الفصل الثالث
اتسعت قزحيتا أمسيهار، انقبض قلبها واعتصر بداخل صدرها، وتشكلت غصة بحلقها تكاد تخنقها، بعد أن سمعت اتهامات تلك السيدة الحامل، السبب غير واضح هل هو صدمة؟ رعب؟ خوف؟ أم مزيج من كل تلك العناصر؟!
التفتت أفوان ناحية لومان لتطلب منه التدخل..
- أيها العجوز..
- ما الذي يثبت أنها من الأعداء أيتها السيدة؟
تكلم لومان أخيرا ونهض من مكانه يتحدى تلك السيدة بكل من نبرته الهادئة ونظراته المرتاحة، فأخرجت هذه الأخيرة دليلًا من من جيب ثوبها ولوحت به لتثبت موقفها وتظهر أن الموقف لصالحها.. كان دليلها قرنًا مكسور الأطراف، يبدو لحيوانٍ خسره أثناء معركة طاحنة من إحدى معارك حياته،..
- قرن؟ دليلك قرن حيوان ما؟!
قال لومان مستهزئًا بما تحمله المرأة بين يديها
- ليس مجرد قرن! لقد وجدتها بين أغراضها.. انظروا جيدًا هناك رموز غريبة منقوشة بداخله، وكان يصدر بعض الأصوات الغريبة عندما وضعته على أذني..إنها مثل تلك الأصوات التي كانت في الأجواء في تلك الليلة المشؤومة،... ما هذا أمسيهار؟!
قالت وهي تحاول وصف ما رأته وما سمعته، فانتشرت موجة هلع بين الموجودين أما أمسيهار فمن أعلى رأسها لأخمص قدميها ترتجف، ونظرها مشوش لأن عيونها غارقة في مياه مالحة…
- أيتها السيدة الفاضلة.. أوقفي خزعبلاتك! إنه مجرد قرن عادي.
قال لومان ثم جلس مجددًا في مكانه ليواصل أكله فنطقت أفوان بعده لدعم مقولته،..
- على الأرجح أن تسوكي حمله في طريقنا إلى هنا ظنا منه أنه لعبة ما..
أما تلك السيدة فواصلت حديثها بانفعال،..
- أقسم أن الأمر حقيقي لم لا تصدقني؟! لم لا تقتنعون أنها من الأعداء؟! أمسيهار اعترفي وارحلي عنا!
نظر الجميع ناحية أمسيهار بنظرات ممزوجة بين التشكيك، الإتهام ومسحة من الحقد والكره.. منتظرين منها تفسير الوضع
- لو كانت هذه الفتاة من الأعداء لأنهت أمرنا بكل بساطة!
أجاب لومان عن تساؤلاتها بهدوء..
- ما الفائدة التي ستنالها من البقاء هنا مكتوفة الأيدي تراقبنا؟ وكيف لصغيرة مثلها أن تكون مصدر تهديد لنا؟..فكري بعقلانية ولا تدعي الرعب يتغذى على عقلك.
قالت أفوان محاولة تهدئة السيدة كي تمر الليلة بهدوء، ويمكن القول أنهما قد سيطرا على الوضع بكلماتهم هذه، لكنها مجرد سيطرة سطحية ليس إلا، فما بدواخل الجميع يناقض الهدوء لأبعد الحدود.
افترش الجميع ليناموا، أما أمسيهار فقد افترشت بعيدا عنهم في أحد أركان المكان، داعبت خصلات أخيها لينام بينما أعماقها تحترق بشدة فالهمسات المتجولة في الصمت والمقذوفة هنا وهناك من طرف الماكثين معها في المكان كانت كجمر مشتعل يُقذف نحوها..
بقيت تنظر نحو الجدران المغلفة بالكتابات الفرعونية بعد أن نام تسوكي وأخذت تتذكر ما حدث معها في ذلك اليوم المشؤوم حيث كان نقطة الصفر لبداية هذا الكابوس الحي الذي تعيشه من تلك اللحظة والذي ما يزال يتطور حتى، فموقف الرعب الذي كانت بطلته رفقة ذلك الوحش ذي العيون البنفسجية خير دليل أن هذا الكابوس الواقعي لم يقترب من نهايته بعد.
بينما الجميع نائمون، حتى أمسيهار غطت في نوم عميق بعد اليوم الحافل الذي عاشته، فتح تسوكي عينيه متمتما بصوته الطفولي..
- 'أبي.. هنا.'
تسلل بهدوء ليترك مفروشاته وغادر القصر الذي يبيتون فيه متوجهًا إلى المكان الذي عاشت فيه شقيقته قصة رعب استثنائية.. نحو تمثال أبو الهول!
.
.
استفاقت أمسيهار في منتصف الليل بهلع بعد أن تحسست مكان شقيقها تسوكي ووجدته فارغًا، قررت فحص المكان بنظراتها قبل أن تسمح لعقلها بتأليف مشاهد أليمة حول اختفاءه، فقد كانت تأمل أن يكون يلعب بالجوار بعد أن تركه النوم مبكرًا لكن...
ما من أثر له!
كانت تلك نقطة انعطاف حادة في مسار كابوسها الواقعي!
حولت هدف حَدقتيها الناريتين من البحث عن تسوكي للبحث عن العجوز لومان وهو الآخر مختفٍ دون أي أثر.. انتبهت لنظرات أفوان نحوها، ولاحظت اضطرابها الذي تعجز عن اخفاءه فعلمت أن هذا إنذار بقدوم شؤم ستعجز عن التعامل معه. نهضت بسرعة وتوجهت نحوها..
-ما الأمر؟..لا تقولي لي أنه متعلق بتسوكي.
-لا..لا يتعلق به أبدا.
أجابت أفوان وهي تحاول عدم إظهار الهلع في نبرة صوتها،..
-جيد.
تركتها وراحت تنادي على شقيقها بالأرجاء، سألت من هناك هل رأوه فأجابوا بالنفي، أفوان وبعض الأشخاص راحوا يساعدونها بالبحث عنه لكن لا أثر له هنا، انقبض قلبها، وأخذت تعمل جاهدة على طرد تلك الأفكار السوداء التي تتجول بفكرها، هو الوحيد الذي تبقى لها الآن ولن تتقبل خسارته ببساطة كما فعلت مع ما خسرته حتى الآن، خاصة وأنها عاهدت نفسها على حمايته مهما حدث، تجمع الأشخاص مجددا في القصر وما إن لمحت أمسيهار أفوان انقضت عليها وشدت ياقة فستانها، رامية بقواعد الأدب والاحترام عرض الحائط فلا يمكنها اتباعهما حاليا، حدّثتها مهددة إياها وهي تشدد في كلماتها..
- أين ذاك العجوز؟ لماذا اختفى رفقة شقيقي؟! أقسم.. أنا أقسم إن كان قد فعل به شيئا ما،..أقسم بأني سأقتله! أين هو؟!
- لا أعلم.. أنا أيضا استفقت دون أن أجد له أثرًا، قالت وهي تتحاشى النظر في عينيها ثم واصلت محاولة تهدئة أمسيهار، لكن لم قد يفعل به مكروه ما؟! هو يقوم بحمايتنا هنا.
- حمايتنا؟ -ردت عليها مستنكرة- حمايتنا من ماذا؟.. من ظلالنا؟
صوت صراخها دوى في الأرجاء، تجمع الأفراد حول الاثنتين لإشباع فضولهم حول هذا الموضوع، فلمَ انقلبت أمسيهار عليهم الآن بعدما بدا أنهم في ذات الصف منذ البداية؟ سحبت خنجرها لتهدد به أفوان..
-إن لم تتحدثي فورا فأنا لن أتردد للحظة.
-أمسيهار، بالله عليك ما الذي تفعلينه الآن هل فقدت عقلك؟
حاولت أفوان بشدة أن تهدئ الوضع، لكن محاولاتها باءت بالفشل، وأصبحت بلا فائدة، وما إن لامس الخنجر عنق أفوان لم تستطع الأخيرة المواصلة في إخفاء الأمر،..
- لقد أختفى..ليلة البارحة، حاول العجوز العثور عليه لكن لم يستطع، الأمر كان أقوى منه بكثير.. لذلك ترك المكان للبحث عنه وإعادته.
انفتحت عيناها على مَصرعيهما، فما سمعته قبل لحظات على لسان أفوان كان ملحًا نُثِر على جراحها فجعل آلامها الملتهبة متقدة أضعاف ما كانت عليه، هي بالكاد استطاعت تحمل هذا الألم داخلها طول هذه المدة لأجل تسوكي، أو ربما هو من كان يمنحها هذه القدرة، لكن الكلمات هذه، كانت القطرة التي أفاضت الكأس، بل الضربة القاضية التي حطمته فأضحت دواخلها غارقة في بحر اضطراب لا نهاية له.
لم تجد فائدة مما تفعله في هذا المكان، فسحبت يدها وخفضت هجومها، نظرات ثابتة قوية وجهتها نحوها، لقد كانت كشتم صامت -في الأخير هي لم ترم بتلك القواعد حقا- ثم تراجعت للخلف، حملت أمتعتها وهمّت بالمغادرة، استوقفتها أفوان..
-أمسيهار، لحظة.. إلى أين؟..لا تتهوري.
لم تعترف هذه الشابة الجامحة بمحاولة أفوان لإيقافها وواصلت تقدمها نحو المخرج بكل ثبات، إلا أنها استدارت للخلف ما إن سمعت ذاك التعليق الساخر الصادر من تلك المرأة التي حاولت إشعال حرب ضدها في ليلة عودتها من الكابوس الذي عاشته في غرفة تمثال ابو الهول.. لترمقها بنظراتها المتعطشة للدماء..
- أتمنى أن لا تسبب لنا صرخات ارتعابك الصداع، تعلمين حتى لو طلبت المساعدة لن نتمكن من المجيء، لن نخاطر بأرواحنا لأجلك.
ما إن رأت أمسيهار تلك البسمة التي رسمتها المرأة على محياها، فقدت رشدها كليا، رمت بخنجرها ناحيتها، وبمهارة صوبته للمكان الصحيح، قلبها! تحت أنظار الرعب الصادرة من الجميع حتى أفوان، تقدمت أمسيهار ناحية ضحيتها أخرجت الخنجر من صدرها لتسقط تلك المرأة على ركبتها، ثم على الأرض… لقد فارقت الحياة! رفعت امسيهار نظرها للأعلى متنهدة بعمق وهي تمسح نصل خنجرها بقماش عبائتها..
- لقد عبثتِ معي في توقيت سيء، أضف أنا أعطي فرصة واحدة لا أكثر.. وكما قلتِ سابقا، سنلتقي في الحياة الأخرى لتصفية ما تبقى من حساباتنا.
أنهت جملتها زافرة بسخرية، رامية بنظرة خاطفة لأفوان التي كانت تراقبها، عدلت عباءتها وتراجعت للخروج آخذة معها أحد المشاعل المعلقة في إطار باب الحجرة التي يتواجد فيها الجميع، لم يجرؤ على أن يوقفها أحد هذه المرة -حتى أفوان- بل ابتعد الكل عن طريقها...هل كان الشيطان بينهم كل هذه المدة؟... يا للفاجعة!
بلا تخطيط مسبق هي اتجهت لتمثال أبو الهول، تلك الهمسات ما تزال تسمعها، وما حدث لها هناك آخر مرة جعلها تثق كل الثقة أنها ستجد طريقة للوصول إليه، شقيقها، آخر ما تبقى لها في هذا العالم ولن تسمح بفقدانه مهما كان الثمن، ما إن وصلت للتمثال وخطت أولى خطواتها في رواقه توقفت عن سماع تلك الهمسات.
- اللعنة عليكِ! لماذا اختفيتِ الآن أيتها الهمسات الحقيرة!
قالت بغضب شديد بعد أن اختفت تلك الهمسات التي لطالما أزعجتها لدرجة جعلتها تتمنى اختفائها، لكن هذه المرة الهمسات تركتها وشأنها عندما صارت بأمس الحاجة إليها. واصلت السير محاولة الاعتماد على ذاكرتها لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة.
ضاعت بين أروقة التمثال فقد كانت كلها متشابهة، أثناء ضياعها ظهر شي ما.. بريق بنفسجي ظهر في عز الظلمة.. عيون الوحش التي رأتها في المرة السابقة عادت لتظهر، لكن هذه المرة أمسيهار لم ترتعب ولم تهرب بل اندفعت نحو أحضان الخطر!
ركضت نحو البريق وهي تحكم قبضتها على المشعل الموجه نحو صاحب هذه العيون البنفسجية المختبئ في الظلام، لكنه اختفى ما دفعها لتستدير كي تبحث عنه في الأرجاء لكنها أضاعته..وربما هي ضاعت أكثر بين الأروقة الآن..لكن لا ليس حقا...فقد وجدت ما دخلت للبحث عنه..تلك الغرفة الرهيبة.
نسيت أمر الوحش وذهبت نحو تلك الحجرة، واقفة في مركزها..شاردة لا تعلم ما العمل الآن..سكون وصمت، تتساءل لما هي هنا الآن بينما ترى انعكاسها على أكثر من مرآة في نفس الوقت..لما عادت إلى هنا..ما علاقة هذا المكان بما تبحث عنه فعلا…لمحت شيء على الأرض فانحنت لالتقاطه،إنه القرن الذي كان بحوزتها فما الذي يفعله هنا الآن؟..هل يمكن تأكيد الشكوك به؟..هل هي في المكان الصحيح حيث يجب أن تبحث عن شقيقها؟..لكن كيف ستفعل ذلك؟..كيف ستنطلق في رحلة البحث من هنا..من غرفة فارغة تسميتها بعلبة صخرية أقرب وصف لها..
رفعت رأسها عاليا تعيد التفكير في أمورها، قابلتها نجمة خماسية الأطراف ذكرتها بالنجمة التي رأتها سابقا..لهذا راحت ترسمها على الأرض بواسطة خنجرها..ليست تعلم ما الذي ستجنيه من هذا الآن حتى.. ما تقوم به يتعدى الجنون ورغم ذلك تواصل الخوض فيه..
لاشيء..
لم تحصل على شيء، أضاعت الوقت بالرسم ليس إلا..قررت التجول بأرجاء الحجرة تنظر للرسومات الجدارية عن كثب..ليس لأنها أرادت رؤيتها حقا.. بل لأنها لا تريد الخروج من هنا.. ذاك المجهول صاحب العيون البنفسجية في الخارج.. هو يظهر بالخارج وليس هنا.. لقد أوقعت نفسها في مصيدة ربما.. هذا ما جال بفكرها أثناء جولتها..
بأحد الأركان الأربعة، لاحظت سائلًا أسود اللون في الحواف السفلية للجدار.. تفحصته وعلمت أنه سائل زيتي قابل للإشتعال.. بكل غباء إن صح القول قامت بتقريب رأس المشعل الذي تحمله نحو السائل.. وطبعا هذا الأخير التهب… بل أكثر.. اللهب راح ينتشر في كل مكان متتبعا مسار السائل.. تصاعدت النيران في الجدران بعدما أحاطت كل الحواف.. من الجدران انتقلت للسقف لتلتقي في مركز تلك النجمة المرسومة بالسقف.. حدث كل هذا وأمسيهار تراقبه ساكنة.. شبه زلزال ضرب المكان.. قبل أن ينطلق ذاك الضوء الساطع من مركز النجمة السقفية ويعم كل الغرفة ما دفع أمسيهار للانكماش داخل عباءتها الملطخة بالدماء لحماية عينيها منه وهي تتسائل كيف ستحمي نفسها من الكارثة التي وقعت فيها توًا؟!
.
.
.
في غرفة مظلمة ذات جدران مزخرفة بكتابات ورسومات غريبة يتموضع تابوت فرعوني ذهبي اللون في مركزها محاط ببضعة شموع منطفئة. في أطراف الغرفة تتواجد صناديق عديدة مقفلة بإحكام مع بعض الهياكل العظمية بقربها الهدوء يطغى على الجو هناك.. ولا أي حركة ترصد في الغرفة سوى تحركات العناكب التي قد حصلت على حصتها من تلك الغرفة وغلفتها بخيوطها البيضاء المتشابكة لتعلمنا بانعدام تواجد مخلوقات غيرها في المكان.. لكن دوام الحال محال، فجأة ومن العدم ظهر الصغير تسوكي فيها جالسًا على ذلك التابوت الذهبي.. كيف دخل تلك الغرفة المهجورة؟ لا أحد يعلم..
انشغل الصغير بمراقبة ذاك التابوت اللماع غير منتبه لباقي التفاصيل المرعبة التي تتواجد فيها، لكن شيئا ما ظهر قبالته وسط الظلام ليشد انتباهه لقد كانت عيونًا بنفسجية متوهجة، سُحر تسوكي ببريقها فوقف من مكانه واندفع نحوها ببراءة الأطفال..
.
.
.
استفاقت مرتعبة بنفس مضطرب بعد ساعات من غيبوبتها، لتجد نفسها مستلقية على سرير فخم بملاءات قرمزية حريرية يتوسط غرفة مربعة واسعة، قبالة السرير يتواجد الباب وعلى يساره توجد منضدة صغيرة ومكتبة مصغرة وخزانة بنصف عرض الجدار وعلى يمينه نافذة تطل على خارج القصر، نهضت من سريرها واقتربت للنافذة فرأت معالم المنطقة التي تتواجد بها، لقد كانت محاطة بالضباب الأسود مع بعض الصواعق المتشكلة فيه بين فينة وأخرى.
-أين أنا؟! بل كيف وصلت إلى هنا ومنذ متى أنا نائمة في هذا المكان؟!
تساءلت باستغراب وبقيت تفكر في طبيعة هذا المكان وأرادت استكشافه، حاولت الخروج من الغرفة لكن الباب كان موصدًا
- هل احتجزني أحدهم هنا؟
نظرت بالأرجاء، توجهت إلى المنضدة وراحت تحاول حملها لتكسر بها النافذة، لكن ما إن كادت ترميها تصنمت مكانها فجأة، فقد شعرت بصدور حركة ما بالخلف، وسمعت بعض الأصوات الغريبة تصدر من نفس المكان أيضا، ربما هذا مجرد خيال كأثر جانبي للمواقف التي عاشتها مؤخرًا،
لكن لا..
تكرر الصوت الغريب والملاءات الساقطة على الأرض تحركت أيضا، فتأكدت أن الأمر أكثر من مجرد تخيلات، وها هي الحياة تجعل منها بطلة مشهد آخر تحت عنوان الرعب!
بقيت ساكنة تتساءل -وهي تنزل المنضدة أرضا- عن ماهية هذا الشيء المجهول المتواجد تحت السرير، وإن كان عليها مواصلة سلسلة الرعب هذه باستكشاف الأمر أم تجاهله فقط.
فكرت مليا ثم قررت... وكان قرارها أن تقطع الشك باليقين، استجمعت شتات نفسها تنهدت بعمق، تقدمت نحو السرير بعد أن حملت المزهرية التي وضعتها عليه لما أخذت المنضدة، ببطء وبتردد جلست على سجاد الأرض ثم بنفس الوتيرة أحنت ظهرها لتتفقد ما تحت السرير، وكانت على أتم الاستعداد للهجوم، لكن.. ما إن رفعت الملاءة المتدلية على الأرض انصدمت ووضعت المزهرية أرضا، فما رأته كان شيئا لا يمكن مهاجمته إطلاقا، بالأحرى شخصا لا يمكن مهاجمته، لقد كان.. شقيقها تسوكي!
كان تسوكي مستلقيا على بطنه ليزحف تحت السرير ويحاول إيجاد سبيله للخروج وسط الظلمة التي كونتها الملاءات المتدلية، وما إن رفعت أمسيهار الملاءة وتمكن من رؤية ملامحها رسم ابتسامة عريضة على وجهه وقال بمرح...
-وجدت أمسيهار!
-بل أنا من وجدك أيها المشاغب، أجابته أمسيهار بينما تساعده على الخروج من تحت السرير، كيف اختبأت هنا ومتى؟
.
.
سعادتها بالعثور على تسوكي لم تدم، فقد فتحت عينيها الناريتين بهلع بعد أن استفاقت من أحد الكوابيس التي لا تنفك تطاردها منذ أن هربت من القرية، فتساءلت إن كان العثور على تسوكي حلمًا أيضا.. تفحصت موقعها بنظرات خاطفة، فعلمت أنها في زنزانة، زنزانة قذرة وكريهة، أصبحت سجينة فجأة هذه المرة بطريقة رسمية، لقد وقعت في قبضة أشخاص لا تعرف عنهم شيئا، بل لا تذكر شيئا عن كيفية الإمساك بها ولا عن كيفية وصولها إلى هناك..
لكن لماذا أضحت حبيسة فجأة؟! هل كانت هدف مطارديهم من البداية؟!
لماذا؟..
ما الذي يوجد بحوزتها والذي يجعلهم يسعون وراءها لأجله؟.. أم هل هي بحد ذاتها هدفهم؟.. لماذا -أيضا- هي كذلك؟..
إن كانت كذلك فهنيئا لهم، فقد حصلوا على مبتغاهم أخيرًا..
عدلت نفسها وثيابها، وأثناء ذلك أخذت تقلب عينيها بين أطراف المكان بنظرات تفحصية دقيقة فلاحظت أنها ليست بمفردها هنا، فقد كان هنالك شخص آخر مستلقٍ على الارضية الحجرية بالقرب منها، تراجعت ما إن رأته، لكنها اقتربت منه مجددا ما إن علمت هويته من ثيابه.. إنها أفوان.. ما إن وضعت أمسيهار يدها عليها حتى استفاقت، نهضت بسرعة وانقضت على امسيهار لتتفحصها..
- أمسيهار، استفقت أخيرا؟ هل أنت بخير؟ هل تأذيت؟ هل تشعرين أنك بخـيـ..
لم تسنح لأفوان الفرصة لإنهاء كلامها فأمسيهار قد قاطعت حديثها بطريقة غير متوقعة إطلاقا.. لقد صفعتها بقوة لدرجة أنها سمعت بعض الطنين يصدر من أذنيها.. تصنمت أفوان مكانها للحظات إثر الصدمة التي تعيشها فهي لم تكن تتوقع أن تتلقى صفعة قوية كهذه من فتاة اعتبرتها ابنة لها وتولت حمايتها كما لو كانت من رحمها في هذه الأيام الأخيرة..
- أمسيهار.. ما بك؟!
سألتها أفوان بنبرة خافتة منصدمة يتخللها بعض من الخيبة والخذلان منتظرة الحصول على إجابة مقنعة من عند الصغيرة أمسيهار لكي تعذر تصرفها هذا وتشفي الألم الذي سببته لها في قلبها، لكن أمسيهار انقضت عليها لتمسكها من عنقها وراحت تجيبها وهي تصرخ وتلعن متخذة صفة معاكسة لشخصيتها تماما،..
-لنكف عن الألاعيب أيتها الساحرة الملعونة! أهذا هو هدفكم من البداية؟.. وضعي في زنزانة؟! أن تحتجزوني أنا كرهينة؟!! ما الذي تريدونه مني؟!.. والآن فوق كل هذا ما زلت تريدين خداعي لتوهميني انك بجانبي.. لماذا؟ ألم تحصلوا على هدفكم بعد؟؟ ما هو هدفكم حتى؟! فأنا أرى أن احتجازي بهذا الشكل لم يكن مرضيًا لدرجة تجعلك ترغبين في مواصلة التمثيل علي وخداعي بذلك؟!
تفاجأت أفوان من الرد الذي حصلت عليه أكثر من تفاجئها من تلك الصفعة.. كيف لتلك الصغيرة أن تخنقها بذلك الشكل وبهذه القوة مع تلك الافتراءات الخطيرة التي لا أساس لها من الصحة
ابتعدت أمسيهار عنها ساحبة يدها من عنق أفوان أغمضت عينيها بقوة بسبب الصداع الذي اجتاحها بغتة، بسبب تلك الهمسات التي لا تريد أن تفارقها مطلقا، ما تزال تطاردها ومنذ استيقاظها في هذه الزنزانة الكريهة زادت حدة وشدة، سألتها أفوان بقلق ما المشكلة لكن أمسيهار ابتعدت عنها متجاهلة تواجدها، محاولة إيجاد حل لإبعاد تلك الهمسات عنها ولو مؤقتًا كي تتفرغ لمحاسبة أفوان لكن لم يجر ما أرادته فقد أغمي عليها، راحت أفوان تحاول إيقاظها وهي تصرخ طالبة للمساعدة، لكن لم يأتي أحد.. فقط صدى صوتها الذي يرتد بين الجدران، كان المجيب الوحيد.
.
بعد طلب النجدة لأكثر من مرة، ظهر رجل من مظهره يبدو من الطبقة الراقية، ذو خصلات متفحمة..وعين يسرى بنفسجية عكس اليمنى التي تكون سوداء..استدارت أفوان ناحيته لتطلب المساعدة وهي تمسك بأمسيهار بين ذراعيها..اختفى الواقف خلف القضبان من موضعه ليظهر فجأة واقفا أمامهما بالداخل..كانت علامات الصدمة تعلو محياه..خطف أمسيهار من بين يدي أفوان واختفى معها من المكان..كل هذا جرى أمام ناظري المسكينة أفوان التي لم تفهم شيئا، بعض الدموع استقرت على جفنيها وراحت تصرخ باكية..
-وماذا عني أنا هاه؟..لمَ ليس لدي شخص يأتي ليخرجني من هذا المكان القذر بهذه الطريقة الدرامية هاه؟
-انهضي من مكانك أيتها الحمقاء.
رفعت رأسها ناحية الصوت الذي كلمها فوجدته لومان أمام بوابة الزنزانة التي فتحها، نهضت من مكانها وسارعت نحوه وهي تكلمه بصوتها الباكي…
-آآآ..هل أتيت لإنقاذي؟
تنهد لومان بتعب، فالغبية الراكضة نحوه ضربت رأسها بحافة الباب فسقطت متألمة، تمتم وهو يهم بالمغادرة..
-لا أصدق أني أتيت لأخرجها، أنا الغبي لا هي.
.
.
حمل ذاك الغريب صاحب العين البنفسجية أمسيهار على جناح السرعة آخذاً إياها للقصر ليضعها بإحدى الغرف المتواجدة في جناحه الخاص لترتاح هناك، جعلها تستلقي على السرير، أمر الخدم بجلب الماء لها، لقد كانت تتصبب عرقا، يصدر منها بعض الأنين، فعلم إكس أنها تعيش كابوسا بأحلامها..
***
المكان كان مظلما في ناظريها لبعض الوقت ثم عاد النور ليظهر مجددا، لقد وجدت نفسها في ساحة المعركة التي شهدت كل أحلامها الأخيرة، خطوة بخطوة.. تتقدم نحو مركزها غصبا عنها، تحت تأثير تلك الهمسات التي أصبحت مرشدتها الجديدة في هذه الحياة.
مع كل خطوة تخطوها يزداد صوت تلك الهمسات،.. مع كل خطوة تخطوها يزداد جنون أمسيهار،…. هي ترغب بشدة في التحرر من تلك الهمسات لكن هذه الأخيرة تأبى إلا أن ترافقها رغما عنها. وصلت لمنتصف الساحة فظهر سيف أمامها فجأة، أمسكته ووجهت سنانه نحو قلبها ودون أي تردد طعنت نفسها.
***
شهقت بعمق، فقد استفاقت ما أن دخل السيف بصدرها، الخوف، الهلع، التجمد في الأفكار، كل هذا كان باديًا في عينيها، حركت نظرها لشمالها فقد شعرت أن أحدهم بقربها، لترى ما يفجعها أكثر، شخص بملامح أبعد من أن تكون غريبة عنها، فقد كان يشبه والدها!
والدها الذي اختفى قبل خمسة أشهر من الهجوم على تلك القرية، بعد أن خرج من المنزل ليلًا على حين غرة قاطعًا وعدًا بالعودة لكن للأسف لم يستطع الوفاء به.. بل لم يستطع أن يحافظ على حياته كي يفي به.. فقد عثروا على جثته بين بعض الصخور المتواجدة في الصحراء التي تبعد عن القرية ببضعة أميال..
ملامح هذا الجالس بقرب أمسيهار كانت متوحشة أكثر، بشرته الشاحبة، خصلاته الليلة، أنيابه الحادة، أظافره السوداء المحدبة تشبه لحد كبير مخلاب الكلاب، بل أكثر ما يرعب، عينه البنفسجية تلك، أنفاسها راحت تتسارع وأصبحت مسموعة، تحركت بهمجية من مرقدها لتهرب لكنه امسك بذراعها وشدّها إليه، حضنها محيطا إياها بذراعيه، حاول تهدئتها لكنها كانت مضطربة تقاومه وتريد التخلص منه، كانت تلعنه وتشتمه، صرخاتها تخرج من جوفها محملة على نبرة مبحوحة… همس بالقرب من أذنها،..
-أنت بأمان… أيتها الصغيرة.
"أيتها الصغيرة!"، كيف له أن يناديها بهذه الطريقة، فقط والدها من يمكنه ذلك، بل كيف يجرؤ لعين كهذا أن يناديها هكذا، هي ليست صغيرته، هي لن تكون سوى صغيرة والدها فكيف يجرؤ، هدأت بغتة ما إن سمعت الكلمة فأرخى صاحب العين البنفسجية حضنه ظنا منه أنها شعرت بالأمان من ناحيته، .. لكن،.. لا… هي كانت وسط تساؤلاتها العديدة فقط، فما إن ترك لها حرية التحرك لكمته بكل قواها لوجهه فارتد للخلف، استغلت تلك الثواني القليلة أين فقد توازنه لتهرب، لكنها لم تدرك أنه أسرع منها أضعافا مضعفة، ما إن فتحت الباب وجدته وراءه، وهنا هو كان الأسرع، بحيث ضرب جانب عنقها أسرع من لمح بصرها، أغمي عليها إثر الضربة، حمل بعدها جسمها وأعادها للسرير، هو لن يتمكن من الحصول على حديث معها في الوقت الراهن، فهي كعاصفة هوجاء، عليه أن ينتظر مرورها أولا.
.
.
دقت ساعات القصر معلنة حلول الرابعة صباحا، كانت أمسيهار غارقةً في بحر النوم وشقيقها تسوكي -الذي دخل غرفتها دون أن يلاحظه أحد - نائم بين أحضانها، بتثاقل ارتفع النصف العلوي من جسدها من على السرير، فتحت جفونها على حين غرة فظهرت قرنيتاها المشعتان باللهب الدامي، نزلت من على السرير وهمت بالخروج من الغرفة حافية وبخطوات بطيئة، شعر تسوكي بتحركها فنهض وهو يحك عينه اليسرى لطرد آثار النعاس للحاق بشقيقته، ترجل من مكانه ليتبعها بخطواته الطفولية ،أمسك بطرف ثوبها ما إن لحق بها وواصل المشي خلفها.. خرجت من الجناح الشمالي إلى ساحة القصر وتسوكي لا يزال متشبثا بها.. وطبعا هي غير مدركة بكل ما يحدث حولها.
بينما هي تشق طريقها في الساحة لاحظ أحدهم تحركاتها راح يتتبعها عن بعد، يلاحقها بالخلف محاولا ان لا يلفت إنتباهها، واصل تتبعها إلى أن وصلت إلى منطقة تتواجد فيها بوابة -زجاجها يعكس الصور- فاصلة بين عالمه وعالم البشر..
اقتربت أمسيهار من البوابة كفاية ثم توقفت عن السير، رفعت يديها وبسطت أصابعها قبالة البوابة فأشعت بقوة ما دفع ذلك الصغير المتشبث بثياب شقيقته للاختباء خلفها خوفا من الضوء الساطع الناجم من نشاط البوابة. عبرت أمسيهار البوابة وبطبيعة الحال تبعها تسوكي، ثم لحق بهما ذلك المطارد صاحب الهالة السوداوية.
ظهرت أمسيهار رفقة تسوكي داخل غرفة ليس بها نور إلا من شعاع خافت -من أشعة الشمس التي تكاد تغيب- يتسلل من ممر في أعلى تلك الغرفة، لقد كانت ذات الغرفة التي عاشت فيها الرعب على أصوله قبل دخولها لذلك العالم الغريب، غرفة المرايا في تمثال أبو الهول...
بعد ثوان من وصول أمسيهار ظهر ذلك الغريب الذي يطاردها، اقتحم المكان وسط الظلام واقترب من تسوكي حمله و أحاطه بين ذراعيه وابتعدا عن أمسيهار بعدة خطوات..
وقفت امسيهار وسط النجمة الخماسية المشكلة بواسطة الشعاع المنتقل بين المرايا والذي كان مصدره انعكاس شعاع الشمس الأخير قبل أن تختفي من سماء هذا العالم على إحداهن، ازدادت قرنيتاها إشعاعا، كذلك تلك المرايا أشعت بقوةٍ منيرةً كل الغرفة باللون البنفسجي، لكن ذلك النور دام لبضع ثوان فقط فالشمس غابت فعليا، و مع اختفاء النجمة الشعاعية تلك أمسيهار اختفت من موقعها، اختفى أماكلاي مع تسوكي من المكان أيضا وعادا للمملكة.
.
يقال أن للكون قانونا غريبا،
إن أردت الحصول على شيء بشدة.. لن تأخذه!
وإن رفضت وجود شيء بشدة.. سيطاردك ولو هربت منه طول حياتك!
.
فتحت ذات الخصلات السوداء الطويلة عيونها النارية على مصراعيهما وهي تشهق بقوة لتجد نفسها وسط حقل قمح شاسع، كان ذا سنابل ذهبية تتراقص بلطف على إيقاع الرياح، أخذت تتسائل عن كيفية وصولها لمكان كذاك، هل هي نائمة مجددا؟..أتعيش في أحد أحلامها أم كانت تمشي أثناء نومها؟ رغم جهلها للحالة التي هي عليها قررت تحريك أطرافها لتخرج من تلك البقعة، لقد كان جو الأرجاء هادئًا وهدوءه ذلك أرعبها.. فأثناء الأيام الخوالي التي عاشتها لم يكن الهدوء سوى تمهيدًا لكوارث قلبت حياتها كليًا.. لكن ما إن خطت أمسيهار نحو الأمام شعرت بشيء يعيق تقدمها، شيء يجذب طرف فستانها من الخلف، التفتت ببطئ وهي تدعو بكل جوارحها ألا يظهر لها شيء يزيدها رعبًا.. لكن كل ما في الأمر أنه كان عالقًا! جلست القرفصاء لتحرير فستانها فوجدت أن ما جعله يعلق لم يكن سوى الخنجر الذي منحه لها جدها وقد كان مغروسا في تراب الأرض، سحبته من موضعه وعلقته على حزام فستانها وواصلت طريقها للبحث عن مخرج من ذلك الحقل الأشبه بمتاهة..
كلما تقدمت فيه شعرت أنها تضيع أكثر.. كما لو أنها تسير في طريق لا نهاية له.. فجأة ووسط الارتباك والضياع الذي تعيشه عادت تلك الهمسات المريبة لتنتقل على الهواء لتصل نحو أمسيهار وتعانق أذنيها كقرط لم يخلق ليناسب أحدًا غيرها.. فقد كانت تلك الهمسات صوتًا تألفه بشدة.. استدارت أمسيهار للخلف لتقابل مصدرها، وبالتفاتتها تلك أضحت في مواجة الصوت، شعرت بها تصدر من ذاك الاتجاه وفي سابقة من أمرها تبعتها عن قناعة كاملة بل ركضت خلفها بكل لهفة فقد آمنت أمسيهار أن هذه الهمسات هي الوحيدة التي ستخرجها من غياهب هذا الضياع الذي تعيشه..
بالفعل قادتها الهمسات نحو مكان مختلف، نحو شجرة بدت لها شبه ميتة، فقد تجردت من كل أوراقها ولم يبق فيها شيء سوى جذعها المجوف وأغصانها الممتدة نحو السماء بشكل مخيف، اقتربت أمسيهار نحوها بعد أن فهمت أن تلك الشجرة كانت مصدر الهمسات فقد ازدادت هذه الأخيرة ما إن اقتربت كفاية منها وبقيت تتزايد مع كل خطوة تخطوها أمسيهار نحوها.
لم يعد يفصل بين الشجرة وأمسيهار سوى مسافة خطوة واحدة، حدقت أمسيهار في تلك الشجرة لثوانٍ قليلة.. لم تشعر بنفسها وهي تمد يدها نحوها إلا بعد أن لمست جذعها الخاوي براحة يديها، بغرابة انبثق شعاع نورٍ ساطع من بين ثناياه جعل أمسيهار تخفي عينيها بمرفقها لتتجنب رؤيته فقد أذى بصرها..
.
.
.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top