أكاديمية القردة
مستلقٍ بأريحية لا تمت للمكان النائم فيهِ بصلةٍ، يهبُّ نسيمٌ باردٌ يجعله يسترخي أكثر. ثوانٍ حتى تحوّل الاسترخاء لمحاولةٍ يائسة للتنفس؛ شعر بالاختناق، لكنه ما زال غيرَ مدركٍ أنه لا يحلم، وأن ما يحدثُ ليس كابوسًا!
شعر بشيءٍ ناعمٍ مُلتفٍّ حول رقبته بإحكام، فتح عينيه بفزع ووجههُ محمرٌّ، لتبدأ العقدة التي حول رقبته تتلاشى، والأكسجين يشقُّ طريقه إلى رئتيه من جديد. اعتدل في جلوسه بعد أن استعاد توازنه بصعوبة، ووجّه تركيزه نحو الملتفّ حول نفسه بشكلٍ حلزونيٍّ، رافعًا رأسه ووجهه ناحية صاحب الوجه المتجهّم. ثوانٍ قليلةٍ مرّت عليه لاستيعاب ما جرى، وما لبث أن صرخ قائلًا: «ألن تكُفَّ عن فعل هذا بي في كلِّ مرّة؟!»
تجاهل صراخه مغادرًا نحو الأرض، فتَبِعه الآخر قافزًا برشاقةٍ من على الغصن الذي اتخذه سريرًا له في المساء. وقف على قدميه مستقيمًا بعد أن انحنى واضعًا يديه على التربة حين قفز. توضّح حينها طوله المتوسط وعضلاته المفتولة نسبيًا، حيث لم يكُن يرتدي شيئًا على الجزء العلوي من جسده.
أسرع بارتداء قميصه البني اللون وعدّل بنطاله الأسود، ثمّ تناول حقيبته القماشية عن الغصن الذي بجانبه واضعًا إيّاها حول رقبته وكتفه. بعدها التقط قبّعته البنيّة التي زيّنها خطٌّ أسود، ناظرًا بغضبٍ إلى الذي تقدّمه زاحفًا، متعمّقًا في الغابة وكأنّه لم يفعل شيئًا.
لحقه داعسًا على ذيله عمدًا، ثم أخرج من حقيبته الخريطة متجاهلًا الآخر. فتحها ناظرًا نحو شكل الورقة المرسوم بشكل مصغر في بداية الخريطة والذي تتوسطه علامة (X) باللون الأحمر. ثوانٍ فقط حتى ظهرت له كتابةٌ بخطٍّ صغير. تململ بينما يخرجُ المكّبر من الحقيبة واضعًا إيّاه على الخريطة، وتحديدًا على الجملة التي ظهرت فجأة. تمتم بعد لحظاتٍ: «فوقَ العمالقة حيث شبيه الإنسانِ ستجد ضالّتك.»
أخرج الكتيّب الصغير الذي معه بعجلٍ مدوّنًا الجملة بسرعةٍ خشيةَ أن تختفي وتُنسى. وقف لبرهةٍ يردّد الجملة بعدم فهمٍ للمغزى الذي بداخلها. أخذ بعض الوقت ثمّ صرخ بحماس:
«يا لك من غبيِّ يا همام! يا رجل، شبيه الإنسان بالتأكيد هي القردة.»
نظر في الأرجاء بدقّةٍ باحثًا عن أيِّ أثرٍ للقردة، لكن لا أثر بالتأكيد. إنَّ الأمر ليس بهذه البساطة. أعاد نظره إلى كتيبه متمتمًا: «شبيه الإنسان عرفناه، لكن العمالقة، أهي حيواناتٌ عملاقة، أم وحوشٌ من نوعٍ ما؟»
شعر بدبيبٍ في قدمه، يعلم ما هو لكنه ما زال غاضبًا منه. نفض قدمه بعنف، ما جعل الآخر يقع أرضًا مارًّا بحذائه البني اللون، المناسبِ لمكانٍ كالغابة. لكن الآخر لم ييأس وعاود الكرَّة، ومن حسن حظه، صديقهُ انشغل باللغز، لذا نجح هذه المرة. تحلزن حول كتفه، مادًّا رأسه ينظرُ تارةً إلى الخريطة وتارةً أخرى إلى وجه صديقه، وهكذا أكملوا المسير بحثًا عن أيِّ أثرٍ لما يُسمى بـ"شبيه الإنسان."
توقّف بضع لحظاتٍ مقرّرًا أخذ استراحةٍ وتناولِ شيءٍ ما. جلس أرضًا مخرجًا شطيرته، وبعد أن أنهى وجبته، استلقى قليلًا راغبًا في أخذِ قسطٍ من الرّاحة. وبينما هو مستلقٍ ينظر إلى الأمام، شاهد حدثًا قتاليًّا عنيفًا يبعد عنه مسافةً تضمن بقاءه على قيد الحياة حتى الآن على الأقل. أسرع بتسلق الشجرة التي تقع على يمينه برشاقة، وقد ساعده جسمه المتناسق والنحيف على ذلك، ليرى المنظر المدهش أمامه: مجموعةُ نمورٍ تتقاتلُ بشراسة. نظر بزاوية عينه الزمردية لشيءٍ قادمٍ من بعيد، فإذا به نمرٌ آخر يبدو أصغر من البقية، والواضح أنه يُريد الانضمام أيضًا. يمشي ذهابًا وإيابًا متحمّسًا وكأنه ينتظر الوقت المناسب للانضمام إلى القتال.
فكّر همام: كيف له أن يغامر وهو أصغر منهم وسيغلبُ بسهولةٍ دونَ شكّ؟ هل القتالُ مشوّقٌ وممتع لهذه الدرجة؟ لو رأى كاتبٌ هذا المشهد أمامه وكتبهُ، لكانت المغامرةُ إحدى أعمدتها الأساسية هو التّشويق.
التّشويق في المغامرة يجب أن يكونَ بارزًا ومتصدرًا للقائمة، لأن الكاتب يسعى في هذه الفئة إلى التّشويقِ والمفاجآتِ والأحداثِ المذهلة. ففي طبيعة رواية المغامرة، هناك قانون أساسي:
«لا وجودَ لجوابٍ دونَ سؤالٍ جديد، ولا مشكلةَ من دون حل، ولا حلّ مشكلةٍ دونَ أخرى جديدة، ولا انتظار بدون حدث، ولا حدث بدون انتظار.» فيكونُ هناك تبادلٌ، وفي ذات الوقتِ تشويقٌ يغلف أسطر الرواية، ما يضعُ القارئ تحت وطأة نصٍّ تشويقيٍّ مثير، لا يستطيع إلا أن يتتبّع وقائعه، ويلهث خلف الغموض محاولًا استنتاج النهاية التي غالبًا ما تكون غير التي يضعها بنفسه، ذلك أن الكاتب يعمد إلى التضليل، ويضع نهايةً غير متوقعة تخلق جوًّا من التشويق.
وعلى الكاتب الاهتمامُ بهذا العنصر بشكلٍ جيّد نظرًا لأهميته، فهناك أمورٌ يجب عليه تجنبها. مثلًا: استخدامُ التّشويق بعقلانية، وعدم الإسهاب فيه، إذ أن ذلك يجعل القارئ ضائعًا في بحر الرّواية دون هوادة، وتصبح الأحداث دون معنى أو فكرةٍ واضحة. وأيضًا التمطيط في الحدث وهو الإطالة فيه لدرجة الملل. وعلى سبيل المثال، عقدة تحتاج لحلّها عدداً قليلًا من الفصول، لكن الكاتب يماطل ويجعل حلّها في ضِعف ما تحتاجه.
وأخيرًا، وجود أحداثٍ وأفكارٍ ثانوية لا تؤثّر على الرواية. لنقل إنها أحداثٌ لا تعود على الفكرة الرئيسية بالنفع ولا تدعمها بشيء، إنما مجرّد أحداثٍ لا فائدةَ تُرجى منها، وذلك ما يفسد التّشويق في الرواية ويقطعه بشكلٍ سيء.
كذلك، الاهتمام بعناصر قصصية أخرى في الوقت الخاطئ، وعلى سبيل المثال الإسهاب في الوصف وسط صراعٍ خارجيّ - كتبادل إطلاق النار أو مشاجرة عنيفة - إذ يجب هنا التّركيز على السرد والجانب النفسيِّ للشخصية. فما فائدة أن يسهب الكاتب بوصف شكل المسدس أو المضرب هنا؟
وأخيرًا، قطع اللحظات الحاسمة التي تتكرر في عدة فصول، وفي كل مرة يقطعها شيءٌ ما. إذ أن القارئ يكون في أقصى مراحل الانفعال، لكن يتم قطع هذه اللحظة بطريقةٍ ما. فلا يجب أن يتكرر هذا بشكل مبالغ فيه - وجودها في مراتٍ قليلة لا بأس به، إذ تحافظ على التشويق - لكن تكرارها بشكل مبالغ فيه يستفز القارئ ويطفئ حماسه.
طغى على همام الحماس منتظرًا دخول الصغير للقتال. لكن فجأة، خرج أحد النمور من القتال وتوجّهَ بسرعةٍ ناحية الصغير دافعًا إيّاه للخلف. وبرغم الدفعة القويّة، إلا أنها كانت نابعةً من خوفه عليه وليس خطوةً لبدءِ القتال معه. إذ ظلَّ يدفع الصغير حاثًّا إيّاه على مغادرةِ المكان، مرافقًا له حتى اختفوا وسط الغابة. دقائق ثمّ تفرقت النمور وانتهى القتال.
«لقد أصيبوا بجروحٍ عميقة»، تمتمَ همام، ثم أدركَ أنه أضاع وقتهُ هنا ويجب عليه الإسراع لحلّ اللغز قبل حلول الظلام.
لذا أسرع بمغادرةِ الغصن قاطعًا المسافات، متعمّقًا في الغابة أكثر، عيناه تبحثان عن أيّ أثرٍ لشبيه الإنسان، والوريقات تتفتّت تحت قدميه، صديقه ملتفٌّ حول ذراعه. كان الطّريقُ مصحوبًا بأصواتِ الحيوانات المختلفة، إلّا ما يبحث عنه فلا أثرَ له.
أرهف سمعهُ وتجمّدت قدماه عندما سمع صوتًا يظنّه للقردة. تتبّع الصّوت بخفّةٍ اكتسبها لكثرة ما خاض من مغامراتٍ كهذه. بعد فترة من التتبّع -قرب النّصف ساعة تقريبًا-، وقف مذهولًا مما يرى وتساءل في نفسه: "أهذا هو المقصود بالعمالقة؟ إنّها تستحق لقبًا كهذا."
تقدّم حتى تصبح في مجال نظره بشكل أوضح. أشجارٌ عريضة وعملاقة جدًا، تمتدُّ إلى حيث لا يعلم. رقبته تشنّجت وهو يحاول أن يرى نهايتها لكنه لم يستطع. عاد بنظره إلى القردة المتخذة من الأغصان بيتًا لها، هذا يسابق الآخر، واثنان يلعبان سويًا، والصغار اللطيفة تلهو من غصنٍ لآخر، لكنّها عادت سريعًا إلى أمهاتها فور شعورها بالغريب الواقف يتأملهم في ذهول.
«وجدنا العمالقة وشبيه الإنسان، إذًا فالورقة بالتّأكيد هنا.» تحدّث بعدما تأمّل ما حولهُ واستوعب أنّه في المكان المنشود.
جال بعينيه في الأشجار التي تجثم عليها القردة، باحثًا عن وجودِ أيّ أثرٍ لما يبحث عنه. تنظر له القردة بتركيز وكأنّها تعلم عمّا يبحث، وهذا ما حدث بالفعل، حيث بدأت ترقصُ بحماسٍ، مطلقة أصواتًا تعبّر عن حماسها، وانتقلت سريعًا جميعها إلى شجرةٍ واحدة!
هنا استشعر همام أنّها تحاول مساعدته، وهذا ما يحدث بالفعل. ركّز بنظره على الشّجرة المليئة بالقردة، لتقع عينيه على إحدى الأغصان التي يوجد في نهايته عشُّ طيرٍ به بيضٌ صغير. صرخ بحماس فور رؤيته لطرف ورقةٍ خارجًا من العشّ، لتبادله القردة الصراخ وتعود للرّقص.
تسلّق الشجرة بصعوبة بعض الشيء، وصديقه الثعبان ما يزال ملتفًا حول ساعده الأيمن قمحيّ اللون كباقي بشرته.
توقّف ما إن وصل إلى الغصن المعنيّ، وبدأ يزحف عليه ببطء، وتسلّل له بعض الخوف من أن ينكسر به الغصن، فعلى الرّغم من سماكته المتوسطة، ما زال لا يعلم ما مدى الوزن الذي قد يتحمله.
ما إن اقترب وكان على وشك مدّ يديه لتناول الورقة، حتى أتى طيرٌ من حيث لا يعلم وجلس على البيض، وعلى ما يبدو فهي صغاره التي لم تفقس بعد.
شعر بخيبة أمل، كيف سيبتعد الطير الآن؟ خرج من تفكيره على صديقه الذي نزل من ساعده وأصبح على الغصن وهدفه واضحٌ جدًا. صاحَ به عندما علم نواياه: «كلا! لن تفعل، لن يحدث هذا حتى في أحلامك.»
خاب أملُ الثّعبان المسكين الذي كان على وشك تناول وجبةٍ لذيذة، حيث كان قد فتح فمه مستقبلًا هذه الوجبة. نظر لصاحبه كأنّه يرجو عطفه، لكنَّ الآخر رفض رفضًا قاطعًا محرّكًا رأسه يمينًا وشمالًا بعنف.
عادَ ملتفًّا حول ساعده بقوّةٍ متعمّدة، لينظر له الآخر بغضب، ويطلب منه أن يخفف من قوته. فكّر في كيفيّة الحصول على الورقة الآن، وما لبث أن أصبح أحدُ القرود على الغصن المقابل له من الجهة الأخرى، ضاربًا على صدره بحماس مطلقًا أصواتًا صاخبة. ركّز أنظاره عليه محاولًا فهم ما يحاول إيصاله إليه.
أشار له بحركةٍ كأنه يخبره أن يغادر الغصن، وهذا ما فعله الآخر بطواعية، انتقل القرد إلى الغصن ذي الأهمية مقتربًا من العش مصدرًا صوتًا مخيفًا جعل الطائِر يغادر بهلع.
ابتسم همام بوسع عندما غادر الطّائر، وأعاد بصره نحو القرد الذي عاود الضرب على صدره، وكأنّه فخورٌ بما فعل. أسرع همام بالتسلّق مجدّدًا، بينما القرد عاد إلى مكانه مع بقية القردة بعدما فعل ما عليه.
ابتسم بتوسّع وضحك بحماسٍ ما إن وصل إلى الورقة وأصبحت بمتناول يديه. أسرع بتفقّدها ليتأكد إن كانت هي ما يبحث عنه، وقد كانت كذلك، فأسرع بوضعها في حقيبته بعنايةٍ فائقة. ثم أخرج من الحقيبة موزةً، مادًا إياها نحو القرد الذي ساعده، ليلتقطها الآخر بحماس.
غادر الغصن والشّجرة كذلك وأصبح في الأسفل. نظر لأعلى ورفع يديه ملوّحًا للقردة، التي أجابته بالرقص. رقص لهم أيضًا بشكلٍ مضحكٍ، محاولًا تقليدهم، لينتبه إلى الشّمس التي غربت بالفعل. هذا يعني أنّه يجب عليه إيجادُ مكانٍ لينام فيه، لذا أسرع بالبحث عن مكان مناسب يمضي فيه ليلته.
-جونة.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top