الفصل الثاني والعشرين

الفصل الثاني والعشرين|| انهيار وقلق

انبلج الضياء عقب الفجر مودعا آخر رمق من الليل، فاتحا المجال لشمس الصباح أن تطل بهيئتها البهية، وتحل ضوضاء البشر في أنحاء المدينة

لكن الهدوء الذي حظيت به طوال الليل لم يصل إلى يوسف، أمسى رأسه ضحية صداع ناتج عن تفكيره المستمر، وأفكاره المزدحمة، الموجعة، المنبثقة من تأنيب ضميره، الذي لا زال يصرخ بلا كلل أو ملل

ما إن أراد الهجوع إلى النوم حين قرر زيارته صباحا حتى أطل عليه أمجد من خلف الباب قائلا:
_لنتناول الإفطار معا، سأذهب إلى عملي بعد قليل

_أريد أن أنام فحسب

أجابه يوسف وهو يغطي رأسه بلحافه، رغم رغبته الشديدة بالتعرف على عمل أمجد، عمله الذي يظهر أمام الناس، وليس ذاك الذي يسيره في الظلام، لقد فضل أن ينام بعد أن قرر النوم أخيرا أن يرأف بحاله، رد أمجد قبل أن يعيد إغلاق الباب:
_لا بأس، سأترك لك الطعام في المطبخ، إن استيقظت قبل أن أعود فتناوله، سأعود بعد الظهيرة، وسأحضر معي الغداء حينها، سنتناوله معا إن رغبت بذلك

أغلق الباب ورحل لأنه قد تكلم بما لا يُوجِب الرد، وفوق ذلك هو يعلم أن يوسف لن يرد، وذا أراح الأخير أكثر، ليغط في نوم عميق

**********

استيقظ وقت الهجير لينهض بصعوبة، إنه يشعر كما لو أنه ضُرب في جميع أجزاء جسده، أخذ استراحة قصيرة حتى يستعيد جسده قوته، تذكر هاتفه المحمول فأخرجه من جيبه، وجد مكالمات كثيرة من عائلته ومن أصدقائه، كانت كثيرة بما تحمله الكلمة من معنى، تُبين حجم قلقهم عليه، لكنه مصر على أن يحقق ما يريد، ولو عنى ذلك إزعاجهم أو إقلاقهم

أرسل رسائل نصية لعائلته موضحا أنه لن يعود إليهم ثانية؛ إن كانت ذات المعاملة السابقة هي ما سيلقاه منهم، خرج من الغرفة راميا ذلك الهاتف على السرير، قبل أن يستقبل مزيدا من الاتصالات

تفقد المنزل ولم يجد لأمجد أثرا؛ كان واضحا أنه لمْ يَعُد بعد، وتلك الغرفة لا زالت موصدة، ذهب ليؤدي صلاته، ثم عاد إلى المطبخ يبحث عن طعام، الآن لمْ يعُد يحتمل الجوع، وقبل أن يتناول شيئا سمع صوت الباب يُفتح، أدرك أن أمجد قد عاد، إنها الثانية بعد الظهر، من غيره يمكن أن يأتي في هذا الوقت

عاد هذا الأخير مع الغداء، بدا من مظهره أنه قد مر بمنزله أولا، تناولا الغداء في صمت مدقع، لكن فضول يوسف حول عمل أمجد لم يلجمه طويلا بعد الغداء، فتح للحديث بينهما بابا بسؤاله:
_أود أن أعرف ما هو عملك الحالي؟

_إنني أعمل مستشارا لمدير شركة (العنقاء) ومديرا لأحد أقسامها، إن لم تكن قد سمعت بهذه الشركة من قبل فدعني أعرفك عليها، إنها إحدى الشركات العملاقة في البلاد، تستورد وتصدر في جميع المجالات، ولها فروع عدة داخل البلاد وخارجها، يعود الفضل في نجاحها الباهر إلى مديرها صاحب العقلية العبقرية، كما أنه أحسن اختيار إدارته أحسن الاختيار، فالواحد منهم يساوي جمعا بلا مبالغة، إنهم يسيرون الشركة وسط بحر التجارة كما تسير السفينة في عرض البحر

من هذا السرد الطويل، ونبرة الإعجاب التي تحدث بها أمجد أدرك يوسف أن أمجد يحب هذه الشركة بقوة، وهنا راوده الفضول لطرح سؤال آخر حول هذا، فما الذي صنعوه لأمجد حتى يُعجَب بهم هكذا؟ ليس كما لو أن يوسف لم يسمع بهذه الشركة من قبل، وليس كما لو أنه لم يعلم سابقا أن أمجد كان يسكن هنا لأجل عمله، لكنه لم يكن يعلم ما نوع عمله، ولا المكان الذي يعمل فيه

لم يتركه أمجد حتى يطرح سؤاله؛ إذ سارع للقول:
_كانت هذه الشركة هي المأوى الذي آواني بعد أن تركت منزلنا، ما يميز هذه الشركة أنها لا تعتمد على الشهادات الجامعية دائما لقبول موظفين فيها مبدئيا، فأنا قد خضت اختبارا لأجل قبولي، لكن في الواقع ذلك الاختبار كانت طريقته غريبة حقا، وأيضا لا يمكن لأحدهم أن يقفز إلى منصب عالٍ مهما كان ذكيا، لابد أن يبدأ من الصفر ويترقى بين فترة وفترة بعد أن يثبت جدارته، الخبرة تهم كما يهم الذكاء

تحرق يوسف شوقا لمعرفة ذلك الاختبار الذي مر به أمجد، لكنه قد ضَنَّ عليه بالمزيد حول ذلك، وأقفل باب الحديث عن عمله وماضيه بمغادرته للمكان، توجه إلى الغرفة التي يحتفظ بدخولها لنفسه، تاركا ضيفه _غير المضيف_ يجول في المكان بمفرده

**********

أضاء هاتفه معلنا عن وصول رسالة نصية قبيل العِشاء، التقطه هذه المرة وقام بفتحها، كانت رسالة من شقيقه لؤي يقول فيها (عُدْ إلى المنزل ولن يمسك أحد بسوء، فقط عد وهذا وعد مني ألا أفعل بك شيئا، والداي قلقان عليك للغاية)

رمى هاتفه جانبا وهو يزفر بضيق، هذه المرة كان منزعجا، لم يعد الأمر كالسابق حين كان يلوم نفسه كلما رأى أحدهم قلقا عليه، ربما بعد الذي فعله لؤي بات كل شيء يتغير في نظره، لا يمكنه أن يقول أنه ليس مخطئا، لكنه لا يستطيع تجاوز ما فعله شقيقه به، فما الذي تغير ليتغير؟

التقط هاتفه مجددا ليرسل لأمجد على عجالة، كتب بضع كلمات لمْ يسعَ حتى إلى مراجعتها، كانت (سأغادر الليلة أيضا) مشيرا إلى أنه لن يقضي هذه الليلة في هذا المنزل، بل سيعود إلى منزله، لم يتركه أمجد طويلا حتى أقبل إليه متساءلا، ففضل يوسف ألا يعطيه حقيقة ما يدفعه إلى العودة إلى منزله، بل وارى الحقيقة أثناء حديثه معه، متعذرا بأشياء أُخَر، ولأنه كان على وشك الخروج تركه أمجد وذهب إلى الغرفة الأخرى

لكن التفكير بما سيفعل أو يقول جعل يوسف يغرق في دوامته دون أن ينتبه إلى مرور الوقت وهو لم يغادر بعد، سارع إلى الخروج من تلك الغرفة حين أدرك أنه قد تأخر، لكنه ما إن توسط الصالة حتى سمع صوت شخص ما يحادث أمجد في تلك الغرفة (الاستثنائية) دفعه الفضول لاستراق السمع، ليسمع الحديث الدائر بينهما، مبتدئا له ذلك الدخيل:
_إن كنت تتوقع تمردا من يوسف فلمَ لا تستخدم معه أسلوب ضغطنا المعتاد؟

_ماذا تقصد؟

سأل أمجد وهو يضيق عينيه وينظر بحدة ناحية الواقف أمامه، ابتلع الرجل ريقه وهو لا يعلم سر هذه النظرة الحادة، أجاب بتردد:
_أقصد أنت تعلم أن من يتمرد علينا نقوم باختطاف أحد من أقربائه؛ حتى يكون ورقة ضغط عليه، فلمَ لا نختطف أخته مثلا؟

شعر يوسف وكأن قلبه قد وقع من محله، تجمدت ملامحه على صورة الفزع الذي اخترق قلبه لحظتها، لكن ضربة على شيء ما من قِبل أمجد جعلته ينتفض ليعود إلى رشده، سمع أمجد وهو يقول بنبرة غاضبة:
_أيها الأحمق اللعين هل تعرف من تكون أخت يوسف؟ هل تعرف؟

ارتعدت فرائص الرجل ولم يقدر على الإجابة، شده أمجد من ملابسه حتى كاد يخنقه وهو يقول:
_إنها لا تزال ابنة عمي، أقسم أن لو اقترب منها أحد منكم لأجعلنه آخر يوم في حياتكم، هل فهمت؟

صرخ في وجهه ثم تركه ليسقط أرضا وهو يعتذر بأقصى ما يستطيع من اعتذار، اعتذار ذليل بدا واضحا في نبرة صوته الراجية والمهتزة، والتي لمْ تخفَ على يوسف، ما جعله يعجب إضافة إلى عجبه، أيعجب من ردة فعل أمجد الذي يرضى للآخرين ما لا يرضاه لنفسه ولو على المدى البعيد؟ أم يعجب من ذل الرجل الذي أمامه، وشدة خوفه الجلية؟

سمع أمجد يتحدث مجددا فأرهف السمع ليعرف ما سيقول:
_تعلم أن هذه العمليات أنت من يكلف بها، فإذا أردت ألا تفقد حياتك فلا ترتكب أية حماقة، كما لا تسمح لأحد رجالك أن يفعلوا

_أمرك سيدي!

قالها الرجل بذل ليحلق صمت قاتل في المكان، كاد يوسف أن يبتعد بعده لولا أن أمجد عاد للكلام، سمعه يقول:
_أتعلم؟ لقد أتتني فكرة أخرى بدلا من فكرتك السخيفة، يمكننا أن نختطف أخت ذلك اللعين الذي مع معاذ، هكذا سنضرب عصفورين بحجر واحد

(ميمونة!) همس يوسف في سره بخوف وعيناه تكادان تغادران محجريهما لشدة ذهوله، قبضة فظيعة أخذت تعتصر قلبه، إلى هذه الدرجة يمكن لأمجد أن يكون حقيرا؟ إلى هذه الدرجة يحقد عليه وعلى خليل؟ ثم إن في معنى كلامه هذا رائحة خيانة للاتفاق الذي جرى بينهما، فهل سيخون ذلك بسهولة؟ لقد كان من الحماقة أن يثق به على ما يبدو

صوت أمجد الذي أعقب كلامه السابق بآخر كتعليق على ما قال جعله يعيد الاستماع إليه

_على أية حال لا أعتقد أننا نحتاج لذلك في الوقت الحالي، فيوسف هادئ حتى الآن، وصديقه الأحمق ذاك لم يحرك ساكنا بعد

شعر يوسف بالغيظ بعد الذي سمعه، ما دفعه لأن يعود إلى الغرفة التي كان فيها، لن يستطيع أن يكذب ذلك الارتعاش الذي نهش رجليه فأصبح غير قادر على السير بشكل صحيح

تمدد على ذلك السرير يلتهم عقله التفكير بما سمع، غطى عينيه بيده حاجبا الضوء الذي لم يجد حتى قوة لإطفائه حين دخل، ظل على حاله هذا حتى سمع الرجل يغادر، توجه أمجد كاحتياط أخير نحو تلك الغرفة، فتح الباب ليفاجأ بوجود يوسف، سأل وسط اندهاشه:
_ألم تغادر بعد؟

نهض يوسف من مكانه ليجيب على السؤال وكأنه لم يسمع شيئا مما دار في تلك الغرفة:
_لقد غلبني النعاس حتى سمعت صوت أحدهم هنا، هل هناك شخص أتى أم أنني أتوهم؟

أجابه أمجد من غير تأخير:
_بلى لقد أتى أحدهم

لم يتعجب يوسف جرأته على قول الحقيقة، حينها قال له مخاطرا:
_وكأنكما كنتما تتشاجران؟

_صحيح، لكنه عرف قدر نفسه، وخرج مذلولا عكس ما دخل عليه، لا أعلم متى سيتعلم الخدم ألا يحاولوا التطاول على أسيادهم

ألقى جوابه وخرج من الغرفة غير مبالٍ بما قال، تبعه يوسف وكأنه مستغرب وقال:
_إلى هذه الدرجة يمكن لأحدهم أن يذل؟

أجابه أمجد بجرأة:
_لأنك افتديت نفسك باكرا لا يمكنك أن تتوقع كيف لهم أن يصبحوا كذلك

_ماذا تقصد؟

سأله يوسف وقد بدأ يشعر بالتوتر، التفت إليه أمجد وقال بملامح باردة وصوت كالصقيع:
_إن سالت دماء أحدهم تحت قدميك، ورأيت جمجمته وهي تتحطم بفعل الرصاص لتنثر ما فيها، فتسقط الجثة أرضا وكأنها جثة كلب عديم الفائدة يمكنك أن تفهم هذا

بدأت معالم شخصية أمجد الحقيقية تتضح ليوسف، لقد استطاع أمجد أن يوصل الرسالة إليه على شكل رعب أنشب مخالبه في قلبه، نطق لا إراديا:
_هل قتلت أحدا ما من قبل؟ هل أنت قاتل حقا؟

انفجر أمجد ضاحكا حتى ردد الصدى في أنحاء المنزل ضحكته، أجاب يوسف بتهكم وسخرية:
_أيها الطفل المدلل العالم ليس ورديا كما تظن، العالم له وجه قبيح لا يرحم أحدا، عليك أن تتوقع أي شيء، من الآن فصاعدا حاول ألا تجعل أي شيء يصدمك

اتجه ناحية المطبخ ليعد العشاء، فهو الآخر لم يتناول طعامه بعد، لكن يوسف فضل أن يتركه ويغادر، كان عليه ألا يتوقع أقل من ذلك من ابن عمه هذا، لكن يبدو أنه فضل أن يتعامى عن الحقيقة، ترك المنزل وغادر دون كلام، وذاك الآخر لم يبالِ

**********

طرق باب منزله بدلا من استخدام مفاتيحه الخاصة؛ أراد لأهله أن يعلموا بقدومه هذه المرة، لقد كان ينتفض خوفا، بدت له كل الطرق مقفلة في وجهه، لم يعد يدري أين يوجه وجهه!

نداء استطلاعي نده من خلف الباب يسأل عن الطارق، ليجيب بكلمة واحدة:
_افتحوا!

كلمة آمره جافة، لا تبين اسمه وقد لا تحمل نبرة صوته المعتادة ليُعرَف من هو؛ فالخوف قد أجاد تكبيل الأمن في قلبه، وفرض السيطرة عليه، فُتح الباب ليدخل سريعا، كانت أخته يسرى التي أخذت تطالعه بتوجس، هو كان خائفا، تمنى لو يحتضنه أحدهم حتى يهدأ روعه، أن يخبره أن كل شيء سيكون بخير، أن يطمئنه بأي كلمة، لكن يسرى لن تفعل بالطبع، ملامحها تكفي لقول ما في داخلها من خوف، تركها متوجها إلى الداخل

وجد عائلته هناك أمامه، لم يستطع قول شيء، كان يحاول أن يبدو أكثر صلابة، لكن والدته لم تستطع دفن رحمة الأم تجاهه، سارت نحوه وهي تسأله عن حاله، وتحاول الاطمئنان عليه

_يوسف هل أنت بخير؟ هل كل شيء على ما يرام؟

كان ينظر إليها بعينيه، ووعيه في مكان آخر، قابلها بصمت غير متعمد، ما جعلها تمسك بعضديه وتهزه وهي تنادي باسمه، انتبه إليها ولم يستطع قول شيء

لكن الطفل الذي في داخله أعلن تمرده، ليجعله ينهار باكيا بين يديها، لغته كانت الدموع فحسب، كان خائفا من أن يطبق أمجد كلامه على أحد ممن يحاول هو حمايتهم، كان خائفا أن يفقد أحدهم، خائفا أن تحل مصيبة لا يستطيع منعها أو تجاوزها، أجادت الأفكار إثارة مخاوفه، وانتزاع الأمان من قلبه

استشعرت والدته خوفه فضمته إليها وشاركته بكاءه، موقفه كان غير مفهوم أبدا، لكن أحدهم لم يسأله شيئا عن ذلك

وحين هدأ كان سؤال والدته الأول له:
_هل تناولت عشاءك؟

استعذب سؤالها المفاجئ هذا؛ بعد كل شيء لا زالت تعامله على ذات النوع من المعاملة التي تفرضها أمومتها الرحيمة، زفر آخر كتلة ضيق كان يشعر بها في جوفه ثم قال:
_لا أريد شيئا، أنا متعب، متعب للغاية، أريد أن أنام فحسب

ذات الجملة التي قالها سابقا، أو مثلها، هكذا فكرت يسرى وقد بدأت تشعر بالقلق أكثر من ذي قبل، غير أنها ملزمة بالصمت؛ حسب الاتفاق الذي أجمعوا عليه سابقا إن عاد يوسف إلى البيت

تركته والدته يذهب ولم تعترض، وهو لم يجرؤ حتى على رفع رأسه والنظر في وجه أبيه، أو في وجه لؤي، مر من جانبهما صامتا متجها إلى غرفته، تلاحقه أعينهم، والأفكار تعتمل في دواخلهم

أدرك لؤي الآن أكثر من ذي قبل أن احتواء يوسف هو الخيار الأفضل، لكن إن لم يساعدهم يوسف ويقول ما يحدث معه فهم لن يستطيعوا التصرف بشكل جيد، ولا يبدو عليه أنه سيفعل، ولكن لا زالت هناك احتمالية لأن يفعل بعد الذي حدث الليلة

**********

ألقت الامتحانات النهائية بظلالها على جدول الأيام القادمة، مهيجة ذكريات قديمة ومشاعر بعثت على الحنين في قلبه، إنه خليل الذي لا زال يفكر بما يحدث مع يوسف، لم يتقبل ما يفعله أبدا، إن أكثر ما يحز في نفسه أن يوسف يحاول بكل ما يستطيع أن يدفعهم بعيدا، هو يدرك أنه لن يستطيع فعل شيء وحده أمام أمجد؛ بعد الذي سمعه عنه من معاذ، فلمَ يستميت بإبعادهم وكأنهم لا يقدرون على فعل شيء؟ لمَ هذه المرة أصبح أنانيا ومعاندا بهذا الشكل ويريد المواجهة وحده؟

خمسة عشر عاما منذ أن تعرف عليه أول مرة، كانت المدرسة هي التي جمعت بينهما، ليكونا سببا في تعارف عائلتيهما على بعضهم البعض، وتكوِّن صداقتهما أقوى رابط بين العائلتين، حتى وصل الأمر إلى المصاهرة

لقد نشأوا معا، وساروا معا دائما، عدا عاما واحدا كان فيه عبد العليم أسبق في الانتقال إلى هذه المدينة، ليلحق به سعيد بعدها بعام، ورغم المسافة التي لا بأس بها بين منازلهم إلا أن تواصلهم لا يكاد ينقطع، لقد أصبحوا كعائلة واحدة فعليا

يحمل تاريخ علاقتهم الكثير من المواقف التي مروا بها، بعضها سعيدة وبعضها غير ذلك، تتنوع المواقف والأحداث، والشخصيات الرئيسية واحدة، يميل يوسف إلى الشقاوة أكثر، ويميل خليل إلى الهدوء أكثر، علاقتهما تكاملية، ليست باردة مملة، ولا ضوضاوية مزعجة، يعرفان كيف يتصرفان حسب الموقف الذي يكونان فيه عادة

ولأن شخصية يوسف تميل إلى الشقاوة فقد كان متهورا في صِباه، ما جعل خليل يعاني حين كان يرافقه، لكن الشيء السيء الذي كان يوتر علاقتهما في كثير من الأحيان هو العناد، الذي يأخذ نصيبا كبيرا في شخصيتيهما، هذا العناد الذي دفع يوسف إلى قبول تحدٍ من بعض زملائه ذات مرة، في حين توعده خليل بأن يخبر والده إن هو ظل مصرا على ذلك

لقد كان التحدي عبارة عن سير بأعين مغمضة على حافة سطح مبنى مرتفع، وليت تلك الحافة كانت عريضة كفاية للسير، أو أن الطقس كان هادئا، أو حتى أخذوا احتياطهم لئلا يقعوا إلى الأسفل في حالِ مالَ أحدهم عن الحافة

قَبِلَ يوسف التحدي خفية من خليل، لكن أحد الطلاب الذين عرفوا بالأمر ويكنون احتراما لخليل قام بإبلاغه بالأمر، وحين واجهه خليل بذلك اعترف بالأمر، لكنه ظل على رأيه مطالبا خليل بأن لا يخبر أحدا

لكن خوف خليل عليه جعله يبلغ والده بالأمر، لتكون أول مرة يحاول يوسف فيها التمرد على والده، فتى الرابعة عشر الذي أصبح عليه لم يرضَ بالانسحاب من ذلك التحدي، ما جعل والده يخرج عن طوره، ويضربه لأول مرة في حياته، الأمر الذي حمله يوسف كعقدة من إخبار الآخرين بما يريد فعله، حتى لو كان خليلا نفسه

أخذ الأمر منه مدة حتى صالح خليل، وعادا إلى ذات الرابطة التي كانت تجمعهما، لكن مدة أطول أخذت منه وهو يحاول تصحيح نظرته عن إخبار خليل بما ينوي فعله مستقبلا، الأمر الذي طال معه حتى هذه اللحظة، وإن لم يكن بذات القدر كما في السابق

تذكر هذا يجعل خليلا لا يستغرب كثيرا من يوسف، لكنه لا يستطيع تقبل ذلك، سيما أن الأمر هذه المرة خَطِر، هذا لا يريحه البتة، بل يزعجه ويضايقه

قريبا سيذهب إلى الجامعة، قريبا الامتحانات النهائية ستحط رحالها، وهو سيذهب ولكن… هل سيجد يوسف كما اعتاد؟ هل سيزين المكان بحضوره كما كان دائما؟ هل سيسمع نكاته التي يخرجها من حيث لا يتوقع ليضحكهم وينسيهم ضغط الدراسة؟ هل سيسمع صوته على الأقل؟ أم أنه سيختفي من الجامعة كما اختفى من منزله؟ هل سينسف تعب أربعة أعوام بتمرد واحد؟ ألم يكن يتوق إلى التخرج؟ وكان يقول أن أكثر ما يصبره على الدراسة هو تذكره ليوم التخرج، فهو يريد أن يكون من ضمن الناجحين بجدارة، لا من ضمن غيرهم، فهل يقدر قلبه على احتمال أن يكون ضمن الفريق الذي كره أن يكون معه بعد هذه الأربعة أعوام؟

أسئلة خليل التي لن يجد لها إجابة، وتستمر الذكريات في التدفق إلى رأسه بلا رحمة، لا زال يذكر ذلك اليوم الذي التقى بيوسف فيه باكرا فطلب منه أن ينتظرا لجمال قبل الذهاب إلى الجامعة

فتأخر الأخير هذا ما جعل يوسف يغضب، لا زال يذكر حين خرج جمال وقد بدا جليا أنه كان يعتني بمظهره كثيرا، تحدث إليهما باستفزاز وهو يدرك أن يوسف قد أصبح غاضبا:
_ما رأيكما بشكلي؟ لا شك أنني غدوت اسما على مسمى

أتاه رد يوسف الغاضب وهو يقف أمامه:
_هل أخرتنا كل هذا الوقت لأجل تسريحة مزرعة البصل هذه؟ دعني أخبرك أن الفرق هو اختلاف الألوان فقط

كاد جمال أن ينفجر ضاحكا على التسمية التي أطلقها يوسف على تسريحة شعره -لكن يوسف مد يده ليعبث بشعره فيفسدها ثم يقول وهو يبتعد:
_هذا جزاء تأخيرك لنا

أدرك جمال أن منظره قد أصبح مضحكا بعد الذي فعله يوسف، صرخ به محاولا إظهار غضبه وهو يعيد تسريح شعره بأصابعه:
_قل أنك تغار فحسب؛ فلا يوجد أحد في الجامعة كلها يحمل لون شعري

صدمه رد يوسف هذه المرة أيضا حين قال:
_أغار من لون شعرك الذي يشبه لون ريش دجاجة جدتي -وأنا أملك لون شعر يرمز للشباب، ويلقب بملك الألوان؟

انفجر جمال ضاحكا ولم يعد باستطاعته تمثيل دور الغاضب، لم يسبق لأحد أن نعت لون شعره بهذا النعت من قبل، فدرجة لون شعره الأحمر مميزة بأخذها لمسة من اللون الذهبي، فكيف استطاع يوسف إيجاد تشبيه مضحك كهذا له في وقت قصير؟ ربما هي روح الدعابة في داخله، لم ينسَ أن يعلق ساخرا:
_لم أكن أعلم أنك نرجسي إلى هذه الدرجة

رد عليه يوسف لكن بجدية هذه المرة:
_هيئة خلقني الله عليها من بين جميع الهيئات بالطبع سأفخر بها مهما كانت، ما الكلمات المنمقة إلا غطاء رقيق لإظهارها بشكل أجمل

التفت ناحية جمال ثم علق ساخرا:
_يُفترض أن تفخر بلون شعرك المميز كما تقول بذات الطريقة، فلمَ صمتَّ هكذا؟

ابتسم جمال رغم السخرية ليجيب جادا:
_لكنني حقا لم أفخر به يوما على أنه هبة من الله تستحق الشكر، أعتقد أنه ينبغي عليّ إعادة النظر في ذلك

موقف على رغم صغره إلا أنه حوى مشاعر عدة مزجت به فجعلت له رونقا خاصا، كيف بدأ من الغضب لينتهي بدافع إلى التأمل، الميزة التي قال عنها جمال لخليل ذات مرة: أنها أكثر خصلة تجمع بينه وبين يوسف

سعير الذكريات لا يرحم، يكوي الفؤاد على سفود الحنين، ويقلبه وسط لهيب الشوق، فلا يدري المرء أيخرج بعد ذلك ناضجا؟ أم ميتا حرقا؟ بين ذلك الأجيج من المشاعر قرر خليل أن يقوم بفعل شيء ما، ربما يكون متهورا، لكنه لن يتراجع أبدا.

¶____________________¶
انتهى الفصل الثاني والعشرين

كلمة (ضَنَّ) بالضاد معناها (بَخِلَ) وليس (ظن) التي هي بالظاء، والتي قد تعني (شك) أو غيرها من المعاني
مذكورة كلمة (ضَنَّ) عند الموقف الذي كان بين يوسف وأمجد في المطبخ

(سفود) حسب علمي تعني (أسياخ الشواء)
أنا أكسل من البحث عن معناها الآن، بالكاد عدلت الفصل XO

بالمناسبة إذا فيه شركة باسم (العنقاء) فأنا أعتذر لهم مقدما، لأني اخترعت الاسم من راسي، وما أعرف إذا فيه شركة بهذا الاسم أو لا

احم بالنسبة لأمجد أنا متأكدة انه بيجيب لكم الجلطة بتصرفاته، هههههههههه

بالنسبة لموقفه لما عصب على بنت عمه فهذا شي حقيقي وموجود، فيه ناس ما يرضوا على أقاربهم حتى لو كان على المدى البعيد انه يصير لهم نفس الشي اللي يسووه هم بغيرهم
_أتمنى فهمتم شي من هذه اللعثمة_

ايش رايكم بالأحداث؟ أي توقعات؟

بالمناسبة رأيكم يهمني حتى لو قرأتم الرواية بعد اكمالها 🌸

في أمان الله 💚

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top