الفصل الثالث

3– من ينقذ الآخر .

ساد صمت مطول , كانت شانى قد فتحت باب فرن الموقد, فانتشرت الحماوة فى اجواء المطبخ ,فيما قرقعت النيران خلفهما.

" هم ليسوا أولادك".

اخيرا قالت شانى ذلك , من دون أن تزيح عينيها عنه .
قال بيرس " لا ".

لم يكن هناك شئ اضافى ليقوله. علقت شانى بنعومة: " تساءلت عن ذلك فعلاً , فهم لا يشبهونك , انهم ينسون مناداتك باسم بابا , كما أنهم لم يعرفوا اذا كنت تمتلك قرصا مضغوطا لأغانى "آبا" .

"آبا؟".

" لا عليك , ظننت انهم كانوا ينادونك باسم بيرس , وأنت أجبرتهم على تغيير ذلك لأجل مصلحة رعاية شؤون الأطفال".

" بالفعل جعلتهم يغيرون ذلك من اجل مصلحة رعاية شؤون الاطفال

" لكن..".

نهض بيرس ثم قال " سوف أعد القهوة " .

اومأت له شانى موافقة " من الأفضل أن تخبرنى كل شئ".

انشغل بيرس باحضار الفناجين والابريق والقهوة الفورية . بعدئذ قال" لقد تزوجت أمهم ".

فكرت شانى فى الامر وقالت " اذاً بيسى هي ابنتك؟".
" لا! لا أحد منهم ابنى أو ابنتى".

" متى تزوجت بوالدتهم ؟" منذ سبعة اشهر , بعد ولادة بيسى مباشرة وقبل وفاة مورين بثلاثة أسابيع "
ردت شانى بصوت خافت " آه فهمت ".

بدا بيرس غاضباً. كان يدير لها ظهره لكنها استطاعت ان تشعر بالتوتر والغضب ينضحان منه .
حمل أكواب القهوة نحو الطاولة . فكرت شانى شاردة الذهن , أنه حقاً وسيم المظهر , ذاك الشعر مشعث جداً , بمقدورها أن تمد يدها نحوه فتلامسه ...
قالت عوضا عن ذلك " اخبرنى عن مورين".

" كانت شقيقتى بالتبنى نوعاً ما ".

سادت فترة من الصمت ..نوعا ما..شقيقة بالتبنى ...هممم!

" روبى لا تتبنى سوى الصبيان ".

" إنها رائعة ...عمتك روبى ".

" إنها لطيفة مع الجميع ".

" أنا أجرؤ على القول أنك وروبى تتمتعان بعلاقة شخصية لطيفة ".

اختنق بيرس بقهوته , فابتسمت شانى ابتسامة عريضة، وتابعت " يجدر بك أن تطلعنى على بقية الموضوع ".

" ليس مفيداً جدا ".

" أتريدنى ان انهى عملى بالبراد؟".

" أنا..".

" حسنا سوف أنهى عملى بالبراد على أى حال ".

قالت شانى ذلك ووجهت له ابتسامة تنم عن الأسف , تابعت قائلة " أنا مهووسة بإتمام عملى وإنجازه جيداً, لكن أخبرنى والا انفجرت ".

جذبت أحد كراسى المطبخ الإضافية , ثم أخذت بضع رشفات من القهوة , وأجبرت نفسها على الاسترخاء . قالت " إنك أحد الأطفال المشردين الذين اهتمت بهم روبى , لابد ان ذاك كان صعبا".

هز بيرس رأسه وقال " أظن ذلك ...كانت لدى أم لم ترغب بى , و رفضت أن تعطينى للتبنى .الأوقات التى أمضيتها برفقة روبى لم تكن صعبة . أنت لديك عائلة عادية لطيفة".

" هل تمزح ؟".

" حسنا ...عائلة فيها أم وأب، أتخيل أنهما كانا يرغبان فى وجودك ".

فكرت شانى بوالديها الغريبى الأطوار , ثم ابتسمت ابتسامة عريضة وقالت " نعم" .

" أنا كنت طفلا غير مرغوب فيه ".
نظرت شانى على وجهه المتجهم , رأت أن خصلة من شعره سقطت فوق عينه اليسرى , إنها تود أن ...
كفى عن هذا ! تابع بيرس يقول " والدتى حملت بى خلال علاقة غرامية أقامتها مع رجل ثرى جداً ,اعتقدت أنها لو حملت منه سوف تجبره على الزواج منها , لكنها كانت مخطئة ".

تنهد بيرس وتابع " على أى حال، لم يكن هناك فحص لاختبار وجود الأيدز حينها و ..قٌضي عليها. وضعتنى فى عهدة دار التبنى , لكنها كانت تأخذنى إليها مجدداً كلما بدأت علاقة جديدة , كى نلعب دور العائلة السعيدة . إحدى تلك العلاقات تضمنت مورين ".
" لست أفهم ".

" حسنا ...! " .

هز بيرس كتفيه وتابع: " لا فكرة لديك عن الرجال الفاشلين الذين كانت والدتى تقع فى حبهم . جاك ربما كان أسوأهم .لكن كانت لديه ابنة أيضاً , مورين . انتهى به الأمر لأن يهجرها , حين تعرّف بوالدتى كانت مورين فى التاسعة من عمرها , وأنا كنت فى السابعة ".
" إذا ؟".
حثته شانى ليتابع , فقد بدا بيرس غارقا فى أفكاره فى مكان بعيد من الماضى وهو يحدق أمامه مباشرة .
" حسنا ! انها قصة مرعبة . جاك كان سادياً , لكن والدتى اعتقدت أن كل ما يفعله كان رائعاً . لذا عشنا تحت رحمته , مورين كانت أكبر منى سناً وأكثر صلابة , ولسبب ما قررت أن تكون لى الأخت الكبرى , واعتقدت أن من الرائع أن يكون لها أخ .

كانت موجودة دائما لأجلى , تلك كانت أطول العلاقات الغرامية التى أقامتها أمى , بقينا سوياً لمدة سنتين , فى كل مرة كان ...
مرة ثانية هز بيرس كتفيه قبل أن يتابع " حسنا! كانت تهبّ على جاك كالنمرة , تعضه , تخدشه , تصرخ به ...كان ينتهى بها الأمر أن تنال ضرباً مبرحاً مثلى تماما ".

" ماذا بعد ؟".
قال بيرس بحزن " انفصلت والدتى عن جاك ووضعنا فى دارين مختلفتين للرعاية . حاولنا أن نبقى على اتصال .كانت مورين تراسلنى كل ستة أشهر أو ما يقاربها , كنت أتلقى رسالة مكتوبة بخربشة تطلعنى على ما تفعله بحياتها . حين وصلت إلى سن الرشد , توقفت عن الرسائل , آخر رسالة بعثتها لى قالت فيها أنها التقت برجل أحلامها وأنها ستنتقل للإقامة فى بيرث ".

" لكنه لم يكن . . . رجل أحلامها ؟".

قال بيرس بمرارة " مورين كانت مندفعة وكأنها مبنية على أساس تدمير الذات ".

" المخدرات؟".
" لم تتعاطى المخدرات , ذاك كان سيعتبر بمثابة الانتحار فهى كانت تعاني من مرض السكرى ".

" آه ".

قال بيرس بحذر " أرادت إنجاب الأطفال فقط . رغبت طيلة حياتها أن تحظي بعائلة ,ربما كانت لهذا السبب تدافع عنى بشدة , أرادت أن تحصل على عائلة مهما تطلب الأمر ".

" لكن مرض السكرى ".

"هذا ما قصدته بالتدمير الذاتى , بدأ جسدها يتلاشى شيئا فشيئا بعد كل طفل انجبته , الا انها بكل بساطة لم تبد قادرة على ردع نفسها ".

تردد بيرس قبل أن يتابع " كلما تعرفت إلى نذل ما كانت تظن أنه الإستجابة لصلواتها , فينتهى بها الأمر للحمل . عاشت فى غرب استراليا , وفقدنا التواصل تماماً . منذ أقل من سنة , جاءت بحثاً عنى . كنت أبلي حسناً فى عملى كمهندس معمارى فى سيدنى . اشتريت هذا المكان لتمضية عطلة نهاية الأسبوع وكنت راضياً جدا .

" وما الذى حصل ؟".

" بدأت كليتاها تتراجعان . كانت حاملاً وترفض وضع حد لحملها , مع أن الحمل سوف يدمر كليتيها , جاءت إلى مكتبى فى سيدنى فأطلعتنى على كل ما يتعلق بحياتها وطلبت منى المساعدة ".

" آه , بيرس ! ".

" أصبحت مورين مريضة، إلى درجة أنها كانت تواجه خطر أن يتم وضع أطفالها فى دور التبنى , لم تتحمل فكرة أن تدعهم يعيشون تلك الحياة التى حظيت هى بها . حسنا! لعلنى فهمت دوافعها , فيما راحت تتكلم , عادت بى الذاكرة إلى تلك المرات التى اضطرت الى أن تتحمل الضرب لأجلي , لم يكن بيدى خيار آخر ,هنالك مركز يُعنى بغسل الكلى فى موريبا . يبعد مسافة نصف ساعة من هنا . عرضت عليها أن تقيم هنا، مادامت تحتاج إلى ذلك ".

حدقت شانى نحو بيرس للحظة طويلة جداً , ثم ابتسمت وقالت " لطالما ظننت أنك فتى طيب , على الرغم من بذلتك ذات الخطوط الرفيعة ".

رد لها بيرس الابتسامة , لكن تلك الابتسامة كلفته قليلاً .
" حسنا...طلبت منى القصة بأكملها , لذا ستحصلين عليها , كنت للتو قد بدأت أعانى مشاكل مع جيراني هنا . عندما اشتريت هذا المنزل، كانت إحدى كبرى شركات منتوجات الحليب أهم المزايدين على شراء المكان , كى تبني مصنعها الجديد , ما يعنى أن السكان المحليين لن يعودوا مضطرين إلى دفع أجرة نقل الحليب إلى المصنع , لكننى وقعت بحب هذا المكان , فدفعت ثمناً له أكثر من قيمته الحقيقية , لذا انتقل المصنع إلى مكان آخر . حالما امتلكت المكان جاء الأطفال الأربعة مع والدتهم التى بدت مريضة جداً وبائسة , وكانت حاملاً من جديد , كنت أنا أقود سيارة رياضية صفراء مشرقة فى حين بدا الأطفال متضورين جوعاً, مورين لم تكلم أحداً عن خلفية ماضيها , ولم يسألنى أحد قط عنها , حكموا علي وألصقوا بى كل أنواع العلل تقريبا .

ابتلعت شانى ريقها وقالت " أنا آسفة جداً ".

" لا داعى لذلك . على أي حال مورين أنجبت بيسى , ثم ازداد مرضها سوءاً , علقنا آمالنا فى الحصول على فرصة لزراعة كلية لو حظينا بمتبرع , لكن ذلك لم يحصل".

" إذا ...الزواج ؟".

" مصلحة رعاية شؤون الأطفال كانت قد اعتنت بهؤلاء الصغار من قبل، خلال الفترات التى كانت فيها مورين مريضة وبائسة جداً , لذلك صار الموضوع مدوناً فى سجلاتهم . ليس من الصعب فهم ذلك . هناك أشخاص جيدون فى تلك المؤسسة يهتمون ويقلقون عليهم فعلاً . صار المجتمع المحيط بنا يتكلم بالسوء عنا , مورين بدأت تعتقد أنها حالما تموت فسوف يرسلون أطفالها إلى دور التبنى , بغض النظر عما أريده أنا .

" هنالك بعض ..."

بدأت شانى تتكلم بحذر لكن بيرس تابع كلامه قبلها قائلا: " لا تقولى لى أن هنالك دوراً رائعة لتبنى الاطفال . الأهل بالتبنى هم بعض أفضل الأشخاص فى العالم ,إنهم كرماء , طيبوا القلب , يستقبلون كل الوافدين الجدد على الرغم من أن التعلق بهم قد يكون مؤلماً , اذ تنفطر قلوبهم مراراً وتكراراً ".

" يا إلهي هل أصبت وتراً حساساً ؟".

تدبر بيرس اعتذارار وابتسامة قائلاً: " آسف".

أخفض صوته وتابع " لو لم أحظّ بروبى لكنت فى ورطة كبرى الآن ...لكننى كنت بمفردى وهؤلاء الأولاد ليسوا كذلك . على الرغم من أن مورين كانت عديمة الكفاءة فى أغلبية الأحيان , إلا أنهم يحبون بعضهم البعض , وسوف يدافعون عن بعضهم البعض حتى الموت , يجب ألا يتم التفريق بينهم مطلقاً , وهنا تكمن المشكلة , أتظنين أن هناك من هو مستعد لأخذ الأطفال سوياً ؟".

" أظن ...ربما لا ".

" وندي كانت راعية مورين الأساسية لسنوات , تطلب الأمر وقتاً طويلاً لأقنعها أننى أستطيع المساعدة , وحتى الآن هى لا تثق بى تماماً . لم عساها تفعل ؟ لكننى بكل بساطة لم أحتمل".

" وبالتالى تزوجت من أمهم ".

" نعم. تحركنا بسرعة، قبل أن تصبح مورين مريضة جداً , تزوجنا , ثم قدمت طلباً حتى أتبناهم بصورة قانونية , مورين ملأت كل الأوراق بموافقتها , ووكلتنى لأصبح الوصي القانونى عليهم ".

" آه. بيرس ! ".

" فكرت أن أضع الأطفال فى منزلى , وأوظف مدبرة للمنزل قادرة على إدارة المزرعة , وأن آتى إلى هنا خلال عطلات نهاية الأسبوع ".

" لكن ؟".

" ألديك أي فكرة كم يصعب إيجاد مدبرة منزل لخمسة أطفال فى هذا المجتمع؟ وجدت امرأة قامت برعايتهم لفترات متقطعة لبعض الوقت , لكن الأطفال كرهوها , فاستقالت منذ اسبوعين. والآن أصابهم الجدرى , وسيتبع ذلك العطلة المدرسية . أنا أدور فى دوامة ".

" أرى ذلك ".

" بعدئذ قالت روبى أنها اتصلت بك وأقنعتك بأن تجربى , وها أنا قد حظيت بيوم واحد من رعاية الاطفال , وبمطبخ نظيف، وببراد نظيف لامع , وبأطفال لم يؤخذوا منى اليوم , وأنا ممتن لذلك ".

تردد بيرس ثم قال " شانى ! هل أجرؤ أن أطلب منك أن تبقي ؟".

" أنا لست مدبرة منزل ".

" إنك بارعة جداً فى الفرك والتنظيف ".

" هذا فقط لأننى بحاجة إلى تفجير غضبى ".

" روبى تقول أنك فنانة ".

" أنا لست كذلك ".
" أحقاً ؟".

" أنا أحب العمل بالطلاء ورشّه , هل رأيت البقرة التى رسمتها بعد ظهر اليوم ؟ إنها ممتازة باستثناء أن إحدى قوائمها تبدو أطول من البقية , قمتُ بقياسها , ووجدت أنها ليست أطول. المشكلة تكمن فى زاوية الرؤية , لكننى أستطيع أن أتدبر أمرها ".

" إذا أنت رسامة تجريدية ؟".

" حصلت على إجازة فى الفنون الجميلة , عملت مشرفة فى معرض فنى صغير هنا , ثم فى معرض أصغر فى لندن , ثم ادخرت ما يكفى من المال حتى أفتح معرضاً خاصاً بى . كان صغيراً جداً , لكنه كان مكرسا للفنون التى أحبها , والداي أقرضاني المال فكنت أقتصد إلى درجة أنى ما عدت آكل , وضعت كل ما لدى فى ذاك المعرض ".

" وبعد....؟".

" كما قلت لك , قبضت على صديقى وهو يقيم علاقة حميمة مع إحدى عارضاتى . قمتُ برمى المياه المثلجة عليه , فانتقم منى باستخدام بطاقاتي المصرفية . كان أمامي خياران , إما أن أخاطر بمال والدي وأستمر بالمحاولة، أو أن أنسحب, وهكذا انسحبت.

تردد بيرس ثم سألها " ألم تحاولي أبداً استعادة مالك ؟".

" قال لى أنه سيرفع دعوى قضائية يتهمنى فيها بالاعتداء ".

قال بيرس بحذر " فهمت , لذا هربت إلى الديار ".

" نعم . هربت إليك ".

" قد يساعدك لو بقيت هنا لبعض الوقت ريثما تستجمعين قواك ؟".

أقرت شانى قائلة: " قد ينفع الأمر , لكننى لا أنوى أن أقع بحب هؤلاء الأطفال ".

" بالطبع لا ".

" أنا لا أهوى الأطفال , وأنا لا أهواك أنت ".

آه ...آه ! لماذا تراها قالت ذلك ؟ جاء كلامها من حيث لا تدري , لكن فجأة بدا لها من المهم أن تقوله .
سُمع نشيج من الطابق العلوي , تصاعد سريعا ليصير صراخاً حاداً . أجفل بيرس، فوضع كوب القهوة من يده متنهداً , ونهض قائلا: " نامت لمدة ثلاث ساعات ... لا يمكنني أن أتوقع منها أكثر ".

" ما الذى ستفعله الآن ؟".

" سوف أعانقها، وأحتضنها حتى تعود إلى النوم ".

مشى بيرس نحو الباب ثم توقف وقال: " شانى ! قدمت لي مساعدة هائلة اليوم , وأنا ممتن لك بعمق . لن أضع المزيد من الضغوطات عليك , لكنك بحاجة إلى سرير تنامين فيه الليلة على الأقل .

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top