أُلفة في أقاصي الأرض

طنينٌ في أذنيهِ يصيبه بصداعٍ مزمن، وببطءٍ يفتح عينيه فلا يكاد يرى، الغباشُ يطغى على كل شيء. حاول فركَ عينيه، فتفاجأ بيديهِ ملطختين بطينٍ لزِج، وتناهى إلى مسامعه فحيحُ أفعى، فوقفَ مسرعًا وأوصالُه ترتجف. طالعَ المكانَ من حوله؛ أشجارٌ كثيفةٌ باسقةٌ على مدِّ البصر متشابكةُ الأغصان، وحشائشٌ بينها، وأفعى مُجلجِلة تقفُ أمامه بسكون.

"أينَ أنا؟ وما الذي حدث؟"

تساءل مستنكرًا هيئته المزرية، والغابة الغريبة التي وجد نفسه فيها.

تنهد يائسًا وطالع الأفعى التي تقترب منه ببطء، تراجعَ خطواتٍ متوجسًا قبل أن تتوقف عند قدميه، وتفرك رأسها بلطف وتهز جرسها، ثم تمر من بين قدميه وتكمل طريقها متمهلة، متجاهلةً قلبه الذي كاد يتوقف.

وجد نفسه يتبعها ببطء، خطواتٌ قلائل حتى وجد نفسه أمام مشرب ماء، والحيوانات من حوله تشرب. اقترب ببطء بعدما هزَّت الأفعى جرسها، وطالع انعكاس وجهه على صفحة الماء؛ بشرته الحنطية قد مالت إلى الاصفرار وشحبت، وعيناه الزمرديتان ملطختان بالطين، وشعره البني مبعثر، وملامحه الحادة متعبةٌ لأقصى حد.

ارتشف بعض الماء متمهلًا، وأخذ بعضه ومسح الظاهر من بدنه وشعره، فاستعاد قليلًا من طاقته المهدورة. ارتوى فوقف بطوله المتوسط وقوامه الممشوق الأقرب للنحافة، ومشى بخطواتٍ مثقلة حول المكان، ليتفاجأ بشجرة فاكهة مألوفة الشكل، فمد يده ليتناول واحدة، لكن الأفعى سارعت بالزحف على جسده حتى وصلت يده، وبحلقت في وجهه كأنها تمنعه من الاقتراب، فابتعد خوفًا وأطاعها دون جدال، فلا أحد يجازف وأفعى مثلها تقف على يده.

انسحبت الأفعى مرةً أخرى وأشارت له باتباعها، فتبعها مسحورًا حتى وقفت أمام شجرة موز ضخمة، اتسعت ابتسامته فرحًا وسارع بالتهام الموز بنهمٍ شديد حتى امتلأت معدته، فاستند على جذعها مسترخيًا، ولمعت ذاكرته فجأة، وتوالت الأحداث بتسلسلٍ سريع، وتذكر كل شيء.

تذكر سبب وجوده في هذه الغابة العجيبة في أقاصي الأرض؛ الكتاب التاريخي المفقود! كيف نسي مبتغاه؟ وأخذ يفكر بحيرةٍ كيف سيجده؟ كيف سيعثر على كتابٍ فقد أثره وبعثرت صفحاته في غابةٍ لا يعلم سوى الله مدى اتساعها؟

«رحلةٌ كهذه تحتاج رِفقة.»

قال متنهدًا وهو يمد يده للأفعى بألفة، مدركًا أن نجاته بين يديها. انتظر قليلًا، لكن عينيها شخصتا باتجاه طريقٍ شبه ممهَّد سلكته الحيوانات كثيرًا حتى فرّت منه النباتات خشية الدهس. ففهم مقصدها وابتسم ثم قال: «هيا! لعلنا نجد مأوًى قبل أن يحل الظلام.»

تمركزت الأفعى على كتفه الأيسر، كملكةٍ متوجة على عرشها، ومشى بخطواتٍ سريعةٍ مثابرة صوب هدفه، مجتازًا الحشائش والآفات بمهارة محاربٍ من الطراز العتيق. أخذه الطريق في اتجاهاتٍ غريبة، يمنةً ويسرةً، صعودًا وهبوطًا، حتى انسدَّ الطريق بجبلٍ يحجب الرؤية، مغطى بالنباتات والفطريات، يتوسطه مدخل كهف، مزخرفٌ كأنه نُحت بعناية. توقف مبحلقًا، وتوجَّس خيفة؛ لا عاقل يخاطر بدخول كهفٍ مظلمٍ مجهول! لكنه تفاجأ بانجذاب الأفعى نحوه، تميل برأسها للأمام وعيناها مصوبتان نحو الكهف.

تململَ قليلًا ثم دخَلَ ببطءٍ وتوخى الحذر؛ المكانُ مظلمٌ بشكلٍ مرعب، المدخل يبتعد، ويختفي معه ضوء الشمس. خطواتٌ أخرى حتى بدأ ضوءٌ آخرُ بالظهور؛ نارٌ متقدة وسط الكهف، والمكان حولها منحوتٌ على شكلِ قبةٍ صغيرة. تزيَّنت جدرانها بالنباتات المتسلقة، وبعض الجذوع اليابسة، وكتاباتٌ ورموزٌ شبه مقروءة، وبعض قطع الأثاث منتشرةٌ بعشوائية مفرطة، وطاولةٌ حجرية أُلقي عليها رداءٌ قديمٌ رث، وأسفله تناثرت كؤوسٌ وأباريقٌ ومحابر وأوراقٌ وأقلام.

نزلت الأفعى عن كتفه وتجوَّلت في المكانِ متبخترةً، وأخذ هو يطالع المكان مأخوذًا بهيبته، يفتش بين الأغراض باحثًا عن رأس خيطٍ يدلُّه على مبتغاه، متأكدًا أن الأفعى لم تُحضره إلى هنا عبثًا. قرأ الأوراق المتناثرة على عجالة فلم يجد ما يفيده، حتى وصل إلى غلاف كتاب بنيٍّ سميك، أمسكه بحذر فاهتزت الأرض من تحته، انقبض قلبه وبحث عن رفيقته حائرًا قبل أن تظهر الأفعى من تحت الرداء تطالعه. تجرأ وأمسك بها عنوة، والغلاف تحت إبطه، وعاد أدراجه من حيث دخل، فتفاجأ بنمرٍ مرقطٍ يتوسط المدخل.

الأرض تهتز، الحصى تتراقص من حوله، النمر ثائرٌ أمامه مبرزًا أنيابه، والأفعى تتفلت من بين يديه، والدم تجمّد في عروقه وتوقف عقله عن العمل برهةً حتى فقد السيطرة عليها وانسلت من يده وابتعدت في الاتجاه المعاكس. بحلق بها قبل أن تأتيه لحظة إدراك؛ النجاة معها... فأسرع!

سارع بالركض خلفها لا ينوي إلا النجاة. عبرت الغرفة ودخلت جحرًا خلف إحدى الطاولات لم يره من قبل. تردد بسبب اختلاف الأحجام ثم استسلم للواقع وانحشر خلفها مجاهدًا الدخول. زحف حتى أدمى مرفقيه، لا يرى أمامه بسبب الظلام، ولا يسمع سوى نبضه المتسارع.

بدأ النفق بالانفراج، وبات بإمكانه الرؤية؛ نهايته بانت، وها هو يخرج من الجبلِ برمته، ويرتمي على العشب متعبًا متقطع الأنفاس، وينغلق من خلفه المخرج بالحطام.

أغلق عينيه للحظات قبل أن يشعر بثقلٍ على صدره. فلما فتحهما، فزع لرؤية الأفعى جاثمةً تطالعه، لن يعتاد على الألفة بين بشريٍّ وأفعى مهما حاول! أبعدها برفق وتناول الغلاف يقلِّبه بفضول. أهو مفيد ويستحق أن يُطبق الجبل عليه لأجله؟

فتحه وتفاجأ بأول كلمة... اسمه.

«هُمام...

نعلمُ أنكَ الوحيد الذي سيجدُ هذا الكتاب، الوحيدُ المُكترث لهذا الأدب، ولهذا فإنَّكَ الأجدرُ بحملِ هذه الصفحاتِ الثمينة، الصفحات التي تناثرت في هذا المكان البعيد. ولتعلم أنَّ هذا الكتابَ يساوي ثروة، فلا تفرِّط به.»

ما زالت الصدمة واضحة على مُحيَّاه، لا يدري من المتكلم، فلا يمكن أن يكون الكاتب، فقد تمت كتابة هذا الكتاب قبل أن يُولَد بسنواتٍ طويلة، فكيف يعرفونه؟ لكنه أزاح الورقة الأولى وأكمل القراءة ليدخل في صلب الموضوع ومحتوى الكتاب الأصلي.

«المغامرة هي تجربة مثيرة وشيِّقة يمر بها الشخص، يمكن أن تكون أحيانًا جريئة وخطيرة مع نتائج غير متوقعة. كذلك المغامرة في الأدب، فهي كل عمل أدبي يجعل القارئ يشعر كما لو أنه يخوض أحد هذه التجارب إلى جانب أبطال القصة.

وأهم ما يميز هذه الفئة وجود لغز يسعى الأبطال لحله بطريقة ما.

وتتضمن فئة المغامرة فئتين أساسيتين، وهما الإثارة والغموض، بالإضافة إلى البوليسية.

أما أهم العناصر التي تبرز في هذه الفئة:

أ- التشويق:

يسعى الكاتب في هذه الفئة إلى خلق التشويق والمفاجآت والأحداث المذهلة. ففي طبيعة رواية المغامرة هناك قانون أساسي: «لا وجود لجوابٍ بدون سؤالٍ جديد، ولا مشكلة من دون حل، ولا حل لمشكلة دون أخرى جديدة، ولا انتظار بدون حدث، ولا حدث بدون انتظار.»

فيكون هناك تبادل وفي ذات الوقت تشويق يغلّف أسطر الرواية، ما يضع القارئ تحت وطأة نصٍّ تشويقيٍّ مثير، لا يستطيع إلا أن يتتبع وقائعه، ويلاحق الغموض محاولًا استنتاج النهاية، التي غالبًا ما تكون غير التي يتوقعها؛ ذلك أن الكاتب يعمد إلى التضليل، ويضع نهاية غير متوقعة، مما يخلق جوًّا من التشويق.

وعلى الكاتب الاهتمام بهذا العنصر بشكل جيد نظرًا لأهميته، ويجب الانتباه إلى ما يلي:

أولًا: استخدام التشويق بعقلانية وعدم الإسهاب فيه، إذ إنَّ ذلك يجعل القارئ ضائعًا في بحر الرواية دون هوادة، وتصبح الأحداث دون معنى وفكرة واضحة.

ثانيًا: التمطيط في الحدث، وهو الإطالة فيه لدرجة الملل، فعلى سبيل المثال، عقدة تحتاج لحلها عددًا قليلًا من الفصول، لكن الكاتب يماطل ويجعل حلها يستغرق ضعف ما تحتاجه.

ثالثًا: وجود أحداث وأفكار ثانوية لا تؤثر على الرواية، ولنقل إنها أحداث لا تعود على الفكرة الرئيسية بالنفع ولا تدعمها بشيء، بل مجرد أحداث لا فائدة تُرجى منها، وذلك ما يفسد التشويق في الرواية ويقطعه بشكل سيئ.

رابعًا: الاهتمام بعناصر قصصية أخرى في الوقت الخاطئ. على سبيل المثال، الإسهاب في الوصف وسط صراع خارجي كإطلاق النار أو مشاجرة عنيفة. هنا يجب التركيز على السرد والجانب النفسي للشخصية؛ فما فائدة أن يُسهِب الكاتب بوصف شكل المسدس أو المضرب هنا؟

خامسًا: قطع اللحظات الحاسمة التي تتكرر في عدة فصول، وفي كل مرة يقطعها شيء ما، إذ يكون القارئ في أقصى مراحل الانفعال، لكن يتم قطع هذه اللحظة بطريقة ما. لا ينبغي تكرار هذا بشكل مبالغ فيه، لكن وجوده بشكل معتدل يحافظ على التشويق؛ إذ أن الإفراط فيه يستفز القارئ ويجعل نيران حماسه تخمد.

هذه أمثلة لما يفسد التشويق، ويجب على الكاتب تجنُّبها. نجد أيضًا طرقًا بسيطة تولّد التشويق في الرواية، مثل غموض الحوار والمشاهد الغامضة التي لا يُذكَر فيها اسم أي شخص، ولا حتى وصف ملامحهم. بمعنى آخر، هي مشاهد غامضة من كل النواحي. وأخيرًا، قطع الفصل في لحظات حاسمة هو طريقة يعتمدها الكثير من الكتاب، وتدفع القارئ للإسراع بفتح الفصل التالي.

ب- الشخصيات:

عنصر الشخصيات مهم في هذه الفئة، إذ إنها من تعايش الأحداث وتسير في خط رسمه الكاتب من أجلها. وكما نعلم جميعًا، يجب أن تبرز جوانب الشخصيات بشكل كافٍ حسب دور كل شخصية.

من أهم جوانب الشخصيات التي تخدم الفئة هما الجانب النفسي والخلقي. فالجانب النفسي يعطي القصة طعمًا مميزًا، كما لو أنك بجانبها، تعرف ما يجول بداخلها وأي شعور تشعر به أثناء الحدث.

أما الجانب الخلقي، فتكمُن أهميته في سير الأحداث بمنطقية. على سبيل المثال، الشخصية قليلة الحديث والانطوائية قد نجدها في رواية الغموض، وإلى جانبها الشخصية الفضولية التي ترغب في اكتشاف كل ما هو غامض. هذه مجرد أمثلة بسيطة، إذ تختلف أنماط الشخصيات باختلاف الفكرة والحبكة والأحداث، لكن يمكن تلخيص ذلك في أن الجانب الخلقي مرآة عاكسة للأحداث والفكرة ومضمونها.

لكن هذا لا يعني إهمال باقي الجوانب، كالجوانب الخَلْقية والاجتماعية، حيث أن تكوين الشخصية كاملة بجميع جوانبها وربط بعضها ببعض أمر مهم.

ونجد أيضًا عنصري «السرد والوصف». تكمن أهمية السرد في كونه ما يترجم تلك الأحداث الخيالية إلى نصوص مكتوبة، بينما يساعد الوصف في إعطائنا الصورة الكاملة للحدث المترجم. لا داعي للتفصيل في أهمية السرد في الروايات الحركية (الأكشن)، خاصة التي تعتمد على الصراعات والحركات القتالية، لذا يجب أن يكون السرد والوصف كافيين لترجمة تلك الحركات السريعة ونتائجها. كما أن السرد يجب أن يكون مشوقًا كما ذكرنا سابقًا عند الحديث عن عنصر التشويق.

أيضًا، لا داعي للغطرسة اللغوية من ناحية تنميق اللغة واختراع التراكيب الغريبة في اللغة العربية. فروايات المغامرة يمكن القول إنها أدب تسلية، نوع من الكتابة يحمله القارئ إلى فراشه ليتسلى قليلًا قبل النوم. لذا، لن يرغب في أن يجد تلك التعابير الوعرة ويبحث عن مرادفات الكلمات. بدلًا من أن يستمتع بها، سينفر منها ببساطة. لذلك، على الكاتب الاعتماد على أسلوب جميل وسلس وبسيط.

ننتقل إلى «الصراع». يكون الصراع حاضرًا بجميع أنواعه، ويكثر الصراع الخارجي والمادي في القصة، وذلك بسبب مكونات هذه الفئة - البوليسية والأكشن - فلا تكاد تخلو من المشاحنات والحركة والنزاعات. سواء اعتمد على الأدوات الصلبة كالسكين أو اللوحة الخشبية، أو كان صراعًا جسديًا يعتمد على الفنون القتالية. كما نجد الصراع الداخلي الذي يكون بين البطل وذاته، ويدفعه العواطف للتغلب على مشاعره السلبية كالغِيرة أو الغضب أو التَّعاسة أو الجشع. وعلى الكاتب التركيز على الوصف لنقل هذه العواطف، بينما يركز على السرد في نقل أحداث الصراع الخارجي.

بعض الملاحظات:

1. على الكاتب في هذه الفئة أن يهتم بنسج حبكةٍ قوية ومحكمة دون ثغرات أو خلل، إذ أن ثغرة بسيطة قد تؤدي إلى كارثة لاحقًا، مثل تضارب الأحداث والخروج عن إطار الواقعية.

2. الأفكار غير المألوفة هي ما يميز هذه الفئة، إذ إنها تولد المتعة عند القراءة.

وكما يقول دان براون: «أنتَ لست بحاجة لفكرة عظيمة حتى تبدأ بكتابة رواية، إنما بحاجة للخطوات التي يتخذها البطل لتحقيق تلك الفكرة.»

3. يختلف طابع الرواية باختلاف المكان الذي يحتوي الأحداث. فالرِّيف يختلف عن المدينة، والبلدان العربية تختلف عن البلدان الأوروبية في عدة نواحٍ.

4. نجد في السرد دلالات زمانية ومكانية. ما نعنيه بالدلالات الزمكانية هو تعبيرات وتلميحات لغوية ورمزية وأوصاف خاصة بطبيعة الزمان والمكان.

5. الراوي العليم بكل شيء هو الغالب في الروايات التي تندرج ضمن هذه الفئة، إذ يحيط بجميع أركان الحدث. إلا أن كونه الأفضل لا يعني عدم تواجد قصص براوٍ مختلف، فذلك يعتمد على الكاتب والفكرة في المقام الأول.

ختامًا، تختلف مغازي الفئة من فكرة لأخرى، إذ أن فئة المغامرة في الأصل يمكن أن تكون عاطفية واجتماعية وخيالية، مما يجعل المغازي متعددة ومختلفة باختلاف الأفكار.»

أغلق الكتاب وتنهَّد. لم يكن قبل الآن مُدرِكًا لمحتواه. فكل ما كان يعرفه أن الكتاب يُضاهي ثروة حقيقية، لكن الأمر بدأ يخرج عن مخططاته، فقد تبيَّن أن صفحاته قد بُعثرت في هذه الغابة المترامية الأطراف، وأن عليه البحث عن بقية الصفحات ليكتمل الكتاب، ولن يحدث هذا دون مساعدة الأفعى؛ رفيقة رحلته العجيبة.

فريق النقد الذي أتمنى لو يمكنني التفاخر علانيةً بأنني عضوة فيه ❤️

كانت معكم الفاتنة سول~

دمتم بود، نحن دومًا بالجوار ♥️

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top