الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون|| على بعد خطوة
نهار ذا جو حار طالع الدنيا صباح اليوم التالي، ليحتمي خليل من شمسه تحت ظلال أحد المنازل منتظرا قدوم جمال، سيصطحبه هذا الأخير إلى السوق ليجلبوا ما تحتاجه العائلتين لأجل قادم الأيام
كان ذلك الانتظار المليء بالصمت والفراغ جالبا لذكرى الليلة الماضية، وأسئلة كثيرة أجادت العبث بأفكاره: فلأي شيء قدم يوسف؟ وإلى أي حال وصل؟ ولمَ هو جاد هذه المرة برغبته بالابتعاد عنهم، إن لم يكن إبعادهم عنه فقط؟
قدوم جمال المندفع جعله يغادر زنزانة تفكيره، بادره بالقول:
_لنذهب لقد تأخرنا!
طالعه مستغربا فضحك جمال معلقا:
_والدي لا زال يرفض قيادتي للسيارة
نهض خليل من مكانه متبسما، عليهما أن يسيرا حتى يجدا من يوصلهما إلى المتجر، لم يستغرب ما فعله حسين _والد جمال_ فهو يعلم أنه يمنع جمال من قيادة السيارة منذ أن عرف أنه يسير خلف أمجد، ولما يعلمه من خطورته، يكفي أن شقيقه أحمد قد تولى أمر هذه القضية، هو يدرك أنها مخاطرة كبيرة بل مجازفة أن يسعى أمجد خلفه في هكذا وقت، لكنه إن فكر باستخدامه لِلَيِّ ذراع عمه فستكون هنا الكارثة
صمت خليل غير المعهود مع انكسار نظراته أدخلت الشك في قلب جمال، سأله مستفسرا:
_خليل ما بك؟ لم يعد هنالك ما يستحق القلق
لم تتم تلك الكلمة حتى تذكر يوسف، إن كان هذا ما يقلقه فهو لا يستطيع منعه من ذلك، فعلى الرغم من أن أمجد غدا تحت المراقبة إلا أن فكرة أن يوسف لا يزال معه أمر يقلقهم ويزعجهم، قليل من الأمان تسرب إلى قلبه حين تذكر أنهم لم ينسوا أن يخبروا عمه ذاك أن يوسف بلا شك يقيده أمر ما عن التمرد على أمجد، فهل كان ذلك كافيا؟
_لقد أتى ليلة البارحة
بتلك الجملة كسر خليل الصمت، وانتشل جمال من شروده، باستغراب نطق:
_يوسف؟
_أجل!
توقفا حين اقتربا من أحد المباني وقد التهمت حرارة الشمس جسديهما ليستظلا بظله، دهشة جمال لم تَزُلْ، وحيرته زاد بطشها، لكن جملة أخرى من خليل زادته حيرة إلى حيرته
_إنه مختلف عما عهدناه، ليس يوسف الذي عرفته، لا يبدو مترددا، ولا خائفا، ثمة شيء ما قد اختلف
إن تذكر جمال الآن فيوسف يوم موت معاذ كان غريبا، وكما قال خليل (ثمة شيء ما قد اختلف) شعر بتأنيب الضمير على تلك الردود القاسية التي رد بها عليه، رغم أنه لا يعلم حتى اللحظة أي ردود أخرى كانت لتكون أفضل من تلك
فصل آخر من ذكرياته مر لحظتها عليه، أراد طمأنة خليل وإن بالشيء اليسير، كان المعني قد جلس في الظلال وعلى قسمات وجهه تعلو ملامح التعب، جلس بجانبه هنيهة قبل أن ينطق:
_سأخبرك شيئا يا خليل، ربما يكون غريبا لكن لا بأس
أرهف خليل السمع ليعطي جمال ما في جعبته، لم يطالبه بالبدء حتى، حينها تحدث بما يريد:
_فيما مضى كنت أراقب يوسف من حين لآخر، أردت أن أرى كيف يكون صديق خليل هذا الذي يحتل مكانة كبيرة عند والدك
همهم ساخرا من تفكيره آنذاك ثم أكمل:
_في الواقع أردت حينها كسب رضى والدك، لكن ما رأيته من يوسف جعلني أفكر: هل سأفعل ما يفعله فقط لأجل الآخرين؟ لأجل أن أكسب رضى هذا أو ذاك؟ بدا الأمر سخيفا حقا!
يستطيع خليل الذي عرف يوسف لسنوات أن يعرف ماذا كان يفعل، وإن كان يوسف في الغالب يفعل ذلك دون أن يريه لأي ممن يعرف، هي صدقات السر، وإعانة ذوي الحاجة التي تحتاج إلى إخلاص وصدق، لا إلى إعلان وفخر، هما اعتادا على هذا، قد يربطهما أحيانا عمل واحد من هذا كمشاركة جماعية لعمل الخير، لكن تلك الخفية أفضل عندهما بكثير من تلك العلنية
_قبل يومين ذهبت إلى الحي الذي كان يوسف يذهب إليه بشكل مستمر
حديث جمال المفاجئ استطاع أن يجذب انتباه خليل، استرسل في حديثه وهو يستذكر ما حدث:
_لم ينسوه أبدا، لا زالوا يتذكرونه، يسألون عنه، ويدعون له أيضا، ولن يخيب الله تلك الدعوات، أبشر يا خليل
بسعادة واساه، فعكست تلك المواساة ابتسامة عميقة لدى خليل، تلك المواساة بحد ذاتها كانت كافية لتجعله يسعد هكذا، لكنه استشف أمرا آخر وسط ذلك الحديث، لم يلبث كثيرا حتى سأله:
_وكيف عرفوا أنه يوجد بينكما معرفة؟
_لأن...
استوعب جمال المغزى فألجمته الدهشة، تربعت على شفتيه ابتسامة صغيرة، عبثت أنامله بشعره وهمس باستسلام:
_كشفت أمري!
ثوانٍ من الصمت مرت حتى أعقب:
_ذهبت لأطمئن على حالهم، بدا أنهم نوعا ما كانوا متحرجين من الحديث معي، لكن حين ذكرت لهم أنه صديقي، وأنه بحاجة ماسة إلى دعواتهم فتحوا لي صدورهم بترحاب، لن أخفيك أن تفاعلهم حينها أثر بي كثيرا
_شكرا لله على تلك الظروف التي مررنا بها حتى أصبحت صديقي، وكنت سندا لي في هذه المحنة، محنة كان محورها صديقي الذي كان هو سندي في النوائب، لله الحمد على كل حال
بحزن أفصح خليل فاستجاب جمال ورد دون تأخير:
_وشكرا لله على تلك الظروف أيضا لأنها ساعدت كي أكون بجانبك، وكي أسمع منك وأتقبل، وكي أسير على الطريق الصحيح قبل أن أزل أكثر، وأنحدر إلى الهاوية
تمشى الصمت بينهما بخيلاء بعد تلك الجملة، كلا منهما أبحر في بحر أفكاره، تشدهم رياحه العاتية تارة، وتتلاعب بسفينتهم الأمواج تارة أخرى، تعصف بقلوبهم رياح الهموم، وتلفها بقسوة لفائف الحزن
مرور الدقائق بالسكون قرضت الراحة في قلب جمال، وحين أراد الوقوف مجددا والسير -لاحظ التعب الراقد على ملامح خليل الذي لم يحرك ساكنا، أشفق على حاله فقرر إعفاءه من مهمة التسوق تلك، وبطريقة ملتوية دون الحاجة لإحراجه تصرف، أخرج الورقة التي تحوي الحاجيات التي أوكلت إليه مهمة إحضارها وقال:
_لدي الكثير من الأشياء التي يستوجب عليّ إحضارها، ماذا عنك؟
أخرج خليل الورقة التي لديه وأجاب:
_ليست بالكثيرة، لكنها أيضا ليست قليلة، بل هي ضرورية
اختطف جمال الورقة من يده وعلق وهو يطالعها:
_أوه ليست كثيرة، يمكنني أن أحضرها معي، بإمكانك أن تعود إلى البيت الآن
وقف خليل وهو يعترض قائلا:
_لديك ما يكفيك، ثم إن المنزل لم يعد قريبا
_لكن السوق أبعد من ذلك، أم أنك ستكذِّب ملامحك المتعبة، وتدعي أنه لا زال بإمكانك المواصلة؟
قاطع حديثهما وقوف سيارة خلفهما، تحدث صاحبها بعجب:
_يا للمصادفة! هل أنتما ذاهبان للسوق أيضا؟
قفز جمال فرحا نحوه وهو يهتف:
_لؤي! هل أنت ذاهب أيضا؟
أجابه بإيماءة موافقة فاتسعت ابتسامته، فتح الباب ونظر نحو خليل قائلا:
_اذهب إلى منزلك، لا تقلق ستصل الأغراض في وقتها المناسب
صعد السيارة مغلقا الباب، أشار للؤي بالتحرك فأثار ذلك استغرابه، لمَ يطرد خليلا هكذا؟ استسلام خليل لذلك القرار دفعه للتحرك، علق جمال قبل أن يسأله لؤي:
_إنه متعب ويتظاهر أن بإمكانه المواصلة، عموما الأشياء التي سيشتريها ليست كثيرة، يمكنني إحضارها بدلا عنه
اتضحت الصورة للؤي بخصوص ذلك، لكن أمر ذهاب جمال دون سيارتهم أثار حيرته، سأله بدافع الفضول ليس إلا:
_وأنت لمَ لمْ تذهب بسيارتكم؟
_ارتكبت مخالفة فحرمني أبي من استخدامها لفترة
لم يشأ أن يخبره عن نوع تلك المخالفة، فعلى ما يبدو الجميع متوجع مما حدث، ولا أحد قد برأ جرحه، ولا طابت نفسه، وإن كانت المنى معلقة بحسن النهاية مطلبا
**********
في يوم ذا صيف كالسعير، وظروف لا يقل لهيبها شيئا عنه خرج فتى الثامنة عشرة هائما على وجهه من منزله، انتقل إلى مدينة أخرى عله يجد عملا يعيشه بعيدا عن ذل العيش في كنف والده، لا يعرف أكثر من القسوة في هذا العالم عديم الرحمة، بماله الزهيد دخل إلى أحد المطاعم، تناول وجبة تسد رمقه فحسب، ليفاجأ وسط شروده برجل عرف نفسه أنه مدير المطعم، عارضا على من في المطعم مسابقة تقوم على حل بعض الألغاز، مقابل مبلغ مالي ليس بالقليل
وقد كان المال هو مطلبه لحظة ذاك، طلب هو الآخر نسخة من تلك الألغاز، وقد كانت صعبة الحل، وآخرها أصعبها، أدرك حينها لمَ كانت الجائزة كبيرة هكذا، ورغم صعوبتها لم يكن حلها مستحيلا بالنسبة له، استغرق الأمر منه وقتا لكنه كان أول من قام بحلها جميعها
دُعيَ إلى ما خلف الكواليس في ذلك المطعم، وقُدم له شيكا بذلك المبلغ المالي المقرر كجائزة، وسُجِّل اسمه عليه، في حين أخبره أحدهم أن هنالك المزيد من المسابقات القادمة، وإن أراد المشاركة عليه ترك عنوان يتواصلون معه عبره ليتمكن من المشاركة، فكان رقم هاتفه هو العنوان
هو أمجد وذلك هو الاختبار الغريب الذي تحدث عنه بزلة لسان سابقا، فقد كانت شركة (العنقاء) تتنقل بين الأماكن العامة، وحيث يتواجد جمع من الناس كالمطاعم مثلا -ويقومون بتلك المسابقات، والتي كانت في حقيقتها بحث عن أشخاص أذكياء؛ ليوظفوهم لاحقا في الشركة، وذا ما حدث حرفيا مع أمجد
تواصلوا معه، تكفلوا بدراسته الجامعية، أسسوه حرفيا ليصبح عضوا فعالا في الشركة، إلى أن نجحوا في صهر قلبه في قالب محبتهم، وتدريجيا حتى كشفوا له الوجه الآخر لهم، فاتحين له المجال للعمل معهم
لم يحتاجوا لأي وسيلة ضغط عليه ليعمل معهم في تجارة الممنوعات، فقد كان وفيا ومخلصا لهم بعد أن آووه وفتحوا له أحضانهم بترحاب، كما أن نظرته الحاقدة على المجتمع شكلت ركنا أساسيا لعمله لصالح الشركة دونما تردد، بطريقة ما هو سينتقم من المجتمع الذي جعله يعاني كما يعتقد
لم تمر أربع سنوات منذ أن أوكلت إليه هذه المهمة حتى رفع راية الشركة عاليا، وفاز في كل منافسة، وجلب لهم الكثير من العملاء، عن تراضٍ أو حتى بالخديعة، وقد كان معاذا أحد أولئك الذين خدعوا، لكنهم أصبحوا ركيزة مهمة فيما بعد
الآن وبعد قرابة الاثني عشر عاما من بدء تلك الرحلة أصبح العمد الأساسي للشركة، ومحور الأحداث، ومدبر الخطط، ورغم ذا لا زال يستطيع الانخراط بين الناس وكأنه مجرد موظف عادي في شركته، ليس بدرجة مبتدئة بالطبع وإنما بأن تبدو وظيفة عادية، وعملا طبيعيا
سعيه خلف توظيف يوسف لم يكن خلفه أي نية لإطلاعه على ما يدور خلف الستار في الشركة، وإنما لأجل الاستفادة منه بأن يساعده في جمع البيانات، ورصد الحسابات، وحساب الأرباح التي يكسبونها، ولإضفاء الستر على حقيقة ما يفعل فقد كانت المعلومات والبيانات التي تصل ليوسف ليعمل عليها كلها مكتوبة على أنها مواد غذائية، وقد كانت في الحقيقة شفرات لمواد أخرى ممنوعة، هم يفهمونها جيدا
طول المدة التي قضاها في هذا العمل القذر، وأهمية المكانة التي حصل عليها، ومقته لحياته ومجتمعه -شكل ذلك كله أكبر دافع لجعله يصم أذنيه عن سماع صوت الضمير، وعن قبول الحق، وعن الاستماع لنصائح يوسف ولو لمرة واحدة
بين اليأس والألم، وبين الخوف والندم وجد نفسه في نقطة اللاعودة، تقدمه جنون، وتراجعه انتحار، وبقاؤه في مكانه بلا حراك حماقة وعدم جدوى، تعبث به كلمات يوسف حين تلامس ضميره الذي لا زال ينبض بخفوت، وتصفعه أيدي واقعه لتوقظه على جحيم بناه بيديه، فكان سجنه الذي لا حرية تلوح في أفقه، ولا راحة تتخلل ثناياه، يتمنى ويتمنى فتبقى أمانيه مقيدة كحاله، أسيرة تنوح بين الأصفاد على مستقبل كان بالإمكان أن يكون مشرقا لو لم يعتم ليله، وتعلو جباله، ويقل فيه رفيق الدرب، وصاحب الطريق، ونصيره على جور الليالي والأيام
**********
انقضت ليالي شهر رمضان الفضيل وحل العيد بأطيافه البهية، علت أصوات التكبير في كل ناحٍ فأشعلت الفرحة، وحلت السكينة، واكتست الشوارع والمنازل كالبشر حللا جديدة، وتزينت ببريق أدخل البهجة على كل ذي قلب حي، وتعالت أصوات الألعاب النارية، وصرخات الأطفال المرحة تملأ الأفق، وزيارات الأقارب تتزايد، والبيوت تزدحم، تتعانق الأكفة والأجساد مسلمة بروح من فرح على بعضها، وتتبادل الألسن التهاني، فتنعش مشاعر من دفئ تملأ القلوب، وتزهو الأماكن بوهج كادت أن تنساه بعد أن أشحبته تراكمات السوء مع مرور الأيام
كان ذلك فقط حظ من لم يخطف الموت لهم قريبا، أو تغيب عنهم الظروف حبيبا، أما هؤلاء فقد كانت فرحتهم منقوصة، وبهجتهم منغوصة، لكن إظهار الفرح في هكذا مناسبة هو من شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وقد كانت هذه سلواهم الوحيدة
وإن كانت عائلة معاذ قد فقدته بالموت، وانتظاره أمر مفروغ منه؛ فهو لن يأتي -فإن انتظار عائلة يوسف لزيارته كانت إحدى منى ذلك العيد، ورغم تقارب الأماكن إلا أنه رفض الذهاب، رغم حرص أمجد هذه المرة على ثنيه عن قراره إلا أنه بدا أكثر إصرارا عليه، وليته حتى رد على من قدم منهم لزيارته إلى حيث هو
ولا يدري هو عن سبب رفضه ذاك في الحقيقة، أكان غضبا من طرده سابقا؟ أم عدم رغبة برؤيتهم مجددا بعد أن أصبح ما هو عليه الآن؟ أم هي عدم مبالاة بحتة، وموت مشاعر مؤكد؟ لم يستطع أن يكابر أو ينافق كأمجد كما يقول ويظهر وجها من مشاعر ليست حقيقية، مشاعر مزيفة لا تنبع من داخله
وبجدارة هو في نهاية المطاف استطاع أن يفسد ذلك العيد عليهم، وعلى نفسه حتى، وكمحاولة للهروب من أفكاره الجحيمية مرارا كان النوم هو مأواه الوحيد، ينام وينام وينام، رغم الكوابيس المزعجة التي أصرت أن تلحق واقعه إلى أحلامه، وتكدر عليه صفو منامه، ليستيقظ ويؤمن أكثر أن الهرب ليس حلا، والحل الوحيد هو المواجهة، فهل سيكون أهلا لذلك ويقتحم ساحة العذاب الذي نزل به؟ أم سيهرب مجددا خوفا من النيران بعد أن أدرك أنها تحيطه من كل جانب، وإن كانت في بعض الأماكن أكثر استعارا من الأخرى؟
**********
كضمآن في فلاة غدت روحه باهتة، يسير على بصيص من أمل عله يجد السقاء، لم ييأس بعد لكنه متعب للغاية، هو خليل الذي لا زال يرجو أن يأتي اليوم الذي يعود فيه يوسف إليهم، ويكشف عن كل شيء كان، وإن كان بعض الخوف يساوره من أن يعتقل مع أمجد على خلفية قضية كبيرة
حمل نفسه المثقلة بالهموم وسار نحو جامع الرحمن، عله يسمع شيئا من ذلك الشيخ الجليل، وضاء الوجه، مزهو الجبين، ذلك الشيخ لا يكتفي بسرد ما في الكتب التي يدرسها فحسب، فهو يشرح ويوضح، وينصح ويتعمق، ويبين الحكمة من وراء هذا الحكم، ويذكر اللطائف من وراء ذاك الأمر
ولأن خليلا سأله قبل الصلاة: هل يمكن للاستمرار في رؤية المعاصي أن يؤدي إلى الاستهانة بها، سواء وصل الأمر إلى ارتكابها أم لا؟ فقد فضل أن يبدأ درسه ذلك اليوم بالرد على هذا السؤال فقال:
_معشر الإخوة، إن من الأهمية بمكان أن نتحدث عن أمر خفيت خطورته على كثير من الناس اليوم، وهو الاستمرار في رؤية المعاصي مع عدم الإنكار على فعلها
صمت يسيرا ثم استرسل:
_وأول علة تنتج عن ذلك أن يألفها القلب، فتغدو كما لو أنها أمرا طبيعيا، أو كما لو أنها الأصل، وهذا خطير، سيما في مكان لا يجد المرء فيه من يعينه على أداء الطاعة، فأينما يولي وجهه يجد أولئك الذين لا يسلكون لها سبيلا، ولا يؤزهم إلى طاعة ربهم أمرا، وقد يدعونه إلى باطلهم، فإن كانت رهبة المعصية قد انتزعت من قلبه أجابهم إلى ما دعوه إليه
تلك الكلمات فسرت حالة يوسف التي كان خليل يتساءل إن كان يمكن أن تحدث حقا، هو يجيبه على تساؤلاته بشكل مباشر، ولكن بطريقة ذكية، لكن هذا الأمر لم يطمئنه، بل زاد من قلقه، لم يملك وقتا للتفكير، حيث كان الشيخ محمد عمران يتحدث، وهو لم يشأ أن يفوته شيء من كلامه
استرسل الشيخ في كلامه من جديد:
_الشيطان حريص على ضلالنا، ولأنه ليس من الممكن أن يجيبه إلى باطله شخص يؤمن بالله فإنه يسلك أسلوبا خطيرا يسمى (خطوات الشيطان) هو يعلم أيضا أن الناس لن يجيبوه إلى الكفر والعصيان من أول لحظة، لذلك يأخذهم في خطوات حتى يصل بهم إلى حيث يريد، ثم يتبرأ منهم، كما قال الله عز وجل {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} الشيطان يعيش لقرون، منذ أن خلق الله البشر وهو يسعى للكيد بهم، وإضلالهم، وإبعادهم عن الصراط المستقيم، أتظنون أن شخصا يعيش لمدة قرن يكون أقل خبرة وأقل ذكاء من رجل يعيش نصف قرن فقط؟ فما بالكم بهذا الذي عاصر جميع عصور البشرية، وعرف طبيعتهم، وعرف كيف يكيد لهم، ألم تروا أنه حتى آدم عليه السلام حين حظه على الأكل من الشجرة زين له ذلك بالقول {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ} من مكره أن سمى المعصية بغير اسمها، بل أعطى لها اسما لطيفا، وهذا ما يسير عليه أتباعه اليوم، يسمون كل شيء بغير اسمه، حتى يتسنى لهم فعل الباطل، والترويج له، والدعوة إليه بعيدا عن نقد الناقدين، واعتراض المعترضين، ثم إنها خطوات يا إخوتي حتى يجد المرء نفسه على باب جهنم، نسأل الله أن يعيذنا منها
ولحظات صمت عمت المكان عقب ذلك الكلام الطويل، هي خطوات ولكن المستهينين بها كثر مع الأسف الشديد، هي خطوات لكن أحدهم يظن نفسه معجزة عصره، وأنه لا يمكن أن ينحدر أكثر، أو حتى هو لا يعترف أنه بدأ السير في طريق الشيطان، هي خطوات لكن أحدهم يظن أنها مجرد خطوات، وحدث ولا حرج عن أقوام زلوا وضلوا ثم أضلوا
الحديث في هذا السياق دفع الشيخ محمد عمران للإسترسال، فالحال الذي بات يراه لم يعد يسرُّ، واستهانة الناس بأمر الذنوب بات لا يحتمل السكوت، عاد إلى الحديث للجالسين بالقول:
_وإن مما يجدر الإشارة إليه هو استهانة البعض بصغائر الذنوب، ولم يعلموا أن جمعا من الصغائر يعادل كبيرة من الكبائر، فالأمر ليس بالهين البتة كما قد يتصور البعض، قال صلى الله عليه وسلم «إياكُم ومحقَّراتِ الذُّنوبِ، فإنَّما مَثلُ محقَّراتِ الذُّنوبِ كمَثلِ قَومٍ نزَلوا بطنَ وادٍ، فجاء ذا بِعودٍ وجاء ذا بِعودٍ، حتَّى جَمعوا ما أنضَجوا بهِ خبزَهم، وإنَّ محقَّراتِ الذُّنوبِ متَى يُؤخَذْ بِها صاحبُها تُهْلِكْهُ» فالله الله يا إخوتي، حذاري حذاري من الاستهانة بأمر المعاصي، فوالله إن لها في القلب وحشة لا يؤنس صاحبها معها أنيس، وإنها لتغشي على القلب حتى تحيله أسودا، مظلما كئيبا، قال عليه الصلاة والسلام «إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه. فإن تاب ونَزَع واستغفر صُقِل منها، وإن زاد زادت حتى يغلَّف بها قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: {كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم}»
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تُعْرَض الفتن على القلوب كالحصير، عُوداً عوداً. فأيُّ قلب أُشربَها نُكِتَ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على قلب أبيضَ مثلِ الصفا، فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبادّاً كالكوز مُجخِّياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشرِبَ من هواه»
وإنها لتحيل على القلب برانٍ يجعله غير قادر على التأثر بالموعظة، غير مبالٍ بالعقاب، ويمنِّي نفسه الأماني، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
إثر تلك الموعظة الطويلة اختتم الشيخ محمد عمران موعظته بالدعاء، وابتدأ درسه الذي كان له وقع مختلف بعد تلك الكلمات، فالنعيم الذي يسعى إليه الناس لن يكون ظاهريا فقط، ولا نعيم جوهري يستطيع أن يغير صاحبه إلا ذاك الذي يكون له إلى الله صلة
وإن للذكر مقام عظيم، فلا لاهج به أحد ولا مستمع إلا وكان له من الأجر نصيبا، وأكثر ما يحوز على اهتمام هؤلاء المتحلقين عند هذا الشيخ هو أجر يطلبونه من الله، يكون لمن جلس في جمع يذكرون الله، كما قال عليه الصلاة والسلام (لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)
ورب كلمة أحيت قلبا، فأنجبت أمة، ورب قلب استمع وأنصت، فاستفاق وحيَّ، ورب لحظة اتُّخِذَ فيها قرارا ما فكان في ذلك الخير له؛ إذ لو تأخر لما أدرك ما كان بحاجة إليه، ولعل هذه اللحظة موجودة في حياة كثير منا، فمن منا قادر على المضي قدما، نحو التغيير للأفضل في حياته؟
¶____________________¶
انتهى الفصل الثاني والثلاثين
كتبت في هذا الفصل نصائح أظنها ضرورية جدا، وقد استفدت من بعض مشائخنا في كتابتها، جزاهم الله عنا خير الجزاء
وأيضا مما يسعدني أنني طورت الوصف كثيرا في هذا الفصل، وأجواء العيد بالذات كانت الأجمل عندي
نلتقي في الفصل القادم بإذن الله ❤
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top