فات الميعاد

كان صوت الارتطام قويًا مما جعلني اسكب بعضًا من قهوتي.

عقدتُ حاجبيّ في تذمر وأنا أحاول تنظيف ثيابي؛ فلم أرد لأي شيء مهما كان صغيرًا بأن يعكر مزاجي اليوم. ألم تستطع جارتنا في الدور العلوي الانتظار قليلًا حتى أنتهي من قهوتي قبل الإلقاء بنفسها من شرفتها والتسبب في كل هذه الفوضى!

أكملت احتساء قهوتي على أنغام «أم كلثوم» وهي تتجلى بأنه قد «فات الميعاد». تهتُ في حالة شجن وأنا أفكر في معاني الأغنية. «طالت ليالي الألم وتفرقوا الأحباب.»

صدقتِ يا «ست»، ولكن آن لكل هذا أن ينتهي؛ فكل ما عانيناه من شقاء وحسرة سيزول قريبًا... قريبًا جدًا.

ابتسمتُ في رضا، ونظرتُ للوقت في ساعتي. كان بالفعل قد بدأ العد التنازلي؛ فلم أرد تضييع المزيد من الوقت. نهضتُ من مكاني وبدلتُ ثيابي سريعًا، ومن ثم أخذتُ مفاتيح سيارتي وقبل أن أخرج من باب الشقة، تفقدتها بنظراتي مرة أخيرة؛ ففي يوم من الأيام كانت جدرانها شاهدة على العديد من الذكريات السعيدة، ولكنها اقتلعت باكرًا من جذورها كوردة بعد ذبولها لم تصبح سوى رمزًا للموت والخراب.

ولكن كل هذا لا يهم، فلم يتبق إلا القليل.

كان الشارع الرئيسي أشبه بساحة حرب، أصوات النحيب والعويل في كل مكان، وتكاد تصم الأذان، بل وتغطي أيضًا على أصوات الصلوات في الجوامع والكنائس الممتلئين بالناس في كل مكان. كانوا هؤلاء ممن استسلموا للواقع بسلام، وقرروا اللجوء لله فيما تبقى من وقت.

أما من ظل على وضع النجاة فكانوا يجرون في هلع كالمجانين يمينًا ويسارًا، يتكدسون في سياراتهم الخاصة وسيارات «الميكروباص» ظنًا منهم أنها ستمنحهم فرصة للنجاة من قدرهم الذي لا مناص منه.

هززتُ رأسي في تهكم؛ فكم كنت أشعر بالأسى عليهم.

وفي طريقي إلى سيارتي التي كنت قد ركنتها في مكان سري، لمحتُ بطرف عينيّ جثتين أو ثلاث ممن لم يطيقوا الانتظار وقرروا استعجال المحتوم.

حمدتُ الله عندما وجدت السيارة في مكانها. دلفتُ إليها وأدرتُ المحرك سريعًا خوفًا من أن يلمحني أحدهم، وانطلقتُ أخيرًا لوجهتي والتي كانت عكس كل السيارات الأخرى...

من المفترض أن يصطدم النيزك بنا في ساعات الصباح الأولى لليوم التالي، أي أنه قد تبقى أقل من أربع وعشرين ساعة على فناء الحياة كما عهدناها على سطح كوكبنا العتيق...

في الحقيقة أن البداية كانت منذ عشر سنوات، ففي عام 2020 بدأت الطبيعة الأم في التمرد علينا بعد وصول التغيّر المناخي لمراحل خطرة، فحرائق الغابات المتكررة، والزلازل، وثوران البراكين لم يكن من فراغ، ولكن العالم حينها كان منشغلًا بمجابهة عدو آخر على هيئة وباء عالمي.

وبالطبع، خرج العلماء في كل مكان يصرخون وينبئون بكارثة فضائية ربما تهدد بفناء البشرية بأسرها وأن طبقة الأوزون في تدهور مستمر ولن تقوى على حمايتنا بعد الآن، ولكن كالعادة، لم يلق لهم أحد بالًا، واستمر العالم لسنين أخرى في هوايته المفضلة ألا وهي الصراعات السياسية الواهية وصرف المليارات على أسلحة الدمار الشامل.

ولكن ناقوس الخطر الحقيقي بدأ في أواخر عام 2025، حينما أعلنت وكالة ناسا أن الأرض معرضة بأن تصطدم بها بعض النيازك على فترات متباعدة، ولكنها طمأنت الجميع بأن هذه النيازك معظمها سيتفتت في الغلاف الأرضي ولن تشكل خطرًا فعليًا على العالم.

ولكن لم يكن هذا ما حدث، فهذه النيازك كانت بمثابة القنابل النووية الموقوتة، وسقوطهم أدى إلى محو مدن كبيرة من على وجه الأرض، وسببوا زلازل وفيضانات وكوارث في معظم أرجاء العالم.

حاول قادة العالم حينها التحرك لينقذوا ما يمكن إنقاذه، ولكن كل المحاولات كانت دون جدوى؛ فاتضح للجميع أن أفلام «هوليوود» كلها كانت كذبة، وأنه لا وجود لذلك البطل المغوار الذي سينقذ العالم بأعجوبة.

وكانت الطامة الكبرى عندما سقط نيزك لم يستطع أحد إيقافه في المحيط الهادي وسبب موجات تسونامي عملاقة قضت على أغلب بلدان شرق أسيا، ومحت بلدان عظمى من على الخريطة. وبعده دخل العالم بأسره في فترة كساد وانهيار اقتصادي لم يشهدها من قبل؛ فلم يعد هناك وجود للإمبراطورية الصينية، والولايات المتحدة ودول أوروبا كانوا قد أنهكوا تمامًا بالكوارث الطبيعية التي كانت تضرب أراضيهم باستمرار.

والغريب، أن معظم بلاد قارة إفريقيا ظلوا بخير إلى حد ما. بالتأكيد كان هناك وجود للعديد من الفيضانات والعواصف المدمرة وثوران لبعض البراكين، ولكن كل هذا لم يكن شيئًا يذكر لما حل بباقي العالم، والعديد من الدول ظلت متماسكة، بما فيهم مصر.

استمر هذا الأمر لمدة عامين، وبعدهم حصل العالم على فترة راحة يلتقط فيها أنفاسه ويلملم جراحه، وظن الجميع بأن الخطر قد انتهى، وأن البشرية ستستعيد قوتها من جديدٍ لا محالة. ولكن تلك الفترة لم تستمر طويلًا، فاتضح لنا أن كل ما حدث كان مجرد تمهيد للعرض النهائي والذي معه سيسدل الستار على العالم كله لمرة أخيرة. فقبل ستة أشهر من الآن، خرجت وكالة ناسا ببيان أنبأت فيه العالم بأن هناك نيزك — حجمه عشر أضعاف النيزك الذي تسبب في انقراض الديناصورات — سيصطدم بالأرض، منهيًا معه كل أشكال الحياة.

وبالطبع، ما حدث بعد هذا كان شبيهًا لما اعتدنا على رؤيته في أفلام نهاية العالم، فوضى عارمة في كل مكان، وسقوط للحكومات والدول وانهيار تام للاقتصاد العالمي، حتى أن معظم شبكات الاتصال والإنترنت توقفت تمامًا عن العمل، وفقد العالم اتصاله ببعضه بعضًا.

أما الناس في بلدنا فتفرقوا لأنواعٍ عديدة، فبعضهم ظل في حالة إنكار وظلوا يرددوا بأنه لن يحدث أي شيء وأن الاصطدام سيكون بمكان بعيد كالذي سبقوه، وسنظل نحن بخير.

وهناك من تقبلوا الوضع بصدرٍ رحب ولم يجادلوا كثيرًا، فبالفعل كان هناك دلائل كثيرة؛ وقرروا قضاء ما تبقى لهم من وقت في الصلاة والعبادة.

وترك الجميع وظائفهم وتوقفت أغلب أشكال الحياة سوى خدمات قليلة تطوع البعض لأن يستمر في عمله بها. كبعض الأطباء الذين لم تسمح لهم ضمائرهم بترك مرضاهم يعانون حتى في نهاية العالم. وبعض عمال السكك الحديد ووسائل المواصلات العامة أيضًا استمروا بعملهم حتى يتمكن للعائلات أن تلم شملها وتواجه النهاية معًا.

وهناك العديد ممن لم يحتملوا الانتظار وقرروا إنهاء حياتهم بأيديهم، وكانت هذه الفئة تزداد يومًا بعد الآخر. بل أننا سمعنا عن أشخاص قاموا بقتل عائلاتهم كلها ومن ثم إنهاء حياتهم، وأمهات قررن إنهاء حياة أبنائهن بطريقة رحيمة في نومهم حتى لا يضطروا لأن يشهدوا ما ينتظرنا من فزع.

مر أمام عينيّ ذلك اليوم الذي عدت فيه إلى المنزل ولم أجد زوجتي بانتظاري كعادتها. علمتُ فورًا بأن هناك خطب ما ففتشت عنها كالمجنون حتى وجدتها وقد حبست نفسها في الحمام وكانت تناولت شريطًا كاملًا من المهدئ. حين وجدتها كانت بشرتها شاحبة كورقة بيضاء خالية، وكانت تخرج رغوة من فمها، فعلمتُ فورًا أن الحياة قد فارقت جسدها، هي وطفلي الصغير في بطنها والذي لم تسنح لي الفرصة برؤيته ولو حتى مرة واحدة...

شعرت بأصابع يدايّ ترتجف فقبضتُ على عجلة القيادة بقوة. كانت الشوارع شبه خالية، فكنت أنا الغبي الوحيد المتجه إلى الإسكندرية عوضًا عن الهرب منها، فالمدن المطلة على البحار والمحيطات كانت بالتأكيد في الصفوف الأمامية لعرض نهاية العالم الذي سنشاهده بعد عدة ساعات.

بل وأيضًا ظهرت شائعات في الأسابيع القليلة الماضية أن هناك أماكن في جنوب مصر قد تكون لها فرصة في النجاة، وأن هناك جماعات سرية قامت ببناء ملاجئ تحت الأرض قادرة على الصمود أمام أعوام الشتاء والظلام التي ستتبع اصطدام النيزك بنا. بالطبع هرع الأغلبية إلى جنوب البلاد على أمل أن يحتموا بتلك الملاجئ والتي لم يتم الإعلان أبدًا عن أماكنها بدقة، وعلى الأغلب لم تكن موجودة أصلًا.

أما أنا فلم أهتم أبدًا بالأمر حتى ولو كان حقيقة؛ فقد استسلمت للواقع منذ وقت طويل، بل وانتظرت هذا اليوم بفارغ الصبر؛ فهو يوم خلاصي من العذاب والألم الذي لا يكف أبدًا على أن ينهش في روحي.

لفت انتباهي شخص ممددٌ على قارعة الطريق، وعندما اقتربت منه بالسيارة لمحت إبره تتدلى من أحد عروق ذراعه، وكان يبدو أنه قد فارق الحياة بالفعل.

لم يفاجئني هذا المشهد؛ فقد كانت المشروبات الكحولية وكل أنواع المخدرات — التي سبق وكانت غير قانونية — تباع على أرصفة الطرق وكأنها علكة أو مشروبات غازية، وقد لجأ الكثير لها بحثًا عن مهرب من الواقع المضني الذي نعيشه.

في مرة بعد وفاة زوجتي، قادتني نفسي لابتياع كمية كبيرة من المخدر وبالفعل كنت قد قررت إنهاء حياتي بأخذ جرعة زائدة، ولكنني استيقظت بعدها وأنا غارق في قيئي؛ فقد فشلتُ في إنهاء حياتي كما فشلَت أغلب محاولاتي طيلة حياتي البائسة. وبعدها لم أفعل أي شيء في حياتي سوى انتظار هذا اليوم. ومتأكدٌ أن هناك الكثيرين مثلي، ممن ينظرون لهذا اليوم بأنه خلاص من حياة أرهقت روحهم وأورثت أفئدتهم همومًا بثقل الجبال.

توقف حبل أفكاري عندما رأيتُ مجموعة من الأشخاص يقفون في منتصف الطريق أمامي. دستُ على المكابح سريعًا لأوقف السيارة حتى لا أدهسهم، ولكن كان عليّ أن أعلم بأن هذا خطأ كبير...

اتضح لي أنهم مجموعة مكونة من خمسة أفراد، وكانوا يحملون في أيديهم أسلحة بيضاء، وكان واحدٌ منهم بيده مسدس ووجه فوهته ناحية رأسي. أمروني بترك السيارة وإلا قاموا بتفجير رأسي.

خرجت ضحكة لا تلقائية مني عندما قالوا ذلك وقلتُ لهم أن بعد ساعات قليلة سنكون كلنا في عداد الموتى، وأنه لا داعي للعجلة في إرسال روحي لعزرائيل.

ولكن مزحتي الصغيرة بالتأكيد لم ترق لهم، فواحد منهم سحبني من ياقة قميصي وأنزلني من السيارة رغمًا عني ومن ثم وجه لكمة قوية لوجهي قبل أن يرميني أرضًا، ومن ثم توالوا عليّ كلهم بتوجيه الضربات واللكمات في مناطق متفرقة من جسدي. وحتى بعد أن صعدوا كلهم إلى السيارة، استمروا بتوجيه الشتائم لي حتى اختفت السيارة من مرمى البصر.

بصقتُ بعضًا من الدماء التي تجمعت في فمي، وحاولت النهوض رغمًا عن الألم الذي كان يعتصر جسدي، وتساءلت لما قد يلجأ الإنسان للعنف وهو على بعد ساعات من نهاية العالم! وكان عليّ إيجاد طريقة أكمل بها طريقي إلى الإسكندرية، فقد خططتُ طويلًا لهذا الأمر، ولا يمكن أن أستسلم الآن؛ فقد كانت الإسكندرية هي مسقط رأسي، وهناك قابلتُ زوجتي لأول مرة، وكان بحرها وشوارعها شاهدين على بعضٍ من أفضل ذكرياتي؛ ولذلك لابد من أن تكون النهاية هناك أيضًا.

تحاملتُ على نفسي وسرت لمسافات طويلة في شوارع خالية من كل اتجاه، وكاد اليأس يتملكني عندما رأيت سيارة واقفة على بعد مسافة قليلة.

أسرعتُ في خطواتي حتى اقتربت منها. كان بداخلها شاب يبدو أنه في آواخر العشرينات، وكانت الدماء تتدفق من جرح في رأسه. عندما فتحتُ باب السيارة وجدت مسدس في يده، وتبين لي أنه قد أنهى حياته برصاصة إلى الرأس، وكان هذا منذ مدة ليست ببعيدة؛ فالجثة لم تكن قد تيبست بعد. ربما كان يحاول اللجوء للجنوب كما الأغلبية، ولكن الواضح أنه استسلم لحقيقة أن جهوده كانت دون جدوى في منتصف الطريق.

حملتُ الجثة برفق وأنزلتها من السيارة. اعتذرت له بنظرة أخيرة قبل أن أنطلق بالسيارة إلى الإسكندرية.

بعد ساعات قليلة أخرى، وصلتُ أخيرًا لوجهتي والتي كانت أشبه بمدينة أشباح، وليست عروس البحر الأبيض كما عهدتها.

كان قد حل الليل، وكانت الشوارع ساكنةً تمامًا، ومعظم البيوت كانت خالية ما عدا البعض الذي كان ينبعث منه نورًا يوحى بأن هناك أشخاص قد استسلموا للقدر المحتوم وعلى الأغلب يقضون ما تبقى من وقت في الصلاة أو وسط دفئ عائلاتهم.

ركنتُ السيارة وخرجتُ منها. وظللتُ أمشي في الشوارع وحيدًا لساعات طويلة حتى قادتني قدماي لشاطئ البحر.

والغريب أن جو الإسكندرية ظل ساحرًا كما هو؛ فنسيم بحرها كان دومًا قادرًا على أن يعيد روحك إليك.

ابتسمتُ وتمنيتُ لو كان بإمكاني الآن الحصول على أكلة سمك من التي اشتهرت بها الإسكندرية، وتكون كالوجبة الأخيرة لمن سيتم تنفيذ حكم الإعدام بهم، ولكني لم أكن محظوظًا إلى هذا الحد. يكفيني فقط أنني سأستمتع بشروق الشمس مع صوت أمواج البحر لمرة أخيرة.

فشاهدتُ في سعادة الشمس أخيرًا وهي تظهر من خلف البحر ليمتزج اللون البرتقالي بالأزرق ويرسم لوحة طبيعية تأسر القلوب حتى مع علمي بأن شروق الشمس هذا لم يكن دعوة ليوم جديد كالعادة، بل كان كجرس الإنذار الذي ينبئ بموعد اقتراب النهاية.

وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى شعرت بالأرض من تحتي تهتز بقوة شديدة وشاهدت الطيور في السماء وهي تطير في أسراب محاولة الفرار من الجحيم الذي شعروا بقدومه.

شعرتُ بنبضات قلبي تتسارع وأنا أشاهد البحر وهو يتراجع بسرعة مهولة إلى الوراء، وبدأت السماء تتلون باللون البرتقالي المشبع بالحمرة.

وأخيرًا رأيتُ موجة التسونامي وهي تقترب ناحية الشاطئ. كانت جدارًا ضخمًا من الماء أعلم أن قوته ستكون كعشرات القنابل النووية، ولن ترحم أي شيء في طريقها.

أغمضتُ عيني وانتظرتها بابتسامة. وكان صوت «الست» هو آخر شيء تردد في أذني.

«وكفاية بقى، تعذيب وشقى...

فات الميعاد .. فات .. فات الميعاد...»

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top