الفصل التاسع
رشقة ماء باردة أفاقت آرين من كبوته القصيرة، لطمة أخرى أصابت صدره العاري، وأخرى أصابت وجهه فأغمض عينيه وحاول حمايتهما بيده، قبل أن يكتشف أنّ يديه الاثنتين مقيّدتَين إلى قضيب معدنيّ أحسّ الآن أنّه يتكئ بظهره عليه؛ عموده الفقري مشدود باستقامة صعّبت عليه التّنفّس، ورغم ذلك اخترقت رائحة مغرية مجاريه التنفسيّة، تعشعشت في صدره وامتدّ نفوذها إلى دماغه حيث اصطدمت بصورة عنها محفورة هناك، شعّ عن اصطدامهما سيّالات عشوائيّة أدخلت المُستنشِق في حالة فُصاميّة من الأُلفة والانجذاب.
في غُمرة ما يستشعره إزاء الرّائحة الطّاغية، شعر آرين بشيء يدغدغ ساعديه المبلّلَين، سرعان ما تحولت الدّغدغة إلى نقر حادّ متواصل توزّع على مسافات متفاوتة حتى كاد يُغطّي كامل سطحيّ يديه، ثمّ شرَعت الأفواه بتمرير أسنانها القاطعة صعودًا وهبوطًا عبر سطح ساعديه كسلسلة من السّكاكين الصّغيرة تعمل في مجموعة وبالتّزامن، تحرّك في مضجعه وشدّ طرفيه المُكبّلَين بجنون، ركل الهواء بقدميه، ولكنّ أيًّا من محاولاته لم تنجح في إبعاد الكائنات السّكينيّة عنه، بل إنّها تشبّثت بجلده بقوّة أكبر، كانت تختفي حينما يضربه الموج، لتعود فتكشط جلده ما أن يهدأ، وعبثًا واصل هو تخبّطاته عديمة الجدوى.
لاحت له هيئة خضراء لجزيرة صغيرة في الأفق القريب، واصل المركب عومه، وواصلت الكائنات خدش ذراعيه إلا أنّها لم تنجح في اختراق طبقة البَشرة بعد، وبدورها تكثّفت الرّائحة فلم يُضعفها جنون المَوج.
شقّت السّفينة طريقها في قلب الجزيرة؛ أو في فمها، تعثّرت في الصّخور المدبّبة على طول الطّريق، وخرجت الظُّلمة من بعيد فأسدلتْ ستارتها المعتمة على المكان، ومن شدّة العتمة خُيّل لآرين أنّها ستبتلع البحر بأكمله في أيّة لحظة، والآن، فقط الآن، أدرك أنّه قد مرّ في هذا الموقف مسبقًا، استسلَم للعُطاس فقد كان في قعر منبع العِطر الجَذّاب ولا مجال للمقاومة، كان في فَم الهافغوفا، وسيبلغ مِعدتها قريبًا.
زحفت السّفينة الصّغيرة بصعوبة في الممرّ المتعرّج ذي المياه الضّحلة الذي شكّله فمُ الوحش، تمزّقت الأشرعة على قمم الأسنان الصّخرية، وغُرسَت الأسوار الحديديّة في اللّثّة المُلطّخة بآثار القيء السّابق لما ظنّه الحوت الضّخم وليمة شهيّة ستغنيه عن وجبته القديمة، تألّم الوحش فزعَقَ بقوّة بينما فتحت الرّماح طرقًا دمويّة في لثّته، تمازجَت رائحة الدّم اللاّذعة مع الرّائحة الزّكيّة التي أطلقها الكائن كطعم فساقَتْهُ لنهايته، كان آرين ما يزال معلّقًا برمحه، غير أنّ الوجبة القديمة بحتّها للحبال المُقيّدة لمعصمي المُحارب قد شاركَت في قَتل مُفترِسها...
بتلامس القيود مع القواطع على جانب الطّريق تقطّعت إلى أشلاء مخلِّفة سجينها حرًّا، التقطَ آرين الرّمح المُتوفّر لديه، صوّبه نحو الحُفرة الأكبر، دفعه عميقًا فيها، حمّسته صرخة الوحش فأخذ يُحرّكها دورانيًا حيثما استقرّت حافرًا سردابه في الجُثّة المَهولة، انخرطَ الحيوان في سلسلة جنونيّة من الاختلاجات بعثَت الرّهبة في نفسِ المُحارب، فهل سيموت ذات الميتة؟.
في الماضي أدخل كورت مُفترِسَه في حالة مماثلة باستخدامه سلاحًا مشابهًا.
في تلك اللّيلة المُعتمة، جُنّ الصّياد ومعه الطّريدة، أطبَقَ الحُوت فمه وعبّ محتوياته كآخر فعل حيويّ قبل أن يستسلم لموته، ومات المُحارب مُختنقًا في بطنِ الجُثّة.
أمّا آخر ما فعلته الفريسة قبل أن تلفظ نَفَسها الأخير، فكان اجترار ما أدركته في خضُّم مصارعة الموت الوشيك، لاكَ كورت ندمه، وتقيّأ متعةً مخادعة قادتهُ نحو مَصيدته.
-
وقفَ آرين في الظُّلمة متكئًا على رمحه، يلهث جرّاء الهَوَان الذي ألحقه به الطُّعم الماكِر، وسّع عينيه حينما تناهت إلى مَسمعه خربشَاتٌ قادمة من جهة الفم المُغلَق، وبصدمة راقبَ سيفَه المُستَعار يفتتح شُقًّا طوليًّا في الجِلد السّميك، توسّع الشُقّ شيئًا فشيئًا وامتدت يدٌ مبلّلة بالمياه والوحل، فجذبَتْ اللّثم جهةَ اليمين كورقة ثقيلة، وفي المياه المتدفّقة سبح آرين نحو الخارج، حتى توقَّف على ظهر الوحش بجانب امرأة لم يتبيّن ملامحها جيدًا في الظّلام، ولكنّ هيئتها لم تكن مألوفة لعينيه على أيّة حال.
«أستريد؟» تساءلَ آرين بنبرة متشكّكة.
سلّمَتهُ الفتاة سيفَه بصمت، قبضَ عليه يتفحصّه باهتمام، ثمّ رفعَ رأسَهُ إليها، وكانت الآن مُضاءة ببقعة من نور سلطّتها النّجوم فوقها، يجاورها خيال لا يطابق جسدها، بل إنّهُ يبدو تابعًا لجسدٍ آخر...
ألقى نظرة مُوجِزة على كامل طولها، لها بنية مُكتنزة متوسطة الطّول، ترتدي مَنامة تشابه ما كانت عليه الثّياب في حياته الأخيرة، شعرها الخفيف محمّل بالرّطوبة، جسدها يعبق بملوحة البحر فلم تتلوّث بالطّين كثيرًا، تلطّخ وجهها الفَتي بدماء مَا شاركته في قتله بطريقةٍ ما.
لم تُكن وعيه الأخير؛ أستريد، فمَن هي؟
ثارتْ دمائه في شرايينه واحترّ جسده بفورة الغَضَب حينما توقَّعَ هوية مُحتملة قد تكونها، غضَّنَ حاجبَيه وانقضّ عليها فأطبَقَ كفيّه حول عنقها ودفعها بمرفق قدمه حتى سقطت على ظهرها ملامسةً الجُثّة الدّافئة، ولحقها فثبّتها تحته وشدّ خناقه حتى ازرَّق جسدها فخفف من قبضته، لو أنّه كان قادرًا على قتلها لمزّق وريدها بظفره في لحظة، ولم يكن قادرًا على ذلك بطبيعة الحال... ولكنّه رغبَ على الأقلّ في إذاقتها جزءًا يسيرًا من ألمه.
تراجع بصدمة يراقبها تكحّ بقوّة وتنتفض كمَن استفاق من موت محتّم، ولكنَّ أشدّ ما أثار دهشته هو خوفها الظّاهر وأنين ألمها، زحفَت للخلف تحت ناظريه فمدّ يده يلتقطها قبل أن تطالها يدُ المُحيط، حاولت التّهرّب من قبضته فجذبها بقوّة وهزّها يحاول استفزاز قوّتها، ولكنّها يضعفها استفزّت غضبه فرماها أرضًا وصوّب سيفه نحو صدرها يسأل بصرامة: «مَن أنتِ؟».
«هبة». نطقتْ بخوف ثمّ باشرت في تكرار الاسم بخفوت بينما تبكي بنشيج مسموع.
إذًا، فهي ليست فريا. ولكن مَن تكون؟ لا يتذكر أنّه عرف امرأة بهذا الاسم من قبل. أمّا مظهرها فهو غريب تمامًا على عينيه.
حينما اشتدَّ الموج قبضَ على ذراعها بقوّة وثبّتها لألّا تندفع بعيدًا مع المياه المتلاطمة، ثمّ أطرَق يفكّر في حالة من الجمود والثّبات أذهَلَتْ المرأة الحيّة التي استسلمت لخوفها أمامه، ولسانها يلهج بعبارات متشابهة بلغة كانت مخزّنة في حصّالته اللّغويّة، فهم العبارات ولكنّه لم يدرك المغزى منها...
بقيا على ذاتِ الحال حتى حلّ الفجر، وانتشرت الطّيور الجارحة في السّماء الصّافية تبحث عن قوت يومها، عمِدَ آرين إلى المياه المالحة فشطَف الدّماء عن جسده وأشار لهبة أن تحذو حذوه، أطاعته من فورها، فمنحا بذلك نفسيهما مهلةً قصيرة قبل بدء الهجمات المُفترَضة.
بصمت نبّهها أن تلتزم السّكون، وتسلّق الجثّة عكسيًا حتى بلغ فمها فاخترقه باحثًا عن أسلحة اللّيلة الماضية، أخذ رمحًا ولفّ الحبل المُهمَل حول مرفق يده، وقف قليلًا يودّع تابعه القادم قبل أن يسبح خارج جثّته الفانية، غمر الرّمح والحبل في المياه مرارًا فنظَّفهما، ثم تسلّق الجيفة مجددًا وسلّم الفتاة الرّمح قبل أن يحلّ الحبل عن يده ليعيد لفّه مجددًا حول خصرها وأمسكَ نهايته فأمر الفتاة أن تقبض عليها بإحكام وألّا تفلتها مهما جرى، ثمّ لفّ يده الحرة من سيفه حول جسدها وباشر السّباحة بينما يركل الجيفة بقدمه حتى هوَتْ نحو القاع ما أن تركاها تمامًا.
امتطى البَحر بسلاسة أعاقتها أحماله الكثيرة، وكانتِ الفتاة تحاول مجاراته في السّباحة دون أن تبتعد عنه؛ فما تزال حتى هذه اللّحظة رهينة خوفها ورهبتها مما عاشته خلال ساعاتٍ قليلةٍ ولمّا تستفق منه بعد.
أجالَ آرين ناظريه حوله محاولًا إيجاد قطعة خشب من حطام المركب قد تساعدهما في مبتغاهما، نفضا الأسماك الصّغيرة عن أقدامهما فيما يكدّان في السّباحة، ومن مكانٍ ما، انقضّ عليهما طيرٌ ضخم، أفلتَ آرين حمله البشريّ ليتفرّغ لمواجهة الصّيّاد المُثابر منذ الصّباح الباكر، لوّح بسيفه بغيةَ إبعاد الجارح ولكنّ تصرّفه جذبَ المزيد من الطّيور لمهاجمته، انشغلَ المحارب في مقارعة أعدائه العُزَّل فيما ابتعدت هبة عن المعركة الغريبة غير متخليّةٍ عن طرف الحبل، واصلت السّباحة حتى وجدت صخرة كبيرة تعلّقت فيها وتسلّقتها لتلفِظ أنفاسها المحبوسة أخيرًا وتنهمك في اللّهاث، الأدرينالين المتدفق في أوردتها شغلها عن خوفها فأخذت تراقب المعركة وتصدّ برمحها بعض الطّيور المنفردة عن المجموعة.
ولكنّ أحد الطّيور نجح في جذبها من مأمنها وبسلاحها أصابته في مقتل فتخلّصت منه، ولكنّها كانت قد ابتعدت خلال ذلك عن صخرتها، فقدت السّيطرة وضاع منها طرف الحبل فأخذت تصرخ مستنجدةً بمَن ظنّتهُ تهديدًا فتبيّن أنّه في صفها، وغاصت في المياه حتى اختفى أثرها.
«آتِني بالحبل يا هبة!» صاح آرين فيما يبحث بعينيه عن الفتاة التي لم تستطع تلبية مطلبه وواصلت تخبطها حتى لفتت انتباه سمكة عابرة تعلّقت بالطّرف الحرّ وجذَبَت إليها طائرًا صغيرًا لفتَ بدوره انتباه المحارب فتبعه ووجد الحبل، ثمّ طرد الصّياد والطريدة، وشدّ فقيدته من خلال الحبل حتى اقتربت من السّطح، فالتقطها وسبحَ بها إلى الصّخرة القريبة، وهناك تركها تلتقط أنفاسها المسلوبة وأعلنَ استراحة قصيرة حتى يتوصل إلى الخطوة التّالية.
«مَن أنتِ وما الذي تفعلينه هنا؟». طرح سؤاله المتأخّر، كان في المقدّمة يتصدّى للأعداء المجنّحين بسيفه وجزء السّور الذي صار رمحًا، فيما جلست هبة خلفه تسرد له حكايتها، بعد أن رفضَ مشاركتها إياه في المعركة، على الأقلّ حتى تستجمع قواها مجددًا.
«أنا التي اشترتْ بضعة سنوات إضافيّة لتعيشها، وكان الثّمَن رابطًا عجيبًا على شكل قلب سليم منتظم الخفقان، تشاركني به صاحبته التي لا أعلم أين هي الآن بالمناسبة!». سخرت من حالها المؤسف في نهاية قولها.
لم يفهم شيئًا فطلب إيضاحًا، وحصل عليه.
«أستريد منحتني قلبها». قالت بيأس، جملة قصيرة معبّرة، التفتَ إليها بصدمة، ثم استدار لمهاجمة أعدائه من جديد، وقد بدأ يفهم ما يحدث أخيرًا.
«ليس قلبها! إنّه صِلتي بأتباعي. إنّه الجزء الوحيد الخاصّ بي من جسد حللتُ عليه ضيفًا ولم أملكه! كان عليه أن يُدفن، يُحرق، لا أعلم... لا أن يخفق مجددًا!». صرخ بجنون، ثمّ تنبّه لخطورة الأمر فأخفضَ صوته.
«أنتَ مَن أوصيتَها أن تبقى!».
العبارة الأخيرة وقعت كالصّاعقة عليه، غرسَ سيفه في الصّخر كأنّه يغرسه في قلب عدوّه، وغرقَ في غضبه فما عاد واعيًا على واقعه، تقدمّت هبة فحلّت محلّه بعد أن أعادت الإمساك برمحها، ولحسن حظّها قلّت أعدادُ الطّيور حتى كادت أن تختفي من السّماء، فاقتصرت الصّعوبة على مكابدة ذنب القتل وليس مشقّة الفعل نفسه...
فجأة أحسّت بشيء يقبض شعرها من الخلف، وبرمشة عين كان الرّجل قد جذبها وألقاها بقوّة حتى اصطدمَ رأسها بالحجر الصّلب، أحدثتِ الضّربة جرحًا كبيرًا سالت منه الدّماء بغزارة فغطّت الجزء الخلفي من عنقها وكذلك المكان حولها، فيما توسّعت عيناها برعب تراقب المحارب الذي استلّ سيفه، ثبّتها بقدمه العارية فوق بطنها، ومن عينيه تطايرتْ شرارات الغِلّ نحوها، تتبعت مستوى نظره واقشعرّ بدنها بأكمله حينما توقّعت هدفه التّالي: قلبها.
-
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top