إحنا شعبين

"احنا شعبين شعبين، شوف الأول فين، والتاني فين."

يتردد صوت الأبنودي قادمًا من مذياع السيارة. مازالت تلك العبارة لا تتهاون في أن تثبت صحتها مرارًا وتكرارًا، ولا تكاد أبدًا أن تفارق ذهني، وكيف تفارقه وكل شيء في هذا البلد لا يعجز أبدًا على أن يذكرني بها.

وها هي شوارع القاهرة تثبت تلك الجملة؛ فتجد الأبراج والمجمعات السكنية الفارهة، والأسواق التجارية الكبيرة التي تملأ المدينة، وعلى الجانب الأخر يقبع الكثيرون ممن ليس باستطاعتهم إيجاد قوت يومهم، ويموتون كل يوم ألف مرة جوعًا وقهرًا.

التناقض بلا شك هو سيمة من سيمات هذا الزمن، ولكن في بلدنا هذا بالتأكيد قد تعدى كل الحدود.

"إحنا الشعب، بتوع الأجمل والطريق الصعب.. إحنا الشعب بتوع الضرب ببوز الجزمة وسن الكعب."

ينبعث صوت الأبنودي مجددًا واصفًا حالنا بكل دقة، استمع إليه وأنا أقود سيارتي في الشوارع التي بالتأكيد كانت شاهدة على الكثير والكثير من أحداث التاريخ.

ارتسمت على شفتيّ ابتسامة حزينة حينما تذكرت أبي، كم كان يحب التجول ليلًا في شوارع المدينة. كان محبًا للنيل، والشوارع العتيقة التي تدب دومًا بالحياة، والأماكن القديمة التي كان لا يمل ابدًا من أن يقص عليّ حكاياتها.

"عارف يابني هما سموها القاهرة ليه؟" سألني ذات مرة، وبالتأكيد أجبت بالنفي، وأتذكر حيرتي حينها فلم أكن أتخيل بأن المدن تحمل أسماءً ذات معنى.

"الفاطميين سموها كدة عشان بتقهر الغزاة، كل اللي حاولوا يسرقوا ارضنا فشلوا يابني. بلدنا دي عظيمة، اوعى حد يقنعك بغير كدة." أتذكر لمعة عينه حينما أخبرني ذلك، وكم يؤلم هذا صدري الأن، فقد كنت مخطئًا يا أبي.

ربما هي حقًا قاهرة، ولكنها قاهرة لأهلها، فتركل كل من يلجأ اليها ويتشبث بها، فهي دومًا ما تخذل سكانها، هؤلاء الذين يسمونهم سكان العشوائيات أو (الناس البلدي) كما يحب عِلية القوم المختبئين خلف أسوار (الكومباوندات) العالية تسميتهم.

وكم من أحلام وطموحات تحطمت على أرضها، بل وكانت تبتلع كل شعاع أمل يكاد أن ينبعث، فتحولت في النهاية إلى مدينة أغلب قاطنيها موتى سائرين، يهلكهم الروتين والحرب من أجل الحياة.

ورحلت يا أبي، كما رحل الكثيرون مثلك بعد عناء طويل مع مرض قد أهدته لك بلدنا العزيز، كما تهديه يوميًا لألاف أخرين.

كطبيب فأنا أعلم عن الكم الكبير من الأمراض الكثيرة والمتنوعة التي تنتشر يوميًا بمعدلات تفوق الحد الطبيعي، وأكاد أن أجزم بأن هذه الأرض حقًا تكره قاطنيها، انها لا تكتفي بإفساد حياتهم، بل وتساعد في تعجيل موتهم ايضًا...

وصلت إلى وجهتي، زقاق ضيق، تنبعث منه روائح تجعلك تتمنى بأن تفقد حاسة الشم لديك، ولكن بحكم زيارتي المتكررة للمكان فقد اعتدت عليها.

ركنت سيارتي ونزلت منها، شعرت ببعض النظرات ترمقني من شباب مختبئ خلف مبنى، بالتأكيد لا قلق منهم، ففي داخل أجسادهم كميات كبيرة من أنواع مختلفة من المخدرات كفيلة بأن تجعلهم كالسجناء داخل أجسامهم.

وحتى (البلطجية) الذين يتصدرون لكل من يدخل المنطقة قد عرفوني منذ زمن، ويعلمون بأني لا أنوي على أي أذى، بالعكس أنا أقوم بخدمة أهل منطقتهم.

تجولت قليلًا في الشارع الضيق حتى وقع نظري على شخص ممدد على الأرض، وحينما اقتربت منه وجدته في حالة يرثى لها.

كان شخص كبير السن يرتجف من شدة البرد محاولًا بلا جدوى أن يتدفأ بقطعة قماش بالية متسخة لا تكفي حتى لتغطية جسده كله.

كان نحيلًا جدًا والأوساخ تغطي جسده بالكامل، وكان بحاجة الى عناية طبية في أقصى سرعة؛ فلون جلده المصفر وجسده المتورم، والدم الذي يبصقه مع كل مرة يسعل فيها، كلها أعراض تصرخ بتليف الكبد الحاد في مراحله الأخيرة.

في أي بلد أخر، سيكون من أول حقوق ذلك الرجل العلاج، ولكن لا يسري الأمر هكذا هنا.

هذه البلد فقط تعترف بك إذا استطعت أن تدفع، وإن لم يكن هذا متوفرًا، فببساطة، أنت غير موجود، لا أهمية لك.

أتذكر سنوات الامتياز حينما كنت طبيبًا صغيرًا لديه أمل بأن يساعد كل الناس، وان يخفف كل الآلام، ولكني تفاجأت بغير ذلك.

الحياة حقًا قاسية ولا ترحم.

(الحاجة رضا)، كانت من أول الحالات التي تعاملت معها في سنتي الأولى كطبيب تحت التدريب، كانت تعاني من سرطان دم في مراحل متأخرة، ونجحت بأعجوبة في أن تحصل على سرير في المستشفى التي كنت أعمل بها بعد أن تكاتف أهل قريتها لتوفير جزء من المبلغ المطلوب.

قالوا لنا في الكلية في سنوات الدراسة، اننا لا يمكننا التعلق بأي من الحالات التي نعالجها، ولكنني لم أنجح في تطبيق ذلك حينها.

كانت (ست مصرية أصيلة زي ما بيقول الكتاب)، فكلما ذهبت لأتفقد حالتها، كانت تجلسني أمامها، وتظل تتحدث لساعات، عن حكايات صباها، وكم كانت أجمل بنات القرية في شبابها، وعن زوجها وأولادها.

زوجها الذي توفاه الله في سن صغير، وأولادها التي كانت مسؤولة تمامًا عنهم، وكيف انها عملت بكل شيء حتى تستطيع إطعامهم، وتعليمهم، وحينما كبروا كل منهم انشغل بحياته، وتركوها وحيدة، تحارب المرض اللعين بمفردها.

كانت حكاياتها تجعل صدري يعتصر، كيف لأشخاص بأن يكونوا بتلك القسوة، وكيف لسيدة بأن تكون بكل هذه القوة.

كانت دائمًا تقول "يا بني كل واحد فينا ليه من اسمه نصيب، وانا ربنا مقويني وواهبني الرضا من عنده، اكيد هو ليه حكمة في كل شيء. انا مش عايزة حاجة من الدنيا عشان عارفة انه شايلي حاجة هتجبر بخاطري في الأخرة."

كانت كلماتها تشعرني بضآلة مشاكلي التي كانت تثقل كاهلي كثيرًا، كصعوبة الحياة والتأقلم مع العمل، والبضع جنيهات الذي يطلقون عليها مرتب ولم تكن تكفي مواصلاتي حتى.

وبعد فترة، حالتها تدهورت كثيرًا وكان لابد من اجراء عملية جراحية عاجلة، ولكن لم يستطع أحد توفير ثمنها، فكل من وقف بجانبها اختفى واحدًا تلو الأخر. وحاولت أن أساعد ولكني فشلت، فلم أستطع أنا الاخر تدبير المبلغ.

والمستشفى وجدت بأن حالتها ميؤوسة وأخذت منها حتى السرير الذي كان يهون ولو قليلًا من آلامها، وانتهى بها الأمر ملقاة على الأرض في أحد أركان المستشفى.

ذهبت إليها ذات ليلة وانا أبكي، فكنت أشعر بالعجز الشديد، ورغم كل ما كانت تشعر به ابتسمت، وكانت ابتسامتها تلك كالخنجر في صدري، وكم تمنيت ان يلهمني الله ببعض من صبرها وقوتها.

قالت وهي بالكاد تستطيع اخراج الكلام من شفتيها "متبكيش يابني، فراقي الدنيا مش هيزود ولا هينقص حاجة.. احنا يابني بالنسبة لهم كمالة عدد مبنفرقش معاهم، بس هم بيكرهونا اوي يابني، بيكرهونا عشان بنفكرهم بالحقيقة."

وفي تلك الليلة لفظت أنفاسها الأخيرة، وارتاحت روحها من ظلم دنيانا الفانية الى الأبد.

ومنذ ذلك اليوم، عاهدت نفسي بأن أساعد من مثلها، بأن اعطيهم الراحة التي يستحقونها.

وها أنا الأن أفعل ذلك مرة أخرى، بعد أن ساعدت في جلب الراحة للكثير والكثير.

طمأنت الرجل النائم على الأرض بأني سأساعده وأريحه من ذلك العذاب، فتشبث بي حتى استطاع أن يقف على قدميه، وساعدته في الوصول إلى سيارتي، وأجلسته في المقعد الخلفي.

جلست بجانبه، واخرجت إبرة من حقيبتي، ومن ثم ملأتها بالسائل وجهزتها.

كان يرمقني بحذر، فابتسمت له وطمأنته "متخافش يا والدي، الحقنة دي هتريحك." فاستسلم، وأفرغت انا السائل في وريده، وسرعان ما مال برأسه على مقعد السيارة وأغلق عينيه.

عدت إلى المقعد الامامي مجددًا وأدرت محرك السيارة، ونظرت للرجل في المرأة.

لم يشك أحد فيّ يومًا؛ فسكان المنطقة يسعدهم ما أفعله، فأنا أخلصهم من هم ثقيل كان يشعرهم بالذنب كلما رأوه.

أعتقد انهم يظنونني متخصص في أحد جمعيات حقوق الانسان، وأني أبحث عن هؤلاء الناس لأساعدهم.

وبالفعل، أنا أساعدهم...

أنا أنقذهم من حيواتهم القاسية، وأهديهم موت رحيم يخلصهم من كل ما عانوه.

فهم معذبون كثيرًا في هذه الدنيا، وآلامهم تحتد يومًا بعد يوم، تقهرهم بلدهم، ولا تكترث لهم.

أنا بالتأكيد أساعد في انهاء آلامهم للأبد، وفي إرسالهم الى مكان أفضل، فبدون شك سيكون الله رحيمًا بهم.

نعم، ما أفعله بالتأكيد هو الشيء الصحيح...

Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top