلته هُناك، هربًا من الحيوانات المُفترِسة التي تسكُن أيَّ غابة. ليستيقِظَ في الصَّباح، وقد تابعَ رِحلته يحلِّلُ كُلَّ شيءٍ من حولِه. يشعُر وكأنَّهُ بطلُ قِصَّةٍ تحت الفِئة التي يبحثُ عنها. صارَعَ عِدَّةَ حيوانات، ولكنه اعتادَ الأمرَ مُنذُ زمن، فصارَت هزيمتُها سهلة. وأخيرًا، قد وجد ضالته لاحقًا.
قد كانت الأميرةُ نصفَ الورقةِ الضَّائعَةِ كأُختِها تقلِّدُ طرزان، لذلك وجدها معلَّقَةً على الشجرة، فقطفها ليقرأ الآتي دون أن يُمسِكَ الورَقةَ بالمقلوب هذه المرة:
...الذي يجعل للقصة طعمًا مميَّزًا؟ كيفَ يقومُ الجانبُ النَّفسي بذلك؟ حسنًا، ببساطة عبرَ كونه مِنظارًا يُريكَ دواخِلَ الشخصية، مشاعِرَها، وما يجولُ بخاطِرِها، يجعلُكَ تارةً ترى الأحداث بعينِ الغريب وتارةً بعينِ الشخصية، وذلك يكون عبرَ الحوارات الداخلية، وأيضًا السرد والوصف، ويتضمن الجانب النفسي التفاعلات الداخلية بين أفكار الشخصية ومشاعِرها. فمثلاً، الشعورُ بالغضب والغِيرة هذه أجزاءٌ من الجانِب النَّفسي للشخصية وتنعكس على بقيةِ الجوانِب كالجانب الخُلقي.
أجل، فالجانب الخُلقي هو تصرُّفات الشخصية النَّابعة عن مشاعِرِها الدَّاخِلية، وقد يندرج تحتهُ العادات كبدءِ الصَّباح بكأسِ ماء وغيرِها، ويشمل ردودَ الأفعال. وقد تسأل: ما علاقة ذلك بفئتنا؟ سنخبرك، أليست جميعُ تصرُّفاتِ الشخصية تُعَدُّ هي المحرِّكَ الأساسيَّ للأحداث؟ هي التي تُشكّل الدَّافع للتشويق، ويعتمد مستقبلُ القِصَّةِ عليها، وهُنا تكمن أهميتها، فالأحداثُ في فِئةِ المُغامرة هي الجوهر. إذ تجدُ الشخصية تتناسب مع الفِئة، مثلًا، تشتهر الشخصيةُ الانطوائيةُ الغامِضة في روايات الغُموض، والشخصيةُ الشُجاعة غالبًا ما تجِدُها في رواياتِ المغامرة، والذَّكِية في الخيالِ العِلمي، وهكذا، إذ أنَّها تختلِف باختلاف الحبكة والفِكرة والأحداث، وتكون مرآةً عاكسةً لها.
وملحوظةٌ مهمة...
وهكذا انتهت الورقة. برغم كونه شخصًا هادئًا، إلا أن انقطاع قراءته بهذا الشكل جعل خيطًا من الغضب يتسلل إليه، فلكم الشجرة ليفرِّغَ ما اتخذ فيه مسكنًا منه، همسَ لنفسه: «لا تظنَّ أن تجميعَ كتابٍ ما سيجعلُني استسلم، قيمةُ الكتاب في معلوماته وأنا لن أتخلَّى عن هذه الرِّحلةِ البتَّة، ولو كلَّفني الأمر أن أتسلق أعلى شجرةٍ هنا».
.........
أمضى عِدَّة أيامٍ يبحث، ولكنه لم يجد شيئًا. بدأ وشاحُ الشك يكسوه. أيُعقل أن تكون الأوراقُ قد تلفت؟ أم أنه قد أغفل عن مكانٍ ما؟ لم يعلم ما الذي عليه فِعله ولا أين عليه أن يذهب، ولكن بشكلٍ غامِض في الليلة السابعة بعد آخر يوم، وجدَ به جزءًا من الكتاب. وجد رسالة في الشجرة التي اتَّخذها كمأوى ينام فيه، لقد كُتِبَت بخطٍّ سيِّء، ولكنه استطاع فهمها، وتضمنَّت أمرًا واضحًا: «اذهب إلى حيثُ التي لا أحد يجرؤ على صراعها». تأمَّل الرِّسالة، حاولَ فهمها ولكن بدت غامضة. تساءل في نفسه: «كتب هي، إذاً فهي إما شجرة أو أنثى حيوانٍ ما، أيُعقل أنه يقصد اللبوة؟ سأذهبُ للبحث في الصباح التالي».
وبالفعل نهض بنشاط في الصباح التالي وبدأ بالبحث عن لبوةٍ ما، استغرقه الأمر عدَّة ساعات، ولكنه وجدها في النهاية. كانت تمشي بكل فخرٍ واعتزاز بما وُهِبت من مميِّزاتٍ وقُوَّة. فجأة جرَت بسرعة وانقضَّت على فريسة بوساطة أسنانِها الحادة، ولكن وبرغم حدتها، فضَّلت قتلها خنقًا. أراد هُمام أن يقترب لعله يجد الورقة عليها، ولكنه أمعن النظرَ فحسب، لم يجد شيئًا. أيُعقل أن اللبوةَ ليست الجواب؟
أرادَ أن يلتفت ليرحل، ولكن لمعت برأسه فكرة وكأنها صاعقةٌ قد ضربته، «شجرة! إنَّها شجرةٌ ما كان يقصده، لقد كانت الأوراقُ الأخيرة جميعها متعلقة بالشجر بشكل أو بآخر، لقد وجدتها!».
وقبل أن يغرَقَ في أفكاره، انسحب عبر أشجارٍ ذاتِ أغصانٍ مُمتدَّة تكادُ تُعانِقُ السَّماء، بحثًا عن الشَّمس لمحها في الأسفل، وكيف لا والأشجار في هذا الجُزء كبيرةٌ طويلة؟
وأثناء ابتعاده عن مجالِ رؤية اللبوة، قلَّبَ الفِكرةَ بين ثنايا عقلِه، مسح وجهه مما كساه من عرق ناجمٍ عن توتُّره وفكر: «شجرةٌ لا يجرؤ أحدٌ على صِراعِها، وفي هذه الغابة، إذًا فهي شجرةٌ كبيرة، قوية... وجدتها! شجرة جنرال شيرمان، هذه هي!».
لم يكن إيجادها صعبًا، كل ما كانَ عليه القيامُ به هو تسلق شجرةٍ عالية. نظرَ من قِمَّتها وتحتهُ امتدادٌ شاسِعٌ لأشجار خضراءَ خلَّابة، تحرِّكُ الرياح أوراقها بهدوء. أما السماء فكانت صفحةً زرقاء تتخلَّلُها غيوم وكأنَّها قُطنٌ ناصعُ البياض، وكانت شجرةٌ واحدة تُنافِسُ بارتفاعها الطبيعة لتنال من السماء جزءًا، عندما رآها هتف: «ها أنتِ ذي يا أيتها الشجرة». نزل وبدأ يجري نحوها، لن يخطئ حدسُه هذه المرة، الورقة التالية هُناك، وسيكون هو من يجدها.
وصل إليها، صدم بحجمها. لقد قرأ من قبل عنها، وها هو يواجهها وجهًا لوجه. قال وهو مشدوه النظر إليها وقد سكن عيناه بريقٌ خاص: «من ذا الذي سيصارع شجرةً بقدمك، إنك من النوع الصنوبري إذًا، هذا مثيرٌ للاهتمام». نظر حوله يبحث عن الورقة، ولكن فجأة انطلق صديقهُ الثعبان، وكأنه وجد شيئًا ما. لحِقه فوجدَ ورقةً تُصارِعُ الرياح معلَّقةٌ بسهمٍ على جذع الشجرة، وكأنها تتمسَّكُ بسكينٍ غُرِسَت بها لكيلا تنزِفَ حتى الموت إن نزعتها، أو بهذه الحالة تطير نحو المجهول. أمسكها وبدأ يقرأ:
...الاهتمامُ بالجانبين الخُلقي والنفسي لا يعني أن تصيب الجوانب الأخرى في مقتلٍ كالجانبين الخَلقي والاجتماعي، إذ أنَّ الشخصية هي كيانٌ كامِل من المهمِّ أن تربِط جوانبها ببعضِها لتجعلها أكثر وضوحًا ووجودية على مستوى القِصَّة.
ولا تظنَّ أنَّ الأمر قد انتهى هنا، لا زال هنالك عنصرٌ آخر مهِمٌّ لهذه الفئة، بل ويوجد غيره، وحسنًا إنه الذي يجعلُكَ تكافِح، إنَّهُ ما يجعلُ للحياة وبالطَّبع للقِصَّة قيمةً ومتعة، أجل، الصِّراع...
إنَّ الصِّراعَ في فئةِ المغامرة يكون حاضرًا بجميعِ أنواعِه، وكما نعلَم فإنَّ الصِّراعَ هو التصادُم بين قُوَّتَيْنِ أو أكثر، ولا يكتفي بأن يكون خارجيًا أو داخليًا، بل تجدُه معنويًا أو ماديًا وبأشكالٍ عديدة، ولكن الذي يكثر في أرضِ المغامرة هو الخارجي المادي. ولمكونات هذه الفئة يد بهذا -البوليسية والأكشن-، إذ تُغذِّي هذه المكوِّناتُ التشويقَ فيها وتنقلُ العواطف والأحداث. فتجدُ البطل يستخدم السِّلاح أو الفنون القتالية أو غيرها، وتُنقل حركاتُه، والأحداث كذلك عبرَ السَّرد، ولكن هذا لا يعني عدمَ وُجودِ صراعٍ داخلي. بل يوجد، فتجدُ البطل يُكمِلُ مغامرته مدفوعًا بمواجهته لعواطفَ عليه التغلُّب عليها، خوفًا كانت أم غضبًا أو غيرها...
وهكذا انتهت هذه الورقة، ولكن هل يعني هذا نهاية الرِّحلة؟
بالطبع لا، لا زالت هناك عناصرُ عديدة، ومغامراتٌ جديدة على همام أن يخوضها. أمسك الورقة ونظر نحو الشجرة، همس وهو يتكئ برأسه عليها: «لطول عمرك، ربما مرَّ عليكِ الكثيرون، ولكن صدقيني، لن أكون من الكثيرين فحسب، سأكون المغامر الذي لم يفشل مرةً في إيجاد كنزه، ولو كان كتابًا تاريخيًا غامضًا كهذا. أنا همام، عاشق الطبيعة والمغامرات».
ترى ما الذي ستحمله الفصول القادمة؟ وإلى أين يأخذنا همام؟
لا تنسوا إمطارنا بملاحظاتكم، فنحن دومًا بالجوار.
إيما كانت هنا ودمتم بود.💙
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top