الفصل الثلاثون

الفصل الثلاثون|| هيجان مشاعر


بات الهرب من منزله مناسبا ليسوم نفسه سوء العذاب، تنصهر روحه وسط عذاب الضمير، يوصل ليله بنهاره ليبكي قلبا يحتضر أو ربما قد مات، ويرثي شخصا قد كان فما عاد، شخص توفي وهو على قيد الحياة

سمي (يوسف) ليكون كنبي الله يوسف الصديق عليه السلام، فهل كان؟ أم أنه قد انصهر من أول محنة، وانكسر من أول ضربة، وانتهى به المطاف ليبكي على الأطلال مجدا قد كان؟ ليس له من الماضي إلا صوت يقرع في قلبه لا في أذنه، يخبره: كم أنه قد أضحى سيئا، ولتلك الأفعال الجميلة لن يعود، بل لا يستحق أن يعود!

ذكريات وأحداث، ومواقف وكلمات لا تزيد قلبه المتصخر إلا قسوة، ولا تزيد أحاسيسه إلا قتلا، ولا تزيد مشاعره إلا تبلدا، يجوس خلال حاله وفكره بالمآل فيزداد قنوطا، يتمنى لو يموت، والتفكير بالموت على هكذا حال يثير خوفه ورعبه، يتأرجح على حبل واهنٍ مضطرب، ويركب قاربا بحره متلاطم الأمواج، فيتخبط ويرتطم مرارا، ولا يعود إلا محملا بالخسائر

لليوم الثامن على التوالي بعد هيجانه ذاك يستمر بالخروج من منزله وسط صمت يفتك بعائلته المحتارة في شأنه، يلوذ بذلك المنزل الذي ائتمنه أمجد عليه مانحا إياه مفاتيحه، يفضل هذا الأخير عدم الاحتكاك به في الوقت الراهن، لا رغبة لديه بافتعال عراك آخر معه، ولكن… ولكن أسير المخدرات ذاك لا يستطيع الابتعاد كثيرا بعد أن أذلته وسرقت حريته

قرر أمجد زيارة ذلك المنزل فربما وجد يوسف هذه الليلة، ليس لديه ما يقوله له، لكنه حقا يود رؤيته، ينتابه نوع من تأنيب الضمير حياله، يدرك كم أن يوسف سعى في محاولة لإخراجه من طريقة العيش القذرة التي بات يعيشها، وربما ذا أكثر ما كسر يوسف قبل أن يتمكن من تحقيق هدفه، لا يعلم من أين أتى له يوسف هذا هو وأفكاره التي لطالما نعتها بالغبية، ولطالما قال عنه أنه ساذج ومغفل

إن تذكر الآن فلطالما حاول يوسف أن يتغاضى عن مساوئه، ولطالما حاول أن يبين له خطأ ما يقوم به، ولطالما ذكره بأن قراره بترك ما هو عليه وسلوك الطريق الصحيح أفضل له من أن يكشف أمره، ويخزى ويذل بين العالمين، ولا كرامة له عندهم ستبقى، لكنه عدَّ ذلك سخافة منه، وسخر من تفكيره (الطفولي) كما كان يصفه، وإن فكر الآن بالمعنى الذي قصده فحتما هو البراءة ولا ريب، براءة كبراءة الأطفال التي تجعلهم يفكرون بشكل مسالم، وبريء حيال ما يشاهدونه في حياتهم، رغم أنهم يسمعون كثيرا عن الأشرار في هذا العالم

نقاشاته مع يوسف دائما ما كانت تنتهي بحدة، سيما تلك التي كانت تضم حديثا عن والده، وآخر مرة تحدثوا فيها عن هذا صرخ في وجه يوسف قائلا:
إنني مخطئ نعم لن أنكر، ولكنني أيضا عانيت، أنا ظالم نعم ولكني أيضا مظلوم، لا يوجد إنسان بكامل قواه العقلية يفعل الخطأ لمجرد أنه يود فعله، وراء كل فعل لنا قصة من الماضي، وأي قصة؟ قصة معاناة وألم، إن كنت تظن أنه لا مشكلة في أن تُهان فقط لأن والدك من يفعل ذلك فالناس ليسوا مثلك، لا يمكنك جعل الآخرين يتفقون مع رأيك، دعني أخبرك بشيء واحد تذكره طوال عمرك: وراء كل مجرم في هذا العالم قصة ألم، وربما ستجد أيضا وراء كل ابن فاسد ظُلْم أب متسلط، أو أحمق لا يعرف كيف يكون أبا قبل أن يكون مسؤولا

بإحباط تسللت منه تنهيدة حارة، يجبره ابن عمه هذا على أن يتحدث بحقيقة ما في داخله من حيث لا يشعر، لطالما كره أن يبدو ضعيفا أمامه، ولم يكن يعلم أن زلات اللسان تلك كان السهام التي أدمت يوسف، وأغلالا قيدته عن مهاجمته في ذات الآن، حين يتذكر أنه عانى كثيرا فوصل إلى هذه الحال يتراجع عن محاولة الاستغاثة بالغير ليكشفوه وينهوا أمره، عاطفة في غير محلها، لم يكن لها محل من الإعراب سوى أنها كانت غفلة وحماقة

وما يزيد السوء سوءا في نفس يوسف أنه لم يدرك ذلك إلا متأخرا، إدراك يستيقظ حين تدق ساعة الندم، معلنة عن مرحلة جديدة من الحياة، ربما لا يملؤها شيء سوى الشقاء، أكان حقا غافلا؟ أم أنه تغافل عن الأمر؟ وما نوع الكذبة التي خدع بها نفسه ليستمر في أداء هذه المسرحية الهزلية؟ أكان خوفه على من يحب؟ أكانت حقا طريقة مثلى أن يبعدهم عن طريقه؟ وهل كان تصديقه على معاذ أمرا صائبا؟

إن عاد بذاكرته إلى الوراء فهو يدرك سر كل ما مر به حتى اللحظة، صُدِم بأشخاص كثر خانوا الثقة التي منحهم إياها، كما أن مواقف خليل حين كان يعجز عن ثنيه عما يريد فيبلغ والده -كان لها دورا في سحبه للثقة بسهولة من معاذ، وأساسا هو لم يكن يمنحه تلك الثقة الكبيرة حتى يصعب زعزعة رأيه عنه، لكنه سابقا حين بلغ رشده كان شاكرا لخليل على ما فعل، فلمَ قامت تلك المشاعر المدفونة من جديد لتجعله لا يستطيع أن يثق بمعاذ؟ وهل أعطى أمجد الثقة حتى سار خلفه كمن غُيِّب عن الواقع؟

لطالما آمن أن خلف كل مصيبة حكمة وفرج، فأي حكمة هي التي تقف خلف ما يعانيه اليوم؟ وأين الفرج منه وهو الذي بات يرى أن الموت أرحم به من استمرار حاله على هذا المنوال؟ بيد أن ما يفزعه أكثر هو حياده عن طريق الرحمن الرحيم، كيف وصل إلى ما وصل إليه اليوم؟

لم يكن يخطر على باله يوما ولو على سبيل الخيال أن يترك أداء فرض واحد من الصلاة، فلمَ أصبح يتركها اليوم كله في اليومين الأخيرين؟

ينتابه شعور باللوم كلما قام إلى الصلاة، كيف يؤديها من بالدماء لطخ يداه؟ وحين يقرر أن يؤديها رغما عن ذلك الشعور لا يستطيع أن يؤديها بخشوع كما كان، يسهو وهو يقرأ فاتحتها، وينسى حين ينهيها كم أدى من ركوعها أو سجودها، يعيدها ثانية وثالثة، ثم يخرج بقلب كالصخر، ما عاد لتلك الروحانيات فيه من نصيب

انحنى مزلاج الباب معلنا عن قدوم زائر يعرفه حق المعرفة، أطل بوجهه صامتا من خلف الباب، لتواجهه نظرات يوسف الحانقة، بانت على وجهه ملامح متذمرة وهو يفتح الباب أكثر ويقول:
_إلى متى ستظل هكذا مختبئا في الزاوية؟ ما فات مات ولا عودة له، انظر فيما هو بين يديك وعش اللحظة يا هذا

وكأن كلماته كانت وقودا صُبَّ في صدر يوسف، دفعه إلى هذا الحال ثم يسخر منه؟ نزل من سريره متجها نحوه وعيناه لا تبشران بالخير، تحرك أمجد خارجا إلى الصالة وكأنه لم يفهم تلك النظرات، هو يريد الهروب فحسب، استوقفه يوسف بغضب لم يخفَ في صوته:
_توقف، أتظن أنه لا زال بإمكانك الهروب؟

كلمات أجبرت المعني أن يتوقف وينظر إليه، وطالت النظرات واحتدم ما في النفوس، يوسف يود حقا لو يستطيع أن يدوس على قلبه ويهاجمه، تنتابه أفكار بقتله حتى، يدفعها صوت مبرر يقول: قد أضحيت قاتلا فما الفرق؟ لكن الخوف من القتل لا زال يؤرقه، اضطرابه الداخلي كان موارَيا عن أمجد الذي بات صمت يوسف يقلقه، ولأول مرة لم يجرؤ على قول شيء، سيما لغة السخرية تلك التي يحبها كثيرا، لم يستطع استخدامها هذه المرة، بل فضل أن يجرب لغة الصمت، فزاد أزمة يوسف النفسية تأزما

_لقد مللت، من هذا مللت، لا أظن أن مثلي لا زال باستطاعته أن يكمل حياته وهي بهذا السوء

نطق مجددا فزاد نمو الفكرة التي بزغت في عقل أمجد حين تعاركا ذلك اليوم، لم يعد يستطيع تأخير طرحها، لديه ألف سيناريو بديل معها إن ظن يوسف أن بإمكانه اغتنام الفرصة والتمرد عليه، أشار له أن يجلس قائلا:
_في الحقيقة لدي أمر مهم أود قوله لك لذا اجلس من فضلك

جلس كل منهما في مكان ليقابلا بعضهما، يرقب يوسف ما سيعلن عنه أمجد، والذي سارع بدوره إلى القول:
_لأجل كل ما صنعته لي حتى الآن قررت أن أكافئك

_قل لأني قتلت معاذا واختصر الأمر على نفسك

مباشرة علق يوسف فانزعج أمجد من ذلك، لا حق له في لومه بعد كل ما فعله به، لكنه لم يرغب في أن يُفهم خطأ فقال:
_لا تحصر تفكيرك في زاوية محددة، ثم إنني لست وغدا إلى هذه الدرجة

_ربما هكذا كنت تخدع وتتلاعب بمن سبقوني

مجددا قاطعه يوسف بالتشكيك فطفت ملامح الغضب على وجهه، تحدث بغيظ مكبوت:
_لا تفسر كلامي بغير ما أقصد، اسمع مني حتى النهاية على الأقل، بعدها يمكنك أن تطرح رأيك

أشاح يوسف بوجهه عنه وغاص في صمت أراح أمجد قليلا، تحدث بعد برهة:
_ثق أنني لم أعامل أحدا هكذا من قبل أبدا، ما أريد فعله معك الآن أن آخذك إلى مشفى لتتعالج من إدمان المخدرات

رمى يوسف بصره نحوه باندهاش، استغرب، استنكر، ثم سخر فضحك، نطق بملامح تحكي شكه وعدم ثقته:
_ما نوع المصيبة التي تحضر لها مستقبلا يا ترى؟

_لا يوجد أي مصيبة، كف عن الشك بكل شيء

_أنت السبب في هذا، لا لوم عليَّ!

أخذٌ ورد انتهى بصمت أمجد الحائر، كيف يقنع يوسف أنه جاد فيما يقول؟ فكر ثم نطق:
_اسمع، أنا حقا ممتن لمحاولاتك انتشالي من هذا الوحل الذي غرقت فيه، أنا حقا يائس من حالي، لكنني سأقدم عربون شكر على ما فعلته

قابله الصمت من قبل يوسف فأدرك أنه لا يصدقه، أردف غير مبالٍ إن كان سيصدقه أم لا:
_يجب أن تعمل، لا تبقَ بلا عمل فهذا سيقتلك حتما، كما أنك لن تستطيع العمل إذا كنت مدمنا للمخدرات، إن أتيت معي للعلاج فيمكنني بعدها أن أطلب من المدير في الشركة أن يجعلك مساعدا لي، ويمكنك أن تتقاضى راتبا شهريا مقابل عملك

بدا عرضا مغريا ليوسف لكن الشك يكاد يفتك به، فجأة عادت كلمات معاذ ترن في أذنيه حين قال (العالم الذي تود الهروب إليه حينما تضيق عليك الأرض بما رحبت تصنعه المُسْكِرات، لا أحد يتعاطى المخدرات لمجرد التعاطي، هم يهربون بها من وطأة واقعهم القاسي، مهما كانت الأضرار التي ستطالهم، ومهما كان حجم معرفتهم بذلك)

والآن هو واحد من هؤلاء، ولا يود أن يسرق عليه أحد هذا العالم الذي بات يهرب إليه، بعد أن أصبح مستسلما لفكرة التعاطي _حيث تنسيه حقيقة ما وصل إليه_ يأتي أمجد ليقول له غادره إلى الواقع؟

باتت حالته مزرية إلى حد جعله يسخر من ذلك، تحرك لسانه بكلمات أراد بها السخرية من أمجد كما سخر من نفسه:
_قل أنك تريدني أن أدفع ثمن ما آخذه منك، وأنك لم تعد تستطيع توفيرها لي بلا مقابل وانتهى الأمر، إن كان الأمر يحرجك إلى هذه الدرجة فتخلص مني فحسب، حتى لو أردت قتلي، ما الذي جعلك فجأة تصبح لطيفا وتقرر مساعدتي؟ أتظنني سأصدق ذلك بسهولة؟ ليس بعد كل الذي فعلته!

حدق به أمجد طويلا ولم يعرف كيف يقنعه، وإن كان سيعترف بالحقيقة فحتى هذه المساعدة التي يود تقديمها ليوسف -ليست لأجل أن يجعله يستعيد حريته، يستعيد حياته القديمة، ويستعيد روحه الأسيرة الكسيرة، لكنه لم يقدم تنازلات لأحدهم يوما وصلت إلى هذا الحد، لسبب ما هو يجد في يوسف روحه القديمة، تلك الروح التي أحبتها والدته كثيرا، وأثنت عليها كثيرا، كانت تهمس في أذنه بكلمات تمتدحها فيه، حين كانت تضمه إليها بين الحين والآخر، كحب لآخر ابن لها، وأقرب فرد لقلبها

_لأجلها… لأجل أمي…

نظر يوسف باتجاهه بعد أن نبس بتلك الكلمات بخفوت، بدا شاردا ولم يقل غيرها، يضم يديه لبعضهما بشدة، وينكس رأسه بصمت، لم يفهم يوسف شيئا، لكن فضوله قد أثير حقا، أن يذكر أمجد والدته فهذا يعني أن الأمر مهم جدا، فاجأه أمجد حين رفع رأسه ونظر إليه بعينين دامعتين، تجمد من الصدمة وهو يراه على هذا الحال، أهو يبكي حقا؟ ولمَ عساه قد يبكي؟ ومهما يكن السبب فهو يدرك أن هذه الدموع ليست مزيفة، إنها حقيقية!

ألجمه منظر أمجد عن الكلام، راح هذا الأخير يمسح دموعه ثم تحدث بصعوبة:
_مهما يكن حالنا، مهما نكن من أوغاد، أعتقد أنه ليس من المناسب أن نتوقف هنا، لذا… أنا أريدك أن تكون بجانبي، ربما أنني في نظرك الآن لست سوى وغد لا يحق له حتى الكلام بعد الذي فعلته، ولكن… أنت الشخص الوحيد الذي يمكنني الوثوق به؛ لأنك عرفت عني الكثير ولم تتخلَّ عني، حسنا أنا وغد، مجرم، قاتل، سمِّني ما شئت، فقط اسمح لي بمعالجتك، أنا لا أريد خسارة شخص يذكرني بأمي

كلمات كالصفعات كانت بالنسبة ليوسف، لو أنه أطلق عليه النار لكان ذلك أهون عليه بكثير، ثم ماذا يقصد أنه يذكره بأمه؟ هل سيخسر يوسف المعركة هذه الليلة أيضا؟ لم يتحدث، لم يعترض، لم يرفض، لم يغضب، فقط ظل صامتا، واجما ينظر إلى أمجد فحسب، هذا الأخير حاول التجلد وكبت مشاعره كيلا ينهار أكثر من ذلك، تحدث مجددا حين وجد في نفسه قوة:
_الكلمات التي تقولها لي تشبه كثيرا تلك التي كانت أمي تلقيها على مسامعي، أنا مجرد شخص بائس لكنني أعتقد… أنه لا زال من حقك أن تعيش بسلام

عن أي سلام يتحدث وهو قد أدخله الجحيم بعد كل الذي مر به بسببه؟ ألا يعلم كم أن عذاب الضمير على جريمة القتل وحده يكاد أن يهد بنيانه؟ فعن أي سلام يتحدث؟ كانت الأسئلة تضرب عقل يوسف متشتت التفكير، لا يستطيع أن يقول أن هذه كذبة من أمجد بعد أن رأى دموعه، وبعد أن سمع اعترافه وقت انهياره، لكنه لم يعد يرغب بتقديم مزيد من التنازلات

فضل أن يتحدث عن رفضه بطريقة أخرى فقال:
_شهادتي الجامعية من كلية الشريعة فما الذي سأفعله بها في شركتكم؟ وأيضا المخدرات باتت مهربي من الجحيم القائم في صدري فكيف تريدني أن أتخلى عنها هكذا بسهولة؟ أنا مستعد لأدفع ثمنها إن كان هذا ما يؤرقك

_يوسف افهمني، أنا لا أهتم بالمال حقا، وعلاجك سيكون تدريجيا، ثم من أين لك المال وأنت ليس لديك وظيفة حتى الآن؟ عملك في مساعدتي سيقتصر على الحاسوب، وهذا اختصاصي، سأعلمك كل شيء، أو إن كنت تفهم في هذا سريعا يمكنني أن أعلمك الأساسيات، وأنت ستنطلق في الباقي

كلام جميل لكن ما يقلق يوسف هو أنه لا يدري عن الحقيقة الكامنة خلفه، وذا ما يجعله لا يزال يشعر بالخوف، وعدم التصديق، لكن إن فكر بالأمر بجدية أليس هذا أفضل من حالته البائسة هذه؟ أصيب بتردد أطال صمته، أخرجه من صمته صوت أمجد حين سأل:
_ماذا قلت؟ أحتاج لسماع جوابك

_لا أدري! ليس لدي جواب الآن، ربما مستقبلا قد أفعل

_أرجو ألا يأخذ الأمر منك طويلا

على ذلك الرد أنهى أمجد الحديث بينهما متجها إلى تلك الغرفة التي يبيت فيها بين حين وآخر، بدا منهارا ويحاول أن يبدو أكثر صلابة في نفس الوقت، لعن يوسف حظه الذي أوصله إلى هذه الحال، وشتم نفسه على سوء حظه بمشابهته لوالدة أمجد التي لا يعرفها حتى، ولا يدري حقا أكان ذلك من صالحه؟ أم أنه من دواعي نحسه ليس إلا؟

**********

سارت الأيام تباعا وانقضى شهر منذ أن توفي معاذ، لا زالت رغبة خليل في إكمال ما كانا بصدد فعله باقية، لكن عدم معرفته بصديق والد معاذ تجعله حائرا، لقد كان معاذ يطلق عليه (العم نعمان) ربما إن سأل منذرا فقد يجد مزيدا من المعلومات، ربما والدته تعرف عنه شيئا إن لم يكن هو يعرف، لم تشفَ ذراعه بعد لكنه لم يعد يستطيع الصبر أكثر

زاره جمال ليستطلع حالته الصحية كيف غدت، وحينها أخبره بما ينوي فعله، راقت لجمال الفكرة، شجع خليلا على سؤال منذر، في حين أراد هو التوجه إلى عمه أحمد ضابط الشرطة المرموق في هذه المدينة، علَّه يساعدهم لاستكشاف شيء ما حول تلك القضية

ومن هنا بدأت رحلة البحث عن عامل البناء القديم، صديق والد معاذ، والذي لا يعرفون عنه سوى اسمه الأول، وبدأت الرحلة الفعلية لنقض بنيان أمجد من أساسه، فلطالما كان ما فعله بهم شيئا لا يستطيعون نسيانه أو التغاضي عنه، ولا حتى غفرانه!

**********

انهمر المطر بكثافة في تلك الليلة الباردة، تشكلت على نوافذ المنازل سحب ضبابية تنتجها الأمطار، جلس هو خلف النافذة يحاول الاستمتاع بصوت رقصات قطرات المطر في الخارج، مر شهر يليه أسبوع وهو لا يزال يرفض عرض أمجد، باتت التحلقات السوداء التي تحيط بعينيه تخيفه، يمضي الليل ساهرا يقلب ذكرياته على نار الحنين، يشتاق لماضيه ومن فيه، كبادية مقفرة تشتاق لماء المزون

قربه من النافذة جعل أنفاسه تتشكل عليها كقطعة صغيرة من ضباب، العبث على النوافذ بكتابة شيء ما، أو النفخ عليها ببطء هو أحد طقوسه المفضلة وقت المطر، عادته الطفولية التي عرفها عنه الآخرون أضحت كالميزة له، ومن عرفها عنه حديثا لطالما أثارت عجبه، ومنهم صاحبة العينين الناعستين، المنصب فيهما لون القهوة، ميمونة ذات الروح المرحة، والمعشر اللين

كانت فهل لا زالت؟ يتساءل، تراوده مئات وربما آلاف الأسئلة عنها في اليوم الواحد، يعرف عنها أنها حين تتعب أو يزعجها أمر ما يتجسد ذلك على شكل هالات سوداء تحوط عينيها، فكيف يبدو وجهها اليوم؟ هل يخيم الحزن على ساحاته؟ هل يعصف بقلبها الرقيق الذي يكره إيذاء الآخرين ولو على سبيل المزاح؟ أحزينة هي عليه؟ أم تراها تبكي معاذا؟

وحين قفز السؤال الأخير إلى ذهنه تساءل: هل حقا أن تلك الخطبة كانت حقيقية؟ أم أنها كانت محاولة لكشف حقيقة ما يختبئ في صدره؟ وأيا كان فها قد فرغت الساحة بينهما، فهل سيعود؟ هل يعود فيأخذها قبل أن يختطفها غيره فيصبح من النادمين؟ هل يعود إليها محملا بأثقاله ورزاياه؟ هل ثمة أحد لا زال يهتم لأمره؟ هل ثمة من سيضمه إليه غير آبه بما كسبته يداه؟ لقد بات الجميع ينفضُّون من حوله، لا أحد يريد حتى مقابلته، لطالما أراد هذا ودفعهم كثيرا في بادئ الأمر، لكن حين تحقق مبتغاه شعر بمدى فظاعة أن يصبح المرء وحيدا

هو يدرك الآن شعور أمجد، يعلم كم أن الوحدة قد هدت كيانه، يعلم كم أن معاناته وهو وحيد لا سند له قد جعلته شخصا أقرب للوحش من البشر، عواطفه شبه ميتة، وربما لولا ذكريات غابرة له مع والدته لكان وحشا بالكامل، ولما استطاع أن يراه في موقف ضعف واحد، يزعجه أنه لا يستطيع أن يستغل حبه لوالدته ويثنيه عما هو عليه، كثيرا ما سأله: أتظن والدتك ستكون سعيدة بما أنت عليه الآن؟ فيلوذ بالصمت أو تحويل الحديث إلى آخر، يقول دائما أنه ما عاد بيده من فرصة ليقلع عما يفعل، ويستدل على ذلك بطول السنوات التي قضاها في هذا العمل

بات بقاء يوسف هنا دائما بعد أن عاد إلى هيجانه قبل يومين، ما جعل والده يقوم بطرده في لحظة غضب، لم يحمل الكثير من أشيائه حين غادر، ولم يعد يهتم بشيء، للحياة في عينيه صورة باهتة، وللمستقبل صورة معتمة، وعتمة أخرى يعيشها في قلبه، يمكنه الآن أن يقول أنه: خسر كل شيء!

وسط تأمله للنافذة وعلى سطحها تتجسد أنفاسه تباعا قفزت إلى أمامه صورة ميمونة وهي تهتف باسمه فانتفض كما لو أنها فجأة قد أصبحت عنده، تلفت يمينا ويسارا ولم يكن بجانبه أحد، أمسك رأسه بكلتا يديه يحاول جمع شتات نفسه، وفِهْم ما يحدث معه، لا شيء سوى ذكرى قديمة، ومشاعر شوق لصاحبتها البعيدة، في يوم ماطر كهذا، وفي وضعية كتلك كان يجلس ذات ليلة حين هتفت من خلفه باسمه، تفاجأ بوجودها لأنه كان شارد التفكير، ضحكت على ردة فعله معلقة:
_ماذا تفعل قرب النافذة يا شارد التفكير؟

أخذ يفرك شعره بعشوائية ثم قال:
_كنت أفكر بما سأكتبه على النافذة

_فقط؟

سألته باستغراب وكأنها لم تصدقه، عاد إلى النافذة ليكتب اسمه عليها قائلا:
_العبث على النوافذ وقت المطر هي من أحب الأفعال إلى قلبي، سلي خليلا إن لم تصدقي

وقفت بجانبه تنظر ما يكتبه، لكنه لم يزد شيئا على اسمه، طالعته بنظرات مستفسرة فعلق:
_أجل أحب نفسي كثيرا، هذا ما سأكتبه فقط

دفعته قليلا ثم اقتربت من حيث كتب وقالت:
_وأنا أيضا أحب نفسي لذا سأكتب اسمي أيضا

كتبت اسمها قرب اسمه فضحك حين أدرك المقصود، سألته محاولة جعله يقول شيئا حيال الأمر:
_لمَ تضحك؟

_لأن خطك بشع للغاية، أفسدتِ لوحتي الفنية

رد سريعا بما لم ترغب بسماعه، وبما لم تحسب له حساب، طالعته بتبرم وانزعاج، عادت تنظر إلى النافذة ثم علقت:
_أنت دائما ما تسخر مما أفعله، وتفضل دائما عدم الإفصاح عن مشاعرك، هذا يزعجني حقا!

صدمته بكلامها، هو يكره أن يعبر عن مشاعره للآخرين، لكنه يحبهم حقا، ألا يكفي أن تدل أفعاله على ذلك؟ صمتها أزعجه سيما حينما أعطته ظهرها ولم تضِف شيئا لما قالته سابقا، سيكره نفسه إن كانت تبكي الآن، وإن كان الأمر لا يستحق من وجهة نظره

قرر أن يتحدث دون أن يطالبها بالنظر إليه:
_أنا شخص لا يجيد التعبير عن مشاعره بشكل جيد لذا… خذي الأمر بالعكس حين أقول شيئا ما بخصوص ذلك

التفتت نحوه في حين فضل إكمال الكتابة على النافذة بدلا من النظر إلى وجهها الباكي إن كانت تبكي، أخذت ترقب ما ستسفر عنه خربشاته، أبعد يده فقرأت (حينما تعيدين قلبي أيتها اللصة تشكَّي من أنني لا أحبك)

ضحكت تلقائيا عقب قراءة تلك الكلمات، أمسك أنفها بأصبعيه ثم علق:
_ها أنتِ ذا تجدين الضحك، فلا ترتدي قناعا من بكاء، إنه لا يليق بك!

تركها أمام النافذة وغادر وهو يقول:
_لا تتذمري مرة ثانية كطفلة جاهلة لا تدري كيف الحياة، أنتِ تعلمين أنني أحبك حتى ولو لم أقل ذلك

اجترت من أعماقه تنهيدة حارة إثر مرور تلك الذكرى، شعر بألم ينتصف قلبه، وضيق يجثم على صدره، كان يحبها ولا زال، وفراقها يزيد حبها في قلبه ولا ينقص المكيال، بُعدها يزيد شوقه إليها، يحبها ولكنه بات يخاف عليها من العيش مع قاتل مثله، مال برأسه على النافذة، مرر أنامله عليها ثم كتب اسمها، أغمض عينيه بقوة حين ازدادت وطأة الألم على قلبه، قبض على صدره لشدة ما يجد، نهض ليغادر بعد أن شعر أن أجواء الغرفة تخنقه، بل تكاد أن تقتله

*********

دقت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، والسماء لم توقف غيثها الذي أحيا الأرض، ولم يستطع إيصال غوثه إلى تلك القلوب القابعة تحت قهر الحزن، وقف ذلك الشخص بمظلته خلف هذا الواقف تحت المطر قائلا:
_لمَ لمْ تحمي نفسك من المطر؟ ستصاب بالبرد إن بقيت هكذا

أجابه الواقف أمامه بلا مبالاة:
_لا أهتم!

استدار صاحب المظلة حتى وقف أمامه، ثم قال معلقا على حاله:
_أرى أن دموع السماء جيدة في إخفاء دمع العيون

رمقه ذلك الشاب بنظرات غضب مدركا ما يعنيه، ابتسم صاحب المظلة حين تذكر رؤية اسمها على النافذة في غرفته، نطق ساخرا:
_أنت حقا لم تنسها يا يوسف، أرى أن الحب قد سيطر عليك جيدا

_اخرس!

صرخ يوسف في وجهه بغضب، لكنه لم يكن ليبالي حيث واصل بسخرية لاذعة:
_لمَ لا تعد إليها إن كنت تحبها؟

_من قال أنني لا زلت أحبها؟

سأل محاولا إخفاء الحقيقة، لكن محاولة يائسة كهذه لم تكن لتنطلي على هذا الواقف أمامه، أجابه بصراحة:
_دموعك هي التي قالت

_أنا لا أبكي

دافع عن نفسه بيأس، فأجابه صاحب المظلة والذي لم يكن سوى أمجد:
_لا تكذب، لن تستطيع خداعي، ثم إنك كتبت اسمها على النافذة قبل أن تغادر، ولم تقم بمحوه أيها الذكي!

استسلم يوسف بعد أن رأى أن لا فائدة من محاولة إخفاء الحقيقة، رد عليه وهو يتمايز غضبا:
_أنت السبب!

علق أمجد بما لم يبَن ليوسف جده من هزله:
_الفرصة أمامك الآن سانحة

فجرت كلماته براكين الغضب في صدر يوسف أكثر، آلآن يعود بعد أن أصبح رهن مشاعر اللوم والانكسار؟ رد عليه بغضب لم يخفَ رغم محاولته ذلك:
_أنت السبب يا أمجد، بعد كل هذا الذي وصلت إليه تقول أن الفرصة سانحة أمامي؟ أي وغدنة هذه؟

أطال أمجد النظر إليه ثم علق بسخرية:
_تقصد أنك كنت مغفلا بما فيه الكفاية لأخدعك

_فسِّر الأمر كما تشاء، لقد مللت من أفعالك الدنيئة، مللت!

صرخ بآخر كلمة في وجه أمجد، والذي ابتسم بمكر ثم طوى مظلته بعد أن توقف المطر عن الهطول، حدق به وقال بدناءة:
_وماذا لو مللت؟ لن تجد من يؤويك بعد الآن غيري يا يوسف، لقد أصبحنا سواسية، أصبحت فاسدا مثلي، وبالأمس القريب طردك والدك من منزله، حلِّق أو اهبط لن تجد غير أمجد ليهتم بك الآن

كز يوسف أسنانه بغضب ثم أطلق تهديداته:
_أقسم بأنني سأنتقم لهذا، لن أنسى ما فعلته بي

قال ذلك وغادر قبل أن يسمع الرد، همهم أمجد بسخرية، ثم قال وهو يتوجه صوب منزله:
_وما الذي ستفعله أيها الغر؟ أنت لا شيء من دوني

ما إن اختفى يوسف من أمامه حتى وقف يلوم نفسه على حمقه من هذا التصرف، لن يكون من صالحه أن يتمرد يوسف عليه، كيف له أن يصدقه بعد الآن ويقبل أن يأخذه للعلاج؟ ندم على سوء تصرفه، لكنه أصبح عازما على معالجته، حتى لو اضطر أن يلجأ إلى أسلوب الخديعة الذي اعتاده، وقد كان!

ادعى أنه مريض بشدة وعليه أن يذهب إلى المشفى، طالبا من يوسف مرافقته، وقيادة السيارة بدلا عنه، لبى يوسف طلبه رغم انزعاجه وضيقه منه، وحين وقف أمام الطبيب فوجئ به يسأله بدلا من أمجد، أدرك أنه لا مناص الآن له ولا مهرب، فاستسلم للأمر الواقع، وقَبِل أن تبدأ رحلته مع العلاج.

¶____________________¶
انتهى الفصل الثلاثين

ممنوع التعليق على ما بين يوسف وميمونة هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
جديا ما كنت متوقعة أكتب شي كذا بيوم من الأيام

عموما هذا الفصل يجسد كثير من المشاعر، متأكدة ان أمجد جلطكم بتصرفاته XD

حاولوا تتوقعوا شي من القادم :)

في أمان الله 🌹

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top