غموض في مصر القديمة
غريب هو أمر النفس البشرية، كل ما تأخذه المسألة هو إزهاق روح واحدة، يكون فيها جلد الذات في أقصى مراحله. ويفكر عقلك مليًا كيف كان باستطاعتك فعل آمر شنيع كهذا، كيف استطاعت يداك سلب حياة شخص أخر؟ قد يأخذ هذا أيامًا، شهورًا، سنينًا، ولكنك في نهاية المطاف تنسى، ويصبح الأمر طبيعيٌ جدًا، وإن حدث وتكرر مجددًا، أراهن أنك لن تشعر بتأنيب ضمير. ربما تشعر بلذة ما، بقوة، أو انتصار، هذا بالطبع مترتب على أبعاد جريمتك، أو لماذا صرت هذا المسخ في المقام الأول.
لا أدري، ولكن أعتقد إنني كنت دومًا هكذا، مجرد مسخ. هذا ما اعتادوا نعتي به دومًا على أي حال.
وها هي جثة جديدة، تطفو فوق المياه المقدسة، تلك المياه التي أزهقت أرواح الكثير من قبل، ربما كان بعض منهم من ضحاياي، ولكن هناك أيضًا من سُلبت أرواحهم في أجواء احتفالية. عرسٌ ولكن من نوعٍ آخر.
وفي نفس تلك الأجواء على أنغام الموسيقى منذ بضع سنوات وانا أقف في مثل هذا المكان، ابتلعتها المياه، هي من كانت لي المنجى الوحيد من هذه الحياة القاسية. وأعتقد أن ذلك اليوم كان نهاية لكل شيء، وفي نفس الوقت، كان بداية كل شيء.
أتذكر حينما كنت طفلة، وكنت أنظر لانعكاسي في المرآة أو على مياه (إترو)، كانت تنتابني القشعريرة؛ فلماذا لم أكن مثل جميع الأطفال الذين هموا بالهرب كلما اقتربت منهم للعب؟ لماذا كانت قدماي تأخذ شكل القوس، ولماذا كان ظهري محنيًا كالعجائز وانا مازلت طفلة؟ لماذا كان شعري أشعث لهذا الحد، ولوني مائل للاصفرار، ووجهي تملأه البقع والبثور؟ لماذا كانت عيناي بهذا الضيق، لدرجة انه كان يصعب تحديد لونهم بدقة.
لماذا؟
منذ ولادتي، قدّمَتْ أمي العديد من القرابين للآلهة، وزارت العديد من الكهنة والأطباء؛ راجية إياهم أن يفعلوا شيئًا حتى لا أبدوا دومًا كالمسخ الذي يطرد كل من حوله. أتذكر العديد من الرجال حالقي الرؤوس الذين حاولوا معي بشتى الطرق، تارة باستخدام السحر، وتارة باستخدام أعشاب طبية كريهة الطعم والرائحة، ولكن كل شيء كان يذهب هباءً. واستسلمت هي أخيرًا بانها كانت أمٌ لمسخ؛ سخط من الآلهة.
وعلى غرار هذا، كانت أختي الكبرى آية في الجمال، ومجددًا كانت أمي تُقدِم القرابين، وتزور الكهنة من أجلها، ولكن بغرض أن تكون أكثر جمالًا؛ عسى أن يكون لها شأنٌ فيما بعد، وتتمكن في أن تحصد مكانًا بين حاشية القصر.
ولكني أحببت أختي كثيرًا؛ فقد علمت يقينًا بأن أمي مقتتني طيلة حياتها، فكانت أختي هي الشخص الوحيد في العالم الذي اهتم لأمري.
وفي يومٍ ما، صحونا على خبر أدخل أهل (كمت) كلهم في حالة من الخوف والذعر. لقد قل منسوب المياه في النهر المقدس (إترو). شيء كان سيتسبب في جفاف المحاصيل، وحلول القحط والجفاف في أراضي (كمت) كلها.
كان الجميع في حالة ذهول فقد حدث ما لم يتوقعه أحد، كيف ولماذا لم يفي النهر المقدس بعهده؟
هب الملك (زوسر) حينها وجمع الكهنة من كل أرجاء البلاد، وفي النهاية توصل الكاهن الأعظم أن الإله (حابي) في حالة غضب عارمة، لكونه يريد الزواج من فتاة جميلة. وعليه عُرضت أجمل فتيات (كمت) على الملك حتى وقع اختياره على إحداهن، وأمر بإقامة الاحتفالات وتقديمها كقربان لإله الخير (حابي).
أتذكر ذلك اليوم جيدًا، كان أشبه بعرس شارك فيه كل أهل (كمت)، وزينوا الفتاة المختارة بأجمل الحُلي. ووسط الاحتفالات وصوت قرع الطبول، زُفت تلك الفتاة لضفاف نهر (إترو).
وبعد الانتهاء من كل المراسم، كان لابد لتلك الفتاة بأن تُلقي بنفسها في النهر، على أمل لقاء حبيبها المنشود في الحياة الأخرى.
واستمر التقليد لسنوات وكان الإله (حابي) يوفي بوعده في كل مرة ويفيض النهر، جالبًا معه الخير والبركات. حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم، وجاء حراس الملك الى بيتنا طالبين أختي؛ فقد حان الوقت لأن تكون العروس الجديدة للإله (حابي).
شعرت بغصة في صدري ولم أتمالك نفسي حينها، رجوتها بأن لا تذهب، بأن لا تتركني، فكيف لي أن أعيش بعد رحيلها! زجرني الجميع قائلين بأن ما كانت على وشك فعله لهو شرف عظيم، فهي ستكون عروس الإله (حابي) الجديدة والمختارة، وأنها ستنعم بحياة رغيدة في الحياة الأخرى.
بدأت المراسم، ودُقَت الطبول، وكلما كانت تعلوا أصوات ابتهالاتهم، واحتفالاتهم، كان يعلوا نحبي وتوسلاتي لها بأن لا تذهب، ولكن كانت محاولاتي دون جدوى. فقد أخذوها واقتادوها الى النهر، وابعدوني عنها بالقوة.
توقفت الموسيقى، وتوقف كل شيء معها. كنت اسمع نبضات قلبي وهي تتسارع بدقات عنيفة في أذني، وانا أشاهد المنظر من بعيد بحدقتين متسعتين. أردت أن أصرخ، بأن أترجاها بأن نهرب سويًا ونترك هؤلاء الجمع للأبد. ولكن قبل أن أتحرك قيد أنمُلة، كانت قد قفزت بالفعل.
لقد كانت واقفة هناك منذ ثوانٍ قليلة، ولكنها لم تعد هناك بعد الأن. ظللت أراقب المياه دون حراك، راجية إياها بأن تطلق سراحها، بأن تتركها تنجو وتطفو، وتخرج لي حية. ولكن كل هذا لم يحدث، فقد ابتلعتها المياه، وقررت الاحتفاظ بها الى الأبد.
لا أدري كم من الوقت مر وأنا مفترشة الأرض، أراقب المياه في صمت ودون حراك، ربما استمر هذا لساعات طويلة، وربما وصل الأمر الى أيام، لا أستطيع حقًا أن أجزم. ولكن كل ما أنا متأكدة منه، أنني لم أعد الى البيت بعد ذلك اليوم، ولم يكترث لي أحد.
مرت الأيام، وكنت أجلس بالساعات أمام المياه في الليل تحت الضوء الخافت الذي يرسله الإله (خونسو) الى الأرض، حينما يكون الجميع نيامًا، وأكون وحدي، فلا يستطيع أحد أن يشاركني حزني أبدًا.
ولم يكن الحزن هو الشعور الوحيد المسيطر عليّ، فقد شعرت بالغضب الشديد على كل من كان يضحك ويبتسم في ذلك اليوم، على من احتفلوا لموت أختي. كرهتهم جميعًا، وتمنيت أن يعانوا طويلًا. بل وأيضًا شعرت بالمقت ناحية مياه النهر التي دفنت أختي تحتها الى الأبد.
وفي وسط كل هذا، سمعت صوت خافت يأتي من بعيد، صوت رجل يغمغم بشيء ما. وبعد وهلة، لمحته يترنح على ضفة النهر؛ لابد أنه كان سكيرًا.
ولابد أيضًا أنه كان منهم. ممن كانوا يحتفلون في ذلك اليوم المشؤوم.
وفجأة اعترتني حالة من الغضب والهياج الشديدة، ولم أشعر بنفسي إلا وانا أنقض عليه، وأناملي ملتفة حول رقبته. لم أتوقف، بل تمسكت برقبته بشدة أكبر، وهو يتلوى تحتي، محاولًا دون جدوى التشبث بالحياة. ولكن أخيرًا أغلق عينيه، وتأكدت أن الروح قد فارقت جسده للأبد.
لوهلة، غمرتني نشوة عظيمة، شعرت وكأنني قد انتقمت لأختي ولو قليلًا. ولم يأخذ الأمر وقتًا طويلًا حتى بدأت استوعب الحقيقة المروعة، أنني قد قتلت إنسانًا، أنني سلبت روحًا من جسدها.
بدأ جسدي كله ينتفض، وابتعدت سريعًا عن الجثة. تملك الخوف مني تمامًا، وشعرت بأن حركتي قد شُلَت. وتردد السؤال في ذهني، كيف استطعت فعل هذا؟
لو اكتشفوا الأمر فسيكون جزائي الإعدام، والعذاب الشديد قبل النهاية التي سيقرونها ويزهقوا بها روحي.
وفجأة استرجعت قدرة التحكم في جسدي، وأسرعت نحو الجثة، وبصعوبة شديدة بسبب قدماي المقوستين، وظهري المنحني، جررتها الى مياه النهر، وراقبت المياه المقدسة وهي تبتلعها كما ابتلعت الكثير من قبلها، وفوجئت بابتسامة تعتلي شفتي.
فليواجهوا ما اقترفت أيديهم.
وتكرر الأمر، حتى أنني لم أعد أتذكر بالتحديد عدد الجثث التي وجدوها في صباح اليوم التالي وهي تطفو فوق المياه.
أصيب الجميع بالذعر والهلع، وعشش الغموض والخوف في كل أرجاء (كمت)، وظل الجميع يتساءل من كان يفعل هذا؟ أهو غضب من الإله (حابي) مجددًا؟ أم أن أرواح كل من قُدِمن إليه عادت لتنتقم؟
لم يظفروا أبدًا بإجابة، ولكن الأغلب منهم رجح كفة الاحتمال الأخير، وخصوصًا أن البعض قد لمحني وأنا أجلس على ضفة النهر في الليل، ولكن بالطبع لم يجرؤ أحد على الاقتراب، وأطلقوا على القاتلة الغامضة في النهاية لقب (أم الشعور).
لم ينجح أحد في ربط الحقيقة أو تذكر تلك الفتاة المسكينة ذات الشعر الأشعث، والأقدام المقوسة، والظهر المحني. ربما لأن الجميع تجنب النظر إليها في بادئ الأمر.
وسيطر الغموض على الموقف، وصرت الأن ذلك المسخ الذي يتردد في كوابيسهم، الذي يجعلهم يتساءلون كل ليلة، يا ترى جثة من سيجدونها في الصباح؟
وربما ستمضي سنوات عديدة ولن يكتشف أحد الحقيقة، وسيستمر الأمر حتى خروج الروح من جسدي، ويحين موعد وزن قلبي على يد الإله (أنوبيس). ولا يحتاج الأمر لتفكير ملي حتى أتأكد أي كفة سترجح حينها.
فأنا ذلك المسخ الذي طالما وصفوني به منذ أن كنت صغيرة، وربما كانت تلك هي الحقيقة دائمًا وأبدًا، حقيقة كوني مسخًا. ربما حاولت جاهدة نفيها لسنوات طويلة وإثبات العكس، ولكن المؤكد أنها كانت الحقيقة التي ظفروا بها واستحقوها في النهاية.
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top