جِراحةُ العَين.
صراخٌ يتعالى، همسات مُستغيثة، بكاء، ضجيج، جلبة، كما لو أن هناك مذبحة تُقام، لكن عَم الهدوء فجأة بعدما فتحت عيناها أخيرًا، انتهت جراحة قزحيّة العين، الألم يهشّم أعصاب دماغها، نهضت ببطئ لتتذكّر كيف انتهى الحال بها هكذا، كانت تحقّق في شقّة أحد المواطنين المفقودين، بالرّغم من عدم وجود أحد معها آنذاك، إلّا أنه تم دفعها لتسقط أرضًا وتؤذي عيناها، تشعر بالاضطراب الشّديد لتلك الحادثة الغريبة، من بحق الله دفعها هكذا؟ أكان بيتًا مسكونًا أو ما شابه؟ لكن لحسن الحظ، استطاعت إمساك عدة خيوط من ملابسات القضيّة، فلم يضع إيذاء عينيها سدى.
فعلمت أن جميع المفقودين اختفوا وقت الجائحة المرضيّة، التي إن أصابت عضو لا يُعالج سوى باستبداله بآخر صحيح، بعدما تذكّرت أن هذا المواطن كان يعمل طبيبًا هنا، سألت طبيبتها إن كانت تعلم شيئًا عنه، رأت المُحقّقة تردد الطّبيبة وسمعت أنفاسها الخائفة، فعلمت أن القضيّة متّصلة بشكل ما بالمشفى، هناك مكيدة حدثت للمفقودين.
بمجرّد خروج المُحقّقة من غرفة العمليّات، توجّهت لِحرم المشفى لترى ما ينخلع له القلب، ويزيد ألم رأسها، الشّيء الّذي جعلها تسيطر على رباطة جأشها كونها محققة ذات قلب قويّ، رؤيتها دومًا لكل بشع وسيّء جعلها مُعتادة.
ظنّت أن جراحة قُزحيّة العين سبب في رؤيتها لتلك الهلاوس البصريّة، فعادت لطبيبتها تشكو مما رأت، لكن تبرّأت الطّبيبة من شكواها.
عادت لحرم المشفى وقلبها معقود من الخوف، صدرها ضيّق فتسارعت أنفاسها المُرتعشة، تتأمّل في تلك الهيئات الهلاميّة السّوداء، ملامح بارزة يملؤها الحقد، وعيون أدهميّة مشبّعة بالحزن، كما لو أنّهم يصرخون، يطلبون المساعدة، ويستغيثون بيأس، أشباح مثيرة للشّفقة، لا تسمع منهم شيء، الأمر متعلّق بجراحة قزحيّة عينها، فأصبحت ترى ما لا يراه النّاس.
منتشرون هنا وهناك في ساحة المشفى، يمشون بترنّح كطفل أضاع أمه يصرخ ويبكي وهو يتمشّى بدون وِجهة، هكذا كانت تراهم، ثمّ لاحظت أسماءً مكتوبة على جباههم! فأخذت تسجل كل ما رأته بيديها المرتعشتين، كانت مذعورة من العجب الذي تراه، لكن كل ما كان بذهنها تركيب أحجية تلك القضيّة، لهؤلاء علاقة بقدرة عينيها الغريبة، والمشفى، الجريمة، المرض، الأغنياء، المستضعفون، تعاقدات، علاج، أعضاء، الأنانيّة، إنّها جريمة بشعة بحق الإنسانيّة.
وبعد مدّة طويلة من التّفحص بِعينيها الجاحظتين لاحظت أحد الأشباح يحدّق بها، ابتلعت ريقها وهي تشعر بغصة في حلقها، ابتعدت خطوات إلى الوراء، فبدأ الشّبح يتّجه نحوها بترنّح، كما لو أنّه مشهد لوحش يمهد لاصطياد فريسته، شعرت المحقّقة بثقل شديد من نظرات الشّبح، وأصبح الزّمن بطيئًا، كما لو أن الشّبح يحدّق بها منذ سنين، إنّه يشكو لها بعيونه، يخبرها بالعديد من الأشياء في نظراته، فالعيون لا تكذب أبدًا، لكنّ خوفها منعها من فهم القصّة التي ترويها عيناه، هي فقط حاولت الهرب من هذا الثّقل، تهرب من هذه المناظر القبيحة والبشعة، فلونهم الاسود الدّاكن يعصر الأعصاب ذُعرًا، فبدأ الشّبح يجري ورائها كالطّفل البكّاء الذي يركض نحو أمّه، ركضت المحققة تجري وتصرخ، ظنّها النّاس جنّت، يتمتمون: ما بالها تجري فجأة كما لو أنّها رأت شبحًا؟
-«ابتعد! لا تقترب! أنقذوني.»
هكذا كانت تصرخ حينما اقترب منها الشبح أكثر، خانتها قدماها من الخوف، فلم تستطع الاِسراع إلى أن لحقت بها تلك الكتلة السّوداء المستغيثة، كما لو أنّه يطلب المساعدة.
-«تبًا»
قالتها صارخة بعدما عانقها الشّبح بقوّة، شعرت بوخز شديد في جسدها، بل وموج من المشاعر المتضاربة، الظلم، الإضطهاد، السّلب، النّهب، الحزن.
قبل أن يغشى عليها تحت أعين النّاس الخائفين من تصرّفاتها، بل ووصل الأطبّاء والأمن ليرو تلك الجلبة، نطقت:
-«إنّها... ذكريات أرواح المقتولين.»
دمتم بودّ، وبالتوفيق لكم جميعًا. ♥️
وتذكروا فريق النقد دائمًا في الجوار. ✨
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top