الفصل الثامن عشر
الفصل الثامن عشر|| صدمات عظمى!
يوم كئيب مر برتابة على عائلة يوسف، لم يفتح أحد فمه بعد ذلك الجدال في الصباح، لم يكن أحدهم يعلم أن صمتهم يسمح له بالابتعاد عنهم أكثر، مركب الأفكار يأخذه بعيدا، مجاديف الخوف تبحر به بسرعة
كيف يمكن أن تتغير الحال إلى الأسوأ هكذا؟ كيف يمكن لزلة قدم واحدة أن ترميك في الهاوية؟ كيف يمكن لتعثرك أن ينتهي بسقطة موجعة؟
احتدم صراع يوسف النفسي، إنه ذلك الصراع الذي ينشأ بين مرحلتين هامتين في حياتك، أن تتقدم إلى الأمام؟ أو ترجع إلى الخلف؟ وأحيانا لا يكون لديك خيار الرجوع، فتبقى بين خيار التقدم والمغامرة حتى تجد المخرج، وبين أن تدخل تلك المرحلة مع استسلام تام، وقد يجتمع عليك المرحلتين، تلك التي تحمل التردد، وهذه التي تضعك مع خيار التقدم ولكن مع أحد القرارين: الاستسلام، أو المغامرة، وقد يكون يوسف واقعا في هذه
لن يعيقه شيء أكثر من خوفه، خوف الفقد ذاك الذي لا يطيقه أحد، أليس هو محظوظا أن امتلك خيار التضحية بنفسه لأجل الحفاظ عليهم؟ هكذا هي أفكاره، تنقله من ضفة إلى أخرى لكنها لا توضح له وجهته، يشعر بالتيه تماما، هل سيتمكن أحد من اقتحام الأمواج وإخراجه من وسط هذه المعمعة؟ أم أنهم سيعجزون أمام محاولاته لتدمير قواربهم؟ وهل هناك من يفكر في ذلك حتى؟ ما لم يكن يعلمه أو ربما يتجاهله كونه رأى نفسه لا يستحق بعد الذي فعله -هو أنه كان هناك بالفعل من يفكر فيه
تقاذفت أمواج الأفكار بخليل الذي ما فتئ يبحث عن حل للوصول إلى شاطئ يوسف، وقد خشي أن تنكسر مجاديفه ويغرق قاربه قبل تحقيق ذلك، ولكم كان خائفا أيضا من أن يصل متأخرا، يصل بعد أن يسأم يوسف من الانتظار، فيغادر الشاطئ مبتعدا عن كل من يعرفهم، بمن فيهم خليل الذي كان ضاربا بأوتاد الصداقة في قلبه، ومعززا قوتها بوقوفه إلى جانبه كلما حامت حوله نوائب الدهر
تلك العلاقة الوثيقة التي تربطهما دفعت خليلا للذهاب إلى منزلهم للاطمئنان عليه، رغم كل ما حدث، محادثة قريبة جرت بينه وبين معاذ دفعته لأن يتناسى ما حدث؛ لكي لا يعطي فرصة لصاحب الشر بأن يعلو مع شره، فيختطف من بين يديه صديقا وأخا وعزيزا عليه
_كما سبق وأخبرتك أمجد ماكر، ماكر جدا، سيكون يوسف طوع أمره في لحظة ما، على الأقل سيفعل الشيء ذاته الذي فعلتُه، بناء على ظن خاطئ منه
كانت هذه كلمات معاذ الذي صبها في أذني خليل بقلق بالغ، أن يحدثك أحدهم من قلب تجربته فالأمر مختلف كثيرا عن شخص علم بتلك التجربة فقط، وكما يقال: ليس من سمع كمن رأى
جعلت رغبة المعرفة خليلا يبقى تحت سلطة الصمت، لينصت إلى ما يريد معاذ قوله، فبادر الأخير بالفعل إلى قول ذلك متنهدا بأسى:
_ظننت أنه بإمكاني أن أمسك عليه شيئا إن اقتربت منه أكثر، ظننتي سأستطيع أن أجد شيئا ما يجعلني أوقفه عن ابتزازي، وذا ما جعلني أظهر استسلامي له في البداية، وحينها ارتكبت أكبر حماقة في حياتي
أنصت الهدوء لهما عل أحدهما يقول شيئا بعد تلك الكلمة فيرحل، لكن يبدو أنه ضيف عزيز عليهما، مر وقت لا بأس به حتى نطق خليل بصوت يخفضه التفكير:
_هذا يعني أنه يجب علينا ألا نتركه وحده، وألا ننتظر قدومه بل نذهب إليه، هذا يعني أنه لن يكون من صالحنا في الوقت الراهن إلا المهادنة
هز معاذ رأسه إيجابا ليوافقه الرأي، ثم علق:
_وإن كان الأمر سيتطلب انحيازي من جانبك فلا بأس، المهم ألا تخسره لصالح أمجد
بدا جادا في قوله غير متردد، أإلى هذه الدرجة يستطيع أن يضحي؟ ولمَ؟ طرقت الأفكار رأس خليل فبادر بالقول:
_لأكون صادقا معك فإن أكثر ما يأخذه يوسف عليك هو قصتك مع إمام جامع النور ذاك
شعور ما كقبضة شدت وثاقها على قلب معاذ بعد تلك الجملة، حنى رأسه بحزن، لم يرد سريعا، بدا أن تلك الحادثة أيضا لا زالت محفورة في أعماقه، فجأة نطق:
_كانت إحدى أكبر غلطاتي الفظيعة
وحلق الصمت مجددا ليشعر خليل بمدى ألم تلك الذكرى عليه، لم يقل شيئا بعدها، كانت آخر ما قيل لينفض ذلك اللقاء بعد وقت قصير منها
ها هو الآن يقف أمام منزل سعيد مع عصر ذلك اليوم، وسعير ما يجده خوفا على يوسف أشد لهيبا ولسعا من امتحاناته التي تطرق الأبواب، أمَّل ورجى أن يكون يوسف موجودا، وأين سيكون إن لم يكن موجودا؟ هذا ما لا يرغب حتى بالتفكير فيه
طرق الباب ثلاثا ثم انتظر حتى فُتح له، كان لؤي هو من استقبله، وحين ولج المجلس أقبل سعيد ليسلم عليه ويجلس معه، وهنا زادت ضربات قلبه القلقة؛ أين يوسف؟ لكنه حاول تهدئة نفسه وإعازة الأمر إلى أنه قد يكون نائما، أو يجلس في غرفته، لكن قلبه القلِق لم يصبره عن السؤال عنه فنطق:
_أرجو المعذرة، أين يوسف؟
اضطربت ملامحهما ما جعله يستشف ما خلفها، ازداد وتيرة قلقه فسأل برجاء:
_هل هو هنا؟
تفلتت تنهيدة حارة من لؤي الذي أعقب ذلك بالقول:
_لقد خرج غاضبا، لم يخبرنا عن وجهته
_خرج غاضبا؟ لماذا؟ ومتى حدث هذا؟
خرجت أسئلة خليل مرة واحدة يدفعها القلق، لقد ظن أنه سبقه بخطوة، لكن يبدو أنه تأخر! محاولة يائسة من لؤي لمعالجة الموقف نطق بها قائلا:
_إنه هكذا منذ اليوم الأول الذي عاد فيه، يبدو كما لو أنه فقد شيئا، وهو يبحث عنه ولا يجده
كلماته لا زالت تطرق أجراس الخطر في قلب خليل، من يقنعه الآن أن يوسف ليس واقعا بين براثن أمجد؟ كان لا بد له أن يتأكد، انسلت حروفه متأرجحة بين الرجاء والخوف:
_هل ذهب إلى أي مكان آخر خلال هذه الأيام الأخيرة؟
لم يشأ أن يصرح بمخاوفه، لم يشأ أن يسأل مباشرة عن أمجد، إنه قريبهم وهو لا يريد أن يضع نفسه في موقف محرج معهم بسببه، آتى سؤاله ثمره حين جاءه الجواب:
_المكان الوحيد الذي أخبرنا بذهابه إليه كان منزل أمجد
ورغم توقعه بسماع هذا الجواب إلا أنه بدا منصدما، تلك الصدمة التي لا تنفك عن ملازمتنا حين نسمع ما لم نرجو سماعه، حتى وإن كنا نتوقع حدوثه، الخبر اليقين ليس كالتوقع، فالتوقع مجرد طيف قد يزول حينما تقترب منه، وقد يبدو لك حقيقته، في تلك اللحظة لم يستطع خليل صبرا، أراد أن يخبرهم عن أمجد وليحدث بعدها ما يحدث، أراد منهم ألا يسمحوا لابنهم بالضياع، وفي أيديهم القدرة على الإمساك به
**********
في تلك اللحظات التي جرت فيها محادثتهم في ناحية أخرى ثمة محادثة مهمة تجري بين آخرين عن ذات الأمر، لقد كان يوسف الذي قرر الذهاب إلى أمجد بقدميه، وفي رأسه تدور فكرة، أناخ ركابها حين دخل إلى منزل هذا الأخير، افتتح محادثة عنها بالقول:
_بلا مقدمات سوف أدخل معك في صلب الموضوع
صالة ذلك المنزل هي مأوى أحاديثهم، اكتنفها الصمت حين صمت يوسف، فقابله أمجد بذلك أيضا، ليقول يوسف بعدها مكملا ما أراد قوله:
_سأنفذ أي شيء تريده ولكن… في المقابل ستنفذ ما سأطلبه منك الآن
ارتفعت ابتسامة الذئب الماكر على شفتيه لتشد الخوف في قلب يوسف، قد لا يقبل بما سيطلبه منه، وأساسا كيف سيقبل وهو الذي يقيده ويملك مفاتيح تلك القيود؟ ورغم تلك التخوفات التي تطرق قلبه إلا أنه طرح عرضه قائلا:
_جميع من حولي لا تمسهم بأذى، بالذات خليل
أكد على جملته الأخيرة بنبرة صوته، التي أخرجت كلماته ببطء أقل من الأولى، لوهلة فكر أمجد: كيف يمكنه أن يقلق على صديقه أكثر من نفسه؟ هل الصداقة شيء جيد حتى؟ بالنسبة له فهي مجرد سخافة، مجرد قناع يتقنع بها الناس ليستخرج كل منهم مصالحه من الآخر، وفي نهاية الأمر كيف له أن يعرف معناها وهو لم يجربها؟
إن علاقته بعائلته التي من المفترض لها أن تكون أرقى مكانا في قلبه من أي علاقة أخرى ليست جيدة، فكيف لأشخاص آخرين أن يكون لهم قدر عنده؟ ورغم تعجبه من مخاطرة يوسف إلا أنه استطاع الحفاظ على ملامحه، لتبدو في هيئة لا تفضح كوامنه، رد مؤكدا عليه:
_هل أنت واثق مما تفعل؟
_كل الثقة
بتلك الكلمتين فقط رد يوسف واثقا، فسأل أمجد ثانية:
_هل ستستطيع حقا الصمود أمام طلباتي؟ لا تظن أنه من السهل عليك أن تطلب شيئا مقابل أن تفعل كل شيء يطلب منك
لا يحتاج يوسف إلى هذه النصيحة، فقد فكر في الأمر حتى تصدع رأسه لكثرة التفكير، لقد قرر أن يتحمل أي شيء، لا رغبة لديه بتحميل أحد الذين يعزهم بشيء فعله هو، رد وكأنه غير مبالٍ بما سيحدث:
_لم أفتح فمي هنا إلا وقد فكرت في الأمر كثيرا، وهذا هو قراري الأخير
ماذا سيخسر أمجد من قبول هذا العرض إن كان لا يملك شيئا بالفعل يقيد به حركة يوسف؟ وفي المقابل إن كان يملك عليه شيئا بالفعل فما الخسارة التي سيخسرها من تنفيذ هذا الطلب البسيط مقابل الخدمة الكبيرة التي سيحصل عليها؟ هكذا جالت الأفكار في عقله، في كلتا الحالتين هو الرابح الوحيد، لا ضير من قبول هذا العرض، ولكن ما الشروط التي سيقدمها لأجل قبول هذا العرض؟ لكي يثبت يوسف أنه صادق فيما يقول فعليه أن ينفذ شيئا ما قبل ذلك، وهنا انتصب الشيطان الذي في داخل أمجد لينطق بشر:
_لكي أقبل هذا العرض هناك شرطين عليك القيام بهما، هل أنت مستعد لسماعهما؟
كان قلب يوسف يتآكل خوفا، لكنه لم يعد يبغي التراجع بعد أن وصل إلى هذا الحد، هز رأسه موافقا فقال الشيطان الذي أمامه:
_أول شرط هو أن تقطع علاقتك بخليل
بدا شيئا طبيعيا أن يضع هذا الأمر شرطا، ولكن بالنسبة ليوسف فرغم صعوبة الأمر إلا أن هذا أهون عليه من فقدانه بالكلية، لكن أمجد لم يتركه حتى ليتنفس مع أفكاره حتى أردف قائلا:
_قطعا نهائيا، أتعي معنى ذلك؟ معنى ذلك أن تنسى أمر أخته أيضا
للتو فقط انتبه يوسف إلى هذا، أين كان عقله لكي لا يصل إلى هذه النقطة؟ زاد ضغطه النفسي وكاد أن يفقد سيطرته على نفسه، حاول بجهد بالغ أن يضبط نفسه، ربما من الأفضل لها ألا تبقى معه، فيجعلها تعاني مجددا، وبعد كل شيء ما يدور في رأسه الآن هو: أنه سيستمر بهذا فقط إلى أن يمسك على أمجد شيئا ما، لذا عليه أن يتحمل كل الصعاب التي ستواجهه إلى ذلك الحين
أظهر جلادة لم يعتد أن يكون عليها من قبل، مع كل لحظة تمر يشعر أن قلبه يسحق، الأحداث الأخيرة بدأت تحيل قلبه حجرا وهو لا يدرك ذلك حتى، محاولاته الحثيثة ليبدو قويا رغم ألمه هي أكثر ما كان يجعل ذلك النابض بلين يزداد قسوة
ظل يحدق بأمجد صامتا، فظن هذا الأخير أنه لم يعجبه ما قال، طال الصمت وخيوط الظلام بدأت تنتشر بوسع أكبر والشمس على وشك الغروب، بيد أن أضواء الكهرباء كانت تغطي ذلك التغير الذي حدث للتو، نطق أمجد باستهزاء:
_قلت لك أن الأمر ليس سهلا، يمكنك أن تنسحب من البداية
اشتدت عروق يوسف غضبا ليقول بغلظة:
_لن أنسحب، عليك أن تقبل عرضي ولا شأن لك بكيفية تفكيري حيال الأمر
لم يزد تعنته أمجد إلا خبثا، نطق بمكر:
_حتى وإن طلبت منك أن تطلق زوجتك؟
ليس الأمر سهلا، ليس سهلا أبدا حتى وإن حاول يوسف أن يظهر جلادته، امتقع وجهه واحمرَّ، بدا واضحا كم كان الأمر صعبا عليه، كانت يديه مترابطتين ببعضهما فشدهما أكثر، تجمعت حبيبات العرق على جبينه، ثم وجد نفسه مجبرا على إشاحة نظره عنه، انطلقت كفاه لتشد رأسه، لم يكن الأمر هينا أبدا، لقد ظن أنه سيبقى بعيدا عنها فحسب، أما أن يطلقها فهذا ما لم يكن في حسبانه يوما، نكس رأسه أكثر، أحاطه بذراعيه، كيف له أن يفعل هذا؟ كيف له أن يكسر قلبها أكثر مما قد فعل؟ ألم تكن على موعد مع الاعتذار؟ فهل سيزيد الطين بلة؟ لكن من ناحية أخرى أليس هذا أهون عليها من أن تفقد خليلا؟ ربما إن علمت بأسبابه فستعذره، ربما وربما وربما… ولكن في نهاية الأمر ليس له إلا أن يختار شيئا واحدا، وعليه أن يعتني بخياره جيدا
ظل أمجد يراقب تصرفاته بصمت، إنه معتاد على رؤية فرائسه وهي تتصرف بوهن، أمام واقع الشباك التي تجد نفسها واقعة فيها، لم يفتح فمه، ظل ينتظر جوابه، لكنه لن يستطيع تكذيب نفسه بما يشعر به تجاه فريسته هذه المرة، كان يوسف هو الوحيد الذي عرف قصته ومع هذا حاول أن يقترب منه، أن يصلح ما فسد في حياته، وهو هكذا جازاه، ربما كان حقده على معاذ وتبعا له خليل هو ما جعله يستغل يوسف لضربهما، بعد أن عرف العلاقة التي تجمعهم، لكن يمكنه أن ينسى أمر خليل حتى وإن كان سبب توبة معاذ، فهو على أية حال لا يشكل خطرا عليه، أما معاذ فلن يستطيع دفن حقده عليه أبدا، ربما يوسف ضحية لأحقادهم، لكنه لن يبالي به، فهو ليس شخصا عزيزا عليه بعد كل شيء
رنين هاتف يوسف سرق الهدوء من المكان، بل وسرق الأمن من قلوبهما، حين كانوا قد غرقوا في أفكارهم، أخرجه من جيبه لينظر من المتصل، وهنا سارع أمجد إلى القول:
_لا تخبر أحدا أنك عندي، وإلا اعتبر عرضك مرفوضا
لم يكن المتصل إلا لؤي الذي أراد الاطمئنان عليه، بعد حديث خليل لهم عن أمجد، فتح المكالمة ليقول بجفاء رغم اللهيب المستعر في قلبه:
_نعم
تلك الحروف الثلاثة كانت كافية لتوصل الألم إلى قلب لؤي، وهو يسمع كم أنها قيلت بجفاء، في العادة كان يوسف سيقول «مرحبا» أو «السلام عليكم» أو أي شيء حتى لو كان «نعم» المهم هو لن يقول ذلك بهذه النبرة القاسية، تجاهل الأمر وسأل:
_يوسف أين أنت؟ ألن تعود إلى البيت؟
حاول أن يجعل سؤاله عاديا جدا كيلا يشك في الأمر، نظر إلى أمجد بتردد فأشار هذا الأخير له بأن يفتح السماعة الخارجية، فتحها وهو يجيب محاولا طرد الشك الذي يحوم في الأجواء:
_حينما أرغب في العودة سأعود، لمَ لا تدعوني وشأني؟
رد لؤي بقلق جعل صوته يعلو:
_الجميع قلقون عليك، والدي والدتي، كيف لا تريدنا أن نطمئن عليك؟ على الأقل أخبرني أين أنت؟
وهنا عادت النظرات لتلتقي بين يوسف وأمجد، ليبتسم الأخير بمكر وكأنه يقول (العرض ملغي إن أخبرته أنك عندي) ابتلع يوسف غصته وقال:
_لا يهم أين أنا، المهم هو أنني سأعود
ما لم يكن يعلمه يوسف هو أن خليل كان يستمع إلى هذه المحادثة في الطرف الآخر، أشار للؤي أن يكمل حديثه معه دون استسلام، فقال محاولا مجاراة الموقف:
_يوسف أرجوك تفهم الأمر، لمَ أنت غاضب هكذا؟ أليس من حقنا أن نقلق عليك؟
هو يتفهم الأمر، ويعلم كم أن تصرفاته تقلقهم، ويحزنه كم بات يحزنهم، ولكنه مجبر على هذا كما يعتقد، ويظن أن ما يفعله الآن هو لصالحهم، وإن سبب لهم بعض الألم
في كل موقف كانت الأفكار تعتمل في رأسه كان لا بد له من مسايرة الموقف والتحدث بما يناسب كل مقام، لم يؤخر رده كثيرا رغم تدفق كل تلك الأفكار، بادر بالرد على لؤي:
_لست طفلا لتقلق عليّ، من فضلك أرحني من تخوفاتك هذه، فهي تزعجني حقا
_حسبي الله ونعم الوكيل
كانت هذه عبارة لؤي الوحيدة التي علق بها على كلام يوسف، كان الأمر مزعجا له إلى حد بالكاد يستطيع احتماله، ولأن خليل كان بجانبه رأى أن يتحدث مع يوسف عن ميمونة أمامه، فلا شك أن أمرها هم آخر يحمله خليل على عاتقه، نطق محاولا جعل الأمر هادئا:
_يجب أن تعود، سنذهب في الغد إلى منزل العم صالح، لا يمكنك أن تبقي ابنتهم في تلك الحال، أرجو أن تفكر في الأمر
غصة فظيعة نشبت في حلق يوسف بعد تلك الكلمات، وابتسامة ماكرة اعتلت وجه الذئب المكار الذي يجلس قبالته، داس يوسف على قلبه مع كل تلك الأفكار التي ضجت في رأسه، وقال بكل وجع الدنيا الذي حاول إخفاءه تحت رداء اللامبالاة:
_ألم أقل لكم أني لم أعد أريدها؟
كلمات كالصاعقة هبطت على خليل الذي فغر فاه من هول الصدمة، وخيبة وخجل اعتليا ملامح لؤي، الذي ما عاد يعرف كيف يساوي الأمور، لكن والده هب من مكانه غاضبا ليلتقط الهاتف ويصرخ بيوسف:
_توقف عن هذه المهزلة يا يوسف، عد إلى المنزل قبل أن تندم، ولا تتحدث عن ميمونة إلا باحترام، هل فهمت؟
عض شفته السفلى عاجزا عن تمالك نفسه أكثر من هذا، لكن الآن بدا الأمر أكثر تسلية لأمجد، وأكثر جِدٍ لتنفيذ شروطه التي طرحها على يوسف، مقابل قبول عرضه، حرك شفتيه بكلمة دون صوت (طلِّقها) كان واثقا أن يوسف سيفهمها، وذا بالفعل ما حصل، انتفض من مكانه وكأن روحه ستخرج من محلها، وربما روحه أسهل خروجا من تلك الكلمة، ساد الصمت وزاد، وأخذ هو يدور في المكان بتوتر بالغ، أخذ يمرر أصابعه بين خصلات شعره السوداء، أعطى خلفه لأمجد ورد على والده الذي كرر سؤاله بالقول:
_لن تلزموني بشيء وسأفعل ما أريد
لا زالت تلك الكلمة بعيدة عن لسانه، لا زالت ثقيلة عليه، لم يستطع نطقها، ولم يستطع تجاوز الأمر، حينها انبجست في رأسه فكرة: وإن طلقها فرجاعه لها بعد ذلك سيبقيها في ذمته، وهذا سيعطيه حافزا أكبر ليخلص على أمجد بأسرع وقت، أتاه صوت والده الحزين:
_لقد علقتها يا يوسف علقتها، هل تظن أن هذا فعلا يحمد فاعله؟ أنت تضر نفسك وتضر غيرك بهذا التصرف
دُهش برؤية أمجد الذي وقف قبالته بخبث، ثم مرر اصبعه على عنقه بصمت، وقد كان تهديدا واضحا جدا، نهش الخوف قلب يوسف فأدماه، قتلته تلك التهديدات، وضعته أمام قرار لم يرغب في اتخاذه
استجمع كل ذرة متبقية له من قوة، شد قبضته وأغمض عينيه وكأنه مقبل على الموت، ثم نطق بصعوبة فظيعة:
_لن تبقى معلقة، لأنها طالق!
¶____________________¶
انتهى الفصل الثامن عشر
_تحط الفصل وتهرب_
مع السلامة
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top