١٤ | مَنزوعة الأمل.
مرحبًا...
أستقرأ تلك الورقة إن كتبتها؟ وتسمع صرخاتي إن أطلقت سراحها؟
فغيابُك يمزّقني، يعتصرني حنينًا ويُسكِنني ألمًا.
وإشتياقي يُحاصرني، يملأني أملًا، ثم يكويني وجعًا.
وأبقى أنا هُنا، وأنت هُناك..
تتقطّعُ أوتار أملي، وتذبلُ ورود حُبّي كُلّما مرّت الأيام.
يشحبُ وجهي، ويظهرُ عَجزِي، وأنت لم تأتِني حتى في الأحلام!
أهذه النهاية لقصّتِنا؟! أهكذا الزمانُ يُفرِّقنا؟!
وعدتني بالبقاء، فهل تخلف بوعدِك؟
ملأت عينيّ دموعًا، والذنبُ ذنبُك.
لعلّ حِبر قلمي مسموعًا، فيحنّ قلبُك! وتعود إليّ...
ورُبما لا فائدة مما أكتُب... فلا أنت تقرأ، ولا أنا أهدأ.
وضعتُ قلمي على الدفتر لتنهمِر دموع عيناي وأجهش بالبكاء، لا أكترث إن سمعتني صوفيا... فقد حمل قلبي من الشجن ما لا طاقة له به!
إفتقدتُ نظرتَهُ، إبتسامتَهُ، لمستَهُ، ضحكتَهُ، وتفيضُ أوردتي شوقًا وإشتياقًا أليمَين!
مرور شهر كامل دون ظهوره في حياتي ليس بأمرٍ هيّن! أملأُ قلبي أملًا في مجيئه كلّ ساعة، فيخذلني في نهاية اليوم ولا يأتي...
ألا يمكنه أن يرحمني ولو قليلًا؟ أن يأتِني ولو دقيقة؟ أن يُحيي روحي التي تُسلَب منّي شيئًا فشيئًا..!
أنا الليلة مَسلوبة القوى، مَعدومة الإرادة، منزوعة الأمل.
لكن قلبي في إنتظارك لا يطرق بابه الملل...
*****
طَلَب لي قهوةً بالحليب لمعرفته بكم أحبها، لكن اليوم كان لا طعم لها!
فها نحنُ في الجلسة الخامِسة، وهو يفحص بعض الأوراق أمامه ويزمّ شفتيه بعد أن أخبرني بأنه قد شخّص حالتي بعد بحثٍ طويل وشكوك وظنون راودته طوال تلك الجلسات الماضية، أُتابِع تحرّكاته بهدوء عساني أستبشِرُ شيئًا، لكنّهُ كان حريصًا على تركي فريسةً للتوتّر والقلق..
رفع عينيه عن الورق أخيرًا وكأنّه أشفق عليّ، ثم حدّق بي وقال "تعرفين أنني لم أشخّص حالتكِ في الجلسات الأولى لأنني لا أحكُم على الحالة أمامي دون دراستها من كافة النواحي وبشتّى الطُرُق، وأعتقد أنّكِ بدأتِ تعتادين على إسلوبي.." أومأت له ليُتابِع، وأشعر بقلبي يكاد يخلع صدري، وحُبيبات العرق تتجمّع على جبهتي.
إرحمني من حيرتي وأفكاري وإخبرني بما توصّلت إليه قبل أن تنهار أعصابي!
"لقد إكتشفت الأمر. تُعانين من الهلوسة وهي شكل من أشكال الإضطرابات النفسيّة، وقبل أن تقولي بأنّكِ لستِ مجنونة فسألحقكِ وأخبركِ بأنني أعلم ذلك، فالمُصاب قد لا يعاني من أي إضطرابات عقلية ومع ذلك يكون مُصابًا بالهلوسة! فهي تحدث لأشخاص أصحّاء عقليًّا في معظم الأحيان! إن الهلوسة ما هي إلا بروز الأماني والأفكار والرغبات من العقل اللا واعٍ على صفحة الوَعي والواقع، وتُحدِث بعض التحيّزات في الميتا-إدراكية بدماغك، ولكن ما حدث معكِ كان نتيجةً للوحدة التي عانيتِ منها لفترةٍ طويلة والعزلة الاجتماعية التي فرضتِها على نفسك، لأن كل الفحوصات التي أجريتِها تقول بأنّكِ سليمة جدًا ولا داعٍ للشكّ."
تشنّجت أوصالي، وشعرتُ بضيقٍ في التنفّس لتهتزّ نبرتي قائلة "ولكن.. لقد شعرت بكل ما حدث وكأنه حقيقي! لقد كان يلمسني وأسمع نبضات قلبه كأي إنسان عاديّ!! وكان يأكُل ويشرب ويتألّم... لقد شعرت بمشاعره التي كانت أكثر واقعيّة مِن واقعي أيها الطبيب!"
"أمر طبيعي، فأنواع الهلوسة متعددة.. ولقد أُصِبتِ بأكثرهم تأثيرًا، فأصبحتِ ترين ذاك المخلوق وتشمّين رائحته وتشعرين بلمسته وتسمعين صوته وتكلّمينه، حيثُ أصابَت حواسكِ أجمعين! والهلوسة تُرغمكِ على تصديقها حيثُ تدفعكِ للأدلّة والبراهين والحقائق المُزيّفة.. حتى تكونين على إقناعٍ تام بأن ما يحدث حولكِ حقيقيّ تمامًا، تقومين فيها بتحسس محسوسات واقعية بشكلٍ صحيح وتفسير سليم، إلّا وأنكِ تصلين لمغزًى إضافيًّا غريبًا يُنجّيكِ من شكوكك بحقيقة الأمر."
لأوّل مرة أشعُر بأن لساني مُقيّد في حلقي بهذه الطريقة، لأوّل مرة أشعر بضياعي وسط أفكاري وصدمتي التي لا حدّ لها..
حاربتُ دموعي، وبقيتُ اعبث بأصابعي لأشتت نفسي.. وقلبي هائج خلف أسوار صدري، تملأه الصرخات.
"وما العمل الآن؟" سألته دون النظر له، خوفًا من أن تسقط دموعي أمامه فأكون مثيرةً للشفقة..
"أن تواظبين على العلاج، سأكتب لكِ أدويةً لتنتظمي في أخذهم، وسنُكمِل الجلسات لتُطلعيني على كل ما هو جديد.. وأتمنى لكِ شفاءً عاجلًا يا ألِكسندرا، فهي لخسارة كبيرة أن تقع كاتبة ذات عقل نابغ مثلكِ في دائرة الهلوسة البشعة!" إبتسم لي في النهاية، لأنظر له وأُحرِّك رأسي مُستجيبة.. ثم أتناول الورقة التي ملأها بأسامٍ للأدوية.. لأجُرّ عجلات الكرسي خاصتي في طريقي للخروج.
توقّفتُ عن دَفع العجلات فجأة، لألتفِت إلى الطبيب فأجده لازال ينظر لي مُبتسمًا بدفىء.. وسألته في توتر "أيها الطبيب، هل ما حدث كان كلّه وهمًا؟" ثم لحقته بسؤالي الذي قطّع شرايين قلبي قبل خروجه من حلقي بتلك النبرة الضغيفة المُختنِقة "هل شون غير حقيقي ولا وجود له أبدًا؟!"
كانت نظراتي تدفعه لإجابةٍ واحِدة.. يتمنّاها قلبي متشبثًا بها لآخر لحظة حتى وإن كانت غير منطقية!
لكنه نفى برأسِه في أسف، وأضاف "أجل، مائة بالمائة.."
ضاق صدري وتساقطت الدمعة التي ألَمَني حبسها داخل مقلتاي، فإلتفتُّ سريعًا ورحلت..
*****
سمعتُ صياح صوفيا من الطابق السُفلي تدعوني لتناول العشاء معها بعد أن أعدّته، فأخبرتها بأنني لا أريد..
وضعتُ رأسي على الوسادة لتأخذني أفكاري بعيدًا، وأنفصِل عن كلَ ما هو محيط بي...
أصبحت أسمع كلماته تتردّد في عقلي، بعد أن كان كلام الطبيب هو كل ما أسمع، وكأنها تتحدّى كلمات الطبيب وتطردها لتحلّ محلّها..
"سوف أكون دومًا معكِ! حتى وإن لم تتمكّني من رؤيتي بطريقةٍ ما.. لن أتخلّى عنكِ أبدًا يا ألِكس!"
وكأن شون علم بأن هناك ما يشغل بالي فحاول طمأنتي بكلماته... حتى وإن كانت وعودًا كاذبة مُحببة للأذن!
"تذكّري كلماتي جيدًا.. إن غِبتُ عن عينكِ فإبحثي عنّي في كلّ ما حولك، سوف أكون هناك! سوف أرسل لكِ سلامي مَع شروق الشمس ومغيبها، ثقي بأنني سأبذل كل ما بوسعي لأن آتي إلى عالمك بطريقةٍ ما.. ومجددًا، لن أتخلّى عنكِ يا آلي!"
"إنتظريني... ألقاكِ قريبًا."
أغمضتُ عيناي لأشعر بالهواء في الغرفة قد جثم على صدري، وبقلبي تنهشه نبضاته البطيئة كجُندٍ مجروحٍ لا يقوى على التحرّك..
لكنك تخليتَ عني بسهولةٍ لم أتوقعها يا شون!
تُرى كم عليّ أن أنتظر؟!
إن كان كل ما حدث مجرد هلوسة، كل ما رأيته وسمعته ولمسته..
فهل قلبي يُهلوس؟
هل هذا الألم الذي يعذّبه يوميًا لإشتياقه لك يا شون هلوسة؟ هل نبضاته الهائجة التي تتسابق كلما رأت طيفك مجرد هلوسة؟ هل شعوري بأنه ينبض لأجلك وحدك مجرد هلوسة؟ فهو لا يفعل شيئًا بعد رحيلك سوى إبقائي حيّة.. على أمل أن ألقاك!
هل قلبي مُصاب بالهلوسة أيضًا؟
*****
آراء؟
توقعات؟
أشوفكوا على خير❤️
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top