الفصل السادس

الفصل السادس|| حدث وبداية

سلَّ ورقة وقلما من تلك التي يضعها في أحد أدراجه، نسج ما دار في ذهنه حينها، لم يكن إلا عهدا كتبه على نفسه (ألا يعود إلى سماع الأغاني) فقد كان تركها بالنسبة له ليس بالأمر الهين، للدرجة التي دفعت به إلى تحميل نفسه عهدا ثقيلا، سيكون مسؤولا عنه أمام الله إن هو أخل به، وأمام عينيه جالت الآية ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾

شعر أن هذا سيقيده أكثر من كونه يعلم حكمها، سنَّ ذلك العهد بالقول (أنا العبد الفقير إلى ربه جمال حسين، أتعهد ألا أعود إلى سماع الأغاني، سائلا الله أن يغفر لي ما فات، ويعينني على ما هو آت، والله على ما أقول شهيد)

ثنى تلك الورقة ليخبأها في دفتر قديم، يضعه في درج لا تطاله الأيدي، يضم جمعا من دفاتره القديمة، ردد في سره برجاء: اللهم أعني ووفقني، اللهم اجعل وفائي بهذا العهد مكفرا لسيئاتي التي جنيتها من سماع الأغاني سابقا

ارتمى على سريره فتذكر مجددا ما حدث له بسبب من يسمي نفسه شيخا هو ومن على شاكلته، تمردت منه تنهيدة حارة، بدا أنه لن ينسى ما فعلوه به بسهولة، وربما لن ينسى أبدا، يمكن للقلب أن ينسى كل شيء عدا الألم الذي يغرس فيه بعمق

جاهد كثيرا مشاعره تلك، ودَّ لو استطاع تجاهلها قليلا ليتمكن من النوم، لن يكون الأمر جيدا إن استمر بالتفكير، سيبقى يدور في دائرة ممتلئة بالضيق والقلق، في حين يتوجب عليه أن يكون صبورا ما دام أنه قرر أن يغير من حاله، عليه ألا يسمح لوسوسة نفسه أن تتغلب عليه، تلك الوسوسة التي تهمس له بالقول (حين يرونك وقد أصبحت صالحا سيقولون أنك إما مرآئي، وإما أن أفعالهم المشينة قد آتت نتائج إيجابية)

يعلم هو أن لو استمر بسماع حديث نفسه لما خرج من هذا الحال الذي هو فيه، في ذات الآن كان يعلم أن الانصياع إلى طلبات نفسه لن تثمر بما ينفعه، وهو الذي قد جرب ذلك، ما إن يتذكر هذه الحقيقة إلا واستطاع أن يطرد حزنه، ولو قليلا فقط، وقد كان ذلك القليل كافيا ليجعله يغط في النوم هذه المرة

**********

خشخة نعليه السائرتين وسط الليل تتسلل إلى السمع بوضوح، يبدو أنه لن يستسلم من الذهاب إلى جامع الرحمن، هناك حيث يشعر أن قلبه يعود للحياة، ربما يكون هذا هو تفسيره لحالته تلك، إنه يجهل سبب كل ما يحدث معه، وما الذي دفعه لاختيار جامع الرحمن دون غيره، ولكن لعل في سيره ذاك حكمة إلهية خفيت عنه، تلك القاعدة التي تقول «ما كل شر بشر محض» ربما هذه الأيام التي يراها كئيبة ومحزنة إنما نهاية نفق مديد، وبداية أفق جديد، إنه يؤمن أن وراء كل محنة منحة، ووراء كل شر خير، ووراء كل عسر يسر، وحتى لو لم يستطع رؤية أو إدراك ذلك سيظل مؤمنا بهذا دائما

لاح له طيف شخص ما يقف على الجسر، وحين اقترب منه أكثر وجد أنه _مرة أخرى_ ليس إلا معاذا، فماذا يفعل عند هذا الجسر؟ وما هذا الموعد المسائي الذي لا يغيره؟ ومجددا بدا شاردا لا يعي ما يجري حوله، هذه المرة لم يستطع خليل تجاوزه بصمت كما حدث سابقا، لكن كيف السبيل للحديث معه؟

انبجست في رأسه فكرة فسارع إلى تطبيقها، وقف بجانبه وهتف:
_السلام عليكم!

تنبه معاذ إلى وجوده فأخذ ينظر إليه بصمت، لم تكن لديه رغبة في الرد، لكن ومجددا بدا له طيف ذلك الأربعيني وهو يقول (ردُّ التحية مجاني يا ولدي «وعليكم السلام» لن تكلفك شيئا، على العكس ستجعلك تكسب أجرا) ومن ناحية أخرى رد السلام قد يساعده على إبعاده، بينما الصمت قد يزيد من إصراره في البقاء، ومحاولة معرفة ما يجري معه، وجد نفسه يرد السلام بلا قيود:
_وعليكم السلام!

أعاد نظره ناحية أسفل الجسر، في حين كان يتكئ بذراعيه على سور الجسر، ويسند جسده عليهما، كان يتمنى لو أن ذلك كافيا لطرد الغريب الذي وقف فجأة يلقي عليه السلام

هو لا يعرفه فلمَ يفتح معه بابا للحديث أساسا؟ لم يعرف خليل كيف يسيِّر معه حديثا، لا زال يذكر ما قاله جمال عنه، وعلى ذكر جمال ألا يكفيه ما يحدث له بسببه؟ هل سيجني على نفسه مرة أخرى؟ كاد أن يذهب ويتركه وشأنه لولا ذلك الصوت الذي نده فجأة في أعماقه: لا تتركه!

شعر بالخوف قليلا، ثم تردد بين ذهابه وبقائه، لكن معاذا حينها همس وكأن خليلا لم يعد بجانبه:
_ألا يكفي هذا؟ لقد تعبت ومللت حقا!

التفت خليل إليه ظنا منه أنه يحدثه، بينما كان الآخر شاردا مع أفكاره، سأله خليل متعجبا:
_ما هو؟ ماذا تقصد؟ لم أفهم!

تنبه معاذ إلى وجوده لكنه لم يعره اهتماما، بل رد عليه بجفاء:
_لا شأن لك أنت، اذهب من هنا فحسب!

أثار استغراب خليل أكثر فأكثر، لا يدري خليل لمَ ساوره شعور بالخوف من أن معاذا هذا يود أن ينهي حياته، ولكن لمَ؟ لمَ يفعل ذلك أساسا؟ وجد نفسه يقول دون انتباه:
_الحياة قاسية، قاسية إلى الدرجة التي لن تقدِّر فيها ظروف أحد، ولا تحترم فيها مشاعر أحد، إن لم تكن قويا حطمتك بلا هوادة

استطاع أن يجذب اهتمام معاذ قليلا فشعر بالتوتر، كانت كلماته تلك عفوية جدا، خرجت من قلبه قبل لسانه، لم يتوقع أن يلفت انتباهه، أدرك أنه ينبغي عليه ألا يصمت الآن، تقدم نحو الجسر حتى وقف بجانبه، نظر إلى الأسفل حيث كان معاذ ينظر وقال:
_هل الهرب من مواجهتها هو الحل الأمثل؟ أم أنه جبن منا لا أكثر؟ أم أننا نتهرب من واقعنا، ونود الانفكاك من أحزاننا وآلامنا لا الانفكاك منها هي بحد ذاتها؟

أخذ معاذ هو الآخر يحدق بالأسفل، لقد عرف خليل من أين يمسك به، سؤال دوى في عقله آنذاك: أنهرب من الحياة؟ أم مما نقاسيه فيها؟ ربما هو لم يكن يفكر بالانتحار، لكنه لن ينكر أنه لم يعد لديه رغبة بالعيش، مرت دقيقة وهو يفكر لم يقاطعه خليل أثناءها، وحينها سأل سؤالا مفاجئا:
_إذا كان الهرب من مواجهتها ليس حلا فما هو الحل إذن؟

طالعه خليل متمعنا هل هو يرجو الجواب، كان لابد له من أن يتأكد من ذلك حتى لا يقاطعه معاذ أو يعارضه إن هو تحدث معه بالذي يدور في خَلَده، سأله:
_هل تريد مني الجواب؟ أم أنه سؤال عابر فحسب؟

فكر معاذ بالأمر قليلا، من الذي سيجود عليه بجواب مجاني هكذا؟ إنها فرصة لا تعوض، وإن لم يكن يرغب في الحديث إليه، مجددا لاح له طيف الأربعيني ذاك والذي لم يكن إلا والده وهو يقول له (قد تتعثر، قد تسقط، قد تتألم، لكن عندما تلوح لك أول فرصة للنهوض استغلها وانهض بكل ما أوتيت من قوة) إنه يعي كم وصية لوالده أهملها فوصل إلى ما وصل إليه الآن، عليه أن يسمع لوالده ولو لمرة واحدة في ظل حياته البائسة هذه، أجاب خليلا برجاء قلبي:
_هات، أسمعني ما لديك!

شعور بثقل المسؤولية داهم خليلا في تلك اللحظة، عليه أن يكون أمينا وصادقا فيما سيقوله له، وعليه أيضا أن يجد أسلوبا جيدا لإقناعه بما سيقول، تنحنح مخفيا توتره ثم قال:
_الهرب من مواجهة الحياة ومصاعبها يكون آخر حل بين يدي الواحد منا، حينما تنفد الخيارات منا نلجأ لأي شيء، حتى وإن كان واهنا، هذا يعني أيضا أننا نكون حينها قد فقدنا الأسباب التي تدفعنا لمحاولة البقاء، الأحلام مثلا!

أنصت له معاذ باهتمام، بينما صمت خليل ليسترد أنفاسه، بقي الأول مترقبا بقية ما سيقول، حينها فاجأه خليل بسؤال:
_أليس لك هدفا في الحياة؟

استغرب معاذ من هذا السؤال المفاجئ، لكنه لم يصمت طويلا، حيث قال:
_لم يعد لدي أي هدف، أو إن جاز التعبير لم يعد لدي أي اهتمام بشيء

علق خليل على كلامه مباشرة:
_صحيح هذا هو التعبير الأنسب، نحن نفقد الاهتمام بكل ما حولنا وبأحلامنا، لا أننا نفقد الرغبة الحقيقية في نيل تلك الأشياء، والحفاظ عليها، بمعنى آخر نود الحصول عليها ولكننا أصبحنا يائسين من تحقق ذلك

بدت كلماته كطلاسم للوهلة الأولى، لكن معاذا كان يشد تركيزه معه ليستطيع فهمه والتجاوب معه، تحدث خليل مجددا:
_على أية حال لو افترضنا جدلا أنك فقدت رغبتك بالاستمرار في الحياة، لأنه لم يعد فيها ما يهمك للسعي إليه، سيبقى هنالك شيء تغفل أو تتغافل عنه

وصل خليل أخيرا إلى مربط الفرس فيما يريد الحديث عنه، تدرج في الحديث كي يستطيع تمهيد الطريق لقول هذا، نظر إلى معاذ بكل ثقة وقال:
_﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

أخذ معاذ يحدق به بصدمة، لم يتوقع أن يوصله إلى هذه النقطة، لكن خليلا لم يتوقف هنا بل أكمل قائلا:
_العبادة، هذا هو الشيء الأساسي الذي خلقنا من أجله، وهو الشيء الذي نتهرب منه أيضا مع الأسف الشديد، لذا أخبرني بالله عليك كيف ستكون حياتنا حين نهملها؟ مختصر الحكاية بين آيتين ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾

هدوء أعقب صمته فساعده ذلك على جلب مثل ليشبه تلك الحالة، فيوصل مراده بشكل أدق، عاد للحديث بقوله:
_لو أننا التحقنا بشركة ما وأُعْطِينا عملا أساسيا لنقوم به، خلال كذا وكذا ساعة، وفي نفس الوقت أُعْطِيَ لنا مجال لنفعل أي شيء آخر نريده خلال هذه المدة، شريطة ألا نخل بالعمل الأساسي، ألن نجتهد لأن نقوم بالعمل الأساسي على أكمل وجه؟ ونحرص على ألا نجعل الأشياء الأخرى تلهينا؟ وإن نحن أخللنا بما طُلب منا القيام به وعوقبنا ألن نتقبل الأمر ولن نعترض؟

ظل معاذ يستمع إليه بصمت، ما قاله قد استطاع أن يتسرب إلى داخله، ظن أن خليلا لم يعرف أو يسمع عنه شيئا، وهذا ما أراحه وجعله يستمع إليه بإنصات، أنى له أن يظن غير ذلك وخليل يتحدث معه بصيغة الجمع، ويضيف نفسه أيضا إلى حديثه؟ حين شعر خليل أنه سيسمع منه أكمل قائلا:
_ما هو شعورك لو حدث هذا معك وأخللت بعملك، ولكن رئيس الشركة التي تعمل فيها قرر فقط أن يجعل عقوبتك هي الحرمان من مرتب الشهر الذي أخللت العمل فيه، أو لنقل اليوم الذي أخللت فيه بعملك؟ ما هو شعورك تجاهه وهو يمنحك فرصة أخرى لتثبت نفسك؟ هل ستشكره؟ هل ستسعى لتحسين وتطوير نفسك؟ أم ستقول أنه ظالم وتغادر الشركة، وأنت تعلم أنك لن تجد مثلها أو أفضل منها؟ أجبني بصدق ماذا ستفعل؟

لم يرغب معاذ بأن يوجه إليه سؤال كهذا، إنه يرفض الاعتراف للآخرين أنه من جنى على نفسه حتى وصل إلى هكذا حال، وجد أن خليلا يحدق به منتظرا الجواب، أشاح بوجهه عنه ولم يجب، حينها تحدث خليل:
_لا بأس أنت تعرف الإجابة جيدا، لست مضطرا لقولها لي، ولكن المثال الذي ضربته لك وكما عرفته: هو الحياة _ولله المثل الأعلى_ لقد أوجدنا الله في الحياة لعبادته، ومن كرمه علينا أن علمنا كيف نعبده، وأعطانا من الفُسَح الكثير لنعيش حياتنا البشرية، كما أنه من رحمته وفضله ترك لنا باب التوبة مفتوحا، المجال دائما مفتوح أمامنا مهما كانت الأخطاء التي نرتكبها، لكننا نفضل باب الخلق على باب الخالق، ونتبع أنفسنا وهوانا بدلا من أن نتبع ما أمرنا الله به، تماما كذلك الذي قرر أن يترك العمل في الشركة رغم أنه هو المخطئ، رغم أن رئيس الشركة ترك له المجال مفتوحا ليبقى، عذره الوحيد: لمَ تمَّت معاقبته!

صمت مجددا ليأخذ نفسا جديدا وعاد ليكمل:
_لا أعلم هل يمكنني قول ذلك ولكن كلما أستطيع قوله أن العقاب الذي نناله حينما نخالف أمر الله هو الحرمان من السعادة، سعادتنا التي تتكوَّن بعدها تكون لحظية فقط، ما إن تبدأ بالتوهج حتى تبهت وتختفي، لن أقول أن الحزن لن يقتحم حياتنا في حال كنا طائعين، كلا، فهذه سنة كونية سائرة على جميع البشر، وعلى مر الأزمان، لكن الطمأنينة التي تسكن القلب المنيب إلى ربه، المسلِّم له بكل قضاء وقدر لن يضاهي جمال الشعور بها شعور، ولن يشوه روعتها أي حزن أو وهن أو فتور، طمأنينة تنشئ السعادة من اللاشيء، وترى الجمال في كل شيء، أعلم... وأعلم كثيرا أن الوصول إلى تلك المرحلة ليس بالشيء الهين، لكنه أيضا ليس مستحيلا، كما أنها مطلوبة ما دام لنا القدرة عليها، هنيئا لمن نالوها!

كانت الجملة الأخيرة بالنسبة لخليل موجهة إلى نفسه أكثر منه إلى معاذ، لكن معاذا ليس بميت القلب كي لا يشعر، إنه يشعر ويتألم، ويدرك حجم ما وقع به، انتشله صوت خليل حين قال:
_من منا لم يذنب ذنبا قط؟ ومن منا لم تسترق خلواته بعضا من وقته لتجره نحو ما يغضب الله ولا يرضيه؟ ومن منا أيضا لم يندم ويستغفر، ويستشعر عظمة خالقه فيخاف مقامه؟ نحن البشر معرضون للوقوع في الخطأ والزلل في أية لحظة، والموفق من وفقه الله إلى طريقه، لكن علينا ألا نهمل جانب التوبة، والعودة إلى الله، فعندما قال إبليس لرب العزة والجلال: يا رب وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، قال الله له: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني. فهل سننفذ رغبة الشيطان؟ أم نلبي نداء الرحمن؟

حل الصمت مجددا ليعاود خليل الكلام وكأن لسانه عاجزا عن كبح ما يثور في قلبه:
_الله أرحم بنا من أنفسنا، أليس هو الذي قال (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)؟ أليس هو الذي قال في محكم كتابه ﴿وَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾؟ فما أعظمه وما أحلمه! وما أشد جهلنا وتقصيرنا! سبحانك يا رب ما عبدناك حق عبادتك!

خنقته العبرة لحظتها لتلجمه عن الكلام، أشاح بوجهه الحامل لملامح التأثر عن مرأى معاذ خشية أن تنسل منه دموع متمردة، ما لم يعلمه حينها أن معاذ هو الآخر كان يقاوم دموعه، كان هو الآخر بحاجة لأن يبكي، لكن مغالبة ذلك الشعور هو ما دأب عليه في العادة، من الذي يملك الحق للومهما على تلك الدموع إن هما أنزلاها؟ ولكن الناس عادة يميلون إلى إخفاء دموعهم؛ نظرا لكونها ضعفا في أنظار الكثير

في ظل تلك اللحظات التي يمكن وصفها بلحظات الصفاء، لحظات الصدق مع الله أولا، ثم مع النفس ثانيا، اعتلت في الآفاق نداءات (الله أكبر .. الله أكبر) من الجوامع، اختلجت في القلب مشاعرهما، فالله أكبر هذه المرة عنت الكثير، الله أكبر من الهموم والأحزان، الله أكبر من الأوجاع والآلام، الله أكبر من كل ظلم يقع على النفوس، الله أكبر من كل الصعاب، الله أكبر من كل شيء، الشعور بمعنى هذه الكلمة يصل إلى أعمق نقطة في القلب حينما تسلم كيانك وأمرك للذي خلقك فسواك فعدلك

لم تُخذل تلك المشاعر التي نزفت بإخلاص، شعور الطمأنينة الذي يعقب الصدق مع الله لن يقدر ألف كتاب ولا ألف شخص على أن يجلبه لك، لن تقدر أرقى الجامعات في العالم على أن تعلمك كيف تحصل عليه، إنه منحة ربانية لمن صدقوا، ولن يعلم حقيقة ذلك الصدق أحد سواه

استمر المؤذن في أذانه يشق بصوته الندي (ضجيج) الليل الذي يعبث بالأرواح المتعبة، واستمر الاثنان الواقفان على الجسر يستمعا إليه بإنصات، وكأنه انتشل أرواحهما نحو عالم النعيم، حيث السلام والاطمئنان، حيث السكينة والأمان، حيث تستشعر فيه عظمة الرحيم الرحمن، كان ذلك الصوت بالنسبة لهما طوق نجاة رُمي في اللحظة المناسبة

إنتهاء الأذان كان بمثابة الإنذار الذي أعطيَ لهما ليعودا إلى واقعهما، فأخذا يبحثان عن خطوتهما التالية، كان خليل يود أن يأخذ معاذا معه إلى المسجد، لكنه لا يعرف كيف يفعل ذلك، تمنى لو أنه يستطيع إقناعه، في تلك اللحظة لم يملك إلا أن يدعو الله في سره: ربِّ كما قدته إلى طريقي خذ بيده إلى طريقك!

مشى معاذ في طريق معاكس لوجه خليل، وفي الواقع هو لا يختلف عن الطريق الذي يكون خليل ذاهبا فيه إلى جامع الرحمن، لكن إلى أين سيذهب؟ وما الذي قرره بعد كل الذي سمعه؟ وهل اختار طريق الصواب؟ أم كان له رأي آخر؟

¶____________________¶

انتهى الفصل السادس

ملاحظة على الفصل الرابع: حينما كان خليل يتحدث مع جمال وقال أنه قد يصبح مثله في قادم الأيام، البعض فهم أن خليلا كان جادا في ذلك، والصحيح أنه فقط أراد اختبار ردة فعل جمال، وقد كان يتمنى الحصول على النتيجة التي حصل عليها بعد ذلك، نسيت أن أنبه على هذا في الفصل الخامس!

هذا الفصل فيه أحاديث قدسية، ولمن لا يعلم ما هي الأحاديث القدسية فهي الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، بمعنى أنها فيها كلام لله سبحانه وتعالى، لكنها ليست من القرآن

أيضا هذا الفصل فيه البداية الفعلية للأحداث القادمة، وهو نوعا ما يناقش بعضا من أفكار النفس وأحاديثها، هو من الفصول المحببة إلى قلبي، آمل أن يكون كذلك بالنسبة لكم

ما رأيكم فيما فعله جمال مع نفسه حيال الأغاني؟
بالمناسبة هي طريقة فعالة لتقييد النفس، ليس فقط بأمر الأغاني، يمكن أن تفيد في أي شيء تخشى على نفسك منه، بالنسبة لي استخدمتها مع رسم ذوات الأرواح، الأمر ثقيل، لكنه مفيد أيضا

يتجدد اللقاء بنا في فصل قادم بإذن الله
دمتم في رعاية الله وحفظه

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top