(الفصل الأوّل)

قد يبدو الأمرُ جنونيًّا... ولكنّني أستطيعُ قراءة الأفكار! 

أنا أيضًا اعتقدتُ أنّه من الرّائع امتلاكُ هذه القدرة الخارقة في بادئ الأمر، فقد شعرت بالسعادة لكوني سأعلمُ مشاعر من حولي دون حجاب المجاملةِ والنّفاق، سأعرفُ من يكرهُني ومن يحبُّني حقًّا، مذهلٌ أليس كذلك؟. 

في الواقعٍ هو ليس بالأمرِ الجيّد البتّة، فكلُّ ما يدورُ بداخل عقلي ضجة، نعم، فقط الضجة!. 

هذا غير الّذين خسرتُهم بسببِ ظهورِهم على حقيقتِهم بعد وقتٍ من الخداع! 

كنتُ أجلسُ في محطّةِ القطار، أشعرُ بتزاحمِ الأصواتِ بداخلِ عقلي؛ بسببِ وجود الكثيرين هنا، أحمدُ الله كوني أستطيعُ التّركيز على شخصٍ واحدٍ، حيثُ أعزلُ أصوات الباقين من حولي. 

أنا فقط لا أستطيعُ إيقاف هذه اللّعنة نهائيًّا، إنّما أستطيعُ تحديد كمِّ الأشخاصِ الّذين أودُّ سماع أفكارهم الدّاخلية. 

وجّهتُ أبصاري نحو امرأةٍ تبدو في عقدِها الخامس، حيث كان وجهُها مليئًا بالتّجاعيد الّتي تدلُّ على خبرتِها العميقة بتجاربِ الحياة، شعرتُ بأنّها ستكون الشّخصَ الأنسبَ لكي أستمعَ لصوته الدّاخلي، ظنًّا منّي أنّها ستكون أكثرَ هدوءًا من ذاك الشّاب الطّائش الّذي يقفُ على بعد خطواتٍ من كرسي الانتظار الّذي أجلسُ عليه.

دقّقتُ في وجهِها ولاحظتُ تقطيبةَ العبوسِ القابعةِ بين حاجبيها، وبعدَ ثوانٍ من محاولتي عزلَ باقي الأصوات ووضعَ جلَّ تركيزي عليها، بدأتُ بالفعلِ بسماعِ ما تُضمره بداخلِها، لأكونَنّ أكثرَ دقّة… ما تفكرُ به! 

«يا إلهي آملُ أن يكون بخيرٍ، يجب أن أسرعَ باللّحاق به قبل أن يُقْدم على فعلٍ متهوّرٍ كالمرّة السّابقة.»

كنتُ أستمعُ لكلّ صوتٍ يدور بعقلِها وكأنّها تحدّثني شخصيًّا، حتّى أنِّي فكّرتُ بالسؤال عن من تتحدّث!

رأيتُها ترفعُ سماعةَ هاتفها بعد أن أفزعَها برنينه المفاجئ، وبعدها تقولُ وهي تتنهّدُ بنبرةٍ تميلُ إلى اليأس: «توقّف يا مارك وعُد إلى المنزل، أنا وأبوكَ لن نتحمل نتائجَ أخطائك مجدّدًا!»

لاحظتُ ملامحها المرهقة وهي تكبتُ دموعَها بصعوبةٍ عندما تلقّت الردّ من مارك، الّذي اتضح أنّه ابنُها، والّذي جعلني أتمنى لحظة لو أنني أستطيعُ سماع المتحدّثين عبرَ الهاتفِ أيضًا. 

تبًّا لقد أصبحتُ فضوليّةً بشكلٍ كبير!

حاولتُ كبح فضولي، وساعدَني على ذلك جلوسُ الشّاب الّذي وصفتُه بالطّائش قبل قليلٍ بجانبي، حيثُ اقتحمَت أفكارُه عقلي عنوةً عندما خطفتُ نظرةً سريعةً نحوه. 

«تبدو غريبةَ أطوار.» كان يحدّقُ بي وسمعتُه يقولها، حسنًا لقد كانت هذه أفكارُه! 

لثانيةٍ كنتُ سأنفجرُ بوجهِه وأوبّخُه على وقاحته، لكن عِوضًا عن هذا كبتُّ رغبتي الجامحة بقتلِه والتزمتُ الصّمت! 

عدتُ بتركيزي لتلكَ المرأة، ولاحظتُ أنّها مسحت بعض الدّموع المتمرّدة من على وجهِها، وعادَت تضعُ الملامحِ الهادئة نفسها الّتي جذبتني لها في البداية، غير أنّني أصبحتُ أعي أنّ وراءَ هذا قصّةٌ صاخبةٌ تبعدُ كلّ البعد عن مصطلح الهدوء!

استقمتُ ومشيتُ باتّجاهِها دون تفكيرٍ مطوّلٍ مني، وقلتُ عندما وقفتُ أمامها بنبرةٍ مرحة:

«تفضّلي.»

ناولتُها عبوةَ الماء الّتي اشتريتُها قبل دخولي إلى المحطّة، علّها تُهدِّء من نبضاتِ قلبها المتسارعة، ولكنّها رمقتني باستنكارٍ لفعلتي هذه، ممّا دفعني للتبرير. 

«تبدين متعبةً قليلًا يا خالة، هوّني عليك لا شيء يستحقُّ العبوس، حتّى إن كان الأمرُ متعلّقًا بشخصٍ يعني لنا الكثير!» أنهيتُ كلماتي وصفعتُ نفسي داخليًّا عندما تلقّيتُ منها نظرةً مترقّبة وحائرة، وهنا فورًا تركتُ قارورة الماء بجانبِها وعدتُ أجرُّ قدميّ لأجلسَ مكاني مجدّدًا. 

«أشكرك!» تمتمتِ المرأةُ بهذا ممّا جعلني أبتسمُ برضى. 

«يا إلهي إنّها أقصرُ ممّا تخيّلت!» قال الشّاب بجانبي، فرددتُ عليه باستنكارٍ: «عذرًا... من تدعو بالقصيرة!». 

ويا لغبائي، لقد كان هذا الصّوتُ بداخلِ رأسه وليس واقعيًّا! 

نظرَ لي بحذرٍ ورفع أحدَ حاجبيه معقّبًا باستغراب: «ليس وكأنّك تقرئين الأفكار!».

تبًّا لي ولتهوّري، ما زلتُ لم أتعلّم التّفريق بين الأصواتِ الحقيقيّةِ وأصواتِ العقول، في الحقيقةِ لا أظنُّ أنّني سأتعلّم هذا قريبًا؛ فهي بالفعلِ متطابقة. 

لكن أعتقدُ أنّ كلَّ ما يجبُ عليّ تعلّمه هو إطباق فمي الثّرثار! 

ابتسمتُ بسخريةٍ وقلتُ بعدها بثقة: «لقد سمعتُك تقولُ هذا أيّها الوقح!». 

انسوا هذا، أنا لم أقل أو أفعل أيّ شيء سوى أنّني ازدردتُ ريقي بتوترٍ ورسمتُ ابتسامةً غبيّة. 

«ألن تجيبي؟ أنا لم أقُل هذا بصوتٍ مسموعٍ حتّى!» زفرَ قائلًا بتوجّسٍ بينما سحبتُ حقيبتي وقرّرتُ الابتعادَ عنه قدرَ الإمكان، أعلمُ بأنّه لا يوجدُ وصفٌ لما أفعلُه سوى الهروب وتأكيد شكوكه نحوي.

ولكنّني أعجزُ عن تبريرِ ما قلتُه وأخشى أن أتفوّه بشيءٍ أحمق مرّةً أخرى ويُكشفُ أمري، بالإضافةِ لكوني ﻻ أعلمُ ما سيقدمُ على فعلِه، ربّما سيبدأُ بالسّخرية مني مثلًا! 

أسرعتُ بخطواتي وحاولتُ حجب الأصواتِ من حولي، حتّى شعرتُ بأحدهم يوقفني، التفَفتُ نحوه عاقدةً حاجبيَّ بقليلٍ من الغيظ. 

قال بريبةٍ: «أنتِ لم تجيبيني بعد.»

فرددتُ عليه بثقةٍ مغمورةٍ بالتهكّم: «لقد سمعتُك تقول هذا، ومن ثم لا تدّعي تصديق الخرافات!». 

أنهيتُ كلماتي والتفَفتُ مكملةً طريقي بسلامٍ، لولا سماعي لجملتِه الوقحة الّتي جعلتني أستديرُ فورًا عازمةً على توبيخِه وإغراقِه بالإهاناتِ الّتي تليق بأمثاله. 

يتبع..

________________________ 

تاريخ بداية الكتابة 14 /12/2019
تاريخ بداية النشر 15/12/2019 

تصنيف القصة "خيال - كوميدي" 

رأيكم كبداية؟ 

- أتمنى تكون القصة ممتعة. 

رأيكم بطريقة السرد؟

الشخصيات؟ 

تنويه: القصة غير مقتبسة عن أي قصةٍ أخرى، وإن صادف وحدث هذا فبالتأكيد ليس عن قصدٍ -مع ذلك آملُ أن تكون فريدةً من نوعها بالنسبة لكم كما هي فريدةٌ بالنسبة لي-.

أرجو عدم نقلِها دون ذكر المصدر -كل الحب-. 

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top