فُرْصَة

يا تُرى، ما الذي يجول في عقل المقدمين على الانتحار في تلك الثوان القليلة بين لحظة القفز والارتطام؟

أهو شعور بالخوف؟

الندم؟

أو ربما الارتياح؟

أغلقت عيني منتشيًا بإحساس الهواء البارد وهو يضرب وجهي. مددت ذراعيّ على اتساعهما على طريقة «تايتانيك»، وعلَّت وجهي ابتسامة صغيرة، وأنا أستمع لأغنيتي المفضلة «My Way» بصوت «سيناترا» العذب.

لوهلة، فكرت فيما قد يحدث لو قمت بأخذ خطوة واحدة للأمام، تاركًا الأمر للجاذبية ومفهوم السقوط الحر ليكتبوا سطور النهاية.

الطريف في الأمر أنني قد جربت إحساس الموت عشرات المرات أثناء نومي في الأسابيع القليلة الماضية، وفي كل مرة كانت الطريقة التي ألفظ أنفاسي الأخيرة بسببها مختلفة، وكان يختلف معها إحساس الخوف والهلع، وحتى مستوى العناء والألم. لدرجة أنني بدأت أصدق أن الأحلام التي أراها ما هي إلا مشاهد واقعية لموت نسخ أخرى مني كانت تعيش في عوالم متوازية.

أو ربما السبب الأرجح أن ما يحدث ليس إلا عقابي المستحق من القدر؛ فقد كنت السبب في كل ما حدث...

فتحت عينيّ أخيرًا لأنظر لشوارع الجمالية، وشعرت وكأنها تنظر لي هي الأخرى في تحدي؛ فتهشُم رأسي على أحد أرصفة الحي سيكون حدثًا لا يُذكر مقارنةً بكل ما شهدته تلك الشوارع على مر التاريخ.

«استنى! أرجوك انزل من عندك.»

اتسعت عينايّ قليلًا عندما شعرت وكأنني سمعت صوت أحدهم من خلفي. كان الصوت خافتًا بسبب السماعات في أذني، ولكن كنت متأكد أنه لم يكن مجرد هذيان؛ فالأوهام والأشباح يلاحقونني في نومي فقط.

نظرت خلفي للبحث عن مصدر الصوت، ووجدتُ أمامي فتاة بدت في الثلاثينيات من عمرها. كانت تلهث وتتصبب عرقًا كأنها ركضت شوطًا كاملًا في سباق ماراثون.

نظرت إليها مطولًا، متفحصًا قسمات وجهها الذي جعلته علامات الذعر يبدو شاحبًا كالثلج. تلاقت نظراتنا وشعرت وكأن عيناها العسليتان يترجونني أن أعزف عن الفعل الجنوني الذي كنت مقدمًا عليه.

انتزعت السماعات من أذني ونظرت لها باستغراب. «انتِ بتكلميني أنا؟»

تبدلت تعابير وجهها ليبدو عليها الانزعاج، ومن ثم تحدثت بعصبية. «وهو في حد غيرنا هنا؟ اتفضل انزل من عندك.»

ارتسمت على وجهي ابتسامة صغيرة؛ فمحاولتها أن تبدو غاضبة لم تتفق أبدًا مع الملابس التي كانت ترتديها، والتي كانت عبارة عن ملابس نوم وردية اللون عليها رسمة لـ«ميكي ماوس».

هززت منكبيّ وقلت بفتور: «بس أنا مرتاح هنا.»

نظرت لي بتعجب قبل أن تحمر وجنتاها وتنفث في ضيق. «تصدّق أنا غلطانة إني جيت جري عشان الحقك. عايز تنُط؟ اتفضل نُط، محدش هيمنعك.»

قالتها واستدارت سريعًا لتتجه ناحية باب السطح، وشعرها الأسود الطويل يتطاير خلفها.

ولكن لسبب ما، لم أردها أن ترحل؛ لذا طرحت عليها سؤالًا قبل أن تصل للباب. «أنتِ ليه جيتي؟»

نجح سؤالي في جعلها تتوقف، ولكنها لم تستدر، فلم أتمكن من رؤية تعابير وجهها، وظلت صامتة دون حراك لفترة، وكأن سؤالي قد أفقدها القدرة على الكلام.

مضت بضع دقائق ولم ينبس كلانا ببنت شفة حتى استدارت هي أخيرًا، ورأيت عينيها وكانتا ممتلئتين بالدموع.

«لو مكنتش على الأقل حاولت أمنعك يبقى وكأني أنا اللي زقيتك. أرجوك متعملش كدة ... فكر في كل الناس اللي بيحبوك.»

أردت أن أضحك وأبكي في نفس ذات الوقت، وأردت أن أصرخ فيها قائلًا إنني كنت السبب في هلاك كل من أحبني يومًا، ولكن المسكينة لا ذنب لها؛ فهي لا تعرف أنني بمثابة طاعون قاتل يصيب كل من يقترب منه.

قررت أن أرأف بحالها؛ فقد كان واضحًا أنها تملك روحًا نقية لم يلطخها الزمن بعد، وأن فكرة رؤية أحدهم يزهق روحه أمامها كانت ستدمرها.

قفزتُ أخيرًا، ولكن للجهة المعاكسة لتلك التي كانت ستنهي حياتي، ورأيتها وهي تتنفس الصعداء.

كنت أنوي الاعتذار عما سببته لها من أذى وأسألها عن اسمها، ولكنها لم تترك لي أي فرصة، فبمجرد أن خطت قدمي بر الأمان، همّت راكضة باتجاه الباب واختفت تمامًا من مرمى بصري، ربما حتى لا أراها وهي تنهار بعد كل الضغط النفسي التي تعرضت له بسببي.

ظللت أحدق ناحية الباب الذي اختفت وراءه لبرهة دون حراك حتى شعرت ببرودة تجتاح جسدي، فتدثرت في السترة الخفيفة التي كنت أرتديها، ووضعت القلنسوة فوق رأسي قبل أن أتجه أنا أيضًا ناحية الباب قاصدًا شقتي في الطابق الثانِ من العمارة. تلك الشقة التي تُرِكَت وحيدة لسنوات عدة، لم يسكنها فيهم سوى عناكب ضلّت طريقها ونسجت خيوطها على الجدران التي كانت يومًا شاهدة على العديد من الذكريات السعيدة وفوق الأثاث المُفتقد لدفء العائلة.

تذكرت حينما كنت صغيرًا وقال لي أبي أنه علينا السفر لبلد آخر يبعد آلاف الأميال بسبب ظروف عمله. وحين جاء يوم السفر، كنت أنا في غاية الحماس لركوب الطائرة ورؤية أماكن جديدة، ولم أنظر خلفي أبدًا عندما جاءت السيارة التي كانت ستقلّنا للمطار، ولكن أبي ظل يحدق لشارعنا وبيتنا طويلاً قبل أن يدلف للسيارة، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي رأيته يبكي فيها.

وعلى الرغم من استقرارنا التام في كندا، رفض أبي رفضًا تام فكرة بيع شقتنا القديمة في مصر، فكان دائمًا ما يحلم بالعودة لأرض الوطن يومًا ما.

تذكرت في هذه اللحظة مقولة لـ«نجيب محفوظ» قال فيها أن حي الجمالية له خيوط غير مرئية تشدك إليه كلما ابتعدت؛ فأنت تخرج منه فقط لتعود إليه. وكم تمنى أبي العودة، ولكن لم تسنح له الفرصة، أو الأصح، أنا من انتزعت تلك الفرصة منه بالقوة وحرمته منها للأبد.

ولكن ها أنا الأن وقد عدت لنفس الحي الذي ولدت فيه، بعد غيبة استمرت لأكثر من ثلاثة عقود. وليس لأنني اشتقت إليه؛ بل لأنني أردت الهروب من كل ما كان يربطني بحياتي في كندا؛ فهنا لا يعرفون شيئًا عن ماضيّ وأشباحه التي ستلاحقني للأبد...

دخلت للشقة وأضأت الأنوار، وكانت المرآة الكبيرة المقابلة للباب هي أول شيء وقعت عيني عليه. انتابني شعور مفاجئ بالغثيان؛ ففي كل مرة أرى انعكاسي فيها، أشعر وكأنني أحدق في عيني شخص غريب متبلد المشاعر، جسد خاوٍ بلا روح.

لا أصدق أن الشخص الذي ينظر لي الأن بعينين حمراوين، وذقن شعثاء تغزوها الشعيرات البيضاء، ووجه نصفه الأيسر مغطى بندبة كبيرة، هو نفس ذات الشخص الذي منذ أشهر قليلة فقط كان مظهره يأتي في المقام الأول؛ فكان دومًا حليق الذقن، شعره مُصفف، ونادرًا ما كنت تراه يرتدي أي شيء آخر غير السُتَر الباهظة من تصميم «أرماني».

ولكن كل ما يأخذه الأمر هو بضع ثوانِ لتنقلب حياة المرء رأسًا على عقب، أو في حالتي لتنقلب السيارة وتغير حياتي كما عهدتها للأبد.

فربما لو كنت ضغطت على المكابح مبكرًا قليلًا في تلك الليلة كان سيكون كل شيء على ما يرام. ربما كنت سأتفادى الشاحنة، وحينها، لم يكن سيلفظ أبي وأمي أنفاسهما الأخيرة فوق أحد طرق تورنتو وسط بركة من دمائهم، ولم أكن سأدخل أنا في غيبوبة لأسابيع ليتم دفنهم من دون وجودي في بلد غريب، ومن دون أن أودعهم لمرة أخيرة.

ولكن، من أخدع؟ فالسبب الحقيقي وراء ارتطامي بتلك الشاحنة كان عدم رؤيتي لها من الأساس؛ فزجاجة «چاك دانييلز» التي شربتها بأكملها تلك الليلة كانت قد أسرت الجزء العاقل مني في زنزانة محكمة، وتركت أحمقًا ليكون هو ربان السفينة، وسفينة كتلك كان لابد أن يكون مصيرها الغرق.

ولكن، لماذا لم أغرق أنا أيضًا معهم؟ فالقبطان الذي يصطدم بالجبل الجليدي بمحض إرادته بالتأكيد لا يستحق النجاة...

شعرتُ بحرارة غريبة على وجنتيّ، وعندما لمستهما، تبللت أصابع يدي، فأدركت أنني كنت أبكي. مسحتُ دموعي سريعًا بطرف سترتي وتركت مكاني أمام المرآة أخيرًا، وترنحت حتى وصلت لمقعدٍ ألقيت جسدي الهزيل فوقه. مددت يدي والتقطت علبة سجائر وقداحة. وضعت سيجارة بين شفتيّ وأشعلتها، ثم شرعت في تدخينها ببطء.

قررت تفقد هاتفي ووجدت العديد من المكالمات الفائتة والرسائل النصية من «ليام»، وكيلي الأدبي في كندا. لم أكلف نفسي بفتح الرسائل؛ فأنا أعرف محتواهم مسبقًا. فكل ما يهمه هو معرفة متى سأنتهي من كتابي الجديد.

كان «ليام» هو الشخص الوحيد الذي مازلت أتحدث إليه من معارفي القدامى؛ لتيقني أنه لم يهتم أبدًا لأمرى شخصيًا، ولهذا لن يسألني عن حالي بعد الحادث؛ فكل ما يهمه هو كم سنجني من المال معًا. ولكن مع هذا كنتُ قد حكيت له عن الأحلام الغريبة التي بدأت تراودني في الآونة الأخيرة.

أي شخص طبيعي كان سينصحني بزيارة طبيب نفسي، ولكن ليس «ليام»؛ فنصيحته لي تمثلت في تحويل تلك الأحلام لقصص قصيرة يتم نشرها في كتاب مجمع يروي اللحظات الأخيرة لعدة أشخاص ماتوا بطرق مختلفة.

وبصراحة، فكرته راقت لي؛ فطالما كانت الكتابة طبيبي النفسي الخاص الذي أحكي له عن كل ما يؤرقني، ولولاها كنت قد اتخذت قرار الانتحار فعليًا منذ زمن طويل.

ثم إن «ليام» نجح في تحميسي للأمر؛ فسأكون أول من نفذ فكرة كتلك، كما أنها ستروق للعديد من الأشخاص ممن يحبون قراءة صفحة الحوادث والوفيات يوميًا لإرضاء ذلك الجزء السادي داخلهم.

ولكن رغم كل هذا، فتلك الأحلام — أو الكوابيس بالمعنى الأدق — كانت مرعبة بحق؛ ففي كل مرة أجد نفسي في جسد شخص ما لا أعرف من هو ولا حتى أرى شكله، ودائمًا ما يلقى هذا الشخص حتفه، سواء كان هذا خلال حادث أليم، أو أن يتم قتله. وأصبحت وسيلتي الوحيدة للتعايش مع الهلع والألم الذي أشعر به في كل مرة هي كتابة قصة تنتهي بموت بطلها.

وبصفتي كاتب مختص في أدب الجريمة والرعب، فقد قرأت العديد من كتب الطب النفسي، وفسرت ما يحدث لي على أنه حالة من حالات «ذنب الناجي | Survivor's Guilt»؛ فبدلًا من الموت مرة واحدة وأخيرة تلك الليلة، قرر عقلي الباطن معاقبتي بجعلي أموت كل ليلة...

نظرت للساعة في يدي ووجدت أنها قد تخطت الثانية بعد منتصف الليل، وقررت أن أكتفي بهذا القدر من جلد الذات وأخلد للنوم، وقبل أن أغفو كان أخر شيء فكرت فيه؛ يا ترى كيف سأموت الليلة!

***

كان دائمًا فصل الشتاء هو الأحب بالنسبة لي، خاصة شهر ديسمبر. فمنذ أن سافرنا لكندا، كنت أنتظر قدومه بشدة كل عام؛ فالأجواء الاحتفالية واللعب فوق الثلوج كانوا كفيلين لجعلي أذوب دفئًا رغم برودة الطقس.

وها أنا الأن مجددًا، أقف في مكان يكسوه البياض الناصع، ولكن ... أنا أعرف هذا المكان.

نظرت للأسفل لأجد نفسي أرتدي حذاء تزلج وأقف فوق بحيرة متجمدة ... نفس البحيرة التي قصدّتها كثيرًا برفقة أصدقائي.

قبل أن أستوعب ما يحدث، قذفني أحدهم بكرة ثلج من خلفي، فالتفت — أو بمعنى أصح، التفت الشخص الذي على شفا حفرة من الموت — باحثًا عمن قام بإلقاء الكرة. وبمجرد أن وجده، بدأ بمطاردته على الجليد.

ولكن، ذلك الشخص الذي كان يتم مطاردته هو «هنري»، أحد أصدقائي المقربين، ومعنى أنه موجود هنا؛ فالشخص صاحب هذا الجسد هو «أندرو»؛ فكان ثلاثتنا مقربين للغاية منذ أن كنا أطفالًا، وكنا دائمًا ما نأتي للتزلج فوق هذه البحيرة.

ولكن، هذا غير معقول، فوجودي في جسد «أندرو» لا يحمل إلا معنًا واحدًا...

فجأة سمعت صوتًا عاليًا أشبه بتصدع الزجاج. نظر «أندرو» للأسفل ليجد أن الجليد حوله بدأ ينكسر.

صرخ على «هنري» بعلو صوته، ولكن كان الأوان قد فات، فسرعان ما تكّسرت الجليد تمامًا وابتلع جسد «أندرو» ليجد نفسه محاطًا من جميع الجهات بمياه درجة حرارتها تحت الصفر.

شعرت معه بهلعه وهو يحاول أن يصل إلى السطح، ولكن دون جدوى؛ فحذاء التزلج الثقيل كان يجذبه للأسفل بسرعة كبيرة. برودة المياه كانت لا تحتمل، وجعلتني أشعر وكأن أحدهم قد غرز مئات الدبابيس في جسد هذا المسكين. حاول أن يكتم أنفاسه، وشعرت بالألم البشع في صدره، ورويدًا أصبحت الرؤية ضبابية أكثر فأكثر، حتى انعدمت تمامًا، وأصبح كل ما يراه هو السواد الحالك، وشعرتُ به وهو يحاول أخذ نفسه لمرة أخيرة، وبعدها، توقف كل شيء تمامًا...

***

انتفضت من نومي، وشرعت في أخذ أنفاسٍ طويلة متلاحقة، فكنت أشعر وكأنني أختنق ... أو أغرق.

رفعتُ يدي المرتجفة ببطء لأجفف قطرات العرق الباردة المتجمعة فوق جبيني، ومررت أصابعي خلال خصلات شعري القصير. كلها كانت محاولات واهية للتهدئة من روعي وطرد بقايا الكابوس الذي استيقظت منه للتو.

نظرتُ للمنبه بجانبي، فوجدت أن الساعة قاربت على العاشرة صباحًا. أردت أن أتصل بـ«هنري» و«أندرو»؛ كي أطمأن عليهما، ولكن أعلم أن الوقت كان لا يزال مبكرًا جدًا في كندا.

تركتُ لهما رسائل نصية، طالبًا منهم أن يتواصلوا معي في أقرب فرصة، وبعدها نهضتُ من السرير واتجهت ناحية المطبخ. كنتُ على وشك أن أعد كوبًا من القهوة حين سمعت طرقًا على الباب.

عقدتُ حاجبيّ في حيرة؛ فأغلب سكان المنطقة يتجنبونني منذ قدومي بعد معاملتي الجافة — والمقصودة — معهم؛ لأنني أردت أن يتركني الجميع وشأني، وعزمتُ على جعل الرسالة واضحة. ولكن، أعلم بالتأكيد أنني محور الحديث للكثير من المحادثات التي تدور بين سكان الحي، والتي عادة ما تحمل عنوان «يا ترى وراه مصيبة إيه ده؟»

ولكن، حتى لو اعتقدوا أنني قاتل متسلسل هارب من العدالة في «بلاد برا»، لا يهمني، المهم أن يتركونني وشأني.

اتجهت ناحية الباب وأنا عازم على أن أصرخ بعصبية في وجه الزائر المفاجئ، ولكن شعرتُ وكأن لساني قد انعقد فور فتحي للباب.

فقد وجدت أمامي عينين عسليتين كان يبدو عليهما الإرهاق الشديد؛ فكان تحتهما هالات سوداء تدل أن صاحبتهما لم تنعم بالكثير من النوم في الليلة الماضية.

ظلت تحدق فيّ طويلًا، وشعرتُ وكأنني عاري أمامها، فبالأمس كان الظلام حليفي ولهذا لم تر وجهي المشوه، ولكن الأن تراني بكل وضوح ولا يوجد ما أختبئ خلفه.

رأيتها تفتح وتغلق شفتاها مرات عديدة من دون أن تنطق، كمن يبحث عن كلمات تائهة، ثم قالت أخيرًا: «أنا آسفة لو كنت صحيتك بس كان لازم أطمن إنك...»

«إني لسة عايش؟»

أومأت رأسها ببطء، وتحاشت النظر لعيني مباشرة قبل أن تردف. «طول الليل كنت بفكر إنه كان المفروض أبلغ البوليس أو أي حد متخصص؛ لإني خفت تعمل حاجة في نفسك لما تبقى لوحدك، وأول ما طلع النهار، سألت عنك الجيران وقالولي إنك عايش هنا.»

ابتسمتُ رغمًا عني، فمنذ فترة كبيرة، لم أر أحدًا بهذه البراءة والطيبة.

«أنا كنت حابب أعتذر لك إمبارح عن كل اللي سببته ليكي، ومش عارف إزاي ممكن تصدقيني بعد إللي شفتيه بس أنا معنديش ميول انتحارية؛ فمش لازم تقلقي.»

رفعت حاجبيها باستغراب. «أومال اللي عملته امبارح ده كان إيه؟ تدريب عشان تقدم في السيرك القومي!»

ضحكتُ قبل أن أجيبها. «اعتبريها لحظة ملل وراحت لحالها.»

رمقتني بنظرة غاضبة، ثم قالت بعصبية. «والله لو حاسس بالممل ممكن تروح الملاهي، بس اللي أنتَ عملته ده اسمه جنون. تخيل رد فعل أهلك كان هيكون ايه لو جرالك حاجة!»

لا أدري لما آلمني كلامها، ولكنه كان أشبه بوضع ملح على جرحٍ غائر. وأعتقد أنها لاحظت تأثري بكلامها؛ لأن تعابير وجهها تبدلت ونظرت لي برفق أكثر.

«عامةً أنا حبيت بس أطمن إنك كويس.» قالتها واستدارت سريعًا، وكانت على وشك أن ترحل مرة أخرى.

«استني!» قلتها سريعًا، ولم يكن لدي فكرة عما سأقوله بعدها.

استدارت مجددًا، وتلاقت عينانا، وكانت تنظر لي بترقب.

«أنا ... أنا معرفتش اسمك.»

ابتسمت. وعندما رأيتُ ابتسامتها، تملكني شعور غريب وتمنيت لو أنها لا تتوقف عن الابتسام أبدًا.

«اسمي فريدة، وعلى فكرة، أنا كمان معرفش اسمك.»

«يوسف ... يوسف رضوان.» عرفت نفسي ومددت يدي لأصافحها.

وضعت يدها الناعمة في يدي. «تشرفنا يا سي يوسف، يا ريت مشوفكش على السطوح تاني.»

ابتسمت. «شكلك منمتيش كويس؟» قلتها متسائلًا في محاولة للحفاظ على النقاش حيًا.

تبدلت ملامحها مرة أخرى ونظرت لي بتزمر. «وهو في حد ممكن يجيله نوم بعد موقف امبارح. أنا حتى اضطريت أعتذر عن إني أروح الشغل النهاردة.»

نظرتُ باستغراب لملابسها والتي كانت عبارة عن تنورة طويلة مزركشة وقميص أبيض عليه رسومات أطفال، وكان شعرها الطويل مربوط بإحكام على هيئة ذيل حصان. «إنتِ شغالة في حضانة؟»

ضحكت بعفوية. «هو واضح أوي كدة؟»

ابتسمت قبل أن أقول: «مش قادر أفكر في شغل تاني ممكن تروحيله بقميص عليه أميرات ديزني.»

ضحكت قبل أن تقول: «أيوة أنا شغالة مدرسة إنجليزي في حضانة.»

ترددتُ قليلًا قبل أن أطرح عليها السؤال التالي. «أنا أسف مرة تانية إني لغبطت لك يومك، بس بما إني السبب إنك منمتيش، ممكن اعزمك على قهوة؟»

رأيتُ القليل من التردد في عينيها، ولكنه اختفى سريعًا، واكتفت بهز رأسها قبل أن تقول: «لا مبحبش القهوة على معدة فاضية، إحنا نفطر الأول.»

ضحكت، وانتابني شعور غريب بالسعادة لم أشعر به منذ مدة طويلة. «طيب، أنتِ أكيد عرفتي إني مبقاليش كتير في مصر، فشوفي إيه أحسن مكان ممكن نفطر فيه، ومتقلقيش أنا إللي هدفع.»

ابتسمت ابتسامة عريضة. «وندور ليه على مكان وعَمْ عبدو موجود؟»

«عَمْ عبدو؟»

«أيوة، صاحب العربية اللى على ناصية الشارع، وبيعمل أحلى فول بالزيت الحار ممكن تدوقه في حياتك.»

لا أدري كيف أقنعتني على النزول للشارع، ولكن سرعان ما كُنا نقف أمام «عَمْ عبدو»، هي بقميصها الطفولي، وأنا بسترتي المفضلة ذات القلنسوة التي تغطي نصف وجهي. ولكنها كانت على حق؛ فأعتقد أن هذا ربما يكون أفضل فطور تناولته منذ فترة كبيرة جدًا.

«مقولتليش بقى، إنتَ راجع مصر نهائي ولا اجازة؟»

قالتها، ومن ثم أخذت رشفة من كوب الشاي الخاص بها. فبعد الفطور الملوكي الذي تناولناه، كان لابد من أن «نِحبس» بكوب شاي من القهوة المقابلة لعربة «عَمْ عبدو»، وخلال الوقت القصير الذي قضيناه معًا، حكّت لي قصة حياتها بأكملها، وأخبرتني عن والديها الموظفين بالحكومة، وإخوتها الصغار، وعن حبها للأطفال والذي كان السبب وراء اختيارها لطبيعة عملها.

وخلال كل هذا، كنت استمع لها بإنصات شديد، ولكن لم أتكلم كثيرًا سوى في المرات القليلة التي سألتني فيها عن نفسي، وأخبرتها أنني كاتِب، وبشكل مختصر عن حياتي في كندا، ولكن سؤالها هذا جعلني أتوتر؛ فكنت أعلم أن الجولة القادمة من حديثنا ستتطرق لجوانب من حياتي لم أرد زيارتها.

فكرتُ في السؤال لوهلة قبل أن أجيب. «أعتقد نهائي، مفيش حاجة بقت تربطني بكندا.»

عقدت حاجبيها في استغراب. «طب وعيلتك؟»

وها هي تُلقي القنبلة التي كنت أخشاها منذ بداية الحديث.

تنحنحت قبل أن أقول، «والدي ووالدتي توفوا في حادثة عربية من 3 شهور.»

اتسعت عيناها، ولاحظت أن حدقتيها كانتا مثبتتين على وجهي، وبالأخص الندبة، ولكن لم أكن أتوقع ما كانت على وشك أن تسأله.

«الجروح اللي في وشك من نفس الحادثة؟»

ابتسمت بحزن وأومأت رأسي بنعم من دون أن أشيح بنظري عنها.

فجأة تبدلت ملامح وجهها، ووضعت كوب الشاي خاصتها على الطاولة بانزعاج فانسكبت بعض القطرات منه.

«أنا آسفة، مكانش لازم أسألك عن ده. كل مرة بوعد نفسي إني هفكر قبل ما أتكلم بس عمره ما بيحصل.»

خرجت ضحكة عفوية مني دون أن أقصد. «أغلب الناس اللي عزتني كانت بتقول مجرد كلام محفوظ ومتكرر متقصدش ولا حرف منه، فصدقيني تعاملك بعفوية أحسن بكتير من كل المظاهر الكدابة.»

ابتسمت بخجل قبل أن تردف. «بص أنا مبعرفش أقول كلام متزوّق، بس معتقدش أبدًا إن باباك ومامتك كانوا هيحبوا يشوفوك بتعمل إللي عملته إمبارح، وفي الوقت اللي تحتاج تفتفض فيه قولي وهسمعك.»

أحدث وجربت ذلك الإحساس الذي يُشعرك وكأن الزمن توقف حولك. فجأة تختفي كل الأصوات ويتوقف الجميع عن الحراك؛ لحظات لا تسمع فيها سوى صوت دقات قلبك، ويراودك فيهم شعور غريب تعجز عن تفسيره. وفي تلك اللحظة، هذا بالضبط ما كنت أشعر به.

استمر حديثنا لساعات شعرت فيهم وكأنني عرفتها طوال حياتي، وكأنها كانت أقرب أصدقائي. حدثتها عن أبي وأمي وتعلقهما بمصر رغم ابتعادنا عنها لسنوات. ووعدتني أنها ستأخذني في جولة للتعرف أكثر على معالم القاهرة في محاولة لاستشعار ذلك السحر الخفيّ الذي يأسر كل من يراه ويتعلق به. وحدثتها عن حُبي ودراستي للكتابة، وفي نهاية حديثنا، وعدتني أنها ستقرأ رواياتي وتخبرني برأيها فيهم.

دائمًا ما اعتبرت نفسي بارعًا في الحكم على الشخصيات، ولكن كان هناك دفء في عينيها لم أعهده من قبل. ومن خلال كل ما حكته لي عن نفسها، أدركت أنها لا تخاف من جعل حياتها كتابًا مفتوحًا، فعلى ما يبدو ماضيها لا تشوبه شائبة، لا تسكنه أشباح تجعلها تهاب رفقة الآخرين، كما أنها تثق في فيهم بسهولة، وكأنها تقرر رؤية الجانب المشرق فقط منهم.

ولكن لم أستطع منع نفسي من التفكير في كيف ستكون نظرتها لي لو علمت الحقيقة. أنني كنت السبب في موت والديّ، وأنني أبعدت عني كل من أحبوني، بل وكنت السبب في ندبات ستظل تنغص عليهم حياتهم للأبد...

***

«عالية» أو «لِيا» كما أحبت أن يناديها الناس؛ كانت حُبي الأول منذ أيام المدرسة، كانت من أصل عربي هي الأخرى. ورغم حبنا الشديد لبعضنا البعض، كنا كأقطاب المغناطيس المعاكسة؛ فكانت دائمًا ما تبحث عن الاستقرار، وكنت أنا أبحث عن المغامرة والحرية. وعندما اختارت هي السير على الطريق الذي رسمه لها أبواها، قررتُ أنا نحت طريقي الخاص.

وكان هذا أول مسمار تم دقه في نعش علاقتنا؛ فحين تم قبولي لدراسة الكتابة الإبداعية في الولايات المتحدة لم أتردد لحظة في حزم حقائبي رغم اعتراضها.

وبعد أربع سنوات، تمت خطبتنا أخيرًا، وقبل شهر واحد من الموعد المحدد لزفافنا، تم أخيرًا قبول روايتي الأولى في دار نشر مرموقة، واتفق معي «ليام» على جولة مدتها شهرين لترويج الكتاب، وحينها ترددت كثيرًا في أمر الزواج لاعتقادي بأنه سيعطلني عن الكتابة وسيُقيد حريتي، وللمرة الثانية، حزمت حقائبي دون تردد ولم أنظر ورائي.

ومنذ تلك اللحظة، لم يعد للحب مكان في حياتي، وقررت أن أكون كطائر تخلّف عن السرب ليجوب الأرض وحيدًا، ولكن في النهاية اكتشفت أنني كنت كـ«إيكاروس» الذي صنع له والده جناحان من الشمع وحذره من أن يحلق قريبًا من الشمس، ولكنه تجاهل كل التحذيرات؛ فذاب جناحاه وانتهى به الأمر غرقًا في المحيط.

ربما كنت الشخص السيء في رواية «لِيا»، والكثيرين غيرها، بل وفي روايتي أنا شخصيًا؛ فعلى غرار «إيكاروس» ها أنا الأن أغرق، ولكن بسبب كل القرارات السيئة التي اتخذتها في حياتي...

عند عودتي قررت تفقد هاتفي، واتسعت عيناي عندما وجدتُ عشرات الرسائل والمكالمات الفائتة، وكلهم كانوا من «هنري»، وعندما قرأتُ رسائله، شعرتُ وكأن الدم قد تجمد في عروقي.

لقد تحقق ما رأيته في كابوسي؛ فقد مات «أندرو» غارقًا في بحيرة مجمدة...

أيعقل أنها كانت رؤيا وليست مجرد حلم عابر؟ ولكن لو كان هذا صحيحًا فيعني أنه ليس الوحيد؛ فهناك العشرات غيره ممن شهدتهم يلقون حتفهم بطرق مختلفة.

فتحت حاسوبي المحمول، وبدأت أبحث عن تفاصيل الأحلام التي رأيتها، وكلما تعمقت في بحثي أكثر، كلما شعرتُ وكأن أحدهم يمد يديه مخترقًا قفصي الصدري ليعتصر قلبي، وكلما قرأت تفاصيل حادثة أو جريمة قتل تشابه حلمًا رأيته، كانت قبضته تزيد إحكامًا.

لقد كنتُ دائمًا حاضرًا في جسد من لاقوا حتفهم، ولم تسنح لي الفرصة كل مرة في رؤية وجههم أو حتى معرفة أسمائهم، ولكن تفاصيل الوقائع كلها كانت بالضبط كما رأيتها؛ نفس الأماكن، الأشخاص، الزمن ... كل شيء.

أغلقت الشاشة بقوة، وأنا لا أصدق ما يحدث...

هل نجاتي من الموت فتحت برزخًا بيني وبين العالم الآخر؟

ولكن لمَ يحدث هذا؟

لماذا أشارك أولئك الناس آخر لحظاتهم في الدنيا ... أوجاعهم ... مخاوفهم؟

ما الفائدة؟ فكيف أساعدهم وأنا لا أعرف عنهم شيئًا، ولا أستطيع حتى أن أحذرهم أو أحاول منع وقوع الحدث؟

لم أعلم ما عليّ فعله، أو كيف سأتمكن من النوم مجددًا وأنا أعلم أنني سأشهد موت أحدهم، شخص من لحم ودم، كانت لديه حياة وأشخاص أحبهم وأحبوه.

لو كان هذا بالفعل عقابي من السماء على كل ما تسببت به، فبالتأكيد، الموت أرحم بكثير...

***

لا أعلم تحديدًا إذا كان قد مضى يومان أم ثلاثة لم أنم خلالهما، قضيت أغلبهم في الكتابة على أمل أنها ستنجح في تشتيت عقلي، ولكن دون جدوى، فالأمر كان أشبه بصراع عقيم مع الأفكار المتضاربة.

تنهدتُ وأشعلت سيجارة أخرى، ورغمًا عني تطرقت مجددًا لفكرة التراجع عن قراري بالإقلاع عن الكحوليات؛ فكم كنت بحاجة لشيء قادر على أن يُخمد ثورة عقلي ولو لوقت قصير، شيء يجعل خلاياه العصبية المتوحشة تطلق نيرانها بشكل عشوائي، لتتلاشى في الهواء من دون أن تصيبني في مقتل...

قطع حبل أفكاري صوت طرق على الباب. توجهت ناحيته، وكان لدي فكرة عمن سيكون خلفه، وعندما فتحته ورأيتها شعرت بالكثير من التناقضات داخلي؛ فجزء مني كان سعيد لرؤيتها، وجزء آخر كان خائفًا ... منها وعليها.

«أنتَ شكلك عامل كدة ليه؟ وكأنك منمتش بقالك قرون.» قالتها بعيون متسعة وهي تتفقد مظهري.

تنحنحت قبل أن أجيب. «عندي شوية أرق بس.»

نظرت لي مطولًا، وبدا الأمر وكأن عيناها تتخللان أعماق روحي. «حابب تحكي؟»

هززت رأسي نافيًا، وتحاشيت النظر لعينيها.

نظرت لي بتفهم قبل أن تُردف. «على فكرة أنا قرأت الرواية، وعندي شوية ملاحظات عايزة أقولهم لك، بس مش هنا. مش عايز تنزل تشم شوية هوا؟»

شعرتُ بالتردد لبرهة، ولكن سرعان ما أومأت رأسي بالموافقة.

ذهبنا للكورنيش، وعنده وجدت سلامًا مؤقتًا وأنا أشاهد أخر شعاع شمس يُقبِل سطح نهر النيل، وعندما حل الظلام، خلقت أضواء المدينة التي كانت تتلألأ فوق مياه النيل تناغمًا مذهلًا مع الأضواء الملونة التي تزينت بها المراكب.

«برده مش فاهمة ليه بتكتب من وجهة نظر شخصيات بتمثل الجانب المظلم من البشر، مع إن ده عكس اللي الناس متعودة عليه في شخصية البطل.» قالت «فريدة» وهي تأخذ قضمة من «كوز» الذرة خاصتها.

تناولتُ أنا أيضًا قضمة وفكرتُ قليلًا قبل أن أجيب. «بالعكس أنا بكتب عن ناس واقعيين اتحطوا في ظروف خلتهم يطلعوا أسوأ ما فيهم.»

«بس الناس مش وحشة أوي كدة.»

ضحكت رغمًا عني قبل أن أقول. «يمكن عشان أنتِ ملاك شايفة الناس كلها زيك، بس لو مكنش في فعلًا ناس وحشة مكنش هيبقى في حروب، ولا فقر، ولا جرايم بشعة إبليس ذات نفسه ممكن يقف يصفق لها.»

نظرت لي بعينين ثاقبتين، وقالت بتذمر. «محدش فينا ملاك. كل بني آدم خطاء، بس الفكرة مين ممكن يلحق نفسه ويصلح أخطاؤه قبل ما يتكتب سطر النهاية في حكايته.»

«يعني أنتِ بتصدقي في الفرص التانية؟»

رفعت حاجبها باستغراب قبل أن تسأل: «ليه، وأنتَ مش بتصدق فيهم؟»

فتحت فمي عدة مرات، ولكن الكلمات أبت أن تخرج.

مضت عدة دقائق كان التوتر فيهم يعم المكان، وفي النهاية تحدث قبلي قبل أن تنطق شفتايّ. «الحادثة اللي والدتي ووالدتي ماتوا فيها ... أنا كنت السبب.»

«فهمت من كلامك المرة اللي فاتت إن أنتَ اللي كنت سايق بس ده مش معناه أبدًا إنك السبب.»

هززت رأسي بمعنى لا، قبل أن تلتقِ عينانا. «أنا ... أنا كنت شارب في اليوم ده وانحرفت عن الطريق ودخلت في عربية تانية. انا مستحقش فرصة تانية ... كان لازم اموت معاهم في اليوم ده.»

اتسعت حدقتاها ونظرت لي بذهول لعدة ثوانِ، ثم أغلقت عينيها وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تقول. «زي ما قولتلك كل بني آدم خطاء، وطول ما احنا فينا نفس نقدر نصلح الأخطاء دي ونبدأ صفحة جديدة. ثم أنت بتعترض على قضاء ربنا؟ ما يمكن نجاك من الحادثة عشان سبب أنت متعرفوش ... عشان تبقى شخص أحسن.»

كنتُ أنظر لها وأنا لا أصدق ما أسمعه؛ فكنت أتوقع أن تكرهني وتهرب بعيدًا لا أن تنظر لي بعينين مليئتين بالتعاطف والرحمة.

قضيت باق الليلة معها وأنا أشعر وكأنني تحت تأثير تعويذة سحرية لم أرد أن أفيق منها. كنت منبهرًا بشخصيتها الحالمة والبريئة، وبروحها المفعمة بالحياة. كانت تمتلك نوع خاص من الجمال أهم ما يميزه هو جمالها الداخلي الذي أضاء عينيها وأضفى على ملامحها سحرًا خاص. فعندما تبتسم وتضحك، كان لا يسعني إلا أن أبتسم أيضًا بغض النظر عن كل ما يؤرقني...

***

أخذت «فريدة» على عاتقها مهمة إرجاعي لأصولي المصرية، فزرنا معًا الأماكن الأثرية والشوارع العتيقة، وكنتُ بين الحين والأخر أرى أبي فيها وهي تتكلم بكل فخر وشغف عن تاريخنا وحضارتنا.

وكلما قضيتُ وقتًا معها، كلما اجتاحتني عاصفة محملة بالحيرة وعشرات الأسئلة التي لا أجد لها إجابة؛ فلم أدر إذا ما كان شعوري تجاهها مجرد إعجاب، أم شيء آخر؟

دائمًا ما كنتُ أسمع عن مصطلح «الشخص الصح في الوقت الغلط»، ولكن لأول مرة أفهم معناها، فـ«فريدة» تُشعرني وكأن الروح قد رُدِت إلي، ولكن في نفس الوقت أعلم أن التوقيت ليس صحيحًا أبدًا؛ فإظهار حُبي وتعلقي بها في هذا الوقت بالذات سيكون ظلمًا لها؛ فأنا الأن كقطع أحجية مبعثرة مُحال أن ينجح أحد في إكمال شكلها النهائي مرة أخرى؛ فهناك قطع فُقدت للأبد.

أيضًا، دخولها في حياتي فيه خطر عليها؛ فما الضمان أنني لن أؤذيها كما أذيت غيرها. ثم لقد أصبح بيني وبين عالم الموتى رابط وطيد لا أستطيع قطعه؛ فكيف لشخص كهذا أن يعرف الحب أو حتى يأمل في حياة طبيعية!

وبمناسبة ذلك الرابط، فقد قررتُ الاستمرار في كتابة القصص وإرسالها لـ«ليام»، فربما ما يحدث سببه أن هؤلاء الناس يريدون أن تُروى قِصصهم.

ولكن على الرغم من هذا، كان هناك مشهد واحد لم أستطع إخراجه من مُخيلتي مهما حاولت...

حريقٌ هائل، كانت النار تبدو وكأنها وحش مسعور يحاول التهام كل من يطول، وكانت صرخات الاستغاثة تكاد تصم الأذان، وكان الدخان كثيفًا فلم أستطع تمييز أي شيء في المكان حولي، سوى شيء واحد ... طفل مذعور يختبئ في ركن وألسنة اللهب تقترب منه كثعبان يزحف، وكان هذا أخر شيء رأيته قبل أن أستيقظ.

حاولت البحث عن الحادث، ولكن لم أجد أي شيء، وكان هذا معناه أنه لم يقع بعد. حاولتُ بشتى الطرق تذكر أي شيء قد يدلني على مكان الواقعة، ولكن دون جدوى...

أصدر هاتفي المحمول صوتًا يُنبهني باستقبال رسالة جديدة، وكنتُ ممتنًا لأنه أخرجني من شرودي. مددتُ يدي لكي أتفقد الرسالة، وابتسمت عندما وجدت أن «فريدة» قد أرسلت لي صورة مع طلابُها.

كانت ابتسامتها الواسعة تُنير الصورة، وكان يبدو أن الطلاب في غاية السعادة وهم ملتفون حولها.

كنتُ سأغلق الصورة واكتب لها شيئًا، ولكن أحد الأطفال لفت انتباهي، وظللت أحدق فيه كثيرًا...

أيعقل؟ لا هذا مستحيل...

لقد كان نفس الطفل الذي رأيته في حلمي

وهذا معناه أن الحريق على وشك أن يحدث...

شعرتُ وكأن أحدهم أفرغ حقنة أدرينالين في عروقي؛ فهرعت للشارع، وأوقفتُ سيارة أجرة أخبرت سائقها أنني سأعطيه مائتي جنيه لو أسرع. وقبل أن أصل للمكان، قمت بإبلاغ النجدة والمطافئ.

وعندما وصلت للعنوان، حمدتُ الله عندما وجدت أن الحريق لم يندلع بعد. أسرعت ناحية مدخل الروضة، ولكن الأمن أوقفني.

«رايح فين يا أستاذ، هي وكالة من غير بواب!»

«أنت مش فاهم، في حريقة هتحصل دلوقتي.»

نظر لي وكأنني قد فقدتُ عقلي قبل أن يقول. «حريقة إيه بس يا بيه، فال الله ولا فالك.»

كنتُ سأجادله، ولكن دوى صوت انفجار جعل كلانا يهرع للداخل. جرينا كالمجانين ناحية الفصول التي يتواجد فيها الأطفال.

كان الحريق قد نشب في جهة واحدة من المبنى؛ فأخبرتُ الحارث أن يتولَ آمر الجزء الآمن ويحاول إخراج الأطفال ومعلميهم ويأخذهم لمكانٍ آخر، بينما ركضتُ أنا ناحية الجزء المشتعل من المبنى، فكنت أعلم أن «فريدة» هناك.

بدأت بتفتيش المبنى غرفة تلو الأخرى. عثرتُ على بعض الأطفال ومُعلميهم وأخذتهم للخارج قبل أن أدخل للمبنى مرة أخرى.

لاحظت أن منبع الحريق كان في الطابق الثانِ. صعدتُ الدرج بحذر بعد أن تأكدت أن الطابق الأول أصبح خاليًا. سرتُ في الطرقات وأنا أبحث كالمجنون عن «فريدة» وطلابها، وحين وقعت عيني عليها أخيرًا، أسرعتُ باتجاهها، ووجدتها تحاول التهدئة من روع الأطفال لكي تستطيع أخذهم لبر الأمان.

صرخت عليها. «فريدة.»

اتسعت عيناها عندما رأتني. «يوسف، أنتَ بتعمل إيه هنا؟»

«مفيش وقت للتفسير، يلا بسرعة ناخد الأولاد وننزل.»

نظرت لي بتردد. «لأ مينفعش، لسة في ولد في أوضة الرسم.»

ذلك الولد الذي رأيته في حلمي...

«طيب انزلي انتي معاهم، وأنا هجيبه واحصلكم.»

ملأت الدموع عينيها. «أيوة بس...»

«مفيش بس، مش أنتِ قولتيلي إن ربنا نجاني من الحادثة عشان سبب ... هو ده، وشكرًا لكل اللي عملتيه عشاني، أنتِ الوحيدة اللي حسستيني إني لسة عايش.»

لم أترك لها فرصة أن تجيب وركضتُ ناحية الغرفة التي قد أشارت إليها. حاولتُ كتم أنفاسي بكُم قميصي قبل أن أدخل؛ فالدخان قد بدأ ينتشر بشكل كبير، وكنت أشعر وكأن أحدهم يُمزق رئتاي.

كانت ألسنة اللهب تحاوط الغرفة والتي كانت مؤصدة؛ فيبدو أن النيران قد أذابت مقبض الباب، ولكن لحسن الحظ، كان الشباك مفتوح ويتسع لمرور شخص بالغ؛ فاستطعت القفز للغرفة من خلاله، وهناك كان الدخان كثيف لدرجة أن الرؤية كانت شبه منعدمة، ولكن تمكنتُ من رؤية الطفل الصغير الذي كان يبكي في ركن الغرفة، وكانت النيران تقترب منه. هرولت نحوه متجاهلًا آلام الحروق التي أُصبت بها.

طمأنته ومن ثم حملته واتجهت ناحية الشباك مرة أخرى. تنفستُ الصعداء حين وجدت أن رجال الإطفاء قد وصلوا للمكان.

سلمتُ الصبي لهم، وكنتُ على وشك الخروج من الشباك أنا أيضًا إلا أن جزءً من السقف انهار وسد طريقي للخروج.

سمعتُ أصوات رجال الإطفاء وهم يطمئنونني بأنهم سيحاولون إخراجي، ولكني لم أهتم؛ فقد أيقنت الآن أن أخر حلم رأيته لم يكن من منظور «فريدة» أو أحد الأطفال ... بل كان من منظوري أنا.

لقد كنتُ مخطئًا حينما ظننتُ أن «فريدة» كانت الشخص الصحيح في الوقت الخطأ؛ فقد كانت الشخص الصحيح في الوقت الصحيح؛ فمن دونها لم أكن سأحصل على فرصة ثانية أحاول فيها التكفير عن كل ذنوبي.

افترشت الأرض وأنا أشعر بأن كل نفس أحاول أخذه هو بمثابة سكين يُغرز في صدري. ورويدًا بدأت الرؤية تصبح مشوشة؛ فلم أعد أرى سوى خيالات لألسنة اللهب الحمراء التي كانت تحاوطني من كل اتجاه.

أغلقت عيني، مستسلمًا للقدر المحتوم، وسرعان ما بدأت أفقد وعيي، وكان آخر شيء سمعته هو مزيج من صوت النيران المشتعلة مع أصوات أخرى تنادي باسمي، ولكن لم أستطع تحديد مصدر تلك الأصوات؛ فهل هي من عالم الأحياء أم العالم الآخر؟

وهل من المعقول أن يؤذَنْ لٍي بفرصة ثالثة؟

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top