الفصل الخامس والعشرين
الفصل الخامس والعشرين|| انحدار أسوأ
حملت حزنها مع ذلك العشاء الخفيف وصعدت نحو غرفته، كانت خائفة أن يستيقظ لؤي فيغضب من تصرفها؛ فهو يرى يوسف مدللا، وعليه أن يكسر هذا القيد الذي يجعله ضعيفا، وما فِعْلها هذا إلا أحد أنواع الدلال من وجهة نظره
وجدت الباب مفتوحا قليلا، علمت أن يوسف أراد تسهيل دخولها، دخلت بهدوء ثم وضعت الطعام على الأرضية، أعطته هاتفه وملامح الانكسار تعلو وجهها، هو كان بحاجة إلى من يواسيه، فهل يتوجب عليه الآن مواساتها؟
لم ترغب بالحديث لأنها لمْ تشأ أن يفقد شهيته للطعام، لم تكن تعلم أساسا أنه لم يُرِد أي طعام، وإنما كان الطعام عذرا ليخبرها بما أراد، لكنها قد تعبت في التحضير، فهل من اللائق أن يردها خائبة؟
_كُلْ أولا بعدها يمكننا أن نتحدث!
كلماتها زادت من عدم قدرته على إخبارها أنه لا يريد شيئا، جاملها وتناول بعضا منه، ولأجل أن يتوقف مع عَذْرها له اختار جملة يستطيع بها فتح باب الحديث، وغلق باب الطعام فقال:
_كيف يمكنني أن آكل هكذا بلا مبالاة في المكان الذي كانت ميمونة تجعله نابضا بالحياة، في حين هي لم تعد فيه، وربما لن تعود؟
_لماذا يا يوسف... لماذا تخفي الأمر؟ لماذا تتحمل كل هذا وحدك؟
سألته منزعجة ويحق لها السؤال، وأيا كان رأيه فمن الطبيعي أن يضع أحدهم هكذا أسئلة، رد دون النظر ناحيتها:
_لأن من يعرف سيموت، وبطريقة لا يُشك فيها. ما دمت أستطيع التماشي مع الأمور ومحاولة اقتناص الفرصة إذا ما واتتني، فلمَ أخاطر بحياة الجميع معي؟
_لكنك لا تستطيع ضمان النتائج، إضافة إلى أن إخبار أحدهم سيتيح لك فرصة الحصول على المساعدة، ما يعني أن إمكانية حصولك على النتائج المبتغاة ستصبح أقوى
_في حال خسارتي في الوضع الراهن سأكون أنا وحدي الشخص المتضرر، لكن في حال أدخلت أحدهم _مع أنه لا ضمان أننا سنحقق مبتغانا_ ستكون الخسائر أكبر
رد عليها فصمتت تفكر، هو يعلم أنها لن تفعل شيئا ولذا أخبرها بالقصة، لم يسبق لها أن أفشت له سرا، وذا هو سبب لجوئه إليها والوثوق بها، لكن الحمل هذه المرة ثقيل، فهل تطيقه؟
قاطع شرودها حين وقف قائلا:
_على أية حال خذي الطعام واذهبي للنوم الآن، سأبقى على تواصل معك بين الحين والآخر
نهضت لتأخذ الأطباق فعقب سريعا:
_قبل أن أنسى: سأغير رقم هاتفي قريبا، سأتواصل معك منه حال شرائه، وقد لا أعطيه لأحد غيرك، لذا احرصي ألا يعرفه أحد، على الأقل في هذه الفترة
_حسنا!
ردت باختصار ثم غادرت نحو الأسفل، يكبل قلبها ضيق شديد، ويعصف به وجع أليم، أن تعرف الحقيقة لهو أمر مؤلم، وأن تكتمها لهو أمر أتعب وأصعب، بيد أنها رغبة يوسف التي لا ترغب في مخالفتها، فكم ستبقى دافنة لأسراره في أعماقها، رغم الندوب التي ستخلفها كمحاولة للتمرد على الواقع الأليم؟
**********
انتصفت الصالة طاولة مستطيلة، تحوطها آرائك من كل جانب، يجلس عليها ثمانية رجال، يترأسهم أمجد ويستضيفهم في منزله، وبجانبه جلس يوسف بناء على طلبه
إنها المرة الأولى منذ أن عرف حقيقته -يختلط برجاله، بدا واضحا أن لديهم مخططا ما، جلس يوسف متذمرا، ملامح الامتعاض تجلت على وجهه، علق أمجد ساخرا من حاله:
_الجميع يعمل وأنت كل ما عرفته هو النوم والكسل
استفزت كلماته يوسف فأظهرت الغضب على وجهه؛ سخرية وأمام الآخرين أيضا؟ رد عليه غير مبالٍ بما يعرفونه عنه:
_لولا أفكارك القذرة وقلبك الحاقد لما كنت على هذا الحال، إن كان ثمة من يستحق اللوم فلن يكون أحدا سواك
_أجل لن يكون سواي لأنني استبقت معاذا بخطوة وجعلت الأمور تسير عكس مشتهاه!
علق ساخرا ففهم يوسف قصده، لا زال يكرر أن معاذا يود اصطياد خليل وجعله دمية يحركها كيف يشاء، أمر لا زال يوسف يعتقد أنه لم يحدث كما غدا الحال معه رغم كرهه لمعاذ، وخوفه من أن يصل إلى ذلك بالفعل، رد على دعوى أمجد بالقول:
_لا أحد سعى إلى جعل أحدهم دمية له سواك، معاذ لم يفعل ما فعلته حتى الآن، يمكن للواقع أن يكون خير شاهد على ذلك، وأكبر مكذب لك
_أجل لم يفعل شيئا، حتى أنه لم يضع مخططا يتضمن اختطاف شقيقتك كأداة للضغط عليك وعليَّ أيضا، والمنفذ صديقك الحميم، خليل!
كاد يوسف أن يفقد عقله لسوء ما سمع، أمعاذ يسعى لذلك؟ أم أنها إحدى حيل أمجد نفسه؟ نبس بالكاد:
_ماذا... قلت؟
أشار أمجد إلى الطاولة والأوراق المنثورة عليها وأجاب:
_ولهذا يا سيادة المتحذلق نحن الآن نعمل، أنا لن أنتظرك حتى تتحرك، لقد حركت رجالي وبدأنا العمل
_ولمَ قد يفكر معاذ باختطافها أساسا؟
سأل يوسف وهو لا يزال مكبلا بأصفاد الصدمة، التفت أمجد نحوه ليخبره القصة:
_أُعطيتْ مهمة من القيادة العليا لثلاث فرق منا، واحدة هي فرقتي، والثانية لمعاذ، والثالثة لآخر يدعى بشار، من يسبق الآخرين في إنجازها سيحصل على ترقية، وستحصد فرقته أكبر مكافأة، لذا سعى معاذ إلى خيار اختطاف شقيقتك ليضغط على كلينا، بينما سعى بشار إلى اختطاف الأضواء منه بعد أن يبدأ تنفيذ مخططاته، جواسيسنا أبلغونا أنهما قد تحركا للعمل الليلة، لذا أرسلت رجالي ليتصدوا لهم، في حين نقوم بوضع خطة لأجل المهمة الموكلة إلينا من القيادة
جنَّ جنون يوسف وهو يسمع تلك القصة، سأل محاولا إزاحة خوفه:
_ماذا تقصد بأنهما تحركا للعمل الليلة؟
_لاختطاف شقيقتك أيها البطل النائم!
ضربت كلمته الأخيرة عمق الوجع في قلب يوسف، نهض مسرعا إلى الغرفة التي وضع فيها حاجياته حين قدم إلى هذا المنزل، لقد نام طويلا هذا اليوم هنا وذا ما جعل كلمات أمجد تستفزه وتؤلمه أيضا، بحث عن هاتفه على عجالة، وجده ولكن لسوء حظه كان منطفئا، رماه وخرج مسرعا متجها نحو الخارج، جاءه صوت أمجد وهو يقول:
_لكي أكون صادقا معك فصديقك ذاك يود أن يكون هو من يأخذها لأنه يعتقد أن بإمكانه حمايتها حتى ننفذ ما يريدون، لذا ترفق به حين تلتقيه
ثم ضحك ساخرا وأردف:
_هذا إن التقيته قبل أن يسبقك رجالي إليه
سحب يوسف باب المنزل خلفه لينغلق بقوة، محدثا ضجة في أرجاء المنزل، أخذ يركض بأقصى ما لديه ليصل في الوقت المناسب، ورغم كل شيء لا زال يستغرب كيف يمكنهم أن يكونوا واثقين أن بإمكانهم إخراج يسرى من المنزل في هذا الوقت!
لا يعلم أن هذا ما هو إلا جزء صغير من مخطط كبير قاموا بوضعه؛ لأجل استئصال آخر جذر للصداقة بينه وبين خليل، هاتفه كان عُرضة للتفتيش حين غط في نوم عميق، بعد أن قدم إلى هذا المنزل، وأساسا نومه أيضا كان مدبرا
كان أمجد يريد أخذ هاتف يوسف ليأخذ رقم هاتفها، ثم يدبروا مكيدة أخرى، لكنه وجد آخر رسالة بينهما قال فيها يوسف (سأحاول أن أشتري الرقم الجديد هذا اليوم كما أخبرتك، سأرسل لك منه رسالة لتحتفظي به)
غيَّر أمجد مخططه فقرر إرسال رسالة من رقم آخر إليها باسم يوسف، هي ذاتها الرسالة التي سيجرها فيها إلى خارج المنزل، أخرج بطارية هاتف يوسف ليوهمه أنها قد نفدت حين يود استخدامه
جزء كبير من خطته هذه المرة اعتمد على حظه، بدءا من المكيدة التي جر بها خليل، إلى الخدعة التي أخرج بها يسرى، انتهاء إلى الحيلة التي أوهم يوسف بها أن كل شيء يجري هو من تخطيط معاذ، حتى تلك الأحداث القادمة والتي أخذ يوسف يركض نحوها وهو لا يعرف ما الذي يحدث تحديدا
وصل أخيرا قرب منزله وأنفاسه المتسارعة تكاد تتمزق داخل صدره، سمع صوت يسرى قرب الزقاق الشمالي من منزلهم وهي تصرخ، ركض بذلك الاتجاه ليجد أحدهم يمسك يدها ويركض بها وهو يتجه نحوه، يغطي رأسه بقلنسوة متصلة بالمعطف الذي يرتديه، وكمامة تخفي وجهه، لكنه ما إن رأى يوسف حتى توقف وتركها
ركضت مسرعة نحو يوسف وهي تهتف باسمه والخوف يكاد يبتلعها، اختبأت خلفه منتظرة أن يتحرك ليفعل شيئا، لكنها صدمت حين بقي واقفا، ثم هتف بصعوبة:
_لا أصدق أنك تفعل هذا يا خليل!
عبارته بدت منصدمة معاتبة أكثر من أن تكون غاضبة، بُهتت بسماع ما قال، وزاد الأمر عليها حين أطلت على الشخص الذي أمامه والذي كان هو نفسه الذي كان يسحبها، لقد كان خليلا فعلا، أزال تلك الكمامة عن وجهه وقال:
_لا تفهم الأمر خطأ يا يوسف أنا...
_ما الذي ستكذبه الآن؟
_لقد كنت أحاول حمايتها...
_نعم تحاول حمايتها بطريقتك الغبية!
صرخ به يوسف مقاطعا مرة أخرى وهو يتذكر كلام أمجد، كيف سيبرر خليل الأمر الآن؟ كان يود اختطافها حتى يتمكن من حمايتها منهم؟ ما الذي يضمن له أنه سينجح فيما أراد؟ بل كيف سيفسر ما رآه يوسف منه الآن؟ تذكَّر حين كان خليل يقول أنه سيبقى مع معاذ مهما حدث، وسينفذ ما يطلبه منه، الأمر الذي أكد عليه أكثر من مرة جعل يوسف يزداد تصديقا لفكرة أنه حاول اختطاف يسرى، مهما كان تبريره
أراد خليل أن يتحدث مجددا فقاطعه يوسف، وبلهجة غاضبة طلب من شقيقته العودة إلى المنزل حتى يتفاهم معه، لكن صوت لؤي الذي هبط إلى المكان ليتحقق ممَّا يحدث في الجوار، بعد أن سمع صوت صراخ يسرى جعل خليلا يفضل الانسحاب، لا يعرف كيف سيشرح له هو الآخر، وجوده في هكذا موقف ليس من صالحه أبدا
بعد أن رحل انتبه يوسف إلى تحرك سيارة ما كانت مركونة على طرف الشارع المقابل، ما زاد من شكوكه حول محاولة خليل اختطاف يسرى
توجه نحو الداخل ليجد لؤي منكبا على يسرى المنهارة أرضا تبكي، محاولا أن يفهم منها أي شيء دون جدوى، التفت ناحية يوسف ليسأله فتجاهله الأخير لينحني نحوها ويضمها إليه بقوة
لا يزال غير مستوعب لما حدث أو ما كاد أن يحدث، يضمها إليه كأنه يحميها من الشرور، كأنها كنز ثمين كاد أن يفرط من بين يديه، ربما أيضا قربها منه يجعله أكثر أمنا، وهو الذي كاد قلبه أن يطير فزعا
ما فعله هو ما كانت تحتاجه، شعرت بالأمان الذي انتزع منها، شعرت أنه أعاد لقلبها نبضه، ولصدرها أنفاسه، فزعها بدأ يغيب، وروعها يهدأ، همس لها بأن لا تقول كل شيء أمام لؤي، وربما هي أيضا لن تفعل، ليس لأنها توافقه الرأي، بل لأنها تشعر أن لسانها قد انشل، وعقلها لن يستطيع ترتيب الكلمات
ولأن يوسف لم يرغب بأن يعرف لؤي الكثير بادرها هو بالسؤال، لتكون إجابات تلك الأسئلة هو ما يسمح لها بقوله:
_لماذا خرجتِ في هذا الوقت إلى خارج المنزل؟
أجابته بلهجة باكية:
_وصلتني رسالة ظننتها منك، كتب فيها أنك تود إخباري بشيء، لذا عليَّ التوجه إلى الجهة الخلفية لمنزلنا
هتف لؤي من على رأسها غاضبا:
_وكيف تصدقين شيئا كهذا؟ يوسف رقمه معك، أم أنك حذفتِه أيتها الغبية؟
قابله يوسف بنظرات غاضبة، ورد عليه بصوت مرتفع:
_أنا أخبرتها أنني سأغير رقمي قريبا وسأرسل لها رسالة منه
_وهل سترسل لها رسالة من هذا النوع المشبوه حتى تصدق وتخرج؟
سأل لؤي مجددا بنبرته الغاضبة ليرد يوسف ولكن بنبرة أخفض من السابقة:
_أتفق معك أنه ما كان عليها تصديق رسالة كهذه، ولكن هذا ليس الوقت المناسب لتلومها
رفع نظره إليه وأكمل:
_لو أن تلك الرسالة وصلت إليك لفعلت الشيء نفسه، كلكم تفكرون بنفس التفكير نحوي، لذا توقف عن لومها
_لكنني لست فتاة عاجزة عن الدفاع عن نفسها
علق لؤي وهو لا يزال غاضبا، ما جعل يوسف يمسك بيد يسرى ويساعدها على النهوض، وحين وقفت تحدث إليها وكأن لؤي ليس موجودا:
_آسف لأن كل ما حدث لك كان بسببي، لا تهتمي الآن؛ المهم أنك بخير!
توجها نحو الداخل ليستقبلهما الوالدان بملامح مفزوعة مستغربة، سألت الأم بعد أن رأت حجاب يسرى عليها:
_ماذا حدث؟
هرولت يسرى لترتمي في حضنها وهي تبكي، علق لؤي بنبرة لم يخفَ على يوسف انزعاجه فيها:
_ابنتك المغفلة خرجت لتجيب رسالة أحد ما ادعى أنه يوسف، وكادت أن تختطف
_تختطف؟
_يا ستار يا الله!
هتف كل من الوالدين بإحدى تلك الجملتين، لكن يوسف كان منزعجا من أسلوب لؤي القاسي معها، التفت ناحيته وقال:
_قلت لك توقف عن لومها
_أنت الذي يجب عليه أن يصمت هنا، فأنت لم تعد محل ثقة، كما أنني لا زلت أود التأكد من الرسالة
زاد غيظ يوسف أكثر بعد كلام لؤي هذا، أيقصد أنه يمكن أن يجر أخته إلى الضياع؟ كادت عروقه أن تنفجر لشدة الغيظ، لكن يسرى قاطعت تلك المشادة الكلامية بينهما وهي تمد يدها بهاتفها نحو لؤي وهي تقول:
_تفضل واطلع على ما في الهاتف كله يا صاحب الشرف الأوحد، وليس فقط على تلك الرسالة
أزعجه كلامها لكنه أخذ الهاتف وبحث عن تلك الرسالة، وجد أن ما قالته كان صحيحا، قام بإجراء أخير ليعرف من خلف هذا الرقم، اتصل به مرارا وتكرارا دون جدوى، نسخه إلى هاتفه ثم وضع هاتفها في جيبه قائلا:
_سيبقى هاتفك مرهونا عندي حتى أعرف القصة كاملة
_افعل ما يحلو لك!
علقت غير مبالية رغم انزعاجها من سوء تفكيره، تركهم وصعد إلى الطابق الثاني حيث تقع غرفته، جلست مع والديها ويوسف تحكي لهم ما حدث، مجتزئة الأحداث التي غلب على ظنها أن يوسف لا يريد لهم معرفتها، تاركة إياها لإخباره بها في وقت لاحق، بل حتى هي لم تذكر خليلا في سياق الحديث
**********
فاح نسيم صباح اليوم التالي لتزهو به الأرض في مرابعها، لا تنتظر الشمس أن تُشكر على إشراقها بعد رهبة الليل، ولا تمل الأرض وهي تسمع تذمرات البشر من حملهم على ظهرها، ولا يضجرها سعيهم في طلب رزقهم، تستمر الحياة بالسير غير آبهة بجراح المثكلين، ولا بنواح المفجوعين، لا تنتظر ذلك العابس أن يبتسم، ولا ذلك المكتئب أن يسعد، ولا تأبه حتى لسعادة السعداء، لا تربطها بعالم البشر رابطة تجعلها أسيرة لمشاعرهم وأهوائهم، فسبحان من جعل لكل شيء ميزان!
منزل سعيد هو أحد المنازل الذي تسير الحياة غير آبهة بشعور ذويه، تتخطفهم الصدمات والأوجاع، وتسير الأيام وكأن أحدهم لم يحمل في صدره ألما قط، يتعايشون مع الأحداث التي تعصف بهم، يبذلون جهدا في محاربة ما يكرهون، تارة يحققون شيئا، وتارة يفشلون، وتستمر الحياة!
كان ذلك الصباح هادئا نسبيا رغم كونه الصباح الذي تلا حادثة محاولة اختطاف يسرى، كان لؤي منزعجا لكنه لم يعد يرغب في تكرار سيناريو يوسف مع يسرى؛ فهو حتما سيكون أسوأ، لم يجد شيئا مريبا في هاتفها، رسائل عادية، مكالمات مع أشخاص يعرفهم، ووسائط من مجالات عدة تحبها، وبعض ملاحظات تكتب فيها ما يجول في خاطرها
أعاد إليها الهاتف مغلقا باب الخصام، لكنه لم ينسَ أن يحذرها بلهجة شديدة أن تخرج من المنزل دون علمه، علمه هو وليس أحد والديه، لم تُبدِ أي اعتراض؛ ما حدث بالأمس جعلها شبه خرساء، شبه فاقدة للعقل، ويوسف لم يفتح فمه أيضا؛ تجنبا للمشاكل
ظلت شاردة التفكير طوال النهار، ما جعل يوسف يقرر استفسار ما حدث معها بالتفصيل، بعيدا عن الآخرين أيضا؛ لم يرغب أن يأتوا على سيرة أمجد أمامهم، لديه شعور قوي أن ذلك سيحدث، وهو الذي لا يرغب لهم بمعرفة شيء
أخبرته أنها حين خرجت متوجهة إلى الجهة الخلفية للمنزل سمعت صوت مشي أحد ما، ظنته هو فهتفت باسمه، حينها أطل من بين الزقاقات رجل يرتدي شبه ما كان يرتديه خليل، وحين حاول اختطافها من المكان وصل خليل
لم تعرف أنه هو، اشتبكا بالأيدي فيما بينهما، وقد كان عراكهما في الطريق المؤدي إلى باب منزلهم، ما جعلها لا تستطيع الهروب، قالت أن الذي جعلها لا تعرف خليلا هو جملته التي رد بها على ذلك الرجل، حيث قال ذلك الرجل (لن تكون لمعاذ مهما حدث) فأجابه خليل (بل هي لن تكون لشخص غيره) قالت أنها ظنت أنها توهمت سماع اسم معاذ، لكن كلام يوسف عن الأمر كما علمه من ناحيته جعلهما يثقان أن ما سمعته كان صحيحا
هُزِم الرجل الذي وقف في وجه خليل، ليطل أشخاص آخرون من الناحية الثانية، ما جعل خليلا يمسك بيدها ويهرب بها إلى الناحية الثانية، وقد كانت ناحية باب منزلهم، هناك حيث التقى به، وتلك السيارة التي تحركت من الشارع المقابل جعلت يوسف يعتقد أنها كانت لخليل ومن معه
كما أن أمجد أبلغه أن الرجال الذين أرسلهم تراجعوا حين وصل هو وأخذ شقيقته، هم بلا شك الأشخاص الذين حاول خليل الهرب منهم، هكذا فكر!
هذا الفعل جعل خليلا يسقط من قلب يوسف قبل نظره، شعر بالخذلان يكوي فؤاده، وطعنة خيانة غادرة أصابته في مقتل؛ هو حذره لينتبه على ميمونة، لكن هو كيف رد له الجميل؟ يختطف أخته؟ والمثير للسخرية أنه بدعوى أنه سيحميها إن كان هو الذي سيختطفها!
هذا الأمر جعل يوسف يفكر ما نوع المهمة التي تلقتها الفرق الثلاثة _كما قال أمجد_ حتى يتقاتلوا على تنفيذها هكذا؟ أو ربما الأمر يكمن في المكافأة التي سيحصلون عليها، هذا ما يتوجب عليه أن يعرفه من أمجد نفسه، وقد كان!
**********
عَقِبَ يومين من تلك الحادثة وفي يوم الأحد تحديدا -لاحظ معاذ شرود خليل الملفت للنظر، فاتحه بالأمر قائلا:
_شرود من العيار الثقيل؟ حسنا دعني أحزر، لا شك أنك ارتكبت حماقة جديدة مع أمجد، والآن هيا أخبرني ماذا حدث؟
_لا شيء!
_إجابة خاطئة، قلت لك ماذا حدث؟
رد معاذ ساخرا فظل خليل على صمته، يقف حائرا على ذلك الجسر الذي التقى عنده معاذا تلك الليالي الأُوَل، تشع السماء لونا ذهيبا ذو احمرار؛ مخبرة عن قرب موعد الغروب، هذا الوقت الذي غالبا ما يلتقي خليل معاذا به، لقاء شبه يومي، تتعدد الأمكنة والوقت متوحد تقريبا
أمسكه معاذ من كتفه ليجعله يستدير نحوه؛ حتى لا يجرؤ على الكذب _إن فكر بذلك_ إن أراد أن يستفسر منه شيئا، حدق به قائلا:
_للأسف جمال مسافر، ولن يكون حاضرا ليجبرك على قول الحقيقة، حتى لو اضطر إلى خنقك، لكني أنصحك ألا تجرب طرقي باستخراج الإجابات من أحدهم، لذا أجب عن سؤالي: ماذا حدث؟
ضحك خليل لا إراديا إثر ذلك التعليق، جمال فظيع في محاولة الحصول على ما يريد فعلا، ربما هو محظوظ أن جمال مسافر منذ ثلاثة أسابيع تقريبا مع عائلته، رد على معاذ قبل أن يُنفِّذ تهديده:
_أنت حتما ستغضب من معرفة الحقيقة، ولكنني لا أحتاج إلى غضبك هذه المرة، أحتاج إلى مساعدتك، هل تفهمني؟
_حسنا!
رد مختصرا الجواب بعد أن استشعر الرجاء في كلمات خليل، وهنا بدأ خليل سرد الحكاية من أولها، وكان على معاذ أن يضبط أعصابه قدر المستطاع وهو يستمع إليه، وإلى حيلة أمجد هذه المرة
كان إبراهيم الذي التقوه قبل مدة هو أداة أمجد لاصطياده، الأمر الذي سبب صدمة لمعاذ نفسه، كان هذا المحتال يقدم نفسه كناصح أمين، وأخذ يقول الكثير من الأخبار عن أمجد لخليل، هذا الأخير حاليا لا يعلم صدقها من كذبها، وحين أدرك أن خليلا قد وثِق بمعلوماته كثيرا دعاه إلى قُرب منزل يوسف في موعد حدده له بدقة، طالبا منه أن يأتي متخفيا، واعدا إياه أن يريه شيئا يجعله يستطيع أخذ يوسف من أمجد، بل وفضح أمجد على رؤوس الأشهاد، محذرا له من أن يحضر شخصا آخر معه؛ لأنه _كما ادعى_ كلما كان العدد أقل، كلما كانت المهمة أدعى للنجاح
ذهب خليل إلى هناك في الموعد المحدد، لكن سماع صوت يسرى وهي تنادي يوسف قد أخافه وأقلقه، ما جعله يتوجه صوب الصوت، وهناك رأى ذلك الرجل الذي حاول اختطافها
تقاتل معه وقد كان شرسا في قتاله، لكن ذلك الرجل أثناء قتالهما تحدث قائلا (كما قال يوسف هي لن تكون لمعاذ مهما حدث) فظن خليل أنه يقصد ميمونة، كما أنه ظن أن هذا الرجل سيوصل الكلام إلى يوسف _رغم أنه لا يعرف ما نوع العلاقة التي تجمع بينهما_ فرد عليه غاضبا ومحاولا استفزاز يوسف للظهور (بل هي لن تكون لشخص غيره) لم يدرك خليل أن ذلك الرجل قد تعمد إخفاض صوته عند بداية حديثه كي لا تسمعه يسرى، فوصلتها العبارة مبتورة كالآتي (لن تكون لمعاذ مهما حدث) ظن أن لهاثه الذي نتج إثر المعركة كان السبب في انخفاض صوته، ولكن ذلك كان ضمن المكيدة أيضا
ظهور أولئك الرجال من الناحية الثانية وفي حالته التي بدأ الضعف ينهشها -جعله يفكر بإبعاد يسرى من المكان، وإيصالها على الأقل إلى باب منزلهم، وهو سيتحمل ما سيحدث له بعد ذلك، لم يكن يعلم أنها لم تعرفه بعد، استغرب محاولتها الإفلات من يده، لكنه واصل الركض قلقا عليها، حينها وجد يوسف في وجهه
هو واثق من أن يوسف أيضا خُدِع، لكنه لم يسمح له بأن يفسر له، وهو الآن غير قادر على البوح لأحد من العائلتين بما حدث؛ احتمالية أن يُفهم خطأ هذه المرة كبير، سيما من قبل عائلة سعيد؛ كون ابنتهم هي التي تعرضت لمحاولة الخطف، وأيضا يوسف لا زال يتهمه بأنه مُسيَّر من قِبَل معاذ، وهذا الأخير ماضيه يجعله عُرضة للاتهامات السيئة
اختفى إبراهيم عقب تلك الحادثة، لم يلاحظ معاذ اختفائه إلا بعد أن سرد له خليل القصة، كان غاضبا ويحاول كتمان ذلك، أصبح أشبه بالبركان، يغلي في جوف الأرض، ومن أعلاها ينفث الدخان
حاول أن يفكر بحل بعد أن وجد نفسه في هذا المنعطف من القصة، هو يدرك أن أمجد قد بدأ ألاعيبه المفضلة، ولن يتوقف حتى يختمها بالدماء، ولا شك أنهم هم من أضحوا في قائمة المستهدفين لديه، بعد مرور بعض الوقت عاد بنظره إلى خليل قائلا ليشد انتباهه:
_اسمع لدي فكرة
طالعه خليل بصمت منتظرا سردها عليه، تحدث معاذ بهدوء جهده:
_المنزل الذي يسكن فيه أمجد حاليا قد أُثيرت ضده قضية في الماضي، أذكر أن والدي كان يقول أن لديه صديقٌ عَمِلَ في بناء منزل في حي قريب منا، وهو الآن يعيش بعيدا هاربا بعد أن أُثيرت ضد هذا المنزل قضية، لا أعلم ما نوع القضية التي أُثيرت، ولا أعلم لمَ هذا الرجل هاربا رغم أنه كان عامل بناء، ولا حتى إن كان المنزل الذي تحدث عنه والدي هو نفسه المنزل الذي يسكن فيه أمجد حاليا، لكنني واثق من أن منزل أمجد هذا قد أثيرت ضده قضية أيضا، كما أنه قريب بعض الشيء من حينا، وهذا يضع احتمالية كونه هو المنزل ذاته الذي تحدث عنه والدي
صمت قليلا بينما يحاول خليل ربط الأفكار ببعضها، استرسل بعدها قائلا:
_صديق والدي هذا يسكن في حي شعبي قديم في المدينة المجاورة، كما أنه قد أضحى كبيرا في السن، إن كان لا يزال على قيد الحياة سيفيدنا كثيرا
_إذن؟
سأل خليل مختصرا ليأتيه الجواب من معاذ بلهجة صارمة:
_ستسافر معي إلى هناك الخميس القادم، جهز نفسك من الآن، ولا تُسمعني أية أعذار، قد نقضي الجمعة هناك أيضا، هل هذا واضح؟
_واضح تماما يا زعيم!
علق خليل ممازحا ليضحكا عقب ذلك رغم الموقف الذي هما فيه، كلمة زعيم قبيحة في نظر معاذ، وتثير في عقله ذكريات سيئة، وفي نفسه مشاعر بغيضة، لكن وقعها هذه المرة كان مختلفا، مختلفا تماما عمَّا عهده
لطالما تمنى أن تكون حياته هادئة بعد توبته، لكن لصوص الأحلام لن يدعوه وشأنه، لكن ما يزعجه حقا هو أنهم لن يتركوه ليعيش هذه الأيام كما كان يرغب؛ قبل أن يفتضح سره الأكبر!
¶____________________¶
انتهى الفصل الخامس والعشرين
ولله الحمد والمنة
وصلنا إلى مفصل مهم جدا في الرواية، من الآن فصاعدا لن يكون هناك إلا ما هو أشد
أتمنى أن الأحداث حتى الآن نالت على رضاكم واستحسانكم 🌸
في أمان الله 💙
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top