الانحدار للهاوية

كانت تقف أمام باب المقهى الّذي قرّرا إقامة الجلسة فيه، استجمعت نفسها وفتحت الباب بعد أن أخذت نفسًا عميقًا. لمحت ناقدًا من بعيد، ينتظرها وعيناه البنّيتان معلّقتان عليها تنتظران قدومها. 

أشار لها بيده لتذهب بخطواتٍ متثاقلةٍ وتجلس أمامه بهدوء.

ابتسمت بانكسارٍ ثمّ أردفت:
«مرحبًا يا ناقد، لقد جئت في الموعد كما اتّفقنا. أرجو حقّاً أن تخفّف عنّي هذه المرّة فالحزن عميقٌ والحلّ صعب!»

ابتسم وهو يقدّم لها حليبًا ساخنًا، كان قد طلبه قبل قدومها.

«أهلًا بك، أنت دقيقةٌ في مواعيدك. لا بأس، سأحاول مساعدتك مهما كان الحلّ صعبًا بنظرك.»

تنهّدت بعمقٍ ثمّ استرسلت في الكلام قائلةً: 
«كنت أفكّر منذ مدّةٍ في الماضي الّذي عشته وما أعيشه الآن، لم أعد أعرف أيّهما أفضل وأكثر ازدهارًا!»

توقّفت من هول إنكسارها، ثمّ رتّبت الكلمات على لسانها وأكملت:
«حينما أتذكّر كيف كانت شخصيّاتي أسطوريّةً ومثاليّة في قصص شكسبير، أو كيف كانت تعاني بشدّةٍ في روايات المنفلوطي ورسائل كافكا، أشعر بالقهر.»

بدأت تطرح التّساؤلات والدّموع متجمّدةٌ في مقلتيها:
«هل حقًّا شخصيّاتي كانت أسطوريّة؟ هل كانت مثاليّةً لدرجةٍ تنفر القُرّاء؟ أم أنّها كانت مليئةً بالعيوب؟»

سكتت لبرهةٍ ثمّ أكملت كلامها الممزوج بالنّحيب:
«لكن على الرّغم من ذلك اهتمّ الكُتّاب بي وملأوني بالعناية والمعاني النّبيلة، لقد اهتمّوا بالعناصر الأساسيّة جيّدًا، لو وضعنا عنصر الشخصيّات جانباً. كما أنّهم ضمّنوا مغزىً وأفكارًا جميلة، إلّا أنّها صارت مبتذلةً ومكرّرةً مع الوقت.»

بصوتٍ يملؤه الإحباط:
«أجدني أشعر بالحيرة وتختلط الأمور في عقلي.»

قبضت على ثوبها بشدّةٍ وهي تنظر بعينين دامعتين ثمّ استطردت: 
«لا أعيش حقًّا حياةً ورديّةً كما يعتقد النّاس بسبب لون ثيابي أو شعري.»

نظر ناقد لعاطفيّة مفكّرًا، ثمّ ابتسم بحنانٍ قائلًا بعد أن أسند مرفقيه على الطّاولة أمامها:
«ما رأيك أن تبدئي بذكر ما يجول بذهنك أوّلًا، كأن تحدّثيني عن نفسك في الماضي، ثمّ ما ترينه بالحاضر، وأخيرًا الواتباد؟»

تنهّدت عاطفيّة ثمّ وافقت على كلامه، وأردفت قائلةً: 
«لا بأس، سأجرّب.»

همهمت وهي تفكّر بالأمر، ثمّ شرعت بالحديث:
«في الماضي، كانت القصص العاطفيّة ملحميّةً للغاية، تتناول قصّة حبٍّ أسطوريّةً بين البطل والبطلة، أو حتّى قصّة حبٍّ عاديّةً بأفكارٍ جميلةٍ ومغزًى نستخلصه منها بعد قراءتها بتمعّن. وهناك قصصٌ تتحدّث عن العلاقات العائليّة كقصّة نساءٍ صغيراتٍ مثلًا، حيث تناولت فيها الكاتبة عنّي في سياق العلاقة بين الأخوات وأمّهم وكيف يقضون أيّامهم متعاوناتٍ سعيدات.»

أخذت نفسًا عميقًا وهي تتذكّر الماضي السّحيق الحُلو:
«وهناك القصص الّتي بين الحبيبين، قصص شكسبير مثلًا، أساطير الحبّ اليونانيّة وأساطير الحضارات القديمة بالمجمل، قصص سندريلّا والجميلة والوحش وغيرها، القصص العربيّة بين الشّاعر ومحبوبته، كعنترة وعبلة، جميل بن معمر وليلى الأخيليّة، ابن زيدون وولادة بنت المستكفي…وغيرها الكثير من سِيَر الأوّلين أو من الرّوايات العالميّة كذلك...»

أتاها حنينٌ للماضي وهي تتحدّث عن العاطفة بالسّابق:
«أغلبها كانت ذات مغزًى واحد، أنّ العاطفة الصّادقة والحبّ النّقي يتحدّيان المستحيل ويسندان صاحبهما بالقوّة والشّجاعة في مواجهة الحياة مهما كانت الصّعوبات، ونقاء الحبّ من نقاء القلب تجاه المحبوبة.»

بدأت تفكّر بمنطقيّةٍ وكان ذلك واضحًا من نبرتها الحكيمة الهادئة:
«إلّا أنّ شخصيّاتها قد تميّزت في الغالب بالمبالغة في إظهار مثاليّتها حتّى قيل عن عنترة أنّه كان يرفع جذع شجرةٍ وحده! وأنّه ما من أحدٍ يهزمه لولا القدر والخيانة.»

حافظت على نبرتها الهادئة وهي تقول:
«لنأخذ مثالًا واضحًا: الشّاعر، وهي روايةٌ أوربيّةٌ قام المنفلوطي بترجمتها إلى العربيّة.»

بدأت تحرّك يديها أثناء طرحها للمثال:
«تحكي عن شاعرٍ أحبّ ابنة عمّه بشدّة، لكن له أنفٌ كبيرٌ جعله يبدو قبيحًا، ما منعه من الاعتراف لها وهي الفاتنة المحبّة للجمال. فاتّفق مع أميرٍ وسيمٍ أُعجب بها أن يكتب له النّصوص ويحفظها ويليها على مسامعها، أو أن يصمت الأمير ويمثّل الكلام بينما يقوم الشّاعر بالتّعبير بدلًا عنه، متعلّلًا بحبّه لمساعدتها كَون الشّاعر يشعر ما يشعر له الآخرون من ألم.»

وبصوتٍ عصبيٍّ مكتومٍ يحاول ألّا يخرج للعيّان:
«يا إلهي! ألا توجد لدى هذا الشّاعر غيرةٌ على محبوبته؟ أمحبوبته بذلك الغباء حتّى لا تميّز صوت حبيبها من صوت ابن عمّها وأسلوبه!»

ثمَّ صرخت لتنهي كتمانها للغضب:
«والأدهى والأمرّ أنّ بطلنا الرّائع حارب ألف فارسٍ بمفرده وقتلهم جميعًا في ليلةٍ واحدة!»

انفرجت أسارير ناقد، لكون عاطفيّة تتمكّن من التّعبير عمّا يزعجها بطريقةٍ واضحةٍ دون تعقيدٍ عكس ما توقّع بعد ما بدا عليها لحظة دخولها، ليردف بعدها: 
«يبدو أنّ ما يزعجك كثيرٌ في هذه القصّة!»

ردّت عاطفيّة بانفعالٍ: 
«ليس في هذه وحدها، بل في غيرها أيضًا!»

كانت مندمجةً لدرجة أنّها لم تنتبه أنّ ضربها للطّاولة براحة يدها جعل قهوة ناقد تنسكب على جزءٍ من قميصه وبنطاله، فشعرت بالحرج لذلك وبدأت سيل الاعتذارات.

ابتسم ناقد بلطفٍ مهدّئًا إيّاها وقال: 
«لا بأس عليك، لحسن الحظّ أن البنطال بني، حتّى القميص قد تلطّخ جزؤه البنيّ فقط وليس الأصفر»

ثمّ أخرج منديلًا وراح ينظّف به ثيابه قائلا:
«لا تهتمّي الآن بملابسي وواصلي ما كنت تقولينه.» 

عانى ناقد قليلًا في جعلها تتكلّم بعد جرعة الإحراج الّتي تعرّضت لها، لكنّها قد تابعت في النّهاية قائلةً: 
«سأنتقل الآن إلى القصص العاطفيّة في الحاضر، فيبدو أنّ انفعالي لما حدث في الماضي سيسبّب لي المشكلات» 

أومأ ناقد برأسه موافقًا كلامها لتكمل بعدها: 
«في الحاضر، اختلط الحابل بالنّابل.»

زفرت ثمَّ قالت بأعينٍ حادّة:
«هل تعرف قصص الأمير الوسيم والفتاة الفاتنة؟ لقد صارت تُكتب بطريقةٍ مختلفةٍ لكنّ الفكرة المبتذلة نفسها، وربّما أسوأ.»

بإنفعالٍ غير مُتعمّدٍ منها:

«تخيّل! الشابّ الغنيّ الوسيم صاحب الماركات الفارهة يحبّ فتاةً فقيرةً يلتقي بها صدفةً بعد أن صدمتها سيّارته أو صارت خادمةً عنده، أو أيّ شيءٍ من ذلك. الفتاة الفقيرة المعدمة الّتي تعاني لإعالة أهلها، فاتنة الجمال الّتي تفطر القلوب.»

أكملت بينما كان ناقد خائفًا من انفعالها:

«أو ربّما اختلفت وصارت تتحدّث عن الشّاب الضائع الّذي يقوم بكلّ المنكرات، ويعذّب زوجته التقيّة النقيّة الطيّبة الّتي تحتمل كلّ ما يصدر منه دون أن تنبس ببنت شفة، فجأةً يحدث لها شيءٌ ما فتنقلب حياته ويصبح صالحًا ويعيشان في ثباتٍ ونبات وينجبون البنين والبنات» 

بدرت من ناقد ضحكةٌ على كلامها، لكنّه استدرك نفسه بسرعةٍ بعدها ليقول بلطف:

« ألا توجد أيّ قصصٍ جيّدةٍ في عصرنا الحاليّ؟»

أجابت عاطفة:

«بلى، أحببت في البداية أن أركّز على ما يزعجني ليصفُوَ ذهني للجميل.»

أكملت:

«لا أنكر أنّ هناك قصصًا جيّدةً حقًّا، لكنّ ذاك الشّائع والمنتشر، والّذي يتهافت عليه النّاس بكثرةٍ.»

وعند إشراق محيّا وجهها تبهّجًا قالت:

«لكن من الجميل قصّة الصبيّة واللّيل لغيوم ميسو مثلًا، حيث مُزِجَ بين الفئة العاطفيّة والإثارة وغيرها من القصص الجميلة، الّتي كانت شخصيّاتها عاديّةً تعاني النّقص لكنّها تبذل جهدها، الفكرة بحدّ ذاتها مبتكرةٌ ومميّزة، وتحترم باقي العناصر كالمغزى والزّمكان وغيرها.»

كان ناقد سعيداً بعودة هدوئها وتحسّن مزاجها مرّةً أخرى، فقد عانى في الأيّام السّابقة لكي تتحسّن حتّى عادت له اليوم منكسرةً مقهورة.

قال ناقد:

«هذا جميل»

ثمّ استطرد:

«ماذا عن الواتباد؟ هل لديك رأيٌ خاصٌّ فيه؟»

وعلى عكس ما توقّع، دمعت عيناها وهي تقول:

«الكارثة كلّ الكارثة في الواتباد! باللّه عليك، إنّ القصص كلّها فيه تحكي عن شابٍّ باردٍ وسيم يعاني اضطراباتٍ نفسيّةً يقوم بتعذيب الفتاة اللّطيفة في القبو إلى أن تقع في حبّه؟ هذا جنونٌ حتمًا!»

وكأنّما بعدها انفجر برميلٌ قابلٌ للاشتعال:

«وربّما الأمير البريطانيّ ابن الأمراء الّذي لديه عدّة جوارٍ قرّر فجأةً أن يتزوّج إحداهنّ قسرًا!»

زمّت شفتتها ثمَّ تلاه قولٌ منها:

«أليست هناك أفكارٌ جديدةٌ وأحداثٌ مختلفةٌ تستطيع مخيّلة الكاتب نسجها؟»

قالت بسرعةٍ بعدما استجمعت بعضًا من قواها لإكمال الحديث، رغم الصّداع الّذي عانته:

«لكن مع ذلك لا أنكر أنّ هناك القليل جدًّا من القصص الجميلة هناك، البحث عنها كالبحث عن إبرةٍ في كومة قشّ.»

تنهّدت ثمّ تابعت: 

«لا أريد الحديث عن هذا أكثر، لذلك هلّا انتقلنا لفقرة النّصائح رجاءً؟ فكثرة الحديث أتعبتني.»

انصاع ناقد لكلامها فاعتدل في جلسته وشبك بين أصابعه قائلًا: 

«لا بأس يا عاطفيّة، عليك أن تهدئي أوّلًا ثمّ تتبعي ما أقول.»

وبدأ مسترسلًا بتعليماته:

«عليك حثّ الآخرين على قراءة قصصٍ عاطفيّةٍ ورقيّة دُمجت فيها فئاتٌ مختلفةٌ.»

أكمل قائلًا:

«كما عليك التّركيز على العناصر الأساسيّة، ألا وهي الفكرة والحدث والمغزى، الزّمكان، والوصف والشخصيّات خاصّةً.» 

ثمَّ بنبرةٍ نصوحةٍ تتخلّلها الهدوء:

«وليس لأنّك شابّةٌ مليئةٌ بالحبّ يعني أن تنقادي وراءه وتنسي المنطق والواقعيّة، فهما أمران مهمّان للغاية.»

أضاف مُحدّثًا:

«لا يجب أن تكون الشخصيّات مثاليّةً فما من أحدٍ كامل، كما عليها أن تخطئ وتتعلّم وهذا يساعد في ابتكار أحداثٍ تدعم الحدث الرئيسيّ.» 

ثمَّ وهو يحرّك سبّابته يمينًا وشمالًا دلالةً على النّهي قال:

«كما أنّ النّهاية لا يجب عليها أن تكون سعيدةً دائمًا، بل أن تتوافق مع الأحداث الّتي مهّدت لها.» 

قال مختتمًا كلامه:

«لن أُطيل عليك، أتمنّى أن تلتزمي بهذه النّصائح كما تفعلين دائمًا وستتحسّنين.»

ابتسم وقال:

«نلتقي في جلسةٍ أخرى بإذن الله.»

كانت معكم ضوء القمر، ثيزيري.

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top