الفصل الرابع
4- ليلة عصيبة .
نظفت شاني الأطباق, ثم أنهت عملها في تنظيف البراد, وأعادت إليه الأطعمة التي ما زالت تصلح للأكل فعلاً. أخيراً شقت طريقها عبر البيت المعتم نحو غرفة نومها. أستطاعت أن تسمع صوت خطى تروح جيئة وذهاباً في الطابق العلوي, كما سمعت همدرة رجولية ناعمة. لا بد أن بيرس يحاول جعل بيسي تسترخي. إنه بالفعل رجل عازب, وقد تبنى خمسة أولاد لا يعرفهم .إن أقل ما تستطيع أن تفعله هو مساعدته .
مشت نحو السرير. لابد أن هذه هي غرفة النوم الرئيسية. لماذا أشترى بيرس منزلاً يحتوي على غرف نوم عديدة؟ أتراه فكر بأن ينشئ عائلة كبيرة لنفسه؟ التفكير به وهو يروح جيئة وذهاباً في الطابق العلوي, فيما هو يعانق طفلاً, ويحتضنه بملاصقة صدره .. بدا صورة جذابة جداً. توقفت خطوات بيرس فوق رأسها تماماً, فسمعته يقول لبيسي: "أعلم أنه يسبب لك الحكاك . لكننا جميعنا بحاجة إلى النوم".
بعدئذٍ سٌمع النشيج من جديد.
" أتعاندينني مجدداً بيسي ! نحن بحاجة لأن نتوقف عن هذا ".
قررت شاني أنه أكثر من مجرد رجل جذاب. إنه رائع !
قالت لنفسها: " اذهبي إذا إلى السرير، وكفى عن التفكير به ".
عبرت نحو النافذه, وسحبت الستائر, رأت بقرة على بعد بضعة إنشات من أنفها. تدبرت أن تبقى صامتة, فيما حدقت البقرة إلى الداخل .أحست بالرضى على نفسها لأنها لم تزعق . أخر شيء تريده هو أن يأتي بيرس راكضاً على الدرج لأنها خائفة من بقرة. حسناً! البقرة في الخارج ,أما هي ففي الداخل. يا لها من بقرة ضخمة جداً. لم تكن البقرة تحدق مستكينة,بل كان رأسها يتحرك إلى الأمام وإلى الخلف ,كما لو أنها مرتعبة . هل تخاف الأبقار؟
بدأت بيسي تزعق مجدداً في الطابق العلوي. من الواضح أن إغواء النوم مع بيرس لم يهدئها. سادت لحظة سكون .إذ توقفت بيسي لإلتقاط أنفاسها ثم بدأت بالصراخ من جديد .
" اخرجي! "
ظنت شاني نفسها لوهلة تتخيل الامور.
" إخرجي من الحديقة ! ".
إنه صوت ولد يصرخ. بدا ذلك كمحاولة لأن تبدو لهجته آمرة. لكن صوته حمل بوادر الخوف بوضوح .
رفعت شاني النافذة إلى الأعلى قليلاً فقط, خشية أن تتمكن البقرة من إدخال رأسها. كان القمر بدراً , فاستطاعت شاني أن ترى الحديقة بوضوح. كان هذا دونالد البالغ من العمر سبع سنوات. إنه الفتى النحيل ذو العينين الخائفتين والنظرة التي تقول إنه لا يثق بالعالم أجمع.صرخت شاني به:"ماذا تفعل هناك في الخارج؟"
استدارت البقرة لتنظر إليها.إنها بقرة كبيرة فعلاً.
" لا يجدر بها أن تكون في الحديقة ".
قال دونالد ذلك وهو يجاهد كي يبدو شجاعاً, ثم تابع : "أحدهم ترك البوابة الحديدية مفتوحة. رأيت ذلك من النافذة . سوف تأكل نبتة الورد التي زرعها بيرس عندما توفيت والدتنا".
خرجت من دونالد حازوقة تخفي نشيجاً, بعدئذٍ قال: "أنا أطردها خارج البوابة ,لكنها لا ترحل".
" دونالد ! إنك صغيرجداً كي تطرد الأبقار.سوف أحضر بيرس ".
رأت شاني أن كتف دونالد تتصلب من فرط عزمه, ثم قال:" إنه منشغل مع بيسي. وأنا لست صغيراً جداً. يمكنني أن أفعل ذلك".
" لكن. . . ".
قال دونالد للبقرة: " اخرجي من هنا ".
لكنه تراجع إلى الوراء ليختبئ خلف أجمة نبتة الكاميليا. بدا الصبي مرتعباً على الرغم من جرأته .
قال شاني لنفسها إن الأبقار غير مؤذية, فيما تذكرت كلمات صديقتها المزارعة. سوف تذهب إلى الطابق العلوي , وتعرض على بيرس أن تأخذ منه بيسي ريثما يحل هذه المسألة. فكرت شاني بذلك ,لكن زعيق بيسي ازداد قوة. هنالك خطران أمامها : الطفلة الباكية والبقرة .كلاهما مرعب بقدر متساوٍ.
" هيا ..أذهبي من هنا! ".
صرخ دونالد بذلك , لكن البقرة لم تتحرك . حسناً ! إنها قادرة على أن تفعل هذا. صرخت من النافذة: "دونالد أهرب إلى الشرفة . سوف أتعامل مع البقرة ".
فكرت شاني أن كلامها بدا عازماً. من حسن حظها أنها ما تزال ترتدي سروال الجينز وسترتها . توجهت عبر البيت المظلم نحو الباب الخلفي. في الخارج بدت الحقيقة واسعة, أما القمر فبدا مكتملاً. استدارت حول المنزل. فاستطاعت أن ترى الشكل الباهت للبقرة .إذ ظهر من خلفها النور المضاء في غرفة نومها. ما زالت البقرة تبدو بالغة الكبر وخطيرة. لكنها لم ترَى دونالد. الشرفة الأمامية للمنزل تبدأ بعد نافذة غرفتها نومها مباشرة. ودونالد ليس على الشرفة. رأت البوابة المؤدية إلى المراعي مفتوحة على مصراعيها. ما دامت هناك بقرة واحدة, فمن المحتمل أن يكون هناك المزيد. نظرت شاني حولها بتوتر, لكن ... لا شيء, إذاً ... بقرة واحدة. حسناً! أين دونالد؟.................
" هيا ...من هنا! ".
جاء صوت دونالد من خلف أجمة الكاميليا. فأخذت البقرة تتحرك باتجاه صوته.إنها ضخمة جداً
" دونالد! ".
صرخت شاني , وقد أقرت لنفسها أخيراً ,بأنها خائفة فعلاً. مهما كان ما أخبرتها به جولز عن الأبقار, وبعدم كونها مؤذية , بدا لها فجأة أنها لا تصدق أي كلمة من ذلك : " دونالد ! ".
أخفض الحيوان رأسه الهائل,وركز كل ذرة من انتباهه على شيء ما خلف نبتة الكاميليا .إنه يقترب ...
" شـ . . . شاني. . .! ".
بدا ذلك همساً مرتعباً, أما بالنسبة إلى ذاك الحيوان فبدا صوت دونالد كصوت المسدس الذي يعطي إشارة الانطلاق. إذ اندفع الحيوان بقوة إلى الأمام.
" دونالد! ".
صرخت شاني وهي تنطلق في الظلام من دون أن ترى شيئاً. كان الحيوان يندفع بقوة نحو صوت دونالد المرتعش , فصدمته شاني على جانبه, فضربته بكل ما أوتيت من قوة حتى أزاحته من مساره. صرخت للصبي: " أدخل إلى المنزل . اركض, دونالد .اركض ".
صرخ الطفل بصوت مرتفع :" بيرس ! بيرس! ".
رأت الحيوان يتأرجح على جانبه . راح يشخر ويتراجع إلى الخلف. يا إلهي ..! ما الذي يفعله مصارعو الثيران؟ هذا المخلوق يستدير ليواجه دونالد مجدداً . دونالد كان يحاول الصعود متخبطاً نحو الشرفة ,لكن الشرفة تعلو عن الحديقة حوالي الثلاث أقدام, أما الدرج فهو بعيد جداً عنه .إنه لن يتمكن من رفع نفسه .بدأ الحيوان يتحرك مجدداً.
" لا! ".
انطلقت شاني إلى الأمام مجدداً صارخة , وراحت تطرق بقبضتيها على جانب رأس الحيوان.
أستدار الحيوان حول نفسه بسرعة كبرى, حتى إن شاني لم تستطع أن تتحرك لتتفاداه. صرخ دونالد مجدداً : "بيرس".
لدى هذا الحيوان قرنان. إنه ثور! قبضت شاني على أحد القرنين , وتعلقت به. تأرجح الحيوان بجموح تام ,وقذفها جانباً , فاستقرت عاجزة على بعد أربعة أقدام من رأسه . تراجع الحيوان لينظر إلى الشخص الذي هاجمه, وأخيراً انحرف عن دونالد. انقلبت شاني على جانبها ,محاولة إيجاد القوة لتقف على قدميها .
" لا! "
دفعت شاني نفسها بقوة إلى جانبها, فانقلبت على الحشائش. أه ,يا إلهي ! صدم الثور كتفها بخبطة مثيرة للغثيان .أحست شاني بشيء ينسحق وبألم حاد واخز, لكنها استمرت في انقلابها على الارض.
فجأة ظهر لاعب جديد على الساحة :" اخرج,اخرج,اخرج".
هذا كان صوت رجل يصيح بحدة.إنه بيرس .جاء راكضاً نزولاً عن الشرفة, وهو يصرخ بأعلى صوته من أعماق رئتيه, حتى ملأت صرخاته عتمة الليل. أجفلت شاني متوقعة الصدمة التالية , لكنها لم تأتِ.
" اخرج!اخرج!اخرج! .
انقلبت شاني مجددا إلى عمق الظلام, ثم تجرأت أن تنظر . كان الثور يحدق بها, وهو يضرب الأرض بحافره كأنه يتحين اللحظة المناسبة للضربة التالية. لكن بيرس وصل إلى جانبه ,وقد ظهرت حدود جسده الخارجية في ضوء القمر. كان يؤرجح شيئاً ما يبدو كالبندقية. فكرت شاني أنه يجدر به أن يطلق النار على الثور, لكنها شعرت بالدوار,ولم تقوَى على التفكير أكثر.
" هيا .. تحرك,تحرك,تحرك! "
اندفع بيرس بقوة نحو الثور, وراح يجلده ببندقيته كما لو أنها سوط .استدار الثور ليواجه بيرس.
" أخرج,أخرج,أخرج! "
لم يعطه بيرس وقتاً للتفكير . وقف مباشرة أمام الحيوان وهو يلوح بسلاحه ويجبره ليسير إلى الأمام . راح بيرس يصرخ , يضرب , يدفع..تراجع الثور, ثم تراجع أكثر. أما بيرس فلحق به. دفعه للعودة إلى الوراء , إلى خارج الحديقة . استدار الثور مرتبكاً , وراح يسير متثاقلاً نحو البوابة. ما إن خرج من البوابة الخشبية الضخمة حتى تأرجحت البوابة وانغلقت بصفعة قوية .رمى بيرس السلاح جانباً.
" دونالد,هل أنت بخير؟ دونالد..! "
راح بيرس يمشي بخطوات واسعة عبر الحديقة ,ثم قفز إلى الشرفة ,فجذب دونالد بين ذراعيه ,وقال:"ماذا بحق الجحيم. . . ؟".
ارتجف صوت دونالد وهو يقول :" شاني. . . ".
" هل أنت بخير؟ "
استطاعت شاني أن ترى شكليهما على الشرفة سوياً. جاء كلام دونالد همساً وهو يقول : " نعم .لقد هاجم شاني .إنها في الأسفل".
" شاني ؟أين؟ "
وضع دونالد بعيداً عنه على مسافة من ذراعيه.
" كان يحاول أن ينطحها . أنا ... أنا أظنه فعل ذلك ".
" أبقَ هنا يا ,صغيري. لا تتحرك ".
قفز بيرس عن الشرفة ,أخذ يسحق الأعشاب ويسير من خلالها باحثاً .
قال : " شاني ...شاني ! أين أنتِ ؟ شاني ...! ".
أرادت شاني أن تتكلم ,لكن صوتها لم يجدِ نفعاً, ثم تدبرت أن تقول : " أنا هنا ".
أطلق بيرس شتيمة ثم أخرى ,فيما غاص بين الأعشاب, وركع إلى جانبها . وضع يده على كتفها ,فأحس بلزوجة الدم الدافئ. توقف عن اللعن .. توقف عن التنفس حتى .
دخلوا جميعاً إلى المطبخ .. الجميع. كانت وندي تجلس على الكرسي الهزاز قرب النار, وهي تحتضن بيسي, أما دونالد فوقف على مقربة من وندي على قدر ما استطاع أن يدنو منها . فيما جلست اَبي عند قدمي دونالد. أما برايس فقرر أن الجميع بحاجة إلى الكاكاو الساخن, فأخذ يحضره ببطء شديد.إذ كانت يداه ترتعدان. شاني نفسها كانت ترتعد بشدة. مزق بيرس سترتها. فكشف عن خدش طويل, أمتد من تحت ذراعها حتى كاد يصل إلى عنقها. حمل بيرس طاساً فيه ماء مع الصابون وراح يغسل جرحها وهو يشتم تحت انفاسه....
[همست شاني :
" ليس أمام الاطفال ".
تكلم بيرس متذمراً, فيما مسح كتفها بالمنشفة بعناية قائلاً: " أنا أقفلت تلك البوابة. كانت مقفلة تماماً. أنا لست غبياً. ثمة من قطع السلسلة الحديدية ".
" ثور ماهر ".
جرش بيرس قائلاً من بين أسنانه: " هذا الثور سوف يصير نقانق ".
ثم هز رأسه قائلاً: " لست أدري ما الذي يجري . هنالك أمور تحدث,ولست أفهمها ".
كان بيرس يتفحص جرح شاني ووجهه عابس ,فتابع : " لا أظن أن الجرح بحاجة إلى خياطة, لكن ربما نحن بحاجة لأن نأخذك للمعاينة "
" لسنا مضطرين الى ذلك. فقط ضع ضمادة على الجرح, الضمادات سوف تجعلني أتحسن ".
نظرت شاني نزولا نحو عيني اَبي الواسعتين ,وقالت: " ألأ تجعلكِ الضمادات تتحسنين؟ ".
ردت اَبي : " وحبوب الجيلاتين المحلاة أيضاً... هنالك ضمادات في الحمام ".
عانقت اَبي رجلي دونالد أكثر قليلاً ,ثم نهضت على قدميها بسرعة . بدا كأنها تقدم تضحية شخصية وهي تقول : " سوف أحضر الضمادات , لكنني لست أعرف بشأن حبوب الجيلاتين المحلاة ".
فكرت شاني, يا لهؤلاء الأطفال..! إنهم أكثر الاطفال شجاعة . استطاعت أن تفهم تماماً لمَ لم يرغب بيرس بأن يفصل بينهم . طالبت شاني قائلة: " هل لدينا حلوى الجيلاتين؟".
قال بيرس بأسف: " لا. إنه تقصير من جانبي ".
نظرت شاني إلى دونالد قائلة :" أي نوع من الآباء هو هذا الذي لا يوفر حلوى الجيلاتين لأولاده؟".
قال دونالد مدافعاً : "إنه رجل طيب, لكنه بحاجة إلى مساعدة".
ابتلعت شاني ريقها. كانت كتفها تؤلمها ألماً مبرحاً, لكن الوقت ليس مناسباً للتذمر . بدا دونالد شاحباً جداً, وكأنه على وشك أن يغمى عليه. فكرت شاني أنه بحاجة إلى من يحتضنه حتى يزول الخوف والرعب من داخله, لكن تصلب كتفيه الصغيرتين الثابتتين يدل على أنه لن يتقبل الاحتضان ,لا منها ولا من بيرس . إنه يتمالك نفسه بشجاعة. قالت شاني : " قلم حبر وورقة.دونالد , بسرعة".
" ماذا. . .لماذا؟ ".
عادت اَبي حاملة الضمادة المطاطية . فبدأ بيرس بفتح الضمادة ويلصقها على جرحها. قالت شاني بجرأة :" سجل في رأس القائمة : " حبوب الجيلاتين المحلاة ".
قال بيرس : " الغرض التالي على القائمة: مكنسة ".
رمشت شاني, وسألته: " هل نحن بحاجة ألى مكنسة؟ ".
" كسرت المكنسة عندما دفعت البوابة لأقفلها ".
" أكنت تحمل مكنسة؟ ظننتك تحمل بندقية . يا بطلي ! بطلي الذي يحمل عصا المكنسة ".
تعليقها دفع بيرس إلى الابتسام. جعلها تشعر بإحساس جيد. تابعت تقول لدونالد : " مواد لتحضير الهوت دوغ ".
سأل بيرس : " لماذا الهوت دوغ؟ ".
" لأنني أشعر برغبة في تناول الهوت دوغ, كما أنني جريحة, ويحق للأشخاص المجروحين أن يطلبوا ما يرغبون به ".
قال دونالد بحذر : " أنا احب الهوت دوغ ".أخبرته شاني وهي تبتسم ابتسامة عريضة : " أظنه يصنع من لحم الثيران. دون حصتين مزدوجتين من الهوت دوغ حالما نتمكن من الوصول الى المتجر ".
حذرها بيرس قائلا :" قد يكون ذلك الأسبوع القادم .فأنا أطلب توصيل البقالة إلينا يوم الإثنين".
تنهدت شاني قائلة :" يوم الإثنين بعيد جداً. لو كانت المتاجر مفتوحة الآن لرغبت بتناول الهوت دوغ حالاً, لكنني مستعدة أن أقدم تضحية شخصية هائلة, وأن أنتظر يوم غد. وندي وأنا يمكننا أن نعتني بالمنزل. وأنت يمكنك أن تأخذ دونالد وتقوم معه برحلة تسوق. رحلة بحث عن الهوت دوغ ".
" هل يعني هذا أنك ستبقين لبعض الوقت ؟ ".
سألت وندي ذلك , وبدا كل من في الغرفة وكأنه يحبي أنفاسه .هل ستبقى ؟ حدقت شاني بأرجاء الغرفة فرأت خمسة وجوه محتاجة, بل ستة لو احستبت بيرس الذي يحاول أن يبدو غير مهتم . فكرت أنه يبدو محتاجاً أيضاً . قالت بلا مبالاة ومن دون أن تنظر إليه: " إن كنت لا تمانع , جئت إلى هنا لأداوي عزة نفسي الجريحة , والآن كسرت كتفي أيضاً وعلى أن أتعافى. عملية التعافي قد تستغرق بعض الوقت."
تطلب الأمر بعض الوقت حتى استقر الجميع وذهبوا إلى أسرتهم. جلست شاني على الكرسي الهزاز الكبير بالقرب من النار , فيما وضع بيرس أولاده في الأسرّة. غرف نوم الأطفال تقع في الطابق العلوي .استطاعت شاني أن تسمعم يتكلمون بأصوات مكتومة, أسئلة الأطفال ,وأجوبة بيرس المهمدرة,ونحيب بيسي الشاكي.. صوت وندي الذي يبدو متحكماً مسيطراً.
أخيراً حل السكون في الطابق العلوي .فكرت شاني أنه يجدر بها أن تذهب إلى الفراش, لكن الكرسي القديم الذي يهزها بلطف وقرقعة النيران داخل الموقد أشعراها بالاسترخاء . فكرت أن تغفو حيث هي, فذلك أفضل بالنسبة إليها من ذهابها إلى سرير غريب..قال بيرس وهو واقف في مدخل الباب :" لماذا لستِ في السرير؟".
قالت شاني من دون اقتناع حقيق:" سأذهب حالما أشعر بالدفء".
بدا بيرس قلقاً ,لكنه ظل واقفاً بالباب من دون أن يدنو أكثر . قال : " أترغبين بتناول العصير؟".
" لا .أنا ...لا ,شكراً ! هل قلت إن البوابة كانت مغلقة؟ "
تردد بيرس لكنه بقي في مكانه وهو يقول: " تحققت منها مرتين .ثم قطع السلسلة بقاطعة الاقفال, وكأن أحدهم حرك كلايد وأثاره. أنا لن أهدد بذبحه وبتحويله إلى نقانق بعد الآن.إنه واقف بملاصقة السور,وهو يرتعد بقدر ما ترتعدين أنت تقريباً. هنالك سلسلة من الجروح الضغيرة على خاصرته. أظن أن شيئا ما كمسدس الخرز قد أستخدم لأذيته. في العادة, حتى لو فتحت بوابة كلايد, فهو لا يلاحظ أنها مفتوحة. لكنك لو فتحتها , وبدأت بإطلاق الكرات الصغيرة نحوه, فهو قد يصاب بالرعب. ولو استمر بالتألم من دون أن يفهم السبب, فمن المرجح أن يهاجم أي شيء متحرك أمامه
راحت شاني تحدق به مرعوبة, وقالت :" لكن هذا .. هذا عمل إجرامي. ذلك أمر شنيع".
قال بيرس بتجهم:" أظنهم يستهدفونني . إنهم يفترضون أنني أنا من سيخرج لتفقد الماشية التي تتجول بحرية في الحديقة .لن يفترضوا أن صبياً في السابعة من عمره هو من سيخرج".
" هل يكرهونك بهذا القدر؟ ".
رد بيرس بعبوس: "ليست الكراهية .كل ما في الأمر أنهم لا يعرفونني. أنا مليونير أتيت لتمضية عطل نهاية الاسبوع, وقد أوقفت مسار إنشاء مصنع يحتاجه هذا المجتمع. وفضلاً عن كوني غنياً وغبياً, أجبرت المجتمع على خسارة مصنعه, فأنا أيضاً أب عازب تراقبني مصلحة شؤوت الاطفال لتنال مني بتهمة إهمال الاطفال. نعم, إنهم يريدون لو أنني أوضب أغراضي وأرحل من هنا ".
سألت شاني بحذر: " اذاً لماذا لا تفعل ذلك؟ بإمكانك أن تعود إلى عملك في الهندسة المعمارية في المدينة , أما الأطفال فبإمكانهم أن يذهبوا إلى المدرسة ثم إلى حضانة ترعي الأطفال خلال النهار .يمكنك أن توظف مدبرة منزل بسهولة أكبر في المدينة".
هز بيرس رأسه وقال:"لن ينجح الأمر, أو ربما لستُ واثقاً من أنه قد ينجح. ربما قد أصل إلى هذا القرار ,لكن مورين أردات بشدة أن ينال هؤلاء الأطفال مساحة ليتمتعوا بحرية".
ترددت شاني,ثم قالت: "حسناً! على الأقل سأكون أنا موجودة لبعض الوقت...إذا أردتي".
سادت لحظة من الصمت ,ثم قال بيرس بقوة حادة جعلت شاني تطرف بعينيها :"أنا أريدك فعلاً".
تدبرت شاني أن ترسم ابتسامة على وجهها ,وقال :"حسناً ! شكراً لك ".
سألته بعد لحظات من الصمت :" ألست في سياق البحث عن زوجة؟ .
" ما رأيكِ أنتِ؟ لدي خمسة أولاد, وأنا حتماً ... بحق الجحيم ! لست بحاجة إلى زوجة أيضاً.
تدبرت شاني أن تقول:" أنا محظوظة لأنك أخبرتني. إذ بدأت التخطيط مسبقاً لحفل الزفاف".
جعله هذا الكلام يجفل ,فقال:" اللعنة ! شاني,أنا لم أقصد..".
علقت شاني بهدوء:" لا بأس ! أنا قمت بما يكفيني من التخطيط للزفاف .. ما يكفيني طوال العمر مع مايك الذي تلقى دلو الماء المثلج؟ ".
استنشقت شاني نفساً عميقاً ,محاولة تصفية ذهنها . قررت أن تكشف جميع أوراقها, فقالت :" كم كنت غبية ! أنا حقاً في ورطة. أستخدمت كل قرش أملكه حتى أعود الى استراليا, فوجدت أن والدي أجرا منزلهما , أما صديقتي الحميمة فتقيم في شقة صغيرة جداً .كنت خارج البلد لمدة سبع سنوات,وليس هنالك أي شخص اَخر يمكنني أن أتطفل عليه بإستثناء روبي و سيداتها اللواتي يشتغلن بالتطريز .
قال بيرس :" يا لها من شقة علوية تقيم فيها! إنها أربعون قدماً من الفخامة ,تطل على مرفأ سيدني".
عبست شاني ,وقد شت تفكيرها فجأة, روبي...! روبي التي لم تمتلك يوماً قرشاً واحداً باسمها , فجأة صارت تحتال في شقة علوية في الضاحية الأكثر تميزاً في سيدني: " هل قدمت لها تلك الشقة؟ ".
" نحن جميعاً فعلنا.ألم تخبرك روبي عن بقية أبنائها؟ ".
" بالطبع فعلت ".
تذكرت شاني الصورة الفوتوغرافية التي كانت روبي تحملها معها إلى كل مكان . روبي العجوز اللطيفة, التي كرست كل دقيقة من حياتها لأولادها ." روبي اَوتنا , وقدمت لنا كل ما نحتاجه. بمناسبة عيد مولدها السبعين قدمنا لها الشقة, شرط ألا تبيعها وألا تهبها للمشردين. لم يعد مسموحاً لها أن تأوي المشردين ".
" غير مسموح؟! "
" اَن الأوان لأن نحميها من نفسها . لو لم نشترط ذلك , هل كنتِ تأملين باستخدام غرفة الضيوف لديها الاَن ؟ ".
تنهدت شاني, وقالت : " لا . حسناً! لولا صفوف تعليم التطيريز, فهي لا ترفض أي شخص يطلب المأوى ".
" هل أنت فعلا يائسة؟ "
" يمكنني أن أحصل على وظيفة. مع أن عالم الفنون صغير جداً ,والناس يعرفون أن صالة العرض الخاصة بي فشلت.
" إذاً سوف تقبلين بهذه الوظيفة؟ ".
" أظن ذلك... لا بد أنني مجنونة لأبقى هنا. حقاُ ! لابد أنني بلهاء. جل ما علي فعله هو أن أتصل بوالدي, وسأكون بخير , لكنني أعرض عليك أن أبقى هنا ".
" لماذا؟ ".
" لأن دونالد كان سيتولى أمر ذاك الثور بنفسه , بدلاً من أن يحملك على ترك أخته الطفله لتفعل ذلك , ولأن وندي تبدو أكبر سناُ من عمرها الحقيقي , ولأن هذا المنزل في حالة من الفوضى ..كما أنني بحاجة إلى وظيفة ,لذا يجدر بي أن أؤدي وظيفة تستحق أن اقوم بها . أتقول إنك ثري؟.".
إنه تغيير مفاجئ في التكتيك جعله يرمش قائلاً : " أنا .. نعم ".
" هل يمكنك أن تتحمل نفقات أخذنا جميعاً إلى شاطئ البحر؟ "
" البحر؟ "
" هؤلاء الأطفال يبدون كما لو أنهم يتوقعون أن يهبط ثقل العالم على رؤوسهم في أي لحظة. هل ابتعدوا عن هذا المكان منذ وفاة والدتهم؟ ".
" لا, لكن..."
" إنها فترة العطلة المدرسية . هاك إذاً! خذنا في رحلة الى الشاطئ ".
" كيف عساني اَخذ خمسة أولاد, من ضمنهم طفلة تعاني من مرض الجدري , إلى البحر؟ ".
قالت شاني بنفاذ صبر : " سوف اَتي أنا أيضاً . أنا أحب الشاطئ. الأطفال يتعافون من مرض الجدري, وأنا أتعافى من الإذلال. وأنت بحاجة لأن تعمل . ما أقترحه هو أن نستأجر شقتين لمدة أسبوعين تقريباً . واحدة لك وأخرى لي. على الشاطئ تماماً في مكان راقٍ . أترى كم أبرع في صرف أموال الاخرين؟ ".
" وكيف سينجح ذلك؟ ".
" خلال الليل سوف أتشارك في الشقة مع الفتيات وأنت ستتشارك مع الصبيان. أما خلال النهار فبإمكان الأطفال أن يبقوا معي . وسوف نلعب على الشاطئ ".
" أترغبين في الذهاب الى الشاطئ؟ ".
قالت شاني بأسف: " عانيت من الإنفلونزا . ذاك الصباح حين وجدت مايك .. حسناً ! تلك كانت بداية ثلاثة أسابيع من المرض . وكل يوم منذ ذاك الحين , وأنا أفكر بالبحر. منزل والدي يقع على البحر شمال سيدني . كنت متوجهة إلى هناك , فانتهيت تحت نبتة الكاميليا اللعينة بإنتظار أن يحولني كلايد إلى نقانق, وجل ما استطعت أن أفكر به حينها هو أنني لم أقصد الشاطئ بعد ".
رقت ملامح وجه بيرس للحظة , وابتسم ابتسامة لطيفة رقيقة جعلت شيئاً ما في داخلها ينقلب.
" يمكنني أن أقرضك المال لتذهبي إلى الشاطئ. لا ! إنه ليس قرضاً, فبعد كل ما فعلته لأجل عائلتي اليوم ,أنت تستحقين الحصول على إجازة من دوننا ".
قالت شاني بفخر وهي تهز رأسها :" قد أكون غبية, لكنني عالقة الاَن. كل شيء أو لا شيء".
" لكنك لا تريدين الالتزام المطول بهؤلاء الأطفال ".
" هل تمزح؟ بالطبع لا! فقط أسبوع أو أسبوعان على الشاطئ ريثما نتعافى....."
دس بيرس يده إلى أعماق جيبيه..أخيراً قال: " أنا فعلاً بحاجة لأن أعمل . هنالك مشروع علي أن أفاوض عليه مجدداً. لو كان بإمكاني أن أحصل على وقت لذلك".
أقرت شاني :" يمكننا ان نبقى هنا,لكننا جميعاً بحاجة لأن نغير الأجواء".
" حسناً ! أنت على حق . سوف نتحدث عن ذلك في الصباح ".
ترك بيرس الباب , فعبر نحوها حيث جلست رابضة أمام النار.قال :"ما زلتِ ترتعدين".
ردت شاني :" أنا فقط غير معتادة على الثيران ".
" لا أحد معتاد على الثيران . كاد الثور يقتلك , لكن لو لم تخرجي إلى الحديقة لقتل دونالد ".
تذمرت شاني قائلة :" يا إلهي! أهذا هو نوع الكلام الذي تقوله كي تخفف من ارتعادي؟ ".
" شاني ,إنك مرهقة جداً ".
تردد بيرس للحظة ,ثم هز كتفيه وكأنه يزيل عنه أية حيرة يشعر بها. وقبل أن تدرك شاني ما ينوي عليه ,انحنى إلى الأمام , وحملها بين ذراعيه , ممسكاً بها بملاصقة جسده .
" ماذا بحق...؟ ".
" سوف اَخذك إلى السرير, لكن ليس في غرفة مورين . لم يدخل أحد إلى الغرفة منذ وفاتها . هنالك سرير إضافي في غرفة وندي . أظنك بحاجة الى الرفقة كي تنامي ".
ثم ابتسم , وقال :" أود أن أعرض عليكِ خدماتي , لكن سريري مشغول للتو . أنا وبيسي.. فتاة أحلامي ".
حملها بيرس إلى السرير الإضافي الموجود في غرفة الفتيات . ساعدها على خلع ما تبقى من سترتها الواقية من الهواء . بدا بيرس مستعداً ليساعدها أكثر ,لكنها تيقظت فجأة.
" أنا بخير ".
فجأة تغيرت الأجواء بينهما . سمحت له بأن يحتضنها فيما صعد الدرج لأنها تحتاج إلى الدفء ,لكن فجأة حل التوتر ... انسحب بيرس , وتركها تقوم بعملها . استطاع أن يرى أنها مرتبكة , وهكذا كان هو بدوره .
عاد بيرس إلى غرفته. فوجد أن بيسي نائمة . هذه نعمة مزدوجة قال لها : "عندما أكون مستيقظاً يجدر بك أن تستيقظني أيضاً , لا أن تبدأي بالعويل ما إن أخلد إلى النوم .
لكن بيسي لم تكن تصغي , إذ حشرت قبضتها المكتنزة في فمها , وراحت تمتص بجدية مفاصل أصابعها ,فيما غرفت في نوم عميق . يجدر به أن ينام هو أيضاً . لكن أموراً كثيرة حصلت بسرعة كبرى. ما زالت ضربات قلبه تدق بمعدل مرتفعٍ ,ولن تتباطأ في وقت قريب. عندما وضع يديه تحت نبتة الكاميليا باحثاً عن شاني , وأحس بالدم, انتابه أسوأ الأفكار لبضع لحظات شنيعة , الى أن حملها نحو الشرفة ,وتمكن من رؤية مدى الضرر . قال بيرس لبيسي النائمة : " لستُ بحاجة إلى شخص آخر أقلق عليه . مشردة سلبها صديقها الحميم كل ما تملكه ,وتركها والداها بمفردها".
تابع محدثاً نفسه : " هل تمزح؟ إنها امرأة راشدة . تناهز الثلاثين . لا بد أن تكون كذلك . هل رأيت كيف نظمت التنظيف؟ إنها ليست طفلة . أما طريقتها في النظر نحوي ...
تحركت بيسي , وأصدرت صوتاً ,ثم لوحت بقبضتها الصغيرة في الهواء. تناولها بيرس, فلفت أناملها حول إصبعه الأوسط وتعلقت به.
جلس بيرس مستقيماً بسرعة,لدرجة أن بيسي استيقظت وحملقت به, ثم ابتسمت تحت ضوء القمر , ورفعت ذراعيها ليحتضنها ويعانقها .
" تعالي! ".
قال بيرس ذلك مطيعاً . رمى الأغطية إلى الوراء , وقال : " دعينا نقصد الإنترنت . سوف أبحث عن مكان محدد. مكان أعلم بشأنه مسبقاً ".
أخبر بيسي: " روبي تقول إنه مكان تحدث فيه المعجزات .دعينا نأمل أن تكون على حق.........
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top