الفصل الرابع

الفصل الرابع||تأثير وتأثُّر

_معاذ!

كلمة وحيدة تمردت بخفوت من بين شفتي خليل، يسير بتؤدة وهدوء على الجسر ولم يتوقف، لكن ذلك الواقف جوار سياج الجسر كان غارقا في بحر تفكيره، لا يدري ما يجري حوله، أو ربما هو لا يرغب أن يدري، بين عينيه ذكرى غابرة لرجل متوسط العمر يحدثه قائلا (قد تتعثر، قد تسقط، قد تتأذى وتتألم كثيرا، لكن عند ظهور أول فرصة للنهوض اغتنمها وانهض بكل ما أوتيت من قوة) نفث نفسه خارج رئتيه بعنف كما لو كان ينفخ نارا، عن أي فرصة يتحدث ذاك الرجل وكلما رآه هو الويل والتعب؟

مر خليل من جانبه دون أن يحادثه، هو لا يعلم أي نوع من الأشخاص ذاك الذي أمامه، كما أنه لا ينقصه مزيدا من الهموم، لكنه أدرك أن هذا الشاب يخفي خلفه قصة من نوع ما

أكمل سيره نحو جامع الرحمن وقد شغل معاذ تفكيره، لحظات حتى انتشله صوت الأذان من بين ضجيج أفكاره، تكبيرات هادئة مع أنسام السحر الليلة لها تأثير فريد على القلب

وسط هدوء الليل المخيف تشق تلك التكبيرات طريقها ناشرة الطمأنينة والسكينة في الأفئدة الهائمة، لن يدرك معنى ذلك إلا من عاش تلك اللحظات الجميلة، الأمان الذي ينشره أذان الفجر هو ما يجعل خليلا يجاهد نفسه للنهوض قبيل الفجر، أخْذ جرعة من الراحة في بداية اليوم هو أكبر منشط له بقية يومه

ولجت أقدامه أرضية المسجد أخيرا، كان المسجد حينها خاليا من الناس، سوى قلة قليلة، توجه نحو المقدمة ليقف قرب الزاوية، كبر ثم صلى ركعتين، وحينها بدأ الناس يتفقون بالحضور، صلى من صلى منهم، وجلس آخرون يقرأون القرآن، أو يذكرون الله بما تيسر لهم، حتى أقيمت الصلاة

تلا الإمام بضع آيات بصوت شجي ينفذ إلى القلوب، قرأ من قوله سبحانه وتعالى ﴿اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ حتى وصل إلى قوله تعالى ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾

ليست أول مرة يسمعها خليل، لكنها تركت أثرا عميقا في نفسه هذه المرة، لن يستطيع أحد مهما كان أن يطفئ النور الذي في قلبك إن كان من ربك، ولن يستطيع أحد إنقاذك من العتمة التي تسكن قلبك إن لم يكن لك نور تستمده من رب العالمين

**********

بقي خليل في المسجد بعد تلك الصلاة، قرأ أذكاره وورده اليومي حتى أشرقت الشمس، وحينها غفى دون قصد منه، لم يستيقظ إلا على يد الشيخ محمد عمران حينما حاول أخذ المصحف من بين يديه ليغلقه، نظر إلى الشيخ مذهولا ليطمئنه الشيخ قائلا:
_لا تفزع يا بني، أردت غلق المصحف فحسب

اعتدل خليل في جلسته وقد شعر بالحرج، علق الشيخ قائلا:
_لا بأس يا بني كلنا هكذا، يبدو أنك متعب

هز خليل رأسه مواقفا، عدل الشيخ جلسته ثم قال بنبرة هادئة، لكنها لم تخفِ استغرابه:
_ولمَ أتيت للصلاة إلى هنا وأنت متعب؟

حدق به خليل برهة لا يدري كيف يجيبه، تفلتت منه تنهيدة حارة، جعلته يسارع إلى قول الجواب، قبل أن يظن الشيخ أنه يعاني أمرا أكبر من الذي يواجهه، رمى بصره أرضا وأجاب:
_لم أرغب بترك صلاة الجماعة، وهناك في مسجدنا مع الأسف أناس ينفرون من لا يعجبهم بسوء أخلاقهم

ظل الشيخ يراقبه برهة قبل أن يقول:
_الشيخ عصام ومن معه لا زالوا على تلك الحال وذلك الرأي، هداهم الله

دُهش خليل من معرفته بهم، سأله قائلا:
_أتعرفهم يا شيخ محمد؟

أجابه الشيخ بنبرة كساها الحزن:
_وكيف لا أعرفهم ونحن تعلمنا ودرسنا معا عند ذات الشيوخ؟ لكنهم متشددون للغاية، يؤسفني أن أقول ذلك، ولكنها الحقيقة

لم يدرِ خليل بما يرد عليه، مر وقت يسير فقرر أن يسأله:
_بحسب معرفتي بك أنت لست مثلهم، إذن لمَ لا تبين لهم أخطاءهم؟ قد يسمعوا منك على عكسنا نحن الذين لا نزال صغارا في أعينهم

هز الشيخ رأسه نافيا ثم علق:
_حاولت ذلك مرارا وتكرارا دون جدوى، لست وحدي أيضا، لكنهم يرون أننا متساهلون، وأننا سنتسبب في ضياع الدين من حياة الناس بسبب ذلك

علق خليل مستاءً من هذه التهمة:
_هم لا يفرقون بين أن تكون لينا وبين أن تكون متساهلا، ذات الشيء مع تشددهم، هم يرونه دفاعا عن الدين وإظهارا للحق، ولو قال الناس ما قالوا، لكن ألم يتدبروا قول الله ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ 
لم يشأ الشيخ محمد عمران تعقيده أكثر فقال:
_على كل حال يا بني لا تُعِر ما يقولونه أو يفعلونه اهتماما، يمكنك أن تأتي إلى هنا متى ما شئت، لا تقطع صلتك بالله، لأنك ستبتعد عنه وإن لم تقصد ذلك، وفقك الله!

قال جملته الأخيرة وهو يربت على كتف خليل ناهضا من عنده، لم يبقَ خليل كثيرا بعد ذلك الحوار، إذ غادر المسجد عائدا إلى منزله

**********

_خليل، خليل!

نادت ميمونة عليه عدت مرات ليستيقظ، بدا لها متعبا للغاية، هو في العادة يستيقظ سريعا، لكن إذا كان متعبا فهو يتأخر بالاستيقاظ، نادته مرة أخرى بصوت أعلى بقليل وهي تهزه:
_خليل استيقظ إنه وقت صلاة الظهر، انهض هيا لا تنسَ أنك لم تتناول الإفطار هذا اليوم

فتح عينيه بصعوبة بالغة بعد أن سمع ما قالته، انقلب على ظهره مقاوما النوم الذي يتشبث بجفنيه بشدة، عادت تحدثه محاولة طرد النوم من عينيه:
_انهض هيا إذا بقيت ممددا فستعود إلى النوم ثانية

استجاب لندائها أخيرا فاستوى جالسا، ثم نهض متوجها ليذهب للوضوء، غادرت هي الغرفة ممتنة لنهوضه، إن كان موسى فسيبقى يتظاهر بالنوم عنادا لها، وإن كان شعيب فسيجيبها ثم يخرج متأخرا، لطالما كرهت مهمة إيقاظهما

لم يكن هذا وحده ما يجعلها تحب خليل كثيرا، هو يكبرها بعام فقط لذا هما متقاربين بالعمر، وبينهما من التشابه في الأفكار والتصرفات ما يكفي ليجعل الجميع يطلقون عليها (توأمة خليل الروحية) بينهما تناغم جلي حقا

**********

في المساء كان لخليل موعد من غير تواعد مع جمال، كان جمال يعلم أن خليلا يخرج قبل الفجر للذهاب إلى جامع الرحمن، لذا غادر هو الآخر نحو الجامع منتظرا خليلا على الجسر

الجو هادئ جدا، وضجيج أفكاره يعلو شيئا فشيئا، ما جعله يخرج سيجارته ويبدأ تدخينها، كان يعلم أنه قد يلقى من ينتقده إن ذهب إلى الجامع مع تلك الرائحة، لكنه لم يستطع مقاومة رغبته تلك، فكر في نفسه (واحدة فقط لن تضر) أو هكذا ظن!

أخذ يفكر بما حدث في الآونة الأخيرة، حتى الآن لم يفعل والد خليل شيئا، ولكن هل سيبقى هكذا دائما؟ لقد بات يكره كونه قرر أن يبني صداقة مع خليل، مع أنه كان يعلم مسبقا أي نوع من الناس هو، ومع أي نوع من الناس يعيش، لكنه لمس فيه شيئا مختلفا عن الذين رآهم وعرفهم، وربما هذا ما جعله يتقبله

لم يشعر يوما بنوع من الاستحقار له في تصرفاته، وعلى العكس تماما، كان يشعر كما لو أنه أخ له، وحتى في الأوقات التي كان يوسف يرافقهم بها لم يتجاهله أبدا، لم يقل هذا صديقي المقرب والأولوية له، أدرك جمال الآن أكثر من أي وقت مضى أن قطع علاقته بخليل لهي خسارة حقا

قطع حبل أفكاره حينما أقبل خليل يجر خطواته مثقلا، لمحه خليل قبل أن يصل فعرفه، كان مستغربا بعض الشيء من وجوده، لكنه لم يبادر إلى سؤاله بشيء، أنهى جمال سيجارته ليرميها تحت قدمه ويدوس عليها، كان جمال متوقعا أن خليل سيقول كالعادة (ألن تكف عن حرق نفسك بهذه؟) لكن خليل لم يقل شيئا، أخاف صمته جمالا الذي سأله متعجا:
_ما بك يا رجل؟ ما هذا الصمت؟ هل اقتلع أحدهم لسانك؟

تنهد خليل قائلا:
_أنت ثرثار ولا تستطيع الصمت أبدا، هل من الضروري أن أقول شيئا؟

علق جمال بجدية:
_قد أكون ثرثارا لكنك أيضا لست أخرس، وليس من عادتك أن تقبل هكذا صامتا، حتى (السلام عليكم) لم تقلها، وأنا الذي ظننت أنك ستضيف لها انتقادا لتدخيني

_ماذا تريدني أن أقول؟ لا رغبة لي بالكلام

بذلك فقط علق خليل وقد وقف بجانب جمال على الجسر، وتَّر الصمت جمالا فأخرج سيجارة أخرى وأخذ يدخن، حينها نطق خليل قائلا بنية مبطنة:
_أتعلم؟ أحيانا أفكر أنه لا لوم عليك في ما فعلته بعد الذي حدث معك، لقد بتُّ أشعر أنني سأسير على ذات الدرب الذي سلكته، مع أنني الآن إذا ما نظرت إلى نفسي أرى ذلك مستحيلا

شعر جمال بنوع من القلق يتسرب إلى قلبه، يمكنه الآن أن يرى أثر الصحبة حقا، على رغم أن كل واحد منهما نشأ نشأة مختلفة إلا أنه يمكن لذات الظروف أن تجرهم إلى نهاية واحدة، حاول جمال طرد تلك الأفكار من رأسه، وطردها أيضا من رأس خليل فسأل ساخرا:
_تقصد أنه سيأتي اليوم الذي تدخن فيه سيجارة مثلي الآن؟

وهنا صدمه جواب خليل حين قال:
_ربما، لم أعد أستبعد ذلك

صعق جمال وهو يسمعه يقول ذلك، أراد أن يرد عليه بقوة أن يعاتبه أن يلومه، ولكن حينها لم يستطع الإفلات من الفكرة التي ظهرت في رأسه حينها: إن وصل خليل إلى مثل ما وصل إليه هو فلن يستطيع أن يلوم أحدا أكثر من نفسه، لأنه كان دليلا له على السير في هذا الاتجاه، بدأ جمال يلوم نفسه كثيرا على عدم مساعدته لخليل، مع أن ما حدث له كان بسببه وإن لم يكن قاصدا

أخرج علبة السجائر من جيبه بعد أن طرأت في عقله فكرة، رمى تلك التي أشعلها توا ثم داس عليها حتى انطفأت، رفع علبة السجائر للأعلى ثم هوى بها على رأس خليل ليضربه قائلا بغضب:
_أيها الأحمق كيف تسمح لنفسك أن تجرك إلى هكذا أفكار؟

أمسك خليل محل الضربة وهو يحدق به مندهشا، اعتصر جمال علبة السجائر بين يديه ثم رماها إلى الأرض وداسها بأقدامه وهو يقول:
_لن أسمح بأن أكون سببا في ضياعك، لا عذر لي أمام الله إن فعلت ذلك

أخذ خليل يحدق به بصدمة، كم مرة حاول إقناعه أن يكف عن التدخين ولم يستطع، والآن ها هو يسحقها تحت قدميه بكل سهولة، تحدث جمال مرة أخرى:
_لئن كانوا سببا في ضياعي فلن أكون سببا في ضياعك، خليل إياك أن تفكر بفعل شيء مما فعلته مهما كانت الظروف التي ستمر بها، لا تظن أنني سعيد بهذه الحال التي وصلت إليه، أنا لست سعيدا أبدا

ألجم الذهول خليلا الذي أخذ ينظر إليه غير مستوعب لما يحدث، ألم يقل جمال أنه لا يهتم بما يحدث معه ما دام أنه يفعل الشيء الذي يريد؟ لمَ يناقض أقواله السابقة الآن؟ ركل جمال علبة السجائر تلك لتسقط تحت الجسر تالفة، التفت نحو خليل وأكمل:
_أجل لست سعيدا، فعلت ما فعلت عنادا لهم، وكنت أعلم أنني لا أضر إلا نفسي، ولا أخسر إلا نفسي، لكنني استمررت في عنادي، لا بل في غبائي

صمت يسيرا ثم قال:
_مع كل ما فعلته لكنني لن أرضى أبدا أن أكون سببا في دمار غيري، لست بذلك العبد الصالح لكنني لا زلت أخاف من ربي

ظل خليل مذهولا وهو يرى ردة فعل جمال ويسمع كلامه، حقا لقد صدق من قال (رُبَّ ذنبا أورث ذلا وانكسارا، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا) كيف أن أولئك الذين أسموا أنفسهم مشائخ نفروا الناس من الدين لأنهم رأوا أنفسهم من أولياء الله الصالحين، وكيف أن جمال رغم تقصيره إلا أنه يسعى الآن إلى جعله صلبا لا يذوب أمام هذه المحنة التي وقع فيها، تحدث جمال مرة أخرى ولكن بحزم:
_خليل عدني...

ظل خليل يرقب بقية كلامه بعد أن صمت قليلا ليعاود مواصلة حديثه:
_عدني ألا تفعل ما فعلته، وألا تنجرف مع تيار المحنة هذا، عدني ألا تتغير مهما حدث

أخذ يحدق بخليل منتظرا الجواب على أحر من الجمر، حينها نطق خليل بنبرة واثقة قدر المستطاع:
_أعدك يا جمال، أعدك بذلك

انفرجت أسارير جمال فرحا بسماع ذلك، ثم علق قائلا:
_وأنا أعدك ألا أعود إلى شرب هذه أبدا

قال ذلك وهو يشير إلى السيجارة التي داسها منذ دقائق بقدمه، رفع خليل رأسه بعد أن كان ينظر إليها وقال:
_ألن تعدني بمثل الوعد الذي أخذته مني؟

ابتسم جمال ابتسامة باهتة وقال:
_أن أترك كل شيء دفعة واحدة لهو أمر صعب عليّ، بالكاد سأستطيع مقاومة رغبتي بشرب الدخان، لكنني عازم على أن تكون هذه خطوتي الأولى فحسب

كان الإصرار والعزيمة واضحين على ملامحه ونبرة صوته، ما جعل خليل يسعد بذلك ويعلق في حين ربت على كتفه:
_بداية موفقة بإذن الله يا صديقي

أثار انتباههما صوت الأذان وهو يصدح في الآفاق، ما جعلهما يغادران الجسر سريعا، متوجهين نحو جامع الرحمن، ليهمس خليل في نفسه (نجح الأمر إذن، وظهر القلب الذي لا زال يحمل بذرة الخير)

**********

عقب صلاة الفجر لذلك اليوم بحث الشيخ محمد عمران عن خليل ليجده حاضرا هذا اليوم أيضا، انصرف الناس من المسجد وظل خليل موجودا برفقة جمال، لم يسبق للشيخ محمد التحدث إلى جمال، قرر أن يذهب إليهما ويسلم عليهما، قابلاه بترحيب وحفاوة كبيرة، بدأ الشيخ الحديث إليهما بسؤالهما:
_هلا عرفتماني عن نفسيكما؟

نظر كلا منهما إلى الآخر ثم تحدث خليل قائلا:
_اسمي خليل وأنا ابن عبد العليم، لعلك قد سمعت به، وهذا صديقي جمال وهو ابن التاجر حسين أحمد، هو أيضا رجل معروف، كما أنه رجل يشاد له بتواضعه الجمّ

نظر جمال إلى الشيخ ثم أعاد نظره إلى خليل وقال:
_فقط؟

أجاب خليل مبتسما:
_فقط، لست في محضر شرطة

ضحك الشيخ إثر تعليق خليل وعقب موجها كلامه لجمال:
_كنت بحاجة إلى معرفة أسمائكم لأناديكم بها فقط، حتى صديقك هذا قد بالغ بالتعريف

ضحكوا قليلا لطرافة الموقف، ساورت خليل فكرة ما، فسارع إلى سبق الشيخ في فتح باب الحديث، أراد أن يبين شيئا ما لجمال، ولكن بطريقة مختلفة.

¶_______________¶
انتهى الفصل الرابع

يا جماعة الخير بكون مشغولة بالفترة الحالية، واحتمال ما أنزل فصول من مهلا يا صاح، أنا مشغولة برواية من الأعماق، ناوية أكملها عشان أشترك في أسوة، لذا إن ما نزلت فصول بهذه الفترة اعذروني

لا تنسوا دائما الاستماع إلى المقاطع المرفقة مع الفصول 💓

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top