هِي فيّ، هُو فيّ| 2

بشهقةٍ عميقةٍ ارتَشفت الحياةَ مِن جبِّ الموت، مِن شفتيّ العِفريت اللَّتين لم تُعتِقاها بعد. حينَما استردَّت وعيَها، رأته على قربٍ مُهلكٍ مِنها، ساكِنًا يُزكِّي عليها قُواه، وعيناهُ الثَّاقِبتان مُسلَّطتانِ عليها، كأنَّهُما لا تشعُران.

بمُجرَّد ما فرغَ مِن شحنِها أفلَت ثغرَها، دونَ أن تتخلَّى يدُه عن ظهرِها، إذ كانت تُسنِدُها لتُبقيَها على مقربةٍ مِنه. رويدًا رويدا تساقَط جفناها، كأنَّ ما بذَره فيها لم يُؤتِ أكله إطلاقًا، ذلِك لأنَّها استَذكَرت المَشاهِد الَّتي تسبِق وقوعها في غيبوبةٍ مُوجِعة، وسُرعانَ ما ركَضت دموعٌ مُشتعلةٌ بالحُزن على خدَّيها، وأندتهُما.

لقد رأت والديها وشقيقَها الأصغر يلقون مصرعهم على يديّ العَفاريتِ الغاشِمة، الَّتي لم تترُك بشرًا إلَّا وأزهقت روحه، وجمادًا إلَّا وهشَّمته، حاوَلت صدَّهُم بما أوتيت مِن قوَّة ولكنَّها حبِطت، فأنَّى لَها هِي الضَّعيفَة كما نعتَها الرَّجُل الَّذي تستَلقي على كفِّه هزيمةُ مخلوقاتٍ تفيض مقدرة!

ولفرطِ الصَّدمة أضاعَت صوتَها، وبكِمت.

لم يكُن بيكهيون ينوي مُعاقَرة مرآها لوقتٍ طويل، لذلِك أراحَها على الأرضِ ثُمَّ وقَف، وهمَّ بالرَّحيل، دونَ كلِمة وداع، لأنَّه رجلٌ كالنَّهار، يحضُر ثُمَّ يغيب بصمت، ولكنَّها قبضَت على حافَّة كُمِّه العريض.

- ما الَّذي تُريدينَه أيَّتُها الصَّغيرة؟

حدَّقت بِه وكأنَّها تقول، لا بل سمِعها تقول رغمَ أنَّ كلِماتها كانت تتلاشى على أعقابِ شفتيها.

- خُذنِي معَك.

لم يُلاحِظ أنَّها صامتة، تستميتُ للكَلام لكنَّ لِسانَها يخذُلها، وقلبَ عدستيه بضجر.

- ليسَ لديَّ وقتٌ لمُجالَسةِ الأطفال.

انتَزعَ ما يخصُّه مِن بينِ أنامِلها النَّحيلة، ووضعَ ظهرهُ في إطاريها المُكتَحلين بالبُؤس، لكنَّها استردَّته بإصرار. حسِبت أنَّ الدَّهشة قد صمَّت آذانَها مُؤقَّتًا لذلِك لا تستَطيع سماعِ صوتِها، ومُذ أنَّه يستَطيع صرَخت:

- إذًا كانَ عليكَ تركِي أموت، بدل أن تُنقِذني لأحمِل معِي ذِكرى مقتَل أهلي على يديّ العفاريت طوالَ أيَّامِي المُقبِلة.

نظرَ إليها مِن فوقِ كتفيه بجُمود.

- لم أعُد مدينًا لكِ الآن لأُعطيكِ الموت، إن ابتَغيتِه فائتي بِه لوحِدك.

وأدبَر مُصرًّا على قَراره، هدفُه الوحيدُ في هذِه الحياةِ هُو تصفيتُها مِن الحَرس الَّذينَ قضوا على عشيقتِه مُنذ مائة عام، أمَّا هذِه الفتاة فلاشكَّ وأنَّها ستكبُر لتصفيةِ الحياةِ مِن العفاريت، وهُو أحدُها، لا يُمكِنُه الوثوق بِها، ولا رِعايتُها.

ما كادَت قدماهُ تبعَثانِ ثانِيَ خُطوةٍ حتَّى انسَحبَ كُمُّه إلى الوراء دلالةً على أنَّها لم تُعتِقه بعد.

-لن أسخِّر حياتِي للانتِقام، يكفيني القَضاء على القبيلةِ الَّتي دمَّرت قريَتي، ساعِدني أرجوك.

استَدار إليها بحاجِبين معقودين وسأل:

- أسمِعتني أتحدَّث للتوّ؟

أطرقت برأسِها بالإيجابِ رغمَ أنَّ كلِماتِه لم تُبارِح فِكره مُنذ قليل.

- ولكِن لماذا يُمكِنني سماعُك تتحدَّث، بينما لا أسمعُني؟

انزَلقت عيناهُ إلى ثغرِها، ثُمَّ حجَبه بكفِّ يدِه.

- أهُناكَ المزيدُ مِنهم يا تُرى؟

جحَظت عيناه بذُعر، حينَما أدرك أنَّ ما كان يستَمع إليه هو وليدةُ فِكرها لا ثغرها، وليتحقَّق من صِحَّة مخاوفه انتشل مِن حِزامِ خصرِه خِنجرًا فضيًّا وخدشَ مِعصمها... ذاتُ الخَدش بما يحمِلُه مِن ألمٍ انجليا على معصمِه!

- يحدُث أن يرتبِط قدرُ البشر والعفاريت إذا ما نقَل العفريتُ إلى بشريٍّ قُواه بواسِطة قُبلة، فكأنَّه تناوَل روحَه السَّقيمَة وضخَّ فيهِ أُخرى، بها جُرعةٌ من قُدراتِه، الرَّمقُ الأخير هُو الَّذي يحمِي طبيعَة البشريّ مِن التبدُّلِ إلى أُخرى.

فكَّر بِما سمعه مِن أحد مخضرمي قومِه على شاكِلة أُسطورة، مُذ أنَّها ظاهرةٌ نادِرة الحُدوث، فالعفاريت ليسَت بذلك الكَرم، أمَّا فِئة الطِّبين، أولئِك الَّذين تخلَّوا عن فعل الشرّ، فلا قُدرة لهم على الإحياء، مصيرهُم التحوُّل إلى بشر.

الآن قدر بيكهيون مرهونٌ لبشريّةٍ واهِنة، هلاكُها يعنِي هلاكَه!

- ستأخُذني معَك إذًا؟

حدَّق بِها بنظرةٍ ثاقبةٍ أوشكت أن تخترِق فُؤادها وتستنزِف خفقاتِه المُتبقيَّة، سُرعان ما أشاحَ بوجهِه عن هيئتِها الَّتي بدأ يمقُتها وزمجر:

- اتبعيني.

ألقت نظرةً أخيرةً على رُكامِ قريتِها، ثُمَّ هرولت خلفه بِما أنَّه سبِقها دونَ أن تلتفِتَ وراءَها مرَّةً أُخرى، وحولهُما تناثرَت الأتربة بفِعل رياحٍ هائلةٍ انبثقت أسفله، قبل أن يختَفيا مِن تلك الرُّقعَة، ويظهرا في قريةٍ أُخرى آهِلة.

تخبَّط رأسُ تشو ذاتَ اليمين وذاتَ الشّمال بينَما تتأمَّل الأركانَ مِن حولِها، وقد غدَت مُختلفة كأنَّ قريتَها عادَت إلى الحياة، ما لبِثت وأن أعلمتها الوجوهُ الغريبة الَّتي مرَّت بجوارِهم أنَّها أُخرى، وغزا الإحباطُ ملامِحها الجميلة.

بادَر بيكهيون بالمسير دونَ أن يُطلِعها على وجهتِهما، في حينِ ظلَّت تتساءَل بداخِلها عنها، لقد أزعجته عن غير قصد، ولكنَّه أبى الإجابَة عنها، وإعفاء أذنيه مِن ثرثرتِها... ما شأنُه هُو إن كانت في مجلسٍ مُحتدمٌ ونفسها؟

أرادَ اقتِناء بعضِ الطَّعامِ مِن أجلِها، لذلِك أُجبِر على ولوجِ السُّوقِ الشَّعبيَّة، وإخفاءِ هويَّتِه باستِعارةِ وجهِ أحدِ الرِّجالِ الَّذينَ مرُّوا بجوارِه، بمُجرَّد احتِكاك طفيفٍ بينَ يديهما، واستمرَّ في تغييرِ ملامِحه، بينَ المَسافة والأُخرى لحماية نفسه، دونَ أن تنتبِه له تشو السَّائِحة بينَ الطَّاوِلات.

لوهلةٍ تناَست شُعورَها بالجُوع، وارتَادَت بعينيها محلَّات المُجوهرَات الَّتي لم يسبِق وأن ارتَدت مِنها. انشقَّت عنه ووقفت أمامَ إحداها، تتفحَّص طوقًا لطالَما تمنَّت والِدتُها شِراءَ مِثيلٍ له، لذلِك عمِلت بجدّ طوالَ الأيَّام المُنصرمَة لتوفيرِ ثمنِه، الآن لم تعُد موجودة لتتذمَّر بخُصوصِ اندِفاعها، لتربت على صدرِها ببسمةٍ نهايةَ كُلِّ يوم.

أخرجَها البائعُ الَّذي وقَف قُبالتها من شُرودِها، إذ ظلَّت تحمِل الطَّوق لوقتٍ طويل، ما أثارَ ارتِيابه، لاسيما وأنَّ ملابِسها متَّسخة، ظنَّها متشرِّدة تنوي سرِقته!

- فلتَذهبي من هُنا أيَّتها الصَّغيرة، هذا الطَّوق أكبَر من جيبِك.

حطَّ بصرُها على يدِه الممدودَة نحوَها، ثمَّ انتَقل إلى سحنتِه الغاضِبة.

- أردت رؤيتَه فحسب.

رأى شفتاها تتراقصان ولكنَّه لم يفقَه لها قولًا.

- ماذا؟

- لقد ذكَّرني بوالِدتي.

جُنَّ جُنونه حينَما تحرَّك ثغرُها الباسِم مُجدَّدًا دونَ يُلبِس لكلماتِها صوتًا، وصرخَ:

- ما الَّذي تقولينَه؟ هل أنتِ بكماء أم تهزئين بي!

فزِعت من نوتاتِه العالية، وأغرقت الدُّموع عينيها، في حين عجزت يداها المُرتجفتان عن اتِّخاذ أيِّ قرار. سُكونها لم يزِد الرَّجل إلَّا حنقا، حتَّى أنَّه رفع يدَه ليضرِبها لولا أنَّ بيكهيون أمسَك بها.

انحازَ إلى هيئتِها الَّتي انكَمشت على أُهبةِ لتذوُّق الظُّلم وقالَ على مهل:

- سيِّدي، لقد كنت أنظُر إلى الطَّوق فحسب.

ذُهِل، فمِن بينِ الجميع ورغمَ أنَّه يلتحِف وجهًا غيرَ وجهه الأصليّ الَّذي تعقِله، استَطاعت تمييزَه، ذلِك لأنَّها تراهُ على حقيقتِه.

- أنا الوحيدُ القادِر على سماعِك.

كُلَّما قضى مع البشَر وقتًا أطول، ازدادَ اقتِناعًا أنَّهم مخلوقاتٌ كريهَة.

وفقَط ليحطِّم غُرور الرَّجل أخذَ الطَّوق من تشو، وحدَجه بنظراتٍ مميتة.

- سنشتَريه.

-

هلاوز 💃💃

رجعت بفصل جديد يس يس 😎

شو رايكم بالفصل!

اكثر جزء عجبكم وما عجبكم

تشو!

بيكهيون!

وش تتوقعو يصير الفصل الجاي!

سي يا 🍀

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top