الفصل الرابع
غرس المشرَّد سيفه عميقًا في بدن عدوّته، سرعان ما تلاشت المرأة غير مخلّفةٍ أيةً أثر قد يدلّ على أنّها كانت هنا؛ عدا عن صرخة القاتل التي أعقبَت ما قام به.
اهتزّ قلبي للصيحة المخيفة، وتنهدّتُ بتبرّم حينما تعالت في المحيط إيقاعاتٌ مقيتة عائدة لجرس مزعج أعرفه جيدًا.
بينما أفكر بما حدث منذ قليل، وأحاول استنباط نقاط اختلاف وتشابه المشهد وشخصياته وكذلك مسرح الأحداث، عمّا اعتدت عليه مؤخراً، ندّت عن هاتفي المحمول موسيقى صاخبة لم أجد صعوبة في تمييز دلالتها.
التقطتُ الهاتف لأتفقد الساعة، وكان التذكير ذو العنوان ‹لمّة الأهل› يتوسط اللوحة الإلكترونية التي تخللها بعض طبعات من بصمات أرّقني مظهرها، وعزمتُ على إهمال تنظيفها لفترة من الوقت ربما تكفيني لأُبعد عني آثار الراحلة بحضورها، الباقية بي بأحاسيسها وتفضيلاتها وحتى بعللها ووساوسها جميعها!.
خفق الباب بهدوء، وما كان مني إلا أن بدأتُ تسجيلًا بصوتي الباحّ من أثر النوم: «أهلاً بساعتي الذرية، استخدمي مفتاحك، ما زلتُ نعِسة». ثم أرسلته وانتظرت هنيهات حتى دلفت صديقتي بكامل زينتها.
حيّتني بحقيبة قماشية لطمت وجهي، بداخلها طوَت ثوبًا مشابهًا لما ترتديه بنفسها، غير أنّهما مختلفان باللون.
خلال انتظاري كنتُ قد قررت أن أتجاهل صوتي الداخلي بلكنة منقذتي الميتة، لهذا اليوم على الأقل.. لتتحدث نفسي مع نفسها لا شأن لي...
طالعتُ انعكاسي في مرآة الحمام، خصلاتي العسلية منسدلة على كتفي، طوق بسيط أحاط بعنقي وجدته مدسوسًا إلى جوار الثوب الذي تميّز بتصميم بسيط هو الآخر، كان واسعًا طويلًا يكاد يغطّي الكاحلين فكرتُ أن أنتعل حذاء قماشيًا معه، ذكّرني نقش سنابل القمح الذهبية على الصدر بما كانت ترتديه والدتي في صورها أيام شبابها في بلد لا أعرف عنه سوى اسمه وموقعه على الخارطة، ومتفرقات من أخبار ينقبض قلبي لسماعها بين الحين والآخر.
شاركت صديقتي المجلس أمام مائدة المطبخ حيث اصطفت صحون احتوت فطائر مناقيش يبدو أنّها جلبتها معها أيضًا، رغم إغراءات الرائحة والشكل الشهي قاومتُ ولم آكل سوى قطعة واحدة، فلن أسامح معدتي لو أنّها شبعت الآن ولم تُعنّي على التهام أطايب المأكولات بعد قليل!.
أما عن صديقتي فاستسلمت للمناقيش متذرّعة بأنّ الرحلة القادمة في السيارة كافية لتهضم ما أكلته...
تجاورنا أمام مرآة المغسلة، رسمتُ كحلاً أبيض بداخل عينايّ، وأعادت هي لفّ شالها العسلي المقلم، تغطي به جديلتها الشقراء كثيفة القوام، ثم غادرنا المنزل يداً بيد نضحك لخاطرتينا المتزامنتين بأنّ الجميع لا ريب سيخالنا شقيقتين!.
شغّلتُ المحرّك وتولّت صديقتي مَهمة إطرابنا بما تفضّله من الأغنيات، وبخاصة في هذه الأوقات: القدود الحلبية. جنبًا إلى جنب مع ضحكاتنا الرقيعة تعقيباً على مسلسلات الأحداث التي فوّتتها كل واحدة من حياة الأخرى خلال الشهر المنصرم.
وتساءلت لأول مرة، هل تخبّئ نادية أسرارًا كما أفعل مؤخرًا؟ هل لديها صوت مزعج يطنّ برأسها ليل نهار؟ هل تعيش الخرافات في الأحلام مثلي؟ لا أظنّ ذلك...
ركنتُ المركبة في المكان المخصص، ونزلنا نعبُّ هواء لا يختلف عمّا نحيا به طوال الشهر سوى في أنّه يعبق بحياة نشتاقها ولا نعرفها.
تبادلنا السلام مع مَن تزامن وصولهم مع وصولنا، ودخلنا المنزل الفسيح الذي لم يفشل يوماً في إيهامي بأنّه يتوسّط فضاءً نسيجه يناسب مختلف القوميات والأعراق التي تمرّ عليه على مدار الشهر، أما اليوم فهو مخصص للعرب على اختلاف إثنياتهم، يجتمعون فيه طوال النهار وحتى منتصف الليل، يتسايرون ويتسامرون، يعيشون يوماً يخفف عنهم عبء الغربة ووحدتها، فيخرحون منه مستعدين لمجابهة الحياة حتى ميعاد اللمة التالي...
تركنا الباب مشرعاً وبجواره صناديق زجاجية شفافة قُفِلت بأمان على هواتفنا النقالة وأي أجهزة اتصال أخرى قد تشوّش الهدف من الجَمعة...
جُذبنا بواسطة ضجة قادمة من مكان قريب، حيث وقفنا مدهوشين نراقب مراهقَين متسمّرين أمام الباب الذي يحرسه شرطيان، الفتاة تصرخ بانفعال، والشاب يحاول اقناع رجلَيّ الشرطة بأمرٍ ما.
في النهاية، هما جرّا أذيال الخيبة خارجَين من المكان بعد أن وتّرا مؤشّر الفضول لديّ، حمّلت حقيبتي لنادية ولحقتُ بالمراهقين لأفهم منهما ما يجري.
يبدو أنّهما علما بما يحدث داخل أسوار هذا المنزل من إحدى مواقع التواصل، وشدّهما الفضول للتجربة، ولكنّهما مواطنَين نروجيَين ولا تربطهما أي علاقة بأي من الأعراق المصرّح لها بالدخول، لم يستطع الشرطيان أن يبتّا بالأمر بلا إقرار رسمي.
صارحتهما أنني كمواطنة نروجية وحيدة الجنسية كان عليّ أن أنتظر ستة أشهر لأحصل على تصريح الدخول، غير أنّ لا شيء مما قلته أرضى الفضول الطفولي فيهما، وهما سعدا أيّما سعادة حينما تعهّدتُ لهما بأنني سأحتفظ ببعض الحلويات الشهية مما سأجمعه اليوم لكي نتشاركه غداً في المتنزّه القريب.
لم أشغل نفسي في البحث عن نادية، بل توجهت من فوري إلى الركن المحدد حيث تجلس سيدة طيبة المعشر، كانت مَن دلّتني إلى هذا المكان، وهي ذاتها مَن علّمتني لغتي الأم كبادرة تطوعية منها.
صافحتها وكدتُ أفعل مع جارها غير أنّه حيّاني بابتسامة ودودة ويمناه مبسوطة على موضع قلبه في إشارة إلى أنّه لا يصافح النساء.
تبادلنا الأحاديث لبعض الوقت، وعرفتُ أنّ الرجل، وصرتُ أدعوه ‹العم وليد› تمت دعوته إلى المكان من قِبل داعيتي ذاتها، ذلك أنّهما قد تعرفا على سبيل الصدفة فساعدتْه في المذاكرة لاختبارات اللغة النهائية، واقترحتْ عليه أن يأتي إلى هنا رغم رفضه متذرّعًا بأنّه رجل كبير لا يلائمه الخوض في مآثر الصغار، فربّما يحرجهم فلا يرتاحون لوجوده.
جاءت نادية فسحبتني معها إلى حجرة بعيدة تفوّقت في صخبها على المكان الصاخب بالفعل، وقفنا مجاورتين لباب الغرفة نأكل القطائف المحلّاة بالقشطة بينما نتابع بتركيز مجموعة من الفتيات والفتيان وقد انخرطوا في رقصة محمومة على أغنية غير مناسبة على الإطلاق!.
أخبرتها عن حديثي مع المراهقين الفضوليَين فأصرّت على مرافقتنا، واقترحت أن تصنع بنفسها بعض ما تجيده من وصفات، مازحتها بأنّنا لا نريد أن نتسبب بعراك معوي للطفلين، وكلانا نعلم أنّها ماهرة حقًا في فنون الطهي...
-
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top