سبعة
في المعتاد، لا يمكن لأحد أن يفرق بين الشخص السيكوباتي والشخص العادي بسهولة؛ فهم متمرسون في إخفاء ما يشعرون به... أو بمعنى أصح ما لا يشعرون به.
وهم ليسوا أبدًا كما يبدون عليه في الصورة النمطية التي ترسمها أفلام ومسلسلات هوليوود بأنهم يتقنون دورهم لأقصى درجة كأشخاص طبيعيين نهارًا، وعند حلول الليل يكونون كمن ضغط زرًا خفيًا أطفأ به كل ذرة من آدميته ليتحول إلى سفاح ووحش متعطش للدماء ولذة القتل.
كم تمنيت لو كانت الأمور بهذه البساطة في الحياة الواقعية؛ فحينها لن تكون دراسة الطب النفسي كالجحيم التي هي عليه. ولكانت أيضًا ساعدت في محو العديد من أطنان الكتب التي تزين مكتبي وتجعل من أمر إنهاء رسالة الدكتوراة خاصتي أصعب من إمكانية أن تمطر السماء نقودًا.
وذلك لأن الحياة الواقعية هي عبارة عن درجات مختلفة من اللون الرمادي، فلا يوجد شيء أبيض تمامًا، ولا أسود تمامًا. فهناك البعض يمضون حياتهم وهم ليس لديهم أدنى فكرة عن ميولهم السيكوباتية، وهم يعيشون بيننا—يعملون، ويتعلمون، ويتزوجون، وينجبون، ويمضون مضي الكرام—ومهما حاولت لن يمكنك أن تميزهم عن أي شخص عادي. وهناك من يتيقنون أنهم مختلفون عن سائر أقرانهم منذ نعومة أظفارهم؛ فهم مستعدون لفعل كل ما هو شنيع في سبيل تحقيق مرادهم، وبما في ذلك القتل.
وهناك من يحاولون بشتى الطرق التمرد على طبيعتهم التي لم يكن لهم يدًا فيها الى أن يصطدموا بمنحدر لا رجوع بعده، فمعه تنعدم أي فرصة للإصلاح ويتحولون إلى قشرة ممن كانوا عليه قبل تلك النقطة التي حولتهم إلى وحوشٍ في محض لحظة...
بدون أن أرفع نظري عن الملف الذي أقرأه، مددت يدي لأمسك كوب القهوة الذي ظل طويلًا في طي النسيان فأصبح باردًا وذا طعم قميء، ولكنني احتسيته في جرعة واحدة دون تذمر على أمل أن يساعدني في المقابلة التي انتظرتها طويلًا.
(ناجي إسماعيل)، رجل بسيط في الأربعينيات من عمره الذي أفناه كحارس عقار، وظيفة قد ورثها أبًا عن جد. كان الجميع يشهد له بحسن الخلق وكان محبوبًا من كل من عرفوه. كان أبًا لطفلين بريئين لن يستطيعا فهم السبب وراء ترك والدهما لهما حتى عدة سنوات قادمة؛ فليس هناك طريقة يمكن بها شرح لماذا أقدم والدهما على قتل ستة أشخاص من سكان العمارة بدم بارد، وترك شخص سابع في حالة حرجة بين الحياة والموت. ولن يستطيع أحد شرح الحالة التي وُجِد عليها الأب وهو يهرتل بكلمات غير مفهومة وكأن كيان شيطاني قد تمكن منه.
والمريب في الأمر، أنه عندما قبضت الشرطة على (ناجي)، حاول بشتى الطرق إقناعهم بأنه لم يقم بهذا الفعل بمحض إرادته، ولكنه كان مجبرًا حتى يستطيع التخلص منها...
ظن الجميع وقتها أنه كان يحاول ادعاء الجنون للإفلات من حبل المشنقة، وهذا ما اتفقت عليه اللجنة الطبية حينما عُرض عليها. وبالفعل تم تحويل أوراقه إلى فضيلة المفتي، ووضِع في أحد السجون المشددة في انتظار تنفيذ حكم الإعدام.
ولكن (ناجي) لم ييأس وظل يحاول إقناع كل من حوله أن شيئًا ما هو ما أجبره على القيام بتلك المجزرة، ولكن لم يصغ له أحد... حتى وقوع كارثة دموية أخرى عندما انقض على حارس زنزانته واقتلع قطعة من لحمه بأسنانه المجردة حتى كاد النزيف يودي بحياة الحارس.
وبعد تلك الحادثة تلقيت اتصال من مأمور السجن الذي طلب مني الحضور للتحدث مع (ناجي) وإعادة تقييمه نفسيًا، فعلى حد قولهم لم يسبق لهم أن رأوا أحدًا قد تجرد من إنسانيته إلى هذا الحد، حتى أصبح أقرب الى مسخ لا يحركه سوى رغباته العدوانية. وطلبوني شخصيًا لأنني متخصص في علم النفس الإجرامي الذي درسته في الولايات المتحدة، ولأن رسالة الماجستير والدكتوراة خاصتي تتمحور حول التأثير السيكوباتي على الأفعال الإجرامية. وبصراحة، قد تحمست لهذا كثيرًا؛ فقد ظن الجميع أن (ناجي إسماعيل) لهو النسخة المصرية من (تيد باندي) أو (إيد چين)، وأردت أن أرى هذا بأم عيني.
لفت انتباهي صوت خارج الغرفة جعلني أشيح بنظري عن الملف الذي كنت منهمكًا في قراءته، وراقبت الباب وهو يفتح ويُظهر (ناجي) بشحمه ولحمه.
كان جسده يبدو ضئيلًا جدًا ببدلته الحمراء وسط الحراس الثلاثة المرافقين له، وكان مكبل اليدين والقدمين. للوهلة الأولى، أوحى لي منظره بأنه مجرد رجل قد أنهكته الحياة، ولكن على الفور أرسل عقلي إنذارًا تنبيهيًا بالخطر؛ ليذكرني بأن هذا الشخص قد أزهق ستة أرواح، وحاول التخلص من اثنين آخرين.
كنت أنظر إليه متفحصًا قسمات وجهه بفضول شديد، وحين تلاقت نظراتنا للمرة الأولى، شعرت وكأن درجة الحرارة في الغرفة قد انخفضت تحت الصفر، وأحسست بكل شعرة في جسدي وهي تنتصب. ظل محدقًا فيّ طويلًا بعينيه الضيقتين اللتين بدوتا وكأنهما خاليتان من الحياة.
وفجأة، انفرجت شفتاه ليظهرا صفًا من الأسنان الصفراء الملتوية، وتبع هذا صوت قهقهة جعلني أنتفض من مكاني، فقد كان أشبه بالصوت المنبعث من حفارات الإسمنت.
ظل يرمقني بنفس النظرة المريبة والابتسامة العريضة حتى أجلسه الحراس أمامي. وحينها أعطى عقلي أمرًا لجسدي بأن يسيطر على ردود الأفعال بشكل أفضل؛ فإظهار الضعف أمام شخص كهذا يكون بمثابة حكم بالموت.
ثبتُ نظارتي الطبية بحركة سريعة استخدمت فيها سبابتي وركزت نظري على الملف الصامد فوق الطاولة. تنحنحت سريعًا قبل أن أشرع في الكلام. "أستاذ ناجي. أنا سيف العقاد، متخصص في الطب النفسي، وأنا هنا عشان—"
قاطعني قبل أن أكمل. "أنا عارف أنت هنا ليه."
نظرت إليه بحاجبين معقودين، وانتظرت أن يكمل حديثه.
وضع يديه المكبلتين فوق الطاولة الحديدية، محدثًا صدى في أرجاء الغرفة. "أنا كنت مستنيك."
"كنت مستنيني؟" رفعتُ حاجبًا في استغراب.
أومأ برأسه، والابتسامة لاتزال تعلو شفتيه. "أيوة. هي قالت لي إنك جاي. هي كمان كانت مستنياك..."
ورد الى ذهني أنه يحاول مجددًا لعب ورقة الجنون، فقررت أن أجاريه الحديث على أمل أن يزل لسانه، ويعطيني شيء قد يفيدني في التقرير. "طيب وأديني جيت. ممكن تقولي بقى هي تطلع مين؟"
نظر لي بابتسامة قبل أن يردف. "طب مش عايز تعرف الأول يا دكتور أنا ليه عملت اللي عملته؟"
عقدتُ ذراعي وأسندتُ ظهري الى الكرسي وأنا أراقبه عن كثب. "يعني بتعترف إنك اللي عملت كل حاجة مش كنت مجبر زي ما بتقول."
هز رأسه ونظر لي بعينين حادتين. "مش ده اللي قولته."
"طيب كمل، أنا موافق إني أسمعك."
عادت الابتسامة الى شفتيه مرة أخرى. "في يوم من الأيام قابلت راجل مرمي في الشارع، حاولت إني أساعده بس خلاص كان بيطلّع في الروح، أخر كلمة قالها كانت (سبعة)، مفهمتش معناها وقتها بس كنت حاسس إن فيّ حاجة اتغيرت، ولما روحت البيت بدأت اشوفها..."
قررت أنني لن أعقب على ما يقوله حتى أستمع الى روايته الكاملة.
"أول مرة كانت ورايا في المراية، كانت لابسة أبيض وشعرها طويل واسود، بس وشها كان عامل زي إبليس... كله اسود ومليان دم." أشاح بنظره بعيدًا وكأن عقله قد أخذه في رحلة الى الماضي. "في البداية افتكرتها تهيؤات، بس بقت بتتطلع لي في كل مكان، وبقيت أسمع صوتها بيتردد في وداني وبيكرر كلمة واحدة: (سبعة)، وبالتدريج بدأت أفهم هي عايزة ايه... سبع أرواح، كل روح منهم بتكون قربان للجحيم."
اتسعت حدقتاي وانا أسمع ما يقوله، وظننت أنني عدت الى أيام الصبا عندما كنت مولعًا بأدب الرعب، وعليّ أن أعترف أنني حقًا معجب بخياله الواسع. "وعشان كدة حاولت تقتل السبعة؟"
ضحك باستهزاء. "مش بالسهولة دي يا دكتور. أنا حاولت أقاومها بس مقدرتش. بقت الحاجة الوحيدة اللي عايز أعملها هي إني أقتل... إني أشوف دم." صمت قليلًا ثم أردف. "أنت متخيل إني في يوم كنت همّوت عيل من عيالي؟"
يمكن للشخص السيكوباتي أن يؤذي أحد المقربين منه إن تطلب الأمر، لكن الغريب أن هذا الرجل عاش بشكل طبيعي لفترة طويلة جدًا، محافظًا فيها على نزعته الإنسانية، فما الذي أدى لمثل هذا التحول المفرط في شخصيته!
"بعد كدة عرفت إن مفيش مهرب منها وان لازم أنفذ اللي هي عيزاه عشان تسيبني في حالي بس... السابع مماتش." قالها بغيظ. "عرفت ان اللي بيفشل هي بتتخلص منه، وبتبتدي تدور على حد تاني وبتجيبه لحد عندها. بالظبط زي ما رحت أنا للراجل اللي كان بيموت، وزي ما انت جيت هنا برجليك..."
لم يتوفر لي الوقت لفهم مغزى حديثه، فسرعان ما بدأ جسده كله بالانتفاض، وفهمت أنه قد دخل في نوبة تشنج. انتفضت من مكاني وأسرعت إليه وأمدته على الأرض بمساعدة الحراس، وحاولت جاهدًا أن أحافظ على مجرى تنفسه، ولكن كان دون جدوى، فقد التقط أنفاسه الأخيرة بين ذراعيّ.
ابتعدت عن الجثة وأنا في حالة ذهول.
كيف حدث ذلك؟ لقد كان في أفضل حال فقط منذ ثوانٍ قليلة.
أسرعت بالعودة الى منزلي بعد أن أنهيت كل الإجراءات الروتينية بالسجن التي بدأت بعد وفاة (ناجي إسماعيل) المفاجئة، وطوال طريق عودتي لم أستطع أن أخرج كلماته من ذهني.
سبعة...
سمعت صوت أشبه بالهمس في أذني، وكدت أن أخرج بالسيارة عن المسار الصحيح وأصطدم بالرصيف، ولكنني أقنعت نفسي أن عقلي كان يحاول التلاعب بي فقط لا غير، وأن ما كان يدور به هو من وحي الخيال.
وعند عودتي الى المنزل، أسرعت الى الحمام وشرعت في صب الماء البارد على وجهي في محاولة بأن أطرد كل الأفكار السيئة من عقلي، ولكن ما حدث كان العكس تمامًا.
فقد تجمد الدم في عروقي، وتسمرت في مكاني وأنا أنظر لها في المرآة، لقد كانت تقف ورائي وتبتسم...
عيناها كانتا سوداء تمامًا كأن أحدًا قد اقتلعهما من مكانهما، ووجهها كان مغطى بالدماء فقد بدا وكأن الجلد كان مسلوخًا من مكانه، وكانت أسنانها كالخناجر المدببة التي بإمكانها تمزيق أي شيء إربًا.
تيقنت حينها أن (ناجي) كان على حق، فأي دليل قد أحتاج أكثر من هذا!
راقبتها وهي تحرك فمها وتقول شيئًا بنبرة أقرب للهمس، ولكن تدريجيًا بدأ صوتها يرتفع، وقد صار أشبه بالزئير، واستطعتُ أن أميز ما كانت تقوله.
سبعة...
سبعة...
سبعة...
استمرت بتكرارها مرة تلو الأخرى، وحينها فقط علمت أنني قد فقدت السيطرة على كل شبر من جسدي؛ فشيء آخر قد سيطر عليه تمامًا.
ولأول مرة، أدركت أخيرًا ما عجزت عن تفسيره في كل أبحاثي.
مدى قوة رغبة القتل...
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top