الفصل الرابع عشر

الفصل الرابع عشر|| على قارعة الطريق

_ماذا حدث؟

سؤال نبع من قلب الحيرة، كيف له أن يعي ما حدث؟ إنه يشعر وكأن أحدا ما داخله يدفعه لكل هذا، يشعر وكأن جسده يرفض الانصياع له، أو هكذا كان شعوره حينما حدث ما حدث، طالعه الجالس قبالته بنظرات قريبة إلى السخرية إن جاز تسميتها، نطق وكأن جوابه يتفرع من جذع الجمال لشدة ثقته بما يقول:
_وما أدراني أنا! أنا أمجد ولست يوسف، سل نفسك هذا السؤال

نظرات حائرة خالطها الغضب بعد ذلك الجواب المستفز طالع بها أمجد، ربما عليه من الآن فصاعدا احتمال أسلوبه المستفز بالحديث؛ بما أنه رغب باختراق محيطه، تحدث وكأنه لم يتأثر بما سمع:
_الطبيب قال أنها آثار مخدرات، كيف لهذا أن يحدث؟ أنا لا أفهم!

بقي يناظر شبه التمثال هذا الجالس قبالته، ثم نطق قبل أن يسمع منه ردا:
_إذا لم يكن لديك رد يفسر الأمر فاصمت، لست في مزاج جيد لتحمل ثقالة دمك

ضحكة خفيفة أطلقها هذا التعقيب وهزة كتف ساخرة صدرت من أمجد الذي كان يعي تماما كم أن ما يقوله يستفز يوسف، رد على يوسف غير مبالٍ بوجهة نظره:
_اسمع، أصدقاؤك ليسوا أصدقائي، ولم أرافقك في رحلاتك وتنقلاتك كي أعطيك توقعا حول ما حدث، لكن ما أعلمه أنما حدث لم يحدث من تلقاء نفسه، بل حدث بفعل فاعل

حدق بنظرات جادة نحو يوسف الذي ظل على صمته منتظرا النهاية، ليكمل هذا الجالس أمامه قائلا:
_أنت تعرف مع من ذهبت، ومع من جلست، وأين ذهبت، وماذا فعلتم، وتعلم أيضا من هو الذي كانت هنالك فجوة أثناء جلوسك معه، كانت كافية ليعلق صنارة صيده في مجالك

قال جملته الأخيرة ببطء وكأنه يؤكد على أن الأمر هكذا حدث، فكر المعني بالحديث، وقلب في ذاكرته المتعبة بعد هذا الصداع، مر وقت وهو يسير مع عدة أشخاص ضمن مواقف متنوعة حدثت في الأيام المنصرمة، الأشخاص الذين جلس معهم حقا هم أصدقاؤه الثلاثة، لكنه لن يستطيع اتهام أحدهم بشيء، وأي شيء؟ مخدرات؟ هذا جنون!

لن يستطيع تصديق الأمر مهما فكر، لكن على ما يبدو فهو لن يستطيع الوقوف على هذا الرأي وهناك من يدفعه إلى غيره، نطق أمجد مؤكدا على ما سلف وأن قاله:
_لا تفكر كثيرا، أقصد لا تجهد نفسك بالتفكير، فالشخص المعني هو الشخص الذي حظي بفرصة لدسها لك في طعام أو شراب

فتح عينيه على مصراعيهما مندهشا، بات متأكدا أن أمجد يشير إلى معاذ، هو يعلم أنه ذهب معه إلى المطعم، لكن لمَ يصر على ذلك؟ صحيح أنه لا يعطي معاذ تلك الثقة المطلقة، لكنه يكره الموضع الذي يرى أمجد يضعه فيه، كما أنه عادة لا يحب أن يسمع من شخص جديد في حياته على شخص أقدم منه علاقة

حاول تذكر ما حدث له مع معاذ كي يحاول دفع التهمة عنه، بحث عن ما أسماه أمجد (فجوة) في الوقت الذي قضاه معه، وحينها فقط أدرك أنه بالفعل وجدت تلك الفجوة، حينما نهض ليفض الشجار الذي حدث بين ذلك الرجلين، لكن معاذا نهض معه وفعل الشيء نفسه، متى يمكن أن يكون دس له المخدرات إن كان هو فعلا من فعل ذلك؟ شعر بالغضب هذه المرة أكثر فرد بعصبية:
_أنت تتهم معاذا دائما وأبدا، وأنا بكل صراحة أكره ذلك، الوقت الوحيد الذي نهضت فيه من على الطاولة كان حينما حاولنا أن نفض شجارا حدث بين رجلين بالقرب منا، وهو أيضا فعل الشيء ذاته، إذن متى فعل ذلك إن كان هو من فعل؟

هز أمجد كتفيه مقوسا شفتيه للأسفل مشيرا لأنه لا يعلم، ثم أتبع ذلك بالقول:
_أنت من جلس معه وليس أنا، كما أنه لمَ لا تفكر في أن يكون هو وراء شجار الرجلين؟ ألم تقل أنهما تشاجرا بالقرب من طاولتكما؟ وإن كان هو وراءهما فهو بالطبع سيكلف آخرين ليضعوا لك شيئا ما في الشيء الذي كان أمامك، قل لي فحسب: هل كان على الطاولة أمامك شيء ما؟

لحظات أعادت يوسف إلى ذلك اليوم ليتذكر ما حدث، بالفعل لقد كان أمامه كوب شاي، لكن هذا مستحيل! كيف لهذا أن يحدث؟ إنه لم يستوعب الأمر بعد، لا يمكن أن يفعل معاذ شيء كهذا

لم يرد على أمجد، ظل صامتا، بيد أن ملامحه فضحت كوامنه، نهض أمجد من مكانه حيث كان يجلس على كرسي قبالة السرير الذي يرقد عليه يوسف، نطق وهو يسير قاصدا الخروج من الغرفة:
_يمكنك أن ترتاح الآن، إن أردت رأيي فيجب ألا يعلم أحد بما حدث، لكن عليك أن تكون حذرا من الآن فصاعدا، أنت وأصدقاؤك أيضا

_انتظر!

نطق يوسف ليتوقف أمجد ملتفتا نحوه، طالعه بنظرات مستفسرة فقال:
_أعطني هاتفك، من فضلك! أود أن اتصل بعائلتي

ظل أمجد ينظر إليه مترددا، ثم أخرج هاتفه وتوجه نحوه ليمد له بالهاتف قائلا:
_ليس لدي سوى رقم عمي الذي أخذته منك البارحة، احرص على ألا يعرفوا ما حدث لك حتى نعرف كيف نتصرف إزاء ذلك

التقط الهاتف شاكرا ليغادر صاحبه خارج الغرفة كما كان ينوي قبلا، أما هو فقد ظل يطالع الهاتف بتردد كبير؛ هو لم ينسَ كيف دفع ميمونة عن طريقه، ولم ينسَ أنها صرخت بوجع حينها، لقد تجاهلها بقسوة، هل سيجد الآن مبررا لما فعل؟ هل صداع رأسه أو إن جاز التعبير أثر المخدرات كان كافٍ ليخرجه من دائرة سوء ما فعل؟ إنه حائر، حائر وخائف، ماذا لو حدث لها شيء سيء؟ لن يلوم أحدا أكثر من نفسه

كبح تضارب مشاعره آنذاك ليبحث عن رقم والده ويجري معه مكالمة هاتفية، رن الهاتف مرتين وثلاث، كان الانتظار حينها ثقيلا على قلبه، فتح والده المكالمة وقال:
_مرحبا أمجد

بلع يوسف غصته ونطق بصوت واهن:
_ هذا أنا، يوسف يا أبي

صمتٌ لبرهة سكن الأجواء ليهتف الأب بعدها قائلا:
_يوسف؟ هذا أنت حقا؟

لم يجد المعني ردا، إنه عاجز تماما عن قول شيء، الأمر أشبه بوجوده وسط فلاة لا يدري كيف الخلاص منها، أتاه صوت والده مجددا:
_هل أنت بخير؟ كيف حالك الآن؟

بدا واضحا حجم القلق من تلك الأسئلة، وكذا حجم الألم في نبرة صوته، أجبر نفسه على الإجابة ليطمئن قلب المسكين الذي لا يعرف ما الذي جرى معه:
_أنا بخير، بخير لا تقلق!

صمت وقد كان هناك سؤال يدور في خَلَدِه، هل يضعه الآن؟ أم أنها وقاحة منه أن يسأل عنها قبل أن يسأل عنهم، سؤال آخر من والده كان أسبق من سؤاله:
_متى ستعود إلى هنا؟

دوى السؤال بقوة في عقله، ماذا يقول له؟ كيف يجيب عن هذا السؤال؟ إنه يعلم أن لديه موعد آخر مع الطبيب، وهو لا يريد أن يخبر أحدا بما حدث كما طلب أمجد، ربما ليس باقتناعه برأي هذا الأخير، بل صدمة من أن يكون معاذ حقا هو الفاعل، إنه عاجز عن اتخاذ قرار في الوقت الراهن، لكن شروده هذا قد أطال صمته فحير والده، نطق الأب برجاء:
_أرجو أن تأتي اليوم، أو أنا سآتي إليك

خيارين لا ثالث لهما قد طرحهما الأب، ماذا يفعل الآن؟ إنه حقا لا يريد تعقيد الأمور، لكنه حقا لا يستطيع الاختيار، نطق بعد أن فكر:
_جوابي عليك سيكون بناءً على جوابك على سؤالي هذا: كيف هي ميمونة؟

وهنا ساد الصمت من قِبل أبوه، ماذا يقول له؟ إنه حقا لا يعرف ما يقول! إنه يفضل أن يحادثه وجها لوجه، لمَ علق لقاءهما على جواب هذا السؤال؟ لم يعهد الكذب فهل سيكذب عليه الآن؟

لقد وضعه بين حلين أحلاهما مُر، إما أن يقول له الحقيقة، وقد يتسبب هذا بعدم عودته إلى البيت، وإما أن يكذب عليه فيصدم بالحقيقة حين يعود، لكن ما إن فكر سعيد بحجم ما فعل يوسف فضل أن يخبره بالحقيقة فقال:
_للأسف ميمونة تضررت جدا بسبب دفعك لها، والذي أدى إلى سقوطها مع تلقيها لضربة في ظهرها!

فغر يوسف فمه بصدمة، صدمة خدرت جسده فسطقت يده التي تحمل الهاتف إلى جانبه، هو فعل ذلك؟ هو تسبب في أذيتها؟ الفتاة التي لم يكن في حسبانه يوما أن يطالها أذى من قِبله، لولا أن التفكير بجنينها قد طرق عقله لما أعاد حمل الهاتف ليكمل تلك المكالمة، سأل والده بتلعثم:
_والطفل؟

رد والده ببطء كأنما اجترت الجبال خلف لسانه:
_لقد فقدته

عض شفته السفلى بقوة لهول ما سمع، حقا لقد فعل شيئا سيئا لا يمكنه الاستهانة به بعد الآن، أدرك حقيقة مُرة هي نتيجة طبيعية لكل ما حدث: الجميع الآن بلا شك مستاؤون مما فعل

لكن هو لم يقصد فعل ذلك، هو لم يقصد لمَ لا يصدقوه؟ إنها زوجته وذلك الطفل لا يزال ابنه فكيف سيسعى إلى أذيتهم؟ لكن لا مناص من الحقيقة، ما فعله مكذب لما سيقوله، يبدو أنه سيفضل البقاء عند أمجد حتى يستقوي على نفسه ويواجه ما فعل، جاءه صوت والده راجيا:
_يوسف يجب ألا تبقى عندك، يجب أن تأتي

استجمع قواه ونطق بصعوبة رغم الوهن:
_أبي يمكنك أن تأتي إن أردت، أما أنا فمحال أن أعود الآن

كان الأب يدرك كم أن ذلك صعبا على ابنه، لكن المواجهة على صعوبتها تبقى أفضل بكثير من الهرب، رد عليه بهدوء جهده:
_سأفعل، ولكن من الآن يا يوسف: يجب أن تعي أن الهرب ليس حلا

رد المعني بأسى ورجاء:
_لن أستمر في ذلك، فقط حتى أنهي مواعيدي مع الطبيب، ربما حينها سأكون أفضل حالا، وأقدر على المواجهة، وربما أيضا… ستكون نيران الغضب قد هدأت قليلا

لم يجد الوالد شيئا ليقوله، على أية حال جيد أنه سيستطيع رؤيته، وحينما يراه سيتحدث معه بكل شيء، والحديث المباشر أفضل بكثير من الحديث عبر الوسائط (الجوال مثلا) رد محاولا بث الطمأنينة في داخله:
_حسنا يا بني، فقط لا ترهق نفسك، حافظ على نفسك جيدا، سوف آتي بعد قليل، انتظرني

_حسنا

بتلك الكلمة أنهى يوسف مكالمته مع والده، أحنى الهاتف ليعود إلى سطح فراشه، كلمات والده الأخيرة لم يسمعها، قدَّر أن تكون (إلى اللقاء) أو ما شابه، المهم أن والده أغلق المكالمة بعدها فورا، يبدو أنه الآن دخل مرحلة جديدة من الصراع في هذه الحياة

**********

كدوامة كبيرة أضحت الدنيا في رأسه، بعد تلك الأفكار التي هاجت به وماجت، هل ما قاله معاذ صحيحا؟ وإن كان فأي حماقة ارتكبها ليؤخر الحديث عن ذلك لهم؟

ذكريات حديثه معه هذا اليوم بقيت ناشبة في رأسه بقوة، إنه يفهم الآن لمَ جره بعيدا عن الآخرين وتحدث معه، قال أنه توقع أن ما حدث من يوسف كان لأمجد فيه يد، لم ينسَ خليل كيف قابله بصرامة هذه المرة حينما قال ذلك فسأله بحزم:
_ما معنى هذا؟ كما توقعت؟ وما قصتك مع أمجد هذا؟ لمَ تصر على إخفاء الأمر؟ لن أسمح لك هذه المرة أن تنفذ بجلدك

تمردت تنهيدة حارة من معاذ ليقول عقب أسئلة التحقيق تلك من خليل:
_لن أتهرب من الجواب هذه المرة، لا أريد لأحدكم أن يعاني مما عانيت منه

وقف الصمت بينهما عقب تلك الكلمات، ليطرده بقوله مستئنفا الحديث:
_بعد أن علمت أنه ابن عم يوسف ظننت أن الأمر سيكون مزعجا له إن أخبرته بالحقيقة، ظننت أنه لن يصدقني، مع هذا فقد حاولت أن أخبره، لكن لساني بل عقلي استثقل الحديث معه حينما دعوته إلى المطعم، مع هذا لا زلنا نملك الفرصة الآن، يجب أن نسحب البساط من تحت أقدام أمجد، فكلما تأخرنا كلما زادت فرصُهُ في تحقيق مراده

حل الصمت مجددا إثر توقفه عن الكلام، بدا واضحا أن خليلا يتعمد عدم كسر حاجزه، إنه يبغي سماع جواب على أسئلته كلها، فهم معاذ ذلك وقد كان يجيب تدريجيا عليها، باشر الحديث عن ماضيه بالقول:
_أمجد هو الرجل الذي تعرفت عليه كرجل طيب يحب مساعدة الآخرين، تعرف عليّ وأخذ يسألني عن حياتي وعن عملي، ثم أخبرني أنه سيمنحني عملا دائما، يكفيني شر وتعب ملاحقة الأعمال من مكان لآخر، هل تصدق؟ عملت كرجل توصيل فحسب لهم ولمدة عامين!

حدق بخليل بنظرات حملت الحسرة والسخرية في ذات الآن، بينما الآخر بدا مهتما جدا بسماع قصته، لم يسأله فيما مضى عن ماضيه، كره أن يفعل خشية أن يحرجه أو يذكره بما يسوؤه، لكن الآن سيسمع منه بل قد يسأله إن تطلب الأمر، إنه يخشى انفلات الحبل من أيديهم، واصل معاذ حديثه بنبرة حملت الألم بين ثنايا كلماته:
_كان الأمر طبيعيا جدا في البداية، عملت معهم لمدة عامين لم أرَ منهم فيها شيء، لكن بعد ذلك العامين أصبحت أحد ضحايا المخدرات على أيديهم

جره ألم الذكريات إلى الصمت فأخذ يحدق بالأرض أمامه، أغمض عينيه بقوة ليزفر الهواء بحسرة مستكملا حديثه:
_جُنَّ جنوني حينما علمت بالحقيقة، أردت أن أتمرد عليهم وأن أفضح أمرهم ولكنهم أخبروني أن ما كنت أنقله كان ممنوعات أيضا، وأنني سأجني على نفسي قبل غيري، خفت في بادئ الأمر، لكنني قررت أن أخاطر وأبلغ الشرطة، فأنا لم أكن أعلم بحقيقة تلك الأشياء، ولكن… ولكنني وقعت تحت رحمة المخدرات، فلم أكن أستطيع فعل شيء إلا ما يقرروه هم لي، وفي النهاية وجدتني مستسلما لواقعي الجديد هذا

لقد ظل معاذ يهرب من هذه الذكريات طوال الفترة الماضية، لكنه الآن يجد نفسه مجبرا على إخراج ما في جعبته، لولا أنه لا يريد أن يلفت أنظار الآخرين لهما لأخذ وقتا طويلا في سرد قصته، إنه يشعر بمرارة تلك الأيام أثناء تكلمه عنها، وهذا ليس شيئا هينا عليه

سارع إلى قول ما تبقى لديه:
_استسلامي كان له سبب آخر بالطبع، فأمجد هذا محارب فظيع في المجال النفسي، لقد هدَّ أركان قوتي، وقضى على آخر رمق من مقاومتي بسبب كلامه، كان فظيعا جدا، إنه ذراعهم اليمنى يضربون به بكل قوة بسبب مجاله هذا الذي يبرع فيه

كل كلمة كان معاذ يقول يقوم خليل بمحاولة لإسقاطها على يوسف، كيف سيجري الأمر معه؟ وكيف يمكن لأمجد أن يقيد حركته؟ كان الأمر بالنسبة له ضربا من الخيال، هذه المرة أتاه سؤال بدا في نظره غريبا لكنه فضل أن يطرحه، بل هي عدة أسئلة، ظل يطالع عيون الواقف أمامه وهو يسأل:
_وكيف تخلصت منه هذه المرة؟ أم أنك لا تزال خائفا من استهدافه لك؟ ولمَ لا تبلغ عليه؟

أسئلة منبعها الأصلي تلك القصة التي سمعها عنه من ذلك الرجل في جامع النور، لا يدري لمَ فكر هكذا، لكنه فضل أن يطرح تلك الأسئلة؛ بدلا من جعلها تطفو بعيدا عنهما فيخسر معرفة شيئا ما، بدا كما لو كان معاذ مستعدا للحديث عن هذا دون أن تطرح هذه الأسئلة، أجاب دون تأخير:
_قبل مدة وضع حقيبة ما في السيارة ونسيها، وأنا خرجت في مهمة وقد كنت مستعجلا، وبسبب ذلك تركت الحقيبة مكانها ولم أدخلها إليه، ظننت أنه لا شيء مهم فيها لأنه تركها في السيارة، أوقفت تلك السيارة في أحد المواقف ونزلت لأجل المهمة، لم أعد إلا على حريق هائل التهم الموقف بأكمله وليس السيارة وحدها

قليل من الصمت ساد حتى عاد ليكمل:
_اتصل بي كي يأتي ليأخذها، لكن هاتفي انتهى مع السيارة، استغربت حين رأيته بعد دقائق قرب ذلك المكان، لكني عرفت السبب حينما بادر بسؤالي عن الحقيبة، أردت أن أسخر منه كما يفعل معي دائما، فقلت له أنني خبأتها في مكان ما، جُنَّ جنونه وأخذ يطالبني بإعادتها إليه، ورغم أنه حاول أن يبدو متماسكا إلا أنني أدركت أن تلك الحقيبة تعني له الكثير الكثير، وحينها قررت أن أجعلها الشيء الذي يرجح الكفة بيني وبينهم

توضحت الأمور كثيرا الآن أمام خليل، لكنه الآن فقط أدرك كم أن تجاهله للحديث مع معاذ عن هكذا أمور بدا قرارا أحمقا جدا، لا جدوى الآن من فعل شيء سوى الاستماع إليه وهو يسرد تفاصيل قصته المثيرة هذه، استرسل في كلامه مكملا الحديث عن تلك القصة التي أخفاها لزمن:
_لقد هددوني بالقتل، حاولوا ابتزازي أيضا، فعلوا كل ما باستطاعتهم لأجل أن يستعيدوا تلك الحقيبة، لدرجة أنهم سجنوني وعذبوني، كان ذلك فظيعا، فظيعا للغاية!

أمسك عضده الأيسر وكأنه يرى تلك الذكريات أمامه الآن، إنه مجبر على الصمت مجددا، لقد تذكر خليل تلك الآثار المطبوعة على جسد معاذ حينما ذهبوا إلى البحر في رحلتهم تلك، كان من بينها علامة بدا واضحا أنها آثار لحرق ما على عضده الأيسر، لا زال يذكر أن الشخص الوحيد الذي تبع فضوله وكسر حاجز الخجل وسأله عن الأمر كان موسى _شقيقه_ لكن معاذا حينها أجاب: هي آثار لعدة أشياء حدثت على فترات متفاوتة، ثم أعقب ذلك بالقول: لستُ صغيرا على أية حال ليبدو ذلك غير متوقعا، حينها لم يجرؤ أحد على مزيد من الأسئلة، سيما أن إخوة موسى قد زجروه عن طرح الأسئلة

لكن الآن خليل يريد أن يفهم، ويبدو أنه لن يؤجل الأمر مجددا، ترك المجال لمعاذ حتى عاد إلى سرد قصته قائلا:
_لأنني كنت يائسا من حالي، ولأنني لم أكن أملك الحقيبة أساسا فقد خاطرت وأكملت مسرحية احتفاظي بتلك الحقيبة، وفي نهاية الأمر رضخوا لطلبي، سيكفون عني وأنا أكف عنهم، وعلى هذا انتهى الأمر بيننا، فأخذت حريتي في الذهاب إليهم من عدمه متى ما شئت وكيف ما شئت، لم أستطع فعل شيء في النهاية بخصوص التبليغ عنهم؛ فأنا لا أملك شيئا بالفعل، وهم حذرون للغاية، لقد كنت أنا الطرف الخاسر في الحقيقة، نسيان أمجد للحقيبة في السيارة كانت غلطته الوحيدة التي رأيتها منذ أن تعرفت عليه، ولا زلت حتى الآن لا أستطيع تفسير كيف صدر ذلك منه

ربما هي الصدفة التي تقود نحو النجاة، تلك الفتحة التي تنثلم من حائط اشتداد المحنة، لا يستطيع أحدنا تفسير الأمر في العادة، لكن وراء كل قدر حكمة، هذا ما دار في عقل خليل الذي أصبح يوسف جُل همه الآن، لكن على الأقل لا زالت هناك فرصة كما يقول معاذ، وعليهم استغلالها جيدا

**********

محاولات عدة سعى بها خليل ذلك اليوم إلى لقاء يوسف، عليه انتشاله من بين أيدي أمجد قبل أن يغرقه في الوحل، لكنه بقي مشغولا حتى المساء، لم يستطع تأخير الأمر بعد كل هذا رغم تعبه، لقد أخبره والد يوسف عن اتصاله به، وعن لقائه به أيضا، وأخبره _كما فعل مع الجميع_ أن يوسف خجلٌ مما فعل، لكنه سيأتي في النهاية، وعليهم انتظار قدومه

لكن تلك النار المضطرمة في جوف خليل والتي اندلعت بعد سماعه لما قاله معاذ لن تتركه يهدأ، خرج في عمق الليل متجها إلى العنوان الذي أعطاه معاذ، لا زال أمجد في ذات البيت يحيك مؤامراته من هناك دون خوف، وكأنه لن يأتي اليوم الذي يسقط فيه في شر أعماله

لكن المصادفة التي لم يتوقعها خليل قفزت أمامه وكأنها جزء من خيال: يوسف أيضا يجول في الأرجاء، يبدو أنه لم يستطع النوم هو الآخر، كانت مفاجأة صادمة لكليهما أن يلتقيا وجها لوجه هكذا دون ميعاد، مع خجله مما فعل تذكر يوسف جملة قالها له خليل في يوم عقد قرانه بميمونة (سيحطم رأسه إن آذاها) هل أتى لينفذ هذا التهديد؟ أم أنه أتى لغير ذلك؟ أم أن الأمر كله كان محض صدفة؟

¶____________________¶

انتهى الفصل الرابع عشر

الله! أخيرا اشتعلت الأحداث ⭐_⭐

يا رب ما أكون المتحمسة الوحيدة :)

توقعاتكم؟

إن شاء الله التحديثات تكون متتالية بما إن الرواية أخيرا أصبحت مكتملة، إن شاء الله بإذن الله 💖

أعتذر مسبقا عن الأخطاء الإملائية إن وجدت

نلتقي قريبا بإذن الله 🌸

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top