قصه قصيره
مرحبا ،مر وقت طويل صحيح ؟🥰 عدت اليكم بشي مختلف عن اسلوبي المعتاد، قصه قصيره شاركت بها بمسابقه ، نويت نشرها بكتاب بعد ان لم تفز لكن بدل الحصول على الكتاب المنشود حصلت على درس قاسي لكن ثمين ... لا يتعلم المرء بسهوله صحيح ؟ لذا اظن الثمن استحق الامر، اضطررت للاستعجال بنشرها لبعض الاسباب لذا لم ادقق فيها بعد لذا تجاهلوا الاخطاء لو تواجدت 🙏🏻❤️☺️ ارجو ان تنال اعجابكم، فقط لا تنتظروا شي مشابه لباقي الروايات فهي اول تجربه لي تقريبا في الروايات القصيره
~~~~~~~~
ما هي الحياة بالنسبة لكل إنسان ؟ ما قيمتها ؟ أهي في عيشها بأقصى درجات السعادة نحقق كل ما نتمنى ويكون كل ما نطلبه بين ايدينا؟ أم بالحصول على المناصب العليا نصبح فيها على قمة الهرم المجتمعي نملك من القوة والمكانه ما لا يحضى به إلا النخبة ؟ أهي في امتلاك حلم والسعي خلفه بكل ما نملكه جاعلين منه المحرك والدافع للاستمرار يوماً بعد يوم ؟
سؤال كهذا قد يطرح على المرء بأي حقبة من حقب حياته يجعله يمر في أزمة وجودية مفكراً هل هو كائن له قيمة تذكر ؟ هل أتم رسالته المنشودة المخصصة له دون غيره؟ اكان على قدر المسؤلية الملقاة عليه ككائن منزه عن غيره ؟
ذلك الشاب اليافع ذو الواحد والعشرين عاماً بشعره الاسود وقزحيتيه الزرقاوتين لم يكن منشغلاً بأفكار وجودية كهذه ولم يملك الاهتمام الكافي للتفكير بها ، أشياء كهذه بدت سخيفة لا تستحق إضاعة وقته الثمين فيها هذا كان نقطة الخلاف الأساسية غير المنتهية بينه وبين والده ذو العقد الخامس ، شعره الأسود خالطه الشيب يروي قصص من الكفاح الطويل مع عينين تلونتا بذات لون ابنه مؤكداً نفسه كمصدر في جينات من امامه.
النظرات بينهما ما كانت تعكس نظرات آب مع ابنه اطلاقاً فالأكبر بينهما وقف أمام ابنه بحاجبين مقطبين عيناه ضاقتا وملامح وجهه مكفهرة يراقب بغير رضا تعبيرات ابنه الوقحة ، شيء روتيني كثير الحدوث مع هذا لم يصبح مقبولاً له يوماً ، تصرفات ما حملت الاحترام المناسب لمقامه كأب .
الأصغر استقام أمامه ، يداه بجيبه ، عيناه حملت تحدياً وازدراءاً اوضحت سخريته الداخلية من ما اعتبره آراء مملة لكبار السن لغرض إفساد متعته نتيجة غيرتهم من امتلاكه حياة مرفهه خلاف أيام شبابهم.
والدته البالغة منتصف الاربعين في سنها ذات الملامح اللطيفة وقفت على مقربة منهما ، شعرها البني يصل إلى أعلى ظهرها وعيناها بلون البن هي الأخرى تراقب بقلب متألم ابنها وهو يتشاجر مع والده بذات الروتين المعتاد بينهما ، لا يهم كم مرة تحدثت فيها معه مؤنبة، لم ينفع التوضيح ولا الاحتواء ، اعتادته عنيداً من طفولته وشب على ذات الصفة بشكل مضاعف في مراهقته وحتى بعد أن نضج وصار بالغاً لم يتغير فيه شيء ، كانت اوهامها وحدها من تقنعها انه قد يعقل .
تواجد الثلاثة في غرفة واسعة المساحة جدرانها غلفها ورق جدران بيجي اللون عليه ورود وردية والسقف بالأعلى كان ناصعة البياض مع زخارف على الزوايا ووسط السقف تدلت تلك الثريا ذات الخيوط الفضية متدرجة الطول في دائرة ونهايتها حملت أحجار شفافة على شكل دمعة ، غطت الأرضية سجادة بذات نقشة الجدار والغرفة احتوت على افخم أنواع الاثاث .
والده تحدث بصوت عميق انهكه كثرة التكرار دون نتيجة
" إلى متى تنوي أن تظل على هذا الحال ارثر ؟"
اجابه ابنه يشيح ببصره بعيداً نحو الستائر الحريرية خلف والده
" حين تتوقف عن التذمر من كل شيء أفعله ، أخبرتك اني كبير بالفعل واعرف ما أفعله ، ما الحاجة لكل هذه المحاضرات المملة ؟"
والدته تدخلت مؤنبة تضم يديها لصدرها
" ارثر ، كم مرة أخبرتك أن لا تتحدث بهذا الشكل مع والدك ؟ نحن قلقان على مستقبلك وحسب "
التفت يخرج يديه من جيبه ينظر إليها بملامح لم تخلو من انزعاج
" وانا اخبرتكم أن لا تفعلوا بالفعل ، لست اضيع حياتي كما تعلمين ، انا بأحد افضل الجامعات وعلى ابواب التخرج ، لدي اصدقاء واعيش بشكل جيد لا أفهم لما تجعلونني أبدو وكأني مدمن على مخدرات أو من يعلم بما تفكرون "
والده ازدادت ملامحه ضيقاً يخبره للمرة المليون ربما دون أن يحرك من أمامه ساكناً
" أفضل جامعه ؟ وهل دخلتها لأنك اجتهدت ؟ لقد اضطررت للتوسط لك لتفعل وانت حتى لا تكلف نفسك عناء الدراسة ، أصدقاء ؟ اتسمي تلك الشلة التافهه من الفاسدين أصدقاء ؟ لو كانوا كذلك لما وافقوا على أفعالك ، انت ، اتملك حتى فكرة للمستقبل ؟ كيف تنوي عيش حياتك ؟ كل يوم سهر وخروج وشرب وصياعه ، إلا يمكنك أن تتصرف حسب عمرك؟ انت بالفعل بالغ الآن ، شقيقك بمثل...."
قاطعه ارثر ثائراً مع ملامح حادة ناقمة
" لا تأتي بسيرة ذاك الممل، كونه يحب أن يشقي نفسه لا يعني أن علي فعل المثل ، والداي غنيان وانا بمرحلة دراسة لما علي أن أذهب للعمل الآن ؟ انتظر لاتخرج ثم ابدأ بالتذمر"
انفلتت أعصاب أبيه يهتف به حانقاً
" كم مرة سمعت هذا العذر ؟ منذ أيام المدرسة قلت لي نفس الكلام ، ثم كدت ترسب بالثانوية ! وبعامك الأول في الجامعه وعدتني بالنجاح ورسبت ! كله كلام فارغ لم يتحقق منه أي شيء !"
رن هاتفه فابعد ناظريه عن والده يراقب الهاتف ، أجاب عليه دون استئذان تاركاً كلام والده معلقاً تستمع له الجدران ، ملامحه تغيرت بمجرد الرد على الخط والابتسامة المشرقة احتلت ملامحه يخبر الطرف الآخر انه قادم دون تأخير وفور إغلاق الخط أعاد الهاتف لجيبه ،مر من جانب والده ملوحاً ليمنعه من البدء من جديد
" فهمت ما لديك ابي لكن انا كبير بالفعل لذا توقف عن القلق ، رفاقي بانتظاري لذا ان كان لديك المزيد لقوله اجله، أراك لاحقاً "
فور خروجه تنهد والده واتجه نحو أحد الارائك يجلس عليها واضعاً يده على حافتها يسند رأسه إليه ، اقتربت زوجته منه تضع يدها على كتفه والأخرى امتدت خلف ظهره تصل إلى ذراعه البعيدة
، ملامحها لانت تحاول مواساته بعد جولة حرب جديدة مع أصغر ابنائها
" عزيزي، انت بخير ؟"
زفر الهواء يجيبها بيأس
" أشعر أننا افسدناه بدون خط للرجعه، لا يهم كم ننصح ولا أن نقطع عنه المال ، هو يهلك نفسه بكل الأحوال ، عجزت عن التعامل معه ، لما لا يمكنه وحسب أن يحاول أن يبني لنفسه شيء؟ لما تفكيره مختلف ؟ هل كان علي جعله يمر بحياة صعبة كما فعلنا نحن لكي يتعلم ؟ هل توفير حياة سهلة له هو السبب؟"
صوت ذكوري وصله من باب الصالة تلاه صوت إغلاق بابها يتجه ناحيته هو وزوجته ليجلس قربهما، شاب بني الشعر بمنتصف العشرينيات يرتدي نظارة طبية عيناه شابها خاصة والده ، أمسك بيد والده يرسم ابتسامة دافئة على شفتيه
" لم تقم بأي خطأ ابي ، لقد دللتني أيضاً لكنك علمتني المسؤلية معها ، هو أخذ الأول ورفض الثاني ، لذا لا تلقي بالمسؤولية على نفسك ، هو اختار أن يكون سيئاً وفاسداً هكذا بنفسه "
والدته اخفضت رأسها تنظر ناحية الأرض ، الحزن غلف ملامحها
" ايان لا تقل ذلك عن شقيقك ، هو ليس شخصاً سيئاً لكنه مدلل لا يزال يتصرف كطفل بالخامسه ،لكنه لا يقصد الأذى "
زوجها جورج خرج من شروده واقفاً
" دلالك هو ما أفسده جوليا ، منذ الطفولة وكل طلباته مجابة ، لم نعلمه المشاركة وكلما رفض العمل كنا نسمح له بحجة أنه سيتعلم حين يكبر ، ما كان على التساهل وقتها ، انا حقاً نادم أشد الندم !"
أرادت زوجته جوليا أن تجيبه لكن الكلمات ابت الخروج حين أدركت أنها هي ذاتها غير مقتنعة بما أرادت قوله ، لولا قلبها كأم لما حاولت اختلاق كذبة كهذه ، يؤرقها أن يكون ابنها هكذا وبالوقت ذاته سماع كلمات قاسية عنه يجرحها خشية على مشاعره .
ابنهما الأكبر ايان التزم الصمت وحسب ، حانقٌ جداً على شقيقه ، يكره حقيقة انه يجرح والديه دون اكتراث لمكانتهما وسنهما ودون اعتبار لصحتهما المنحدرة نتيجة سلوكه السيء واقلاقه لهم ولولا علمه بأن الدخول في شجار يزيد من وضع والديه سوءا لما تردد بلكمه عند أول فرصه ، كان يثير حنقه بكل ما للكلمة من معنى ، كان يكره وجوده كونه صار يمثل مصدر الم ومشاكل لا تنتهي ، تمنى لو يختفي وحسب أو لو لم يوجد قط .
~~~~~~~~
خارج أسوار ذلك المنزل الفخم اصطفت في الشارع الواسع المحاط باشجار مرتفعة على جانبيه سيارة مارسيدس سوداء حديثه ، صوت الاغاني الصاخب الصادر منها أفسد هدوء ذاك الحي الراقي إلا أن لا أحد تدخل في الأمر إذ أن مظهر الشبان والفتيات في السيارة أوحى بطبيعتهم بشكل بديهي جاعلاً كل من لا يرغب بالمشاكل يتجنب الأمر وحسب مكتفياً بإبداء ملامح الضيق وتوجيه نظرات تقريعية صامتة دون استجابة ممن كان فيها ، دقائق قليلة كانت كافية ليصل آرثر إليهم ، فتح بابها ليجلس بالخلف رفقة شاب وفتاة يافعين الفتاة كريستي كانت بشعر أشقر مع ملابس ضيقة ابرزت مفاتنها، تمضغ العلكة في فمها ووجهها امتلئ بطبقة كثيفة من مساحيق التجميل .
الشاب مايكل كان بشعر رمادي مع عيون بنية بشرته بيضاء صافية يرتدي قميص اسود مع بنطال جينز ممزق عند الركبه مع اكسسوارات استقرت على يده وحول عنقه يمسك الهاتف بملل مقلباً فيه بدون هدف يذكر .
سائق السيارة تمثل بشاب بمثل سنهم اسمه ديمتري شعره كان بلون العسل عيناه زرقاوتان يرتدي قميصاً ابيض مع بنطال جينز أسود يربط قميصاً زيتونياً حول عنقه ونظارته الشمسية تغطي عينيه .
آخرهم من كان يجلس في المقعد قرب السائق كانت ايفا صبغت خصلاتها بالأحمر الناري ترتدي بنطال أسود يصل إلى أعلى ركبتها وقميص بذات اللون بالكاد وصل لسرتها مع شفتين بلون الدم من حمار مساحيق التجميل .
آرثر انظم لهم يرتدي قميص ابيض بنصف أكمام مع بنطال اسود حذاء رياضي صنع خصيصا له من شركة اديداس وسترة رمادية وصلت إلى ركبتيه.
فور أن انظم لهم وجهت كريستي نظرها إليه تقدم جذعها للإمام لتستطيع رؤيته بوضوح
" أخيراً انت هنا ، أين كنت !؟ محاضرة جديدة ؟"
ديمتري ضحك ساخراً ويده حركت المقود بالفعل للانطلاق
" أرجح أن والده امسكه ليوصيه بشرب الحليب والنوم مبكراً وأشياء من هذا القبيل"
هتف آرثر ساخطا يكتف يديه ومحولاً انظاره نحو النافذة
" اخرسوا وحسب هلا فعلتم؟ يكفيني الصداع بسبب ذاك العجوز، جديا هو ممل ولا يفهم كيف يعيش الحياة ، أفضل الموت على العيش بطريقته المقيته تلك ! "
مايكل أنزل هاتفه قليلاً يلتفت ناحيه من جلس قربه يتذمر
" لما لا تترك له البيت وحسب ؟ خذ المال معك واذهب وعش بعيداً سيدرك انك كبرت وان ضغطه عليك سيجعلك تنفر وحسب ، حرفياً لو وجه لي والدي توبيخ كهذا لما عدت للمنزل حتى يعتذر مني ، عليهم احترام اننا كبرنا "
ايفا حركت خصلاتها باصبعها تلفها حوله ثم تحررها ، فرقعت بالون العلكه مضيفة لمن سبقها
" هو لا يحترمك على الإطلاق والذنب ذنبك، لو أريته منذ البداية ان حياتك خط أحمر لما حشر نفسه ! حين حاولت والدتي إخباري بما علي دراسته امتنعت عن الطعام ليومين وهي استسلمت"
اكفهر وجه آرثر مكوراً يديه يضربها بالنافذة بحنق
" أنتم فقط محظوظون ، انا حاولت وضع حد له وهربت ذات مرة وفعلت كل ما يخطر على البال وهو لا يستسلم ! جدياً عليه تركي وشأني ! عليه جمع المال اللعين وحسب وانا ساتصرف لما يظن أن انفاقه علي يعطيه حق إعطاء الأوامر ؟ أنا ابنه وماله لي أولا وإخراً لكنه بكل وغدنه يمن علي به ويحاول التحكم بي بواسطته !"
ديمتري ضيق عينيه يهتف بمن يجلس خلفه
" لا تؤذي سيارتي هي جديدة ! ان كان لديك شكوى إذهب إلى والدك وأرمها بوجهه عله يفهم ! لن تستفيد شيئا من النحيب هنا "
كريستي ضمت يديها بحماس ، أشرق وجهها وهي تقترح
"دعكم من هذا الموضوع الممل ، ما رايكم هل نذهب اليوم للنادي؟ سمعت انهم احظروا انواع خمور جديده "
ديمتري كان من قرر دون انتظار البقيه
"انا اقود الى هناك بالفعل ، سنصل بعد قليل !"
انقضى الوقت سريعاً بدون شعور منهم قضوه في اللهو هنا وهناك ككل مرة يجتمعون ، الحياة زهت في عوينهم وزاد هذا اقتناعهم بوجهه نظرهم ، نهاية اليوم كان تأثير الكحول في اوجه عليهم يترنحون نتيجة تاثيرها مبتهجين بأقصى درجات الابتهاج ، كل منهم جاء من يقله عدا شخص واحد ، رفضه للاتصال بهم كان نتيجة مكالمة هاتفية تلقاها وسط اللقاء عكرت مزاجه بسبب اتصال والده يخبره أن عليه العودة قبل منتصف الليل فاقسم له أنه لن يعود للمنزل إلا والفجر قد حل ،تأثير الكحول طغى على ادراكه، يترنح في الشارع يمينا ويساراً يلعن البرد القارص رغم ، الدخان يخرج من بين شفتيه ، احاط جسده بيديه مغلقاً السترة الشتوية الطويلة ، ينفث الدخان من فمه يحاول تدفئة يده المتجمدة ، الرؤيا ضبابية والطريق بدا غير مألوف له والطرقات مظلمة بالكاد يرى موضع قدمه بفعل إضاءة الشوارع الخافتة، لم يدرك ما كان يفعله ولا الى أين يتجه في منتصف الليل المظلم ، وعيه بدأ يرجع بعد مرور بعض الوقت بالتدريج وخلال هذا وجد نفسه وسط طريق فرعي ضيق لم يره بحياته قبلاً ، نظر حوله ينظر بالارجاء مستنداً بالجدار بجانبه محاولاً تحديد مكانه مستعيناً بكل الصور بعقله للاماكن التي زارها طوال حياته دون أن يهتدي لشيء .
لاحظ على بعد مسافة سيدة تجلس على كرسي وأمامها طاولة صغيرة خشبية مستديرة ترتدي عبائه بنفسجية تغطي كتفيها اتصلت بها قلنسوة بذات اللون غطت رأسها كلها مخفية معها وجهها ، أمامها على الطاولة استقرت كرة بلورية خضراء اللون يتغير لونها في تدرجات مختلفة نتيجة إحاطة يديها لها .
المنظر أسره لثواني قليلة راقب فيها ما تفعله العجوز بفضول محض ، حين شعر بنفسه اخيراً وادرك ما كان يفعله دون شعور حرك رأسه يميناً ويساراً ينفض الأفكار من رأسه ، تقدم منها ببطئ وهدوء دون أن يدرك لما يشعر بتلك الرهبة القوية منها ، رغبته بمعرفة مكانه فاقت رهبته فتجاهلها وتوجه نحوها يقف أمام طاولتها، رفعت رأسها تبعد يديها عن كرتها البلورية رأسها يتجه نحوه، أدرك من حركة رآسها أن عيناها كانت عليه بالفعل اسفل تلك القلنسوة لكنها لم تكسر صمتها قط .
الصمت طال وبدأ صبره ينفذ ، وضع يديه بجيبه يسألها بصبر نافذ نتيجة شعوره بغرابة ما يجري
" أين انا بالضبط ؟ من أين طريق العودة ؟"
صوتها كان هادئاً ،ذلك النوع من الهدوء المثير للقشعريرة يخترق اعماقك دون استئذان
" لا أعلم "
جوابها جعله يشعر أنها تسخر منه ، استقرارها هنا وجلوسها بهذه الاريحية نفى أي احتمالية لجهلها، ترجم سلوكه إلى سخرية منه وعدم رغبة بمساعدته، اشتاط غضباً يراقبها بنظرات استنكار خصوصاً مع تأثير الكحول المتبقي جاعلاً منه مفرط الاندفاع
" ماذا تقصدين بلا اعلم؟ لا أحد يأتي لمكان ما ويجلس فيه كما لو أنه يتنزه وهو لا يعرف اين هو "
لم يتغير شيء من هيئتها أو نبرتها ، اجابت
على سؤاله دون اكتراث فعلي
" لا أعلم ، ولو علمت لن اساعدك، انت لا تساعد نفسك فلما أفعل انا ؟"
تلك العبارة الأخيرة جعلت ابتسامة عصبية تظهر على وجهه ؟ ضحك ساخراً ، أخرج إحدى يديه على الطاولة والأخرى ظلت حبيسة جيبه
" ماذا تقصدين بهذا الهراء؟ انتِ أحد هؤلاء العجائز المتخلفين محبي الوعظ صحيح ؟ ماذا هل ارسلك ابي ؟ لقد قال لي هذا الكلام مراراً الآن صار يرسل اناساً لي ليفعلوها؟ كم دفع لك ..."
كلامه وحركته ما أثارت غضبها قط ، ادركت أنه يهددها ويرفض ما تقدمه له
" أن كنت لا تريد الاستماع لهذه النصيحة فلن تستمع لي حين ارشدك الطريق ايضاً ، انت ستاخذ بما تريده وحسب ، لا أرى سبباً يدعوني لمساعدتك "
العقل أخبره أن عليه تركها والرحيل وحسب احتراماً لكبر سنها البادي على نبرتها وبنية جسدها المغطى بالرداء إلا أن تأثير الكحول لم يزل ورافقه الغضب المكبوت جاعلاً آرثر قنبلة موقوتة لا تتصرف بما يمليه المنطق ، أمسك بها من ياقتها ساحباً إياها متناسياً أنها امرأة ، هتف بها حانقاً حين لم يلحظ أي خوف
" اسمعيني أيتها العجوز لا أدري ما مشكلتك معي ولا من ارسلك لازعاجي لكن ستخبرينني بالطريق وننتهي من هذه السخافات وحسب واضح ؟ ثم نفترق ولن نرى بعضنا مجدداً "
وضعت يدها على يده فاثارت رعباً شديداً في نفسه لم يعرف له سبباً ، تراجع للخلف ساحباً يده كما لو أصيب بصعقة كهربائية ، عدلت العجوز ردائها جلست على كرسيها من جديد محيطة الكرة الزجاجية بين يديها كما رآها اول مرة وبذات النبرة الخالية من العاطفة ابلغته
" ليس لدي مشكلة معك ، انت من لديه مشكلة مع نفسه ، ولأن والدك اضناه محاولة تربيتك سأفعل انا "
ومع آخر ما قالته انارت كرتها بضوء أخضر ساطع امتد على شكل حلقات هوائية منها دفعت بجسده بكل سهولة للخلف ليصطدم بالجدار خلفه فاقداً للوعي بعد أن تاوه بشدة نتيجة الإصطدام وآخر ما سمعه كان بضع كلمات منها ، اقتربت منه تدنو ارضاً قرب رأسه
" اصابتك لعنتي، ستموت خلال أسبوعين ، فكر خلالهما بكل ما فعلته ، ترقب "
الضباب غشي بصره ووعيه تسلل منه وكل ما استطاع التفكير به خلال آخر ثواني متبقية كان انكاراً لكل ما حدث
" ما هذا الترهات بحق الإله ؟"
كان يفكر بداخله بذلك ومعها فقد وعيه راحلاً لعالم أخر .
~~~~~~~
المنزل الواسع بمن فيه كان بحالة من الكآبة المخيمة، ابنهم الأصغر نفذ تهديده ولم يعد ، لم تكن اول مرة وقطعاً لم تكن الأخيرة إلا أن الفرق تمثل بغيابه حتى بعد طلوع الصباح ، شيء لم يعهدوه منه ليس رأفة بقلوبهم المرهقة عليه بل لأجل أخذ السيارة للجامعه للتباهي، لم يكن ليضع نفسه بموقف سخيف أي كان الشجار معهم ، اتصلوا بهاتفه مراراً والنتيجة كانت هاتف مغلق لا يمكن الوصول لصاحبه، النوم جفاهم كما الراحة ، الترقب والخوف عليه غلف ساعات الانتظار ترافق معه غضب عنيف نتيجة ازدياد سلوكه سوءاً مرة بعد مرة .
~~~~~~
عيناه كانت مغلقتان طوال الليل يحلم باحلام مزعجة مخيفة جعلته يتحرك بضيق تام أثناء نومه غير المريح ، فتح عينيه حين ازعجت الشمس باشعتها المنبعثة بكل مكان ووجدت سبيلها نحوه ، فتحهما واضعاً يده فوقهما منتظراً أن تعتادا، استعدل بجلسته بعد برهه يراقب ما حوله بأستغراب تام، لم يذكر الكثير سوى أنه كان يرى أحلام غريبة عن مشعوذات ، اوعز الأمر لنومه على الأرض فوقف بعد وقت ينفض ثيابه المتسخه، راقب مظهره فظهر عدم الرضا على وجهه يراقب شكله بأستنكار
" تباً ما هذا المظهر الذي انا فيه ؟ماذا حدث بالأمس ؟ لا أذكر أي شيء ، عليّ شراء ملابس جديدة ! وسأتأخر عن الجامعه اليوم على ما يبدو ، على العودة للمنزل الآن لقد تأخرت بالفعل "
عيناه فارقت ساعة الهاتف يعيده لجيبه ، تحرك رغم شعوره بألم بأنحاء جسده نتيجة النوم السيء على الأرض، رفع يديه للأعلى يمد جسده ليتنشط، دلك رقبته شاتماً كل شيء ليخرج من الزقاق بعد برهه، حين صار وسط الشارع الرئيسي بعد مدة لا بأس بها من السير توقف ينظر إلى صفوف الناس الطويلة يسير كل منهم لوجهته بدون تأخير بحيوية كخلية نحل ،استغرب المنظر كونه لا يأتي لأماكن كهذه غالباً إلا لو اقتضت ضرورة قصوى هذا ، معظم الأماكن التي يزورها ما كانت سوى أرقى وافخم الأماكن الترفيهية بالتالي رؤية الناس بهذا الشكل كانت غير مألوفة وبالطبع لم تكن محببة له ،انتظر لوقت طويل نسبياً قبل أن يتنهد متقدماً نحو رجل يعمل في كشك خشبي يبيع ساندويشات من السجق، اقترب آرثر منه مضطراً رغم انزعاجه من فرق المكانة بينهما حين رأى انه الوحيد الساكن مكانه
" انت ايها الرجل ، أين نحن؟"
لم يرفع الرجل رأسه مطلقاً عن المقلاة امامه كما أن السؤال ظل معلقاً دون جواب كما لو أنه لم يطرح قط ، ارتفع حاجب آرثر نتيجة هذا استنكاراً للوقاحة المطلقة للرجل متسائلاً هل قلة الذوق والتربية أمر شائع عند الفقراء؟
استمر بعمله يحضر الساندويشات واعطاه للزبون مع ابتسامة واسعة على شفتيه، هذا ما جعل أعصاب آرثر المرهقة تزداد اشتعالاً ، هتف به غاضباً من تجاهله الصريح
" انا اكلمك يا هذا ! "
رد الفعل ذاته تكرر مجدداً وليس وحده حتى الزبون لم يتدخل وصراخه ذاك لم يلفت نظر أي من المارة ، التفت حوله يراقب ردود الفعل بأستغراب تام لا يفهم هل الناس هنا معتادون على أشياء كهذه ؟
أراد الشجار معه ، تقدم يرغب بركل العربة يجبره بواسطة هذا على الرد خشية بطشه به ومع ركلته لها اتسعت عيناه ،فتح فمه ببلاهه وتجمد جسده لثواني يبقي قدمه فوق الأرض ، استعاد تركيزه مصدوماً مما يجري ، انزل قدمه لا يصدق ما رأته عيناه حتى أنه ظل يكرر تلك الحركة بشكل غير واعي يحاول استيعاب حقيقة أن قدمه مرت عبر الخشب دون أن تصيبه ، بدا له وكأنه مجرد شبح !
قطب حاجبيه ورفع رأسه بشكل تلقائي ملتفتاً للرجل قربه ، مد يده يضعها على كتفه فتكررت ذات النتيجة إذ تخللت يده جسد الرجل وكأنه مجرد صورة هولوغرافيه لا تجسيد حقيقي لها .
راقب الناس من حوله بهلع، استدار ينظر لمن حوله يراهم وهم يتلامسون ويتحادثون فيما بينهم بشكل اعتيادي ، كان هو الصورة الهولوغرافية بينهم وليس العكس ، شحب وجهه وتعرق ، قدماه تحركتا تلقائياً يلتفت يميناً ويساراً ينادي كطفل ضائع
" هل يراني احدكم؟ هل تسمعونني؟ إن كان أي منكم يسمعني اجيبوا"
انتقل بينهم واحداً واحداً يتلمسهم دون ان ينجح باي محاولة، يركض بالشارع مخترقاً الناس عمداً يأمل بداخله أن يصطدم باحدهم أي كان دون أن تصبح امنيته حقيقية .
انهكه الركض السريع فجثى على ركبتيه قرب كرسي خشبي في الحديقة العامة يلتقط أنفاسه بصعوبة عيناه ما زالتا على اتساعهما تعكسان صدمته القوية للآن ، وضع يده على رأسه ،همس لنفسه بدون وعي مغطياً إحدى عينيه
" مستحيل ، لابد أنها مزحة ، انا احلم ، نعم لم استيقظ بعد وحسب ، لا يمكن للمرء أن يصبح خفياً باي حال ، ربما هي مزحة سخيفة من أبي أو ...لا غير منطقي انا.... انا احلم وحسب ، سيعود كل شيء لطبيعته حين استيقظ "
أراد الجلوس على الكرسي يتخذه مستقراً حتى يحين وقت انتهاء الحلم فاتجه ناحيته يجلس عليه ونتيجة لهذا فقد توازنه ساقطاً ارضاً على مؤخرته .
نظر حوله ليجد جسده قد اخترق الكرسي الخشبي ، نسي أنه لم يكن قادراً على لمس أي شيء بهذا الحلم فشتم ناهضاً يوجه أنظار حارقة نحو الكرسي
" عليك اللعنة وعلى كل شيء ، لأستيقظ وحسب من هذا الهراء لقد سأمت "
اقترب من نافورة كانت موضوعة أمامه ، راقبها بهدوء يستغل لحظات الصمت حوله اذ ان المكان كان خالياً من أي أحد سواه كون الصباح وقت النشاط والعمل ولم يكن أحد متفرغ للتواجد هنا غيره .
أخرج هاتفه من جيبه حين تذكر أمره فجأة ، أشرقت ملامحه يكلم نفسه مشجعاً ليرفع معنوياته ويتغلب على الخوف المزروع داخله أن الفكرة الدائرة بعقله هي الواقع القائم بهذه اللحظة
" ساتصل بهم ، ابي سيكون قلق دون شك علي الأن، طالما يمكنني إمساك الهاتف فسأستعمله ، حينها ساستيقظ دون شك !"
أسرع يتفقد سجل الأسماء ليصل لمبتغاه بعد ثواني قليلة ، ضغط زر الاتصال على عجل ووضع الهاتف على أذنه لكن تلك الملامح تبدلت سريعاً فور ان وصله التسجيل الآلي يخبره أن الرقم المطلوب لا يمكن الاتصال به حالياً، أبعد الهاتف عن أذنيه يتفقد أن كان اتصل بالشخص الخطأ ، تحقق من الأمر فوجد انه لم يخطأ ، اتصل بكل من يعرفهم وكانت النتيجة واحدة ومع كل اتصال آخر بدأ يرتبك أكثر ويتوتر بشكل غير مسبوق ،قضم أظفر ابهامه يتحرك جيئة وذهاباً يكرر اتصالاته عديمة النفع ويتمتم بينه وبين نفسه
" ليرد اي أحد منكم من غير المعقول أن تختفي جميع الهواتف فجأة !"
ما كان يبدو غير معقول صار هو الواقع الوحيد المعقول بتلك اللحظة إذ أن كل اتصالاته تم قطعها قبل أن تصل تاركين آرثر يقاد للجنون وحده ، أغلق الهاتف ورماه بعيداً بعنف مسبباً تناثره لعدة قطع واسودت شاشته كلياً بفعل اصطدامه بالشجرة أمامه، جثى على الأرض يدفن رأسه بين يديه وصرخ بيأس تام حين شعر أن الأمور تبدو كواقع أكثر من أي شيء آخر
" الا يسمعني أي أحد ؟ "
اجفل فزعاً وفقد توازنه ليسقط على ركبتيه حين وصله صوتان بدل الواحد
" انا اسمعك"
الجملة توحدت بوقت واحد باختلاف النبرات ، استدار يعتدل بوقفته والأمل تسلل لقلبه حين وجد اخيراً من استطاع رؤيته ، أحدهما كان شاباً يافعاً غاية بالوسامة يرتدي ثياب سوداء رسمية مع شعر أسود وعينان صفراوتان ، بشرته بيضاء صافية بجسد رياضي متناسق .
الآخر كان رجلاً طاعناً في السن يجلس قربه ممسكاً بعصا خشبية يسند عليها يديه شعره رمادي وعيناه غائرتان وقد غزت التجاعيد وجهه يرتدي بنطال قماشي ابيض مهترئ وقميص بذات اللون ، خرجت الكلمات منه مهتزة نتيجة ضعفه .
اقترب منهما وتوجه مباشرة نحو الشاب متجاهلاً العجوز ، بدا له أن الحوار معه وحده سياخذ قرناً كاملاً منه وهو لا يملك كل هذا الوقت إضافة إلى أنه يبدو ذو مستوى مادي منخفض
" انت تراني صحيح ؟"
ابتسم الشاب له يومئ مؤكداً تلك الأخبار السعيدة لارثر ، اتسعت ابتسامة آرثر وارتسمت معه راحة تامة ، لم يتخيل أن حدثاً تافهاً كهذا قد يكون ذا قيمة شديدة لهذا الحد ذات يوم، استعاد هدوئه بعد مدة وجيزة يطرح ما تسبب له بكل هذه المشاكل
" أين نحن ؟ كيف أصل لميدان غروسفينور ؟ "
الشاب الجالس أمامه وضع قدم فوق الأخرى ، مال برأسه يجيبه يتردد
"انت...لم تستوعب وضعك بعد صحيح ؟"
رمش آرثر يتراجع بتوجس ، توقف بعد خطوتين للخلف يراقب الشاب أمامه بحذر
" ماذا تقصد ؟"
اجابه بعد أن اخفض قدميه لتستقر كعباه على الأرض الترابية وظهره استقر على ظهر الكرسي ، يده فوق حافة الكرسي
" لقد لعنتك العجوز الشمطاء، تلك العجوز شريرة تفسد كل ما هو مبهج، هي جعلتك غير مرئي لأي أحد وستموت خلال أسبوعين ، هي لعنة مشهورة لديها "
اظلمت ملامحه ، اهتز بؤبؤه وتراجع أكثر يحرك رأسه نافياً
" مستحيل ، هذا ضرب من الجنون ، السحر لا يتواجد سوى بالخيال ، أن كانت فعلت شيء كهذا كيف يمكنك أن تراني اذاً؟"
الشاب وقف أمامه يضع يده على كتفه بملامح آشفاق عكست تفهمه
" اعرف الأمر صادم، بعض الأمور قد يصعب تصديقها لكنها الواقع ، هي ساحرة شريرة ويبدو أنها تكرهك لسبب ما ، أخبرني الآن هل هي اعطتك ذلك الشيء ؟"
رفع رأسه يراقب ملامحه بضياع يستفسر بصمته عن ما يسأله عنه فاردف الشاب يسأل بفضول
" ابحث بجيبك، اريني ما ستجده"
تصرف آرثر بشكل آلي ينفذ أوامره بدون تأخير ، بحث في جيبه الأول ثم الثاني تحت أنظار الاثنين أمامه ، ضيق عينيه ليخرج ما وجده من جيبه يقلب بين اصبعيه من كل اتجاه يحاول معرفة ما يكون ، أنظار العجوز والشاب اتجهت ناحيته ومعها اشرقت ملامح وجههما كلاهما ، الشاب أخذ زمام المبادرة ليوضح له ما الشيء القابع في يديه
" اسمعني آرثر ، هذه الجوهرة بين يديك ثمينة جداً لي ، انا أحتاجها ، انت ستحصل على واحدة كل يوم ، انعقد اتفاقاً موافق ؟ اعطها لي وأنا ساساعدك ضد العجوز موافق ؟"
تراجع يراقب متخوفاً ممن أمامه ، هو وان كان اندفع نحوه بسبب قدرته على رؤيته لكنه أدرك متأخرا انه لا يعرف من هذا الشاب ولما يعرف العجوز تلك ؟ كيف رآه ؟ لما يمكنه لمسه ؟ جوهرة كهذه بدت قيمة جدا ليعطيها هكذا مقابل وعد لفظي للمساعدة، اساساً أكان هناك شيء يمكن فعله ؟ بدا له الشاب واسع المعرفة وقوياً بالوقت ذاته لكن لم يمكن له معرفة أهو جدير بالثقة أم لا ، الشاب أدرك توجسه منه فتراجع للخلف يرفع يديه عالياً مؤكداً على نواياه الحسنه كل الحسن
" لا تخف يا صاحبي، لا نية سيئة لدي ، ما انا إلا شخص يفهم الوضع المأساوي هنا ، أرغب بتقديم مساعدتي لك وأؤكد لك انك ستشعر بشعور أفضل بوجودي، لإثبت لك اني لست شخصاً سيئاً لن أخذ الجوهرة منك إلا بعد نهاية اليوم ، ستكون قد تأكدت من حسن نواياي، ما رأيك ؟"
آرثر بقي مكانه يفكر بعمق ، وجه بصره للعجوز لأول مرة يسأله بغير اقتناع ، يتأكد مما هو متأكد منه وحسب كي لا يندم
" انت ايها العجوز ، اتملك شيء لتعطيه لي لو منحتها لك ؟"
العجوز المنهك استطاع رفع رأسه ينظر لارثر ، لاح ثغر ابتسامة ساخرة على شفتيه حين رأى انه بالكاد يرفع رأسه فأجاب عن سؤاله بنفسه دون انتظار
" انسى الأمر ، انت بالكاد تساعد نفسك فكيف بمساعدة آخر "
أعاد توجيه نظراته وكلامه للشاب يجيبه بنبرة ما خلت من الفوقية ذلك أنه شعر انه من يملك الأفضلية لامتلاكه ما يحتاجه الشاب ، هون يتحكم به وليس العكس وفكرة كهذه منحته طمأنينة تامة
" اسمعني يا...."
" ليس لدي اسم لكن لنقل دينيس؟ اعتبره اسمي "
آرثر لم يكترث بما يكفي ليعرف لما لا يمتلك اسماً فاكتفى بقبول ما عرض عليه
" حسناً دينيس الاتفاق بيننا تم ، ساعطيك الجوهرة نهاية اليوم شرط أن تنقذتي، أريد التخلص من هذه اللعنة "
ابتسم بتهذيب يؤكد صدق كلامه
" لك ما تريد ، فقط لاخبرك خلال اليوم ستحصل على بذور ، هي لن تكون ذات نفع لك لذا اعطها لي بالمقابل بنهاية اليوم ايضاً ، بهذا يكون اتفاقنا تم"
اومأ آرثر برأسه موافقاً ، أبقى نظرة أخيرة على العجوز الجالس مطاطأ الرأس ، تجاهله رغم ما بدا عليه من حزن جلي نتيجة سلبه حق عرض خدماته المتواضعة مقارنة بالآخر لكنه لم يكترث ، كان لديه شيء أهم لفعله والتعاطف لأي سبب كان بدا سخيفاً عند هذه النقطة وهو بحد ذاته بحاجة لمن يتعاطف معه على موقفه الراهن ، حقد على الساحرة كما سماها وتسائل عن سبب كرهها له لدرجة لعنه وهو لم يرها سوى مرة واحدة ، أي كان ما فعله هو لم يستحق ما جرى ، لا يفهم سبب ما فعلته لكنه يكرهها لأنها ظالمة ومجحفة بحقه ، أي كان ما فعله فهو ليس أسوء شخص بالعالم ليلعن دوناً عن الجميع !
ألقى نظرة أخيرة على العجوز المنكسر وغادر برفقة الشاب دون أن يفكر بالنظر للخلف مرة أخرى ، بدأت جولتهما بالمدينة ينتقلان من شارع لاخر بدون وجهه محددة ، الشاب كان مريحاً للاعصاب، يتفهم كل كلمات آرثر يؤيده بمشاعر الكره للساحرة ويتفهم غضبه عليها ، هذا دفع آرثر لأخباره عن كل ما كان يزعجه دون تردد إذ أنه وجد معه الاحتواء والتعاطف لوضعه بشكل اشعره بالسلام مع نفسه مسكتاً الأصوات الخافتة داخل رأسه .
كان يتذمر دون توقف وكأن هناك سحر ملقى عليه يجعله يندفع دون هوادة
" لما تظن تلك العجوز اني شخص يستحق مصير كهذا ؟ أنا أفضل من الكثيرين، لم أفعل أي شيء سيء تجاه أي أحد ، فقط لاني أرغب بقضاء الوقت كما أحب يجعلني هذا أسوء شخص في الحياة ؟ "
دينيس تابع سيره بجانبه يبتسم له بمودة يضرب على ظهره بخفة
" تلك العجوز لا تفهم ، تريد للمرء أن يدفن نفسه وسط كومة من المسؤليات وحسب دون اعتبار لرغباته، أي حياة هي هذه ؟ أنا افهمك جيدا ، بالحديث عن هذا تعال لنتسلى قليلاً ، نحتاج لبعض النشاطات لرفع مزاجك، لدينا متسع من الوقت "
تردد آرثر للحظات، هو يرغب بالتخلص من اللعنة وإضاعة الوقت لم تكن بصالحه، أراد الرفض بشدة ، كان مقتنعاً به إلا أن يد دينيس سحبته محفزة اياه
" هيا بنا لا تقف هنا كتمثال، هناك حانة قريبة لذا دعنا نذهب للشرب معاً ، هذا أفضل ما تحتاجه"
لم يستطع آرثر الرفض ، شعر بنفسه يوافق دون اعتراض وهذا قاد الأصوات داخل عقله للنحيب والتذمر أكثر من أي وقت مضى، فوضى عارمة داخل رأسه تجاهلها مسكتاً كل اعتراض مبرراً ذلك لها ان الوقت ما يزال ببدايته، قضى الشابان الوقت كله بالشرب وتناول اشهى الأطعمة وما رافقه من لعب للبليارد في الصالة والأحاديث مع الفتيات هناك ، اسرافه في الشراب جعله ينسى حقيقة انه يفترض أنه غير مرئي ولم يجد العقل الواعي الكافي ليستفسر أو يستغرب عن ما يحدث حوله .
~~~~~~~
حل يوم جديد ، اليوم الثاني من المهلة بالتحديد ، باعد بين جفينيه يستطلع ما حوله بين ثنايا النعاس واليقظة، المنظر أمامه أعاد له حواسه حين وجد نفسه وسط الحديقة السابقة ذاتها نائم قرب جذع شجرة ، رمش بضياع يحاول تذكر ما حدث ، وضع يده على رأسه بسبب شعوره بصداع رهيب ، فتح عينه من جديد ينظر حوله فلاحظ أن العجوز ما يزال مكانه ، اقترب منه بعد أن نهض بصعوبة
" ماذا حدث لي ؟ أين دينيس؟"
العجوز اجابه بعد أن نظر ناحيته بنظرات ذات مغزى
" قضيتما الامس بالشرب ، هو احظرك هنا وقال إنه سيعود لاحقاً ، أخذ الجوهرة والبذور وذهب ، بني لما تضيع نفسك هكذا ؟ ليس وقت العبث بالارجاء ، دعني اساعدك "
آرثر نظر ناحيته ، شعر بغضب جم من هذه العبارة جعلته يفرغ عصبيته في الرجل أمامه
" لست اعبث بالارجاء انما حاولت فقط تغير مزاجي، دينيس وعدني انه سيساعدني ، لقد حاول جعلي اشعر بشعور أفضل ثم سأتحرر من هذه اللعنة ، إنما انا فقط من أراد أن يلهو قليلا بسبب التوتر أردت إفراغ انزعاجي وحسب "
العجوز أمسك بعكازه بقوة أكبر يسأل بنبرة شك ما خفت على من أمامه سوى
" هل تحاول القول أن الأمور تحت سيطرتك وانك تقوم بها بكامل ارادتك؟"
هتف آرثر بوجهه مؤكداً
" بالطبع ، انا من يختار فعل هذا ! اعرف ما أفعله لذا لا تحشر نفسك مجدداً"
"آرثر "
برز صوت من خلفه ينادي على اسمه ، التفت ناحيته ليرى دينيس أمامه مع ابتسامته تلك من جديد ، شعر بالطمأنينة أن دينيس لم يغادر ويتركه، كان صادقاً في انه سيعود لأجله ، ابتسم براحة واقبل نحوه ليقررا الانطلاق من جديد في رحلة مساعدة آرثر ، طوال الطريق ناقش دينيس كم أن الأمس كان مسليلاً يخبر آرثر انه حقا صديق لطيف للحصول عليه ويرغب بقضاء وقت إضافي معه حين تزول اللعنة ، ابتهج آرثر للمديح وأكد له أنه يرغب بفعل ذات الشيء اذ انه شخص جيد ويفهم آرثر كل الفهم ويجيد قضاء الوقت بالفعل .
عقله انشغل عن الموضوع الأهم وكلما قرر مفاتحته به تغير الموضوع لشيء آخر منسياً اياه ما أراد قوله ، أخذه بالبداية في سيارة فاخرة لا يعرف من أين احظرها في جولة بالمدينة ، طلب منه آرثر أن يوصله لأسرته أن كان يعرف طريقهم فاكد له أنه سيسأل بالارجاء ليحضر له جواب سؤاله بوقت لاحق ومصمماً على ضرورة اكتشاف المكان وتجربة كل ما فيه قبل أن ينطلقا إذ أن المعرفة نصف الحل بالفعل والجهل هو العدو المخيف وسبب الهلاك الأول .
استمرت الرحلة طوال اليوم وعقل آرثر كان في حرب مستمرة بين انجرافه لتجربة كل ما حوله بفضول وخوفه من إضاعة الوقت الثمين المتبقي إلا أن الغلبة كانت للأولى كاليوم الأول .
حل منتصف الليل ومع نهايته انتهت جولتهما اذ أعاد دينيس آرثر للحديقة، وقفا قبالة بعضهما ، مد دينيس يده لارثر يخبره ببهجة طفولية
" لقد قضينا وقتاً جميلاً حقاً ، لنكرر الأمر حين تتوفر ظروف افضل"
تردد آرثر لثواني ، شعر انه يفرط بشيء ثمين جدا مقابل لا شيء ، لم يرى أي استفادة مما فعله اليوم ، اللهو وتجربة أشياء جديدة لم تقدم له أي شيء مفيد لوضعه الراهن ، تسائل في نفسه أهو حقاً يستثمر الجوهرة كما يجب ؟ سلمها بعد تردد حين اربكه لطف من أمامه ، رفع رأسه يوجه نظرات مترددة خجولة لمن أمامه عكست مشاعره إزاء ما يجري
" دينيس، انا احب قضاء الوقت معك لكن ....لا أرى أننا نحرز أي تقدم ، قلت انك ستخلصني من اللعنة ، مضى يومان دون نتيجة ، ما هي خطتك؟ ماذا تنوي أن تفعل ؟"
توقف دينيس عن الابتسام لوقت قصير قبل أن يرسم وإحدة صغيرة على شفتيه
" ما الذي تقوله آرثر ؟ ماذا تعني أننا لا نحرز تقدم؟ اوليست هذه النشاطات شيء لطيف ؟ هل بدأ تأثير العجوز يفسدك ؟ كن حذراً من هذا انا أخشى عليك حقاً، بشأن اللعنة أؤكد لك اني أملك الحل ، لكن لما العجلة ؟ لدينا متسع من الوقت وانا بجانبك ، سلم الأمور لي أنا أعرف ما أفعله "
تلك الكلمات كانت تحاول طمانته لكنها لسبب ما أثارت حنقه ، كان يشعر بوجود خطب ما لكنه صمت حين أعاد النظر للشاب امامه، كان يفتن بطريقة إقناعه بكل مرة يحاول فيها أخباره انه اكتفى من هذا ويريد إيجاد حل ثم سيلهو بقدر ما يحب لكن تلك الكلمات ظلت حبيسة صدره في ذاك اليوم وللايام التي تلتها، ظل خلالها يعلن لنفسه انه يختار هذه الخيارات بنفسه وان الأمور تحت السيطرة ، يمكنه إيقاف هذا والتوجه لتحقيق الخلاص متى ما رغب ، رغباته كانت هي الحقيقة وحسب هذا ما سعى لإقناع نفسه به .
مع كل ليلة تمر أزدادت محاولات العجوز لثنيه عن إضاعة المجوهرات بهذه الطريقة مخبراً اياه أن يمنحها له ، سيحدث فرق في حياته أن صبر عليه لبعض الوقت إلا أن آرثر استمر في قراراته تلك حتى حل اليوم الثالث عشر ، أعصاب آرثر بدأت تتلف معه، ازداد توتره وغضبه يوماً بعد آخر وازداد تذمره وانفعاله على العجوز كلما وعظه أكثر يخبره أن كلامه يسبب له التوتر والشؤم وان أموره ستكون بأفضل حال خلال وقت قصير إلا أن ذلك الدفاع عديم المنطق تداعى اخيراً مع اليوم قبل الأخير إذ وقف آرثر فيها مقابلاً لدينيس للمرة قبل الأخيرة ، هذه المرة لم يكن آرثر قادراً على كبح كلامه أكثر ، لم يتأثر بملامح دينيس مجدداً إذ أن وضعه المأساوي بدأ يصل لنهايته بالفعل
" دينيس، لقد انقضت المدة، غداً يومي الأخير ، أين حلك؟ لقد منحتك كل ما اردته لكن للآن لم يحصل اي شيء ، وضعي يزداد سوءاً مرة بعد مرة ،انت حتى لم تعرف موقع أسرتي بعد ، لم تخلصني من اللعنة ولم تقتل العجوز ! هي ستأتي غداً ما خطتك؟"
دينيس وضع يده على كتفه يطمأنه بابتسامته المعهودة
"لا تقلق آرثر ، ساتصرف حين تأتي "
دفع آرثر يده مبعداً اياه بعصبية هتف به تحت انظاره وانظار العجوز مهدداً
" كف عن هذه السخافات ، انقضى الاسبوعان وانت لم تحقق شيئاً وهذا كل ما اسمعه منك، سأتصرف ، سأفعل، ساساعدك، وعود لم ارى منها أي شيء !"
زالت ابتسامة دينيس يضع يده بجيبه ، ملامحه تحولت لاشمئزاز ممن أمامه
" يبدو أن العجوز نجحت في تغيرك، منذ متى تعتبر الاستمتاع عديم الفائدة ؟ لقد قضينا أسبوعين رائعين قمت فيهما بكل ما تحب ، لولا وجودي لما استطعت فعل أي من هذا ، لكنت بقيت خفياً ولا يمكنك لمس اي شيء ! قضيت حياتك كلها بهذه النشاطات فلما الآن ترفض ؟ لقد أعدت لك دينك بالفعل ، قدمت لك الخمور أحضرت لك أناس لتتحدث معهم متغلباً على تأثير اللعنة الخفي ، اشتريت لك افخم الأشياء واخذتك لأماكن ما كنت لتحلم بدخولها"
اردف معطياً ظهره لارثر المصدوم من كلامه
" انت حقاً شخص ممل الآن ، لن اساعدك بعد الآن ، اساساً انا أعدت لك كل دينك ، احتفظ بآخر واحدة لنفسك ، لست بحاجتها، أو ربما امنحها للعجوز "
ارتجف جسد آرثر يحاول إيقاف دينيس إلا أن يده عادت لتصبح خفية ، لم يتمكن من لمسه وهذا دفع ابتسامة شماتة ترتسم على شفتي دينيس يستدير للنظر ناحيته
" انتهى عملي معك ، انت لم تعد ترغب بالاستمتاع لذا ميتة سهلة لك عزيزي، سأجد شخصاً أفضل منك لنستمتع"
عيناه اتسعت على اخرها، لم ينزل يده الممتدة اذ ان صدمة عدم قدرته على إيقافه جمدته وخلال هذا لوح له دينيس راحلاً يخبره انه الوداع الأخير بينهما تاركاً آرثر يجثو ارضاً وقد طغى الرعب والشحوب على وجهه ، انقبضت يده جاعلة من اصابعه تحدث طبعاً على الأرض ، همس بغير تصديق لنفسه
" هذا لا يحدث معي ، مستحيل ، لابد أن هناك حل ، لا أصدق ما يجري "
العجوز لم يتدخل هذه المرة ، تركه في وضعه المنهار دون تدخل إذ أن صراخ الشاب عليه مراراً وما فعله خلال كل تلك الأيام افقده أمله به كلياً ، بقي يراقب بنظرات هادئة مفكراً كم أن الإنسان يهلك نفسه بنفسه ولا ينتبه إلا حين يفوت الأوان .
رفع آرثر رأسه بعد مدة يائساً ، راقب السماء بنظرات ضياع مع غصة في حنجرته ، ابتسم مع عيون دامعة لنفسه يحاول منعه من النزول
"" هذا ليس عدلاً ابداً لما يحدث هذا معي ؟أنا لا استحق كل هذا ، هذا ظلم تماماً "
العجوز شعر بالشفقة ناحيته، نهض يقترب من الشاب ينوي محادثته
" آرثر "
آرثر سمع صوته وتذكر انه ليس وحده بعد ، زفر الهواء من فمه وسالت دموعه على حين غفلة منه يوجه كلامه للرجل يضع يده على عينيه يرغب بإيقاف سيل دموعه
"أعلم ، لقد حذرتني ولم أسمع ، انت هنا لتهزأ بي صحيح ؟ لقد ظننت اني من كان يتخذ القرار، لقد ظننت اني حر واملك متسع من الوقت فاضعته كله بما لم يعد علي بأي نفع ، اضعت أسبوعين ، لا بل كل حياتي ، لقد قضيت كل حياتي هكذا وها أنا على وشك الموت ..."
اردف وقد زادت دموعه قوة شاهقاً يحاول عنوة ايقافها
" ماذا كنت أفعل حقاً ؟ الآن حيت ساموت ماذا سيحدث ؟ بما سيتذكرني الآخرون ؟ "
مسح دموعه الغزيرة من على خديه بكمه لتعود وتنزل بصورة أكبر
" والدي كان محقاً بالنهاية ، انا لم أقم بأي شيء مفيد ، لم أحقق أي شيء لنفسي، بما سيتذكرني الآخرون الآن ؟ بأني سكير لعين؟ أم ابن عاق لم يفعل اي شيء لوالديه سوى التسبب بالمشاكل؟ أم اني الشاب الثري المبذر للمال ؟ لا شيء طيب في سيرتي كلها ؟ اساساً من قد يفكر بي ؟ حتى والداي لم اسبب لهما سوى الألم ، أراهن أنهما سيعيشان مرتاحين دوني "
كانت دموعه تنزل كقطرات مطر غزيرة تغسل التربة أسفله ؟ صوته كان يتقطع والعجوز يستمع له فحسب ،اردف بعد أن استطاع إيقاف دموعه قليلاً يجلس على قدميه بعد أن اطبق مفصل الركبة ، إثر الدموع لم يغادر خده وعيناه ما زالت محمرة
" لم يظلمني احد، ابي لم ييأس مني حتى آخر لحظة وانا من قرر ان يضل اعمى، اوهمت نفسي اني أقوم بما أريده حقاً لكن الحقيقة هي اني اتبعت رغباتي وما هو أسهل بدل محاولة القيام بما ينفعني، لم أرغب بحمل أي مسؤلية "
ابتسم بمرارة يدفن رأسه بين يديه
" انظر لحالي المثير للشفقة ، لقد ضيعت نفسي بنفسي ، وحتى الآن انا عاجز عن فعل أي شيء لتحمل مسؤليتي "
صوته عاد ليهتز ومعه نزلت دموعه من جديد
" ليتني....ليتني وحسب أملك فرصة أخرى ....لن اضيع نفسي هذه المرة ، سأقوم بما علي تجاهها، لا أريد الموت، لا أريد أن أنسى، .....اريد....أريد أن يتذكرونني...."
انقطع صوته مع بكائه بقوة أكبر ، تابع بعد أن استطاع التقاط انفاس
" أريد أن يحبونني، أن يزوروا قبري ويشتاقوا لي ، أن يقولوا كلما تذكروني ليته كان هنا ....لا أريد أن يقولوا جيد انه رحل ....الوحدة تقتلني، انا لم أقصد
.....لم ارد أن اؤذي أحداً لكني اذيت الجميع ، اذيت نفسي بعدم تحميل مسؤليتها واذيت كل من أحب حين اذيتها دون هوادة، انا من جلب هذا ...استحق ما يحدث معي ....لكن ....لا يزال الأمر مؤلماً...."
صوت بكائه ملئ الحديقة يروي مقدار ألمه ، الكثير من الكلمات اختجلت بصدره لكنه عجز عن التعبير عنها ، كان نادماً أشد الندم على ما فرط فيه ، يشعر بالوحدة والشوق ، اراد رؤية من يحبهم لآخر مرة على الأقل ، ان يعتذر علهم يسامحونه ويتذكرون انه لم يكن أسوء شخص بالوجود ، لقد أدرك كم كان وقحاً وكم أذى والديه وجرحهما، كم خدع نفسه بأكاذيب مدعياً انه يعرف ما يفعله واعترف بالحقيقة المرة لأول مرة يعلن أنه لم يكن يعرف ما يفعله ، هو اختار الإسهل وحسب متأملاً أن يصل لمكان جيد من خلاله ، تجاهل كل الأصوات بداخله وكل كلمات والديه ونظرات شقيقه ، صدق هواه وحسب وها هو الآن وحيد وحسب .
العجوز دنى يجلس قبالته ، رسم ابتسامة حزينة على حال الشاب أمامه يضع يده على رأسه
" اسمعني ....انت لم يبقى لك سوى يوم واحد ، لم تمت بعد رغم هذا ، لنستثمر هذا اليوم ، أعطني الجوهرة والبذور واتبعني، لا يمكنني منحك مقابلاً بشكل مباشر لكني اعدك اني مقابلها ساتذكرك بكل خير لأنك ستساعدتي ما رأيك ؟"
رفع آرثر رأسه يحدق بالرجل أمامه دموعه ما توقفت بعد بل هي تكاثفت أكثر حين رمى نفسه بين يدي العجوز يضع رأسه على كتفه ، لم يكن يثق به لكنه لم يعد يملك أي شيء سوى جوهرة لا تنفعه بشيء ووحدة قاتلة لم يكسر جزء منها سوى عجوز ضعيف غريب لا يعرف أي شيء عنه ، رغم هذا لم تكن صفقة سيئة، هناك من سيتذكره ويزور قبره، سيعتبره شخصاً جيداً رغم كل شيء ، طالما هو أضاع كل حياته بالفعل فلم يكن لدي سبب لرفض هذا العرض وهو بتلك الليلة بالذات حصل على عرض خاص كان ممتناً له بشدة ، العجوز عرض عليه الأعراض عن النوم لتلك الليلة ليمنحه وقت أطول قليلاً مخبراً اياه انه سياخذه لرؤية من يعرفهم ، رفع آرثر رأسه بتفاجئ شديد يسأله بغير تصديق
" أانت تعرف الطريق لهم؟"
اومأ العجوز يخبره بأبتسامة حانية
" سألت لاجلك، اعرف انك بداخلك طيب بني لكنك اخترت الشخص الخطأ لتتبعه، كنت أنتظر عودتك لكي اخبرك، فقط ليكن بعلمك هم لن يروك، لن يعرفوا بوجودك حولهم رغم هذا ترغب بالذهاب ؟"
اومئ مؤكداً يهز رأسه بحماس
" بالطبع ، بالطبع يا سيدي، كل ما اريده هو رؤيتهم لآخر مرة ، انا اشتاق لهم ، لم ابتعد عنهم كل هذا الوقت ابداً "
اومئ له موافقاً وانطلقت رحلتهما بعد منتصف الليل، كان آرثر من تولى قيادة السيارة التي احظرها العجوز أما العجوز فقد جلس بالمقعد الإمامي قرب السائق يراقب الخارج وحسب ، صوت آرثر الهادئ على غير العادة أخرجه من شروده وجعله يلتفت للاتجاه المعاكس حيث يجلس الشاب
" سيدي ....انا اسف حقاً ...لقد قلت لك كلاما فظيعاً رغم انك كنت وحسب تحاول مساعدتي"
العجوز تنهد مجيباً اياه بهدوء
" لا بأس بني، كلنا نظل الطريق والجيد فينا من يعدل من نفسه ولو بعد حين ، نحن جميعا نخطئ لكن خطيئتنا الكبرى هي الأصرار على الخطأ والتعامي عنه متناسين أننا من سيدفع الثمن قبل أي أحد آخر ، نظن أننا نؤذي الآخرين دون أن ندرك ما لذلك تأثير علينا "
آرثر استمع له بسكينة، شعر لأول مرة بحياته انه مستعد للسماع، لا دفاعات لديه بعد الآن اذ ان كل أفعاله دحضت باقسى الطرق ولم يبقى له أي شيء ليدافع عنه بأي حال
" ما اسمك سيدي ؟"
العجوز ابتسم بحنين يخبره هائماً في أفكاره
" سأحتفظ به لوقت لاحق بني، لابد أن نلتقي يوماً ما بالحياة الآخرة وساخبرك به حينها "
آرثر ضحك بخفة قبل أن يجيب بابتسامة مرة على شفتيه
" لا أظن يا سيدي ، واضح انك رجل طيب على خلافي، ساموت بالغد بالفعل وانا لا أملك أي عمل صالح يدخلني للفردوس ، سأنتهي بقعر الجحيم ولن يرغب أحد بأن يشفع لي حتى "
العجوز صمت لوهلة ثم اردف بعد برهه
" لنجعل آخر يوم لك مثمراً اذاً من يعلم ربما يكون كافياً ليجمعنا"
الصمت طاف بينهما بقية الوقت حتى بلغوا المكان المقصود اخيراً ومعه عاد الحنين يضرب اوتار قلبه بكل قسوة ، توجه نحو الداخل متجاوزاً جدران منزله، أدرك انهم لن يكونوا مستيقظين لذا أقنع نفسه أن رؤية وجوههم وهم نيام ستكون كافية ، العجوز أقبل برفقته يشاركه تلك الزيارة المرهقة له نفسياً غير مدرك ان تلك الزيارة كسرت قلبه أكثر من أي شيء آخر إذ دلف لداخل المنزل ليجد الفوضى قد حلت بالمكان بالفعل ، راقب ما حوله بحيرة تامة مفكراً أن الوضع هنا يبدو وكأنهم وسط تحضير حفلة ما بدل أن يكون منتصف الليل ! تقدم يسير بينهم دون أن يدرك أحد وجوده حتى بلغ تلك الغرفة حيث يقبع والداه، الصوت من داخلها أجفله وجعله يتصنم أمام الباب دون قدرة على الحراك ،وجهه اصفر وقشعريرة سرت بجسده خشية أن يكون ما يفكر به صحيح .
صوت بكاء والدته وصل لمسامعه وشقيقه يتحدث لرجل ما ادرك هويته فور سماع صوته، لم يكن سوى طبيب الأسرة وصديق والده الأقدم السيد ريتشارد، شقيقه بدا صوته مهتزاً يحاول الحصول على الجواب المريح لقلبه
" أرجوك سيد ريتشارد، هل سيكون والدي بخير ؟"
الطبيب أجاب ، يعدل نظارته ويتهرب من عيني ابن صديقه
" للآن أجل، لكن الإرهاق النفسي سيء عليه "
تلك الكلمات جعلت آرثر يندفع للداخل عبر الباب الخشبي ، وقعت عيناه على الرجل طريح الفراش ، ينام بعمق وسكينه والغطاء غطى كل جسده ، زوجته جلست على الكرسي قربه تمسك بيده تراقب ملامحه المنهكة بانكسار تام ، الأكبر ضم قبضته بقوة كاتماً رغبته بقتل شقيقه وحسب ، لقد فعل ما لا يغتفر !
آرثر دمعت عيناه وأقبل نحو والده يدنو من سريره يراقب ملامحه المنهكة، فتح عينيه فجعل ذلك الدموع تعاود النزول من عيني الأصغر وما زاد تعذيبه النفسي ذلك السؤال المطروح بتعب حين استيقظ المريض لأجل التحقق من ما امرضه وكسر فؤاده
" ايان، هل وجدت شقيقك ؟ "
غضب أيان تفجر دون شعور منه بعد أن كتمه لوقت طويل جداً حتى ما عاد يذكر متى ، دموعه نزلت على حال والده يخبره بصوت متقطع
" ابي....يكفي حقاً...انا لا اريد خسارتك، انظر لنفسك ابي، هو بكل أنانية غادر وجعلك تمرض بشدة ، لم يفكر بك ولو للحظة، أن خسرتك بسببه ...انا حقاً لن يمكنني مسامحته حينها "
والده ابتسم له بحنان يمسك بيد ابنه الأكبر يضغط عليها مانحاً اياه الدعم المطلوب منه كاب رغم ارهاقه
" ايان، أفهم مشاعرك، انا اسف حقاً لاني أثقل عليك لكن شقيق ما يزال طائشاً، هو لا يقصد الاذى، انا حقاً أرغب بعودته للمنزل ، ذلك الفتى لا يعرف أنه يضيع نفسه "
ايان استاء وقد زدات دموعه
" انا اكرهه، لن أحزن حتى لو مات ، لا يجلب لن سوى المتاعب، سأتبرئ منه يا أبي ، سافعلها أن اصابك مكروه دون ذرة ندم ، هو فقط يدمر كل ما أحبه ، لا تتوقع مني تقبل ذلك الوغد وهو يستمر بهذا "
والدته ازداد بكائها وهي تسمع تلك الكلمات ، دفنت رأسها بين يديها لتنتحب غير قادرة على قول شيء، عاتبه على الأصغر لما تسبب به وحزينة لما وصل إليه الأكبر من مشاعر كره نتيجة تصرفات الآخر ، لم ترد لولديها الوحيدين هذا ابداً .
آرثر استمع لتلك الكلمات لتطعن قلبه كخنجر، جثى أرضا قرب السرير يدفن رأسه به باكياً ، أراد إمساك يد والده لكن شيء كهذا كان مستحيلاً بحالته ، لوهلة شعر بأنه أحقر انسان على وجه الأرض بحياته وموته اذاهم، لقد أدرك من أكثر من أحبه واعترف مقراً بذنبه أنه الملام على كراهية شقيقه
" هو محق يا ابي، هو محق ، شخص مثلي لا يستحق أن تمرض لأجله بل إن تفرح لموته، لقد تسببت لك بالاذى دون توقف ولم استمع لك يوماً، لم استحق منك كل هذا الحب انت وامي، انا لا استحق أن يتم تذكري، أن كان تذكري سيجلب لك هذه الماسي أتمنى أن تنساني، لادفع ثمن خطيئتي وحدي "
لم يصل صوته أو وجوده لأحد سوى العجوز الواقف بالزاوية وحيداً ، صوت والده جعله يتوقف عن البكاء لوقت قصير يستمع لما قاله مسبباً له انفعالاً عنيفاً وعاطفة جياشة حين شرع يوصي ابنه الأكبر مشدداً على كلامه
" ايان، افهمك، لكنه يظل شقيقك، أن اصابني مكروه ....إن لم أنجو فارجوك اعتني به،هو لا يملك غيرنا، لقد اخطانا بتربيته وانا أقر بذنبي أمامك الآن ، اغفر لي وساعده، هذا ما ساطلبه منك وحسب هلا فعلت"
آرثر اتسعت عيناه وتصنم ، حرك رأسه نافياً يستمر بنحيبه
" لا ، لا تقل هذا ، ابي اتوسل إليك لا تمت بسببي، أنا لن يمكنني العيش معي نفسي ولا ان ارقد بسلام حتى، لا تزد اثامي أكثر مما هي عليها، أرجوك يا أبي "
العجوز تدخل حين رآه ينهار، وضع يده على ذراعه ينوي سحبه للخارج، التفت إليه آرثر مفطور القلب مفجوعاً والرعب ملئ ملامحه يطلب من العجوز فعل أي شيء ، نفى العجوز بملامح متالمة قدرته على التدخل
"بني لا شيء بيدنا سوى ترك الأمر بيد الإله ، لا أحد منا قادر على تغير مصيره لذا لنضع ثقتنا بالرب وحسب ، علينا المغادرة الآن لذا أرجوك. ..."
آرثر اجابه بصوت مخنوق يتوسله بنظرات
" لكن ..لكن ابي ....هو سي...."
انحدار القطرات الملحية لم يتوقف فاضطر العجوز رغم ضعفه أن يجره خارجاً ولم يتمكن الشاب من المقاومة ذلك أنه باعماقه رغب بالهرب والرحيل فكانت مقاومة شكلية لا قوة فيها ، أراد الهرب من فكرة أن والده يموت بسببه ، ان شقيقه يكرهه حقاً وان والدته تبكي بسببه، كان الخراب يحل أينما ارتحل وها قد بدت لوهله فكرة الموت محببة، لا مكان له ليعود له بعد الآن أن أصاب والده مكروه ، هو لن يمكنه فعلها حتى لو نجى !
وصل للشارع الفرعي ، مكان مألوف جدا له إذ لطالما استقرت هناك سيارة ديمتري لتجمعهم ، شعر بانقباض بقلبه وفضول خشي التحقق منه ....ما كان موقف رفاقه من رحيله؟ هل يشتاقون له؟هل بحثوا عنه؟ بما يفكرون؟ وذلك التساؤل المحموم قطعه مشهد مألوف جداً أمامه ، سيارة ديمتري توقفت بمكانها المعهود، عيناه اتسعت حين رآها كما لو أنها مشهد غير مألوف ، شيء من الفضاء الخارجي، نبضات قلبه ارتفعت بقوة حين نزل منها رفاقه واحداً بعد الآخر وامارات البهجة عليهم ،بقي متصنماً يراقبهم من بعيد والعجوز خلفه وحسب
ديمتري كان أول من أغلق باب السيارة برفق ، استند للباب يضع يده يجيبه وسيجارة استقرت داخل فمه
" لقد كان وقتاً مسلياً حقاً"
كريستي انضمت له تضع كلتا يديها خلف ظهرها ، تمضغ حلوى في فمها
" محق ، لقد ضيع آرثر على نفسه الكثير من المتعة "
مايكل تثائب يمدد جسده قبل أن يخفض يديه من جديد ويقترب بعد وضع يديه بجيبه
" والذي لا يعلم أحد أين هو اساساً، ربما تم دهسه ومات بمكان ما ؟ لا أحد يمكنه تأكيد انه حي بأي حال ، مؤسف انه كذلك خسرنا محفظة نقودنا"
أيفا ردت عليه بملل تشرب من علبه العصير خاصتها
" انت لئيم اتعلم هذا ؟ قد يكون يفترش الطرقات بمكان ما وسط هذا الجو البارد "
ديمتري ابتسم بسخرية يخرج السيجارة ويرميها أرضاً
" وان يكن ، هو اختار هذا لنفسه ، على الأقل آراحنا من تذمره ثم أنظري على الأقل نصيحتنا نفعت، والده يموت على ما يبدو لذا لو عاد سيجد المكان قد خلا له بالفعل ويمكنه أن يصيع كما يحب "
كريستي وضعت حبة أخرى من الحلوة تميل برأسها بابتسامة
" اتفق ، بأي حال سواء عاد أو لا لن يختلف الوضع ، يمكنه الانضمام لنا لو عاد وان لم يفعل سنستمر بقضاء الوقت الممتع، على الأقل لا شخص ليفسد الجو "
العجوز أراد جره مجدداً لمكان آخر ، الوضع كان سيئاً كفاية وها هو بسرعة خيالية يزيد سوءاً ، الكلمات الخارجة من السنتهم كانت تقتله ببطئ، هم مثلوا أغلب حياته ، رفاقه الذين احبهم وفضلهم على الجميع ، من اعتبرهم سنده ضد العالم بأسره ، تماماً كما اعتبر دينيس قبل أيام ، ضحكة صدرت من آرثر جعلت العجوز يقترب منه خائفاً عليه ، ضحكته ما دلت سوى على الجنون وفقدان العقل ، كيف لا يكون هذا وهو يرى كل ما قام به حتى الآن قمامة جرفها الماء ملقياً بها في مكب النفايات حيث يجب !
توقف عن الضحك بعد برهه ، بريق عينيه اختفى وطغت بدلها بحيرة مياه مالحة بعينيه كتمها عنوة حين أدرك أن لا حق له بالتذمر، هو يقف حيث أوصل هو نفسه ، هذه كانت خياراته، تلك كانت قناعاته المريضة وان أوان الحصاد ، بدأ بالسير ليبتعد عن المكان ، اكتفى من سماع كل شيء ، تمنى لو أنه لم يعد ابداً فترجم تلك الرغبة بالعودة من حيث جاء وحسب دون أي كلمة أخرى .
وصلا للحديقة من جديد مع بلوغ الضحى ، كانت الساعة في الحديقة تشير للعاشرة صباحاً أشعة الشمس كانت تسطح بدفء عليه تحاول مواساة روحه دون نتيجة ، العجوز بقي يجلس قربه كحارس ابكم حتى وجد أهن فقط يضيع نفسه ككل مرة ،أراد الحديث لكن آرثر سبقه هذه المرة
" سيدي ، ....متى تظن أنها ستاتي؟لقد تأخرت بالفعل "
العجوز التزم الصمت لوقت قصير ثم كان جوابه عملياً بدل لفظي، وقف ناهضاً من الكرسي وتقدم ناحية المستلقي أرضاً معطياً اياه ظهره ، امسك بذراعه يسحبه عنوة
" آرثر ، لا تنسى انك وعدتني اليوم بمنحي جوهرتك ومعها آخر يوم لك ، الاستلقاء هنا ليس ضمن الاتفاق ، انهض معي وسيمر الوقت حينها سريعاً "
آرثر بقي محافظاً على سكونه لوقت محدود ثم ابتسم بسخرية ناهضاً بدون مقاومة
" لك هذا ، رغم أني لا اسبب سوى الكوارث لكن ان كان نهوضي سيفيد احداً ما فلما لا ؟"
بدأ العجوز بالسير برفق آرثر يتجولان بالمكان دون أي كلام ، آرثر كان يحاول تصفية ذهنه كي لا يعود لتلك الأفكار المرعبة دون نتيجة ، صوت العجوز قربه جعله يتوقف فجأة حين ناداه بلطف
" آرثر ، هذه أول مطالبي لك...انظر الى هناك "
رفع رأسه ينظر لحيث جلس شاب منهك القوى ، يضع المسحاة قربه يمسح وجهه المتعرق ، ثيابه أخبرت ارثر فوراً انه فلاح مكلف برعاية الحديقة العامة لكن ذلك لم يكن ليضيف شيء له ، أعاد بصره للعجوز يستفسر منه فاجابه الأخير بابتسامة صغيرة
" إذهب وقدم له ماءاً، جهاز البيع هناك "
آرثر أشار لنفسه أولا يتأكد من ما سمعه وحين حصل على تأكيد قطب حاجيه راغباً بالاعتراض ، اعتراض تم دحضه بتشجيع العجوز له من جديد
" إذهب وحسب ، انت تصبح مرئيا ويمكنك لمس الأشياء بحالات معينة ، أؤكد لك أنك ستنجح"
أراد أخباره أن سؤاله مختلف عن هذا لكن فكرة أن يصبح مرئياً مجدداً وانعدام قدرته على الجدال جعله يذعن موافقاً
" حسناً كما تريد "
نفذ ما طلب منه واحضر قنينة الماء الباردة بيده ، وقف قرب العجوز وتردد فوضع العجوز يده على ظهره يحفزه
" تقدم وحسب دون أي اسئلة، لديك وقت محدود تذكر هذا "
وافق على مضض لا يفهم ما الفائدة المرجوة من هذا ، اقترب من الرجل فرفع الرجل راسه ينظر إليه بحيرة أدرك لحظتها انه صار مرئي فعلاً، وقف أمام الرجل متردداً وهذا جعل الفلاح يسأله بنبرة خالطها الشك " ايمكنني تقديم أي شيء لك ؟"
آرثر تنهد وأجبر نفسه على الحديث ، بدا عليه الارتباك أثناء مدها للرجل
" تفضل ...بدوت متعباً ....فكرت انها ..اتعلم أن كان ذلك يزعجك ..."
ضحكة صدرت من الرجل ومد يده يلتقطها ، شرب منها ثم غسل رأسه بما بقي ليقف مقابلاً لارثر ، عيناه كانت دافئة جداً حينما كلمه
" شكراً لك بني ، كم يسرني أن أجد أن العالم ما يزال يملك أشخاص بمثل لطفك، اقدر لك صنيعك"
ذلك الشكر اشعره بالدفء، هو لم يتم شكره يوماً إذ لم يفعل طوال حياته ما يستحق عليه هذا !
ابتسم يحك مؤخرة عنقه
" على الرحب ، يوماً لطيفاً لك سيدي "
حياه وركض نحو مكان وقوف العجوز وككل مرة قام فيها بأي شيء ظهر في يده بذرة صغيرة ، امسكها يقدمها للعجوز المبتسم أمامه فخوراً به لما قدمه رغم بساطته ، التقطها من يده وامسك بيده بالأخرى مشجعاً
" عمل جيد ، لنكمل "
أومأ موافقاً والحماس دب فيه ، أراد تجربة هذا الشعور مجددا ربما ...لوهلة تمنى أن يتم تذكره بشيء جيد مقابل كل تلك الأشياء السيئة ، عاودا التحرك بالانحاء ووصلا للسوق المكتظ ذاته حيث أدرك اول مرة مدى بؤس وضعه ، سار بالانحاء يراقب المارة ، الضوضاء اخذت عقله قليلاً والصخب جعله يفكر انه لسبب أو لآخر العالم يبدو حوله مختلفاً، لم يعد يستطيع النظر لهم بدونية، شعر انه الأسوء بينهم بل هو من لم يستحق أن يعيش بينهم ، رغب لوهلة أن يكون مثلهم لديه التزامات عليه القيام بها واشخاص ينتظرون عودته بفارغ الصبر دون أن يكون سبباً في بؤسهم، تلك النظرات ترجمها العجوز وفهمها فتوقف عن السير يوقفه كأول مرة
" آرثر ، هذا المحل بحاجة لعامل مؤقت ، ما رأيك باضاعة الوقت فيه؟ ستكون تجربة جيدة لك "
تردد مضيقاً عينيه وضاماً يده لصدره
" لكن يا سيد ...انا لم اعمل بحياتي كلها ، ولا أعرف اي شيء عنه ، من قد يوظف شخص مثلي ؟ ثم إيجاد عمل ليس بهذه السهولة حسب ما سمعت !"
العجوز أشار باصبعه نحو منشور معلق على الحائط وكرد طبيعي عيناه اتجهت لحيث يشير الملصق ، إعلان عن الحاجة لعامل بأجر يومي بملبغ زهيد جداً لا يكاد يفي احتياجات العمل ، راقبه ثواني معدودة ثم عادت تحديقاته نحو العجوز
"اسمع ...اقدر لك هذا ...لكن حقا انا لا أفقه شيئاً في الطبخ ، واعصابي قصيرة الأمد لن يمكنني خدمة الزبائن، أي كلمة زائدة وسالكمهم ، كما أني لا أجيد الحركة السريعة و..."
يد العجوز امسكت خاصته يجره للعنوان دون أن ينظر إليه
" كفاك أعذاراً، أوليس آخر يوم لك ؟ اسدي هذا المعروف لنفسك ، ما فائدة اتخاذ أعذار كهذه لتدفن نفسك ، ما أقصى ما قد يحدث ؟ ستطرد من العمل وبعدها ماذا ؟ أهي نهاية العالم ؟ انت لست راغباً به بأي حال لذا اعتبره تجربة ما وحسب "
لحظات فضلته بين الرفض والقبول امالت الكفه عنوة للقبول حين كاد عقله يعود به لحيث ينتمي يتذكر مأساته، قرر جعل اخر يوم له استثنائياً، يتهور ويقوم بكل شيء بشكل مختلف وحسب اي كانت النتيجه .
مزق ورقه الاعلان من الحائط قاصداً العنوان المذكور ،رأسه تحرك بكل الاتجهات يبحث عن المطعم المنشود ووصل اليه بعد ربع ساعه ، وقف امامه والعجوز قربه يراقب المحل عن كثب، ابتلع ريقه بصعوبه شاعرا بكميه لا محدودة من الانقباضات في معدته من فرط التوتر غير مدرك لسببه ولا كيفيه ايقافه ، دفعه تلقاها من العجوز جعلته يندفع نحو المطعم بالاكراه، التفت ينظر اليه بلوم تبدد سريعاً بسبب تلك الملامح على وجهه اذا بعثت في نفسه الطمانينة ، زفر الهواء بأنزعاج وتقدم نحوه المطعم دون اي تاخير ، لاحظ بعد فحص بسيط للمكان صغر حجمه وبساطه تصميمه اذ كانت الجدران والارضيه خشبية مع اضواء برتقاليه مستطيله الشكل استقرت على الجدران ، الطاولات هي الاخرى مع مقاعدها من الخشب الجدران تزينت بلوحتين زيتيتين متناظرتين وهناك طاولة للدفع مستقرة قرب باب صغير يؤدي للمطبخ، راقب المكان بنظرات استنكار مفكراً ايفترض بهذا المكان أن يعتبر مطعم حتى ؟ تذكر مطاعم الأغنياء حيث كان يقضي وقته مع رفاقه فيها ، شتان بينهما ، لكنه نفض أفكاره حين اعادت له الذكريات المأزق الواقع فيه فاخفض رأسه وتقدم ، توقف على حين غفلة يتسائل كيف سيعمل حقاً ؟ أساسا كيف يعمل الاختفاء والظهور؟ لم تكن لديه فكرة اطلاقاً .
التفت يبحث عن العجوز راغباً سؤاله عن الكيفية ، شهق فزعاً حين شعر بيد توضع على ذراعه ليجد سيدة في منتصف العمر تنظر إليه بقلق ، ترتدي فستاناً بني بسيط التطريز وفوقه مريلة رمادية ، شعرها مغطى بقبعة ضمت جميع خصلاتها اسفلها
" هل من خطب بني ؟ انت واقف هناك منذ فترة تبدو كمن تاه عن طريقه "
استعاد هدوئه بصعوبة مطلقة وتمالك أعصابه يتحدث معها بأكبر قدر استطاعه من التهذيب
" هل انتِ صاحبه المطعم سيدتي؟ لقد قرأت عن فرصة العمل وجئت إلى هنا "
اخفضت يدها تبتسم له بترحيب بسيط
" أهلا بك ، اعتذر فقد حصلنا على موظف بالفعل واتفقنا على قدومه بالغد "
وقف مكانه وحسب يفكر ، أراد الرحيل وتركها لكنها استوقفته تخبره بعد تفكير
" ترغب بالعمل اليوم وحسب ؟ هو لن يأتي بعد ، يمكنني منحك أجر يومي مقابل ساعات عملك "
رفع رأسه يرمش بحيرة ، شعر لأول مرة بحياته وكأن أموره تترتب بحسب احتياجاته ، وكأن كل ما بالعالم يطوع لرغباته بشكل عجيب
" نعم ، اليوم وحسب هذا كل ما احتاجه "
حماسته جعلتها تبتسم ، بدأت بمقابلة العمل لأجل الشكليات قبل الموافقة عليه
"هل عملت قبلاً؟ هل تجيد الطبخ ؟"
نفى يحرك رأسه مخفضاً اياه على استحياء يشعر لأول مرة كم ان من العار انه عديم الخبرة لهذا الحد
" اسف ، لا أعرف ، لم اعمل قبلاً "
ترددت في قبوله لكنها قررت بعد بعض الفحص والتدقيق متنهدة واضعه يدها على خدها
" حسناً بني سنجرب، ليس المبلغ المتوفر كبير بأي حال لذا لنجربك في العمل ، هي بضع ساعات وحسب "
اومأ دون اعتراض ، بدل ثيابه وانطلق لأول تجربة عمل في حياته ، كان المطعم رغم صغر حجمه فارغاً من الناس وهذا اشعره بالراحة رغم استغرابه من هذا ، لم يفهم كيف يمكن للعمل الاستمرار مع هذا الانخفاض الرهيب للزبائن وان كان بداخله يدرك السبب الكامن وراء هذا ، أفكاره قطعها دخول ضيوف بعد وقت طويل من الانتظار ، اعتدل بوقفته وحضر الدفتر لكي يأخذ الطلبات من الزبونين المتمثلين برجلين في منتصف العمر ، بدا عليهما التقارب الشديد بينهما ، اقترب منهما حين جلسا بعد أن حاول تحضير نفسه نفسياً لتحمل أي كان ما سيصدر عنهما ، سؤاله لهما فتح بينهما حواراً جذب نظره إليهما ، شعر بالغبطه منهما مفكراً هل لو عاش بشكل مختلف كان يمكن أن يحصل على صديق مخلص يأخذ بيده للخير ؟ هل كان اختيار اولئك الرفاق هو الخطأ الساحب له للحضيض أم أنه كان في الحضيض من البداية و نال من استحقهم وحسب ؟ بالنهاية اوليست الطيور على أشكالها تقع ؟
خرج من شروده حين طلب الرجلان طبقين متماثلين تمثلا بساندويش همبرغر مع كوبين من الشاي ، اومأ وغادر يأخذ الطلب للسيدة بالمطبخ وهي استلمته منه دون تأخير ، لم يكن العمل صعباً عليه حقاً عدا عن حقيقة انه مضطر للتصرف بتهذيب لم يعهده من قبل والتودد للزبائن وهذا ما لم يعتده قط رغم هذا مر الوقت عليه سريعاً دون أن يشعر بانسيابه خصوصاً بعد حلول وقت الظهيرة وامتلاء المكان بالضيوف ، لم يخلو العمل من صعوبات ونماذج سيئة كادت تسبب له تلف في أعصابه إلا أنه استطاع بعد القليل من التذكير والتوبيخ لذاته أن يمسك نفسه عنوة .
انتهى العمل بعد حلول الثانية ظهراً اذ حان وقت الشفت الثاني لذا حصل على حريته ، نزع المأزر واتجه نحو السيدة يبلغها انه سيغادر ، استوقفته حين راته هاماً بالرحيل ، ضيقت عينيها تستفسر بحيرة تامة
" بني الم تنسى شيئاً مهماً؟ "
رمش ينتظر أن توضح له ما الشيء الذي نسيه فتنهدت ترسم ابتسامة يائسة منه
" المال، انت عملت لدي مقابل المال لكنك لم تاخذه"
فتح فمه قليلاً يحاول التبرير ، ابتسم ببلاهه يجيبها ويده على رقبته
" في الحقيقة لم اعمل لأجل المال بل لأجل التجربة ، شيء أقوم به لأول مرة "
ضحكت على تعبيره ومدت له مبلغاً صغيراً تعطيه اياه
" هذا حق تعبك، بغض النظر عن هدفك انا لست مستغلة لهذا الحد ، لقد سرني وجودك معي اليوم حقاً زرني مجددا حين تتفرغ يمكنك تكرار التجربة لو أحببت "
التقط منها المال وأبقى عينيه عليه ، يده اهتزت ممسكه به وضغط على شفتيه يبتسم بانكسار
" شكراً لك ، هذه أول مرة احصل فيها على مال مقابل عمل يدي ، الشعور ....جميل ، شكرا لأنك جعلتني اجربه"
وضعت يدها على كتفه تشجعه
" لا بأس عزيزي ، سرني أن أكون أول من منحك هذه التجربة ، سابقى بذاكرتك هكذا صحيح ؟"
اجابها بسرعة كما لو كان ينتظر منها قول هذا رغم أنه لم يتخيل أن تقوله مطلقاً
"وانتِ؟ هل ستتذكرينني؟ هل كنت شخصاً يستحق الذكر الحسن بنظرك؟"
أومأت تطمانه بدون تأخير مؤكدة صدق كلامها بابتسامة ودودة
" أجل ، أؤكد لك اني لن انساك سواء عدت أم لا وان كنت سانتظر عودتك ، لقد بذلت جهداً كبيراً لكبح نفسك ، احييك على تجربتك الأولى وحظاً طيباً للمستقبل "
ابتسامة شقت طريقها لشفتيه اومئ وغادر ملوحاً لها أثناء ابتعاده .
وصل بعد مدة لمنتصف السوق ، شعر بالحماس يدب في نفسه رغم أن وقته قارب على الإنتهاء، شعر بأن هناك حيوية غير معهودة بوقته وحياته، تجارب لم يتخيل أن تروقه، شعور المال بيده بعد أن حصل عليه بعرق جبينه اشعره برغبة بشراء شيء لأجل أسرته ، تذكرهم أبعد تلك الملامح المبتهجة يتذكر وضع والده ، اخفض رأسه يعود له الانكسار من جديد ،كاد يغرق بالألم والخوف لولا من افزعه فجأة يضع يده على كتفه جاعلاً اياه يصرخ فزعاً ، استدار ليرى العجوز أمامه يبتسم له ، كان فخوراً أكثر مما توقع آرثر ، عبس يمد له البذور التي حصل عليها حتى الآن بعد عمله ، بلغ عددها خمسة عشر بذرة شملت ما حصل عليها نتيجة التودد للضيوف وكبح غضبه على بعضهم ، خجل من تلك النظرات فاشاح بوجهه وهذا جعل العجوز يبتسم أكثر قبل أن يقترح عليه
" هناك مكتبة بالقرب من هنا ، وامتحاناتك قريبة ، لما لا تدرس قليلاً؟"
اعترض دون تأخير بنظرات حارقة رافضاً بشكل قاطع هذا المقترح
" لا حاجة ، انا أكره الدراسة جداً ، ولن أعيش لحظورها، وحتى لو فعلت لن استفيد شيئاً ، لم أستطع ولو لمرة واحدة فعلها "
العجوز آمال برأسه يسأله بنبرة خبرية
" وهل انا طلبت منك أن تتفوق؟ أنا فقط اطلب منك أن تحاول ، ليست كل الجهود تؤتي الثمار المرجوة لكن المحاولة وحدها ستضيف لك تجربة لها وزنها الخاص "
آرثر أظهر عناداً لا مثيل له رافضاً للمقترح
" انا فقط لست جيد به أتفقنا؟ "
العجوز قاطعه قبل أن يكمل مظهراً القليل من الحزم
" ارثر، انت فقط تخاف من الفشل وما يتبعه من إحباط ، تحاول منح نفسك عذراً لتعلق عليه الفشل ، شيء مثل لم أنجح لاني لم ادرس لو درست لنجحت، انت فقط تدرك انك قد لا تنجح حتى لو درست وتخشى أن يسبب ذلك اهتزاز ثقتك بنفسك "
أراد الانكار، أن يخبره انه مخطا إلا أن كبريائي بالفعل لم يكن بأفضل حالته منذ اللعنة الملقاة عليه فزفر الهواء متذمراً يضع يده على خصره
" أيها العجوز أكاد أقسم أن هناك من ارسلك لتدمر كل دفاعاتي وكبريائي وثقتي بنفسي "
ضحك العجوز بحيوية غير معهودة ، بدا وكأنه هو الآخر بدأ يسترجع قوته بشكل غير متوقع
" انت فقط بحاجة لتعترف بمخاوفك لتتغلب عليها ، ليس الأمر سهلاً بالطبع لكنه ضرورة ، قبل أن يحين موعد موتك وانت تهرب بلا نهاية "
آرثر تنهد من جديد يضع يده على رأسه
" وان كنت متجهاً لموتي بالفعل ، لذا حسناً محق انا أكره أن اتذوق الخسارة ، لكن خلال يوم واحد ها أنا ذا اجرب كل ما هو جديد ، اعرف ان هذا خارج عن قدراتي لكن ....ساجرب، أعلم أني لن أحب الأمر ...لكن لا بأس ليس لدي ما اخسره أكثر مما فعلت !"
توجها نحو المكتبة القريبة معاً ، كان خفياً من جديد لكنه عند تلك النقطة انشغل عن هذا إذ أنه حصل بالفعل على رفيق يكلمه وهو حين يلزم يظهر من جديد فكان الأمر لا يشغل باله بعد الآن .
وصل للمكتبة بعد القليل من السير ، دخل اليها ليجد الكثير من الشبان والشابات كل منهم وضع كتابه أمامه مع اوراقه واقلامه يدرس بجد وتركيز، كانت المكتبة كبيرة نسبياً حوت عدة اركان مع العديد من الرفوف الفاصيلة بينها ، أخذ ركناً بعيداً والتقط الكتاب الوحيد الذي يتذكره من جامعته، والده ادخل كلية الهندسة رغبة منه في توفير مستقبل جيد له من خلال شركته فاصر على ذلك الاختصاص حين وجد أن ابنه لا يملك أي طموحات أو رغبات حقيقية ، تلك الذكريات كانت تثير غضبه قبلاً أما بهذا اليوم فقد كانت تثير بداخله خوفاً وحنيناً يفوق أي شعور آخر ، يفكر هل والده على ما يرام ؟ هل ما يزالون يبحثون عنه؟ هل سيتذكرونه؟ كان خوفه من الموت قد تبخر بالفعل نتيجة انشغاله بالكثير ،تجارب لم يتخيل يوماً أن يحاول فعلها لكنه حين فعل لم يرى الخيال السيء بعقله عنها، كانت لطيفة ، جديدة ، حيوية رغم ما بها من صعوبات وتحديات ، تسائل هل هكذا شعر شقيقه الأكبر ؟ لطالما اختار أن يشارك بأعمال تطوعية ، استقل بنفسه بالمصرف بعمر الثامنة عشر ، ساعد والديه وعمل مختلف أنواع الأعمال منذ تخرجه ، نمط حياته كرهه هو واعتبره سخافة تامة وإضاعة للمال والسلطة ، لما يبحث عن الشقاء وهو يملك المقومات للرفاهية؟ بدأ يفهم قليلاً أن هناك أشياء لا يمكن شرائها بالمال ، شعور استلام الراتب ، أن يبتسم شخص له شاكراً مساعدته، أن يشعر أنه أنجز شيئاً جميعها مشاعر لم يتمكن من عيشها باستخدام مال والده ، كل شيء بدا له سهلاً لكن سهولته افقدته طعمه ومعناه بشكل جعله يشعر بملل دائم مقيت ويتجه أكثر وأكثر للملذات مذهبة العقل .
دخوله للمكتبة ترافق بصوت ضجيج جعله يلتفت ناحيته ، رأى امينة المكتبة محاطة بكتب ساقطة ارضاً ، أراد التجاهل واكمال طريقه إلا أن العجوز المرافق استوقفه
" الن تساعد؟ "
توقف آرثر عن السير ، غير طريقه وصار قربها ليدنو من الكتب ومع حركته تلك عاد ليكون مرئياً من جديد ، انتبهت له امينة المكتبة لتتحدث رافضة خدماته
" لا تتعب نفسك "
اجابها بدون تأخير يكمل حمل الكتب دون أن ينظر إليها
" لا تشغلي بالك، هي قليلة سننتهي سريعاً "
رسمت ابتسامة صغيرة شاكرة له تعاونه ثم ومع آخر كتاب كانت ترغب باخباره أنها ممتنة إلا أنه لم يعد موجوداً ! نظرت حولها بكل الاتجاهات ولا نتيجة تذكر أما هو فقد تابع طريقه للطاولة المستطيلة المغطاة بقماش ابيض وحولها ست كراسي خشبية بمقعد قماشي ابيض اللون
استقر على أحدها وأمسك الكتاب والرجل بجانبه كعادته يترك له حرية التركيز وان كانت ملامحه أظهرت انزعاجاً تاماً للطلاسم أمامه ،فرك ما بين عينيه ناقماً على الكتاب أمامه
" تباً ، الدراسة وحسب ليست لي ، انا بالفعل متأخر بأربع سنوات ! لم ادرس شيئاً كما ينبغي ولا افقه شيء فيما أمامي ، علي التخلي عنه وحسب "
صوت من الخلف وصله من شاب آخر مار من هناك سمع تذمره ليطل يسأله بحيرة
" آرثر ؟"
ذلك الصوت جعله يلتفت بسرعة مشيراً لنفسه بحيرة
"هل تراني؟"
والشاب فور سماع هذا اجابه بغير فهم ، كان بشعر أشقر وعينان زرقاوتان ورثهما عن والدته ، كان زميل آرثر بالجامعة لا أكثر لم يجمع بينهما أي حوار أو تفاعل إذ كان آرثر يقضي كل الوقت مع رفاقه ، بدا بتلك اللحظة غريب أطوار افقده الكتاب أمامه عقله
" عفواً؟"
ضحك بعد برهه يقترب ليجلس بجانبه
" أراك بوضوح، لكن يبدو أن الكتاب أثر على عقلك، لم أتوقع أن أراك تدرس بكل هذا الجد يوماً لدرجة انا من بدأ يشك بعينيه "
شعر آرثر بالحرج لكنه ترجمه لتذمر يشيح بوجهه عنه
" ليس ذنبي أن الكتب معقدة ، بحق الإله ما هذا الهراء المكتوب ؟ أحاول أن أفهم أي حرف ولا فائدة"
اردف بعد وقت قصير بتردد
" لا أقصد ان اكون فظاً لكن ما كان اسمك مجددا ؟"
اجابه بابتسامة مرحة دون أن يشعر بأي إساءة من هذا
" يزن، معك في العام الرابع وما قبل الأخير من الجامعة ، وصادف أن الامتحان بالغد وانت هنا تراقب الكتاب كما لو أنه بلغة أخرى ، جدياً انت تثير قلقي كيف ستتدبر أمرك ؟ "
تنهد يضع رأسه على الطاولة
" من قال إني سافعل ؟ أنا يائس من ذلك كلياً !"
ضحك مجدداً ، سحب الكرسي وجلس قربه ووضع يده على الطاولة مثبتاً رأسه عليها
" سأشرح لك البعض منها ، أكملت ما لدي بالفعل ولدي وقت فائض "
لم يرفض آرثر عرضه واستمر الوضع على هذه الحال حتى بلغت الساعة العاشرة مساءاً دون أن يشعر أي منهما ، صوت مديرة المكتبة جعلهما يدركان الأمر عنوة حين طالبتهما بمغادرة المكان والرحيل لأنه وقت الإغلاق .
العجوز خلال ذلك الوقت أخذ كعادته ركناً بعيداً يراقب آرثر باهتمام ويتفاعل بشكل داخلي مع كل تطور يحدث
خرج الثلاثة وكان يزن لا يرى الثالث بينهما ، توقف أمام آرثر يطرح عليه ما جعله يذهب إليه منذ البداية رغم تجاهله له لسنوات طويلة
" لدي سؤال وارجو ان تعذرني على تطفلي"
استمع له آرثر دون تعليق يومئ معطياً اياه الاذن ، تابع يزن صياغة فكرته في السؤال مع نظرات جادة كل الجد
" أين رفاقك؟ لم أرك ولو لمرة واحدة دونهم، من الغريب رؤيتك هنا وبمكان متواضع كهذا ، لطالما بدوت...."
اجابه أرثر يضع يديه بجيبه رأسه مال جانباً مع ابتسامة صغيرة
" مغروراً يظن نفسه أفضل من الجميع صحيح ؟"
أراد يزن ان ينفي لكن آرثر اردف دون انتظار
" اعرف ما انا عليه ،أو بالأحرى عرفت ما انا عليه خلال الأسبوعين المنصرمين ، أدرك اني شخص فظيع وبغيض ولا يستحق ان يتم تذكره حتى، لم اسبب سوى المتاعب أينما ذهبت ، لن استغرب لو كان ما يحدث هو دعوة من شخص ما للانتقام مني "
يزن استطاع الحديث بعد أن خرج من حيرته التامة
" لقد تبدل حالك حقاً، لم أكن مخطاً حين ظننت انك مختلف ، ملامحك لم تعد كالسابق ، لا أدري ما حدث لكن ان كنت تعرف انك كنت سيئاً حاول تعديل ذلك ، لم يفت الأوان بعد "
زفر الهواء ونظر للساعة في هاتفه ، ابتسم بهدوء يجيب
" لا أعلم أن فات أم لا لكن شكراً لك ، لقد ...سرني محادثتك لي "
يزن مد يده له ليصافحه مع ابتسامة ودودة
" لا داعي لذلك يا صاحبي قضينا وقتاً جميلاً، سرني رؤية جانبك هذا ، استحق الأمر قضاء الساعات المتبقية بالمكتبة، أراك بالغد "
صمت آرثر يلوح له مودعاً يراقب يزن يبتعد من أمامه ومع اختفائه التفت هو الآخر مغادراً راغباً بالذهاب لمكان بعيد ، سار في طريقه دون توقف والعجوز قربه
" ما رأيك ؟ هل كان يوماً مثمراً؟"
همهم آرثر يجيبه بعد برهه
" أجل ، شعرت وكأني شخص آخر تماماً ، استحق الأمر التجربة ...."
الصمت عاد بينهما، يدرك كلاهما أن الوقت يقترب من ساعة الحقيقية ، موعد اللقاء المنتظر ، الطريق كان خالياً من المشاة عداه، كان يسير على أحد جانبي الطريق يراقب السيارات تمر أمامه بسرعة عالية ليدرك أنه وصل إلى أحد الطرق السريعة ، منظر الأضواء المنبعثه من السيارات ، الإنارة الخافتة من المصابيح المنتشرة على الطريق القمر البازغ في كبد السماء مع نجومه وما رافقه من هدوء جعله يشعر بسلام غريب لدرجة تساؤله هل هو يتوق للموت لهذا الحد؟ أين اختفت رهبة الموت منه ؟ فكر انه ربما يمر بمرحلة إنكار وحسب يخدع فيها نفسه أنه بخير إلا أنه لم يتمكن من الغوص في أعماقه وفهمها فترك الوضع كما هو عليه ، تغير اتجاه نظره من الأرض لتلك البقعة حيث وقع طفل وسط الشارع باكياً بسبب جرح قدمه، لم يفهم كيف وصل طفل لمكان خطر كهذا إلا أنه نتيجة العادة الجديدة المتبعة في يومه الأخير تحرك مسرعاً ينقذ الطفل قبل قدوم سيارات للطريق ، ركض تحت أنظار العجوز ، وصل للطفل بعد السيارات ليمسكه بين يديه ويحمله قاصداً أخذه لمكان أمن وبينما هو يحاول فعلها صوت العجوز ارتفع يصرخ محذراً برعب غير معهود منه
" انتبه آرثر "
ومع صرخته تلك ضوء انبثق متوجهاً نحو آرثر والطفل ومعه صوت منبه سيارة ، تجمد مكانه واحاط بالطفل بين ذراعيه يحاول حمايته وبصره تجمد على السيارة المسرعة نحو تحاول التوقف دون أن تفلح ، آخر ما تذكره هو شعوره بالم لا يطاق واندفاع جسده برفقة الطفل بعيدا يتدحرج على الأرض مع من تمسك به بقوة رعباً ليتوقف بعد اتبعاده مسافة مترين من الشاحنة الضخمة إذ تمكن صاحبها من ايقافها بعد أن أصابت جسد آرثر ورمته بعيداً ، فور أن استقر جسده ارضاً ذراعاه ارتخت وتحرك الطفل متحرراً من بينهما ، راقب الشاب المستلقي وقد غطت الدماء آرثر ولوثت الطفل نتيجة حمايته له ، كان الطفل يرتجف مع دموعه فاضت من عينيه .
لم يدرك آرثر ما حدث بعدها ، ما استوعبه تمثل بضوضاء حوله ضايقته برفقة صداع رهيب نتيجة ضربة تلقاها على رأسه ، الثلج بدأ يهطل مغطياً الطرقات المصبوغة بالأحمر رفقته مداعبة برقة وجهه ، شعر بالخدر بكل أنحاء جسده وشعور بشلل تام فيها ، عيناه استقرت على السماء يتنفس بصعوبة وتثاقل، عقله صفى لأول مرة بشكل تام مفكراً انه على الأقل مات ميتة مشرفة، تسائل هل الطفل سيتذكره؟ هل ترك انطباعاً جيداً بما يكفي لكي لا يتم نسيانه ويكون ذكرى جميلة لاحدهم؟ هل ترك اثراً يستحق أن يقال ( ليته ما يزال حياً) لأجله ؟ تمنى ذلك من اعماقه ، تمناه بكل ما امتلكه من وعي ولا وعي، بكل أمنية متبقية بجوفه ، العجوز صار خلال مجال بصره ، ابتسم بصعوبة بالغة حين رآه ، يده تحركت بصعوبة رغم صعوبة هذا تمتد لجيبه، أخرج البذور برفقة الجوهرة ومدها له بيده الملوثة بالدماء، ابتسامته ترافقت مع لهاث وبضع كلمات خرجت بصعوبة مع دموع نزلت دون ادراكه لها ، اهتزت يده فامسكها العجوز وقد غشيت الدموع عينيه هو الآخر
" شكرا....على ...كل ...شيء ...هذه لك ...آسف على الصراخ عليك "
سعل دماً من فمه وشعر بالم اخرسه لوقت قصير ثم سرعان ما اردف مخبراً اياه بآخر ما امتلكه من وعي وطاقة
" تذكرني ...بالخير ...أرجوك ...لا أريد أن انسى، أريد أن يعرف أحد ما ....إنني ...حقاً حاولت "
ومع عبارته تلك اظلم كل شيء ولم يعد يدرك أي مما حدث
~~~~~~~~~
منذ فتح عينيه البحريتين وهو يتحرك هائماً في اللامكان، حاول تذكر ما جرى وكيف وصل إلى هنا لكنه لم يفلح فقطع الأمل من ذاكرته وبدأ يستكشف المكان وحسب ، بقي يراقب ما حوله يرى أمامه حقلاً واسعاً جداً ملئت الأعشاب اليابسة أرضه ، كان يمتد على مد البصر لمسافة أبعد من مجال بصره حتى بدا له وكأنه بلا نهاية ، الرياح كانت قوية تضرب الأعشاب عاصفة بها محيلة اياه لفتات .
راقب المنظر أمامه شارداً يتأمل ما أمامه بعقل صافي على غير المتوقع ، صوت مألوف جداً ظهر خلفه جعله يلتفت سريعاً مع ملامح ابتهاج ظهرت على وجهه ، تقدم ناحية العجوز الواقف أمامه بابتسامته المريحة ، اقترب منه بلهفة لم تخلو على من يراقبه
" أين نحن سيدي ؟ وماذا تفعله هنا ؟ماذا حدث ؟"
ابتسم العجوز له وحسب ، تقدم يتجاوزه ليراقب الحقل أمامه
" آرثر قبل أن اجيبك سأخبرك ببعض الأمور لذا استمع لي "
لم يعترض الشاب إذ أنه يدرك أن لكل كلمة من هذا العجوز وزنها ومعناها الخاص ، بدأ الرجل يروي على مسامعه بينما عيناه على الحقل
" اتعلم أن كل إنسان يولد مزارعاً؟"
آرثر رمش بحيرة واقترب يقف قربه يمسك بالحواجز المعدنية الصدئة حول الحقل
" كيف هذا ؟"
الرجل اجابه كما لو كان يروي قصة ما قبل النوم لطفل صغير ينتظر منه الحكمة من القصة فحرص على ان يوضح له المغزى
" كل إنسان يولد ولديه حقل بداخله، خلال سنوات حياة المرء هو يزرع فيه مختلف البذور وينتظر حصادها ، كل خطوة، كل كلمة ، كل عمل لنفسه ولغيره تعطيه بذوراً يزرعها في حقله وبالنهاية يأتي وقت الحصاد "
آرثر فهم ما حاول العجوز قوله ، عيناه دارت على الحقل أمامه واستوعب ماذا يكون ، العجوز تابع بعد أن أعطاه وقتاً ليفكر
" اتعلم؟ الزراعة عمل مضني ، تحتاج بذور جيدة ، أرض خصبة ، رعاية مستمرة وصبر كافي حتى يحين وقت الحصاد طالما انت تريد ثماراً تستحق القطف "
نظر ناحيته بنظرة جانبيه ثم أعاد بصره للحقل
" أغلب البشر غير صبورين، تجدهم يزرعون أسهل البذور متناسين أن ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة، كل بذرة لم يتم الاعتناء بها كما ينبغي لن تعطي الثمرة المطلوبة، حين يحين وقت الحقيقة تجدهم ساخطين على ما حصلوا عليه متذمرين أنها لم تكن مرضية رغم الجهد ....لكنهم وحسب لم يفكروا ولو للحظة أنهم أخطأوا باختيار البذور السهلة او لم يحسنوا رعايتها ببساطة "
اردف يتقدم خلال الحقل الواسع ولحق به ارثر يدوس على تلك الأعشاب اليابسة ، تكسرت اسفل قدميهما محدثة ضجيجاً لكنه لم يمنع آرثر من الاستماع بتركيز لكلمات العجوز
" ينسى البشر انهم خلال حياتهم سيتعرضون لعواصف لا محالة، حقلهم ستعصف به الرياح فإن كانوا زرعوا اعشاباً يابسة لا تقوى على العيش فكيف سيقاومونها؟ كيف لن يصبحوا أرض قاحلة ؟ إلقاء اللوم على الرياح لن يجدي نفعاً ، الأمر يشبه معرفتك أن الأعصار قادم لكنك ببساطة تتعامى عنه حتى يحين وقته ثم تلوم الإعصار لقدومه "
تابع خطواته للإمام رغم قطعهم مسافة لا بأس بها
" من واجب كل شخص أن يختار ما يزرعه بعناية لأنه ما سيواجه به العواصف ، اجعل داخلك صلباً لكي لا تهزك اعاصير الحياة والا فأنت وحسب رميت نفسك للتهلكة ثم اخذت دور الضحية كالعادة لأنه الإسهل "
اخفض آرثر رأسه يحدق بالأرض ، يعرف هذا السيناريو، كانت تلك قصة حياته البائسة ، بدأ يفكر أنه على الأرجح مات وحسب وهذه ما قبل الحساب أو شيء من هذا القبيل ، صوت العجوز جعل تركيزه يعود مجدداً إليه
" الجميع يريد ما هو أسهل ، لا أحد يريد المعاناة لكن يا بني ...الطريق الإسهل نهايته معاناة ، الطريق الأصعب سيصقلك ليقودك لما هو أسهل وأفضل ، عليك ان تتحلى بالمسؤولية ،القوة الكافية والشجاعة لتسلكه ، تواجه عقباته ثم يحين وقت الحصاد ، هو ما سينسيك كل تعبك "
وصلا بعد مدة لنهاية الحقل ، آرثر بقي يراقبه بفضول تام مفكراً أن ظنونه عن أن الحقل لا نهاية له كانت خاطئة كلياً، لقد كان صغيراً منذ البداية لكنه وحسب خيل اليه العكس .
اتسعت عيناه قليلاً حين لاحظ ركناً مختلفاً عن سابقيه، ركن أخضر أرضه مبللة بالمياه ، اشجاره خضراء عالية تتنافس في أطوالها من الأصغر للاكبر، لم تحمل أي منها الثمار بعد لكنها كانت ثابتة قوية تدفع الهواء بعيداً تجابهه كمحارب شجاع ، تناثرت بعض اوراقها لكنها ظلت صامدة تتمايل مع الريح ثم تعود لمكانها دون ضرر.
العجوز أمسك بيد آرثر يجره معه لتلك البقعة ، أمسك بجذع الشجرة وجعل يد آرثر عليها ، التفت إليه مع ابتسامته الدافئة يراقب ملامح آرثر وقد لانت بشكل كبير بمجرد إمساك جذعها
" هذه بذرة اليوم الذي قضيته برفقتي، هذه الشجرة كانت نتيجة إنقاذ الطفل ، تلك الشجيرات نتيجة حمل الكتب ، وتلك الأخرى البعيدة هناك لأنك كبحت غضبك على ذلك الزبون ، هذه لابتسامك بوجه صاحبة المطعم ، والبقية كل منها كانت نتيجة فعل معين ، ما رأيك ؟ ألم يكن يوماً مثمراً؟"
عيناه دمعت واحمرت، ابتسم يشعر بسعادة ، انزلقت يده على جذعها يتاملها من اعلاها لاسفلها، جثى ارضاً بعد فترة يدفن رأسه على ركبتيه
" لقد كان حقاً كذلك ، أكثر يوم مثمر خلال كل سنواتي الواحدة والعشرين "
العجوز اقترب منه يجثو قربه
"وما يزال أمامك حقل طويل لتزرعه، تذكر البذور الجيدة متنوعه ، منها ما تستعملها لتطوير نفسك على النحو الشخصي وأخرى مع الآخرين ، اصقل نفسك كما يجب كي يمكنك أن ترعى من تحب ، كن الشجرة الكبيرة المضلة للاخرين ، لا يمكن لشجرة يابسة وضعيفة أن تحمي نفسها أو أي أحد ..... لكن اعرف انك ستزرعه بالبذور الصحيحة هذه المرة صحيح ؟ لن ترغب بالمزيد من الحشائش اليابسة "
آرثر رفع رأسه مديراً رأسه لليمين حيث يقف
" لكن يا سيدي ....لقد ....مت بالفعل ، العجوز يفترض أنها جاءت صحيح ؟"
العجوز حافظ على ملامحه يطمأنه
" هممم هي جاءت بالفعل لكنها غادرت دون فعل شيء حين رأت انك استغللت فترة العقاب جيداً، ستعطيك فرصة لتثبت نفسك وقالت إن اخبرك أما تزال ترى أنها ظالمة؟"
آرثر كان لا يصدق ما يسمعه ، بقي متجمداً مكانه ، رفع رأسه ببطئ متسائلاً بعيون لمعت بأمل
" اذاً ...لا يزال يمكنني تعديل الأمور صحيح ؟"
اومأ له ليردف آرثر مستقيماً يقف على قدميه
"انا ..... لا أزال قادراً على تعديل كل شيء ... لا أصدق ..."
العجوز اقترب منه معانقاً يحضنه بين يديه، تفاجئ قليلاً لكنه ابتسم بعدها يبادله بقوة محتفلاً بالأمل الجديد
" شكراً لك ....انا حقاً لا أدري ماذا كنت سأفعل من دونك "
ضحك وقد بدا عليه الحيوية كما لم يكن من قبل ، آرثر كان سعيداً أكثر مما للكلمات ان تعبر حتى أن ملامحه صارت لطفل حصل على حلواه المفضلة .
العجوز تراجع مبتعداً لخطوتين، آرثر راقب ملامحه بأستغراب شعر به بعيداً عنه ، سأله دون تأخير عما غاب عن عقله لمدة طويل
" سيدي لم تخبرني بمن تكون ؟ كيف كان يمكنك رؤيتي ؟ وكيف سنعود؟"
العجوز وضع يديه خلف ظهره راقب ملامح الشاب بسكينة ثم استدار يشير له لمكان مقابل لهما
" ستجد الطريق من هناك ، انا لن أخرج معك ، ما انا الا جزء من اللعنة ، لهذا صرت مرئياً ، لا يمكنني اخبارك آلان بمن اكون لكن أعدك ستجدني معك حين تحتاجني، انا معك دوماً ، ليس كل ما هو خفي عن العين يعني أنه غير موجود ، تذكر طالما انت تعطيني جواهرك كل يوم ، انا معك وساكون قوياً بك "
آرثر كان يستمع له وقلبه يعتصر الماً، تعلق قلبه بالعجوز وشعر انه من يقوده للصواب، باتت نصائحه هي الترياق الشافي لقلبه ، اراده برفقته ليرشده،أن يكون صديقاً يقوده للأفضل ، لم يملك هو القوة والثبات الكافيين، خشي العودة لذاته القديمة إذ أن العديد من السنوات كانت كافية لزرع تلك الصفات ، التخلص منها يعني احتياجاً رهيباً للقوة والثبات ولم يملك هو الثقة الكافية بنفسه ليعتمد عليها لإنجاز شيء كهذا
" لكن...انا احتاجك معي ، ولا أملك جواهر بعد الآن "
ضحك العجوز يبعثر شعره له
"لقد زرعت بذرة فيك ، مثلما لديك بذور، الناس تزرع فيك بذور ايضاً، وأنا وضعت خاصتي، لقد علمتك أفكاري ، وانت تقبلتها ستظل تنمو بداخلك طالما ترعاها، احسن اختيار رفاقك هذه المرة ليسقوها برفقتك"
تراجع وذهب خلفه يدفعه للإمام نحو المخرج
" بخصوص الجواهر ....لديك بالفعل ، كل يوم يمر في عمرك هو جوهرة ، وانت تقرر كيف تستثمرها "
وصلا عند البوابة ودفعه بالفعل هامساً بابتسامة
" أراك لاحقاً يا صديقي الطيب "
~~~~
أصوات بدأت تتسلل لاذنيه جعلته يفتح عينيه ببطئ ، طرف جفنيه عدة مرات قبل أن يتمكن من فتحهما أخيراً ، وعيه ما يزال مشوشاً وعقله يدور الكثير من الأفكار براسه ، بقيت جميع الأسئلة معلقة دون جواب لكنه حصل بدلها على إجابة مختلفة لسؤال ارقه لوقت طويل بالنسبه اليه حين سمع صوتاً عذباً اشتاقه حد الموت، لم يعلم كم عنوا له ولا ما كان لنفسه من انتماء لهم حتى جرب الابتعاد ، والدته بدموعها الغزيره تنزلق على خديها وجهها بانت عليه علامات التعب ، ابتسامة رسمت لها مكاناً بين الدموع ويداها لامست خده والأخرى تمسح على شعره ، عبارات الحمد والشكر والسعادة كل ما كان يمكن سماعه منها وهو السبب الرئيسي لفتح الباب بسرعة من قبل زوجها وابنها خلفه يطلان للاطمئنان أن كل شيء بخير .
حين صارت كلماتها واضحة لهما اقبلا بسرعة يتفقدان من استيقظ يحدق بهم بنظرات طفل يستكشف العالم لأول مرة ، بقي يراقبهم حتى أقبل من أرعب قلبه عليه بشدة ، حين رأى والده أمامه بالكاد استطاع إخراج صوته من حنجرته يسأل بصوت مرهق خشن
" ابي....هل أنت على ما يرام ؟ هل صحتك بخير ؟"
والده فور سماع هذا اقترب من السرير يمسك بيده ، ملامحه الصلبة لانت بشكل تلقائي موبخاً الأصغر
" من المريض بيننا ؟! أنا بخير تماماً، كيف تشعر ؟ هل هناك ما يؤلمك؟ "
اومأ سلباً ليصاب فجأة بموجة الم جعلته يتوقف فوراً عن الحركة ، والدته هتفت تستوقفه
" لا تتحرك الطبيب قادم ، لقد أرعبتني بما فيه الكفاية طوال الأربع أشهر الماضية "
ضيق عينيه وتقطب حاجبيه بحيرة
"أربع أشهر؟"
اجابته بتردد بعد أن ضعطت على يده بقوة أكبر ، صوتها اهتز ودمعت من جديد تستذكر المشاعر المدمرة حين سمعت ان صغيرها المختفي أصابه حادث وهو بوضع سيء
" أصبت بحادث سير أثناء إنقاذ طفل ما ، وكنت في غيبوبة طوال تلك الفترة ، لقد أخبرنا الطبيب أن نجاتك تطلبت معجزة ، ويبدو أن الرب منحها لي وكم انا عاجزة عن رد هذه المعجزة "
حضر الطبيب خلال هذا ليتفقده ، تم إجراء فحوصات له وتم تأكيد أن وضعه مستقر ليعم الفرح الجميع ، رغم هذا كان هناك شيء واحد مختلف انتبه له الجميع ، آرثر ذاته بدا وكأنه لم يعد حقاً ومن أمامهم شخص آخر ، اوعزوا ذلك لارهاقه ووقع الحادث عليه فقرروا منحه الوقت اللازم للتعافي .
ومضت مدة إعادة التأهيل والعلاج بيسر وسلاسة أكثر مما تخيل أي منهم وقد حل أخيراً بعد طول انتظار وقت العودة للمنزل .
لم يتحدث معه شقيقه طوال تلك الفترة واكتفى بالتحديق به والتواجد بحال احتاج أي شيء محاولاً منح والديه وقتاً للراحة أما آرثر فقد شعر بنفسه مكبلاً ، قرر تأجيل الأمر لوقت شفائه وها قد حانت مرحلة المواجهه .
فور دخول المنزل توقف آرثر يراقبه بحنين ، شعر وكأن الأمر كان منذ قرون وليس وقت قريب ، ابتسم يتجول في المكان يستطلع ما حوله باهتمام قبل أن يتوقف مبعداً ابتسامته لتحل محلها ملامح هادئة فجأة ، وقف أمامهم لتتجه الأنظار نحوه بترقب إذ بدا واضحاً انه يحاول قول شيء ما لهم دون أن ينتج عن ذلك أي حوار حقيقي بعد، مجرد رغبة حبيسة قرر والده مساعدته فيها كما يفعل كل مرة
" هل من مشكلة آرثر ؟"
رفع رأسه وبادل والده نظراته لثواني قبل أن يفصح عن الأمر
" لدي شيء أريد قوله ، هلا جلسنا قليلاً "
هم ايان بالرحيل معتبراً بشكل بديهي أن الأمر لن يخصه هو إذ لطالما كان آرثر رافضاً لتدخلاته في حياته إلا أن صوت آرثر وصله ينادي باسمه لأول مرة منذ زمن
" ايان، انت ايضاً ، أريد قول شيء لك ايضاً ...لذا هلا بقيت؟"
تلك النبرة المهذبة جعلت ايان يستدير محدقاً بأستنكار تام، بدأ يفكر أن شقيقه ربما ضرب رأسه أثناء الحادث وفقد عقله معه !
بالطبع لم يعبر عن تلك الفكرة واكتفى بأن توجه معهم إلى غرفة الجلوس بعد أن تركتهم الخادمة لتكمل عملها .
جلس والداه بجانب بعضهما يراقبان ملامح وجهه بحيرة معطيين اياه المجال للحديث أما ايان فقد بقي يراقبه مترقباً ما يريد قوله بعد كل تلك السنوات السيئة بينهما ، زفر آرثر الهواء بعنف ثم رفع بصره يوجهه اليهم
" طوال الأسبوعين قبل الحادث ....ادركت كم أنني شخص سيء مع الجميع خصوصاً معكم، لقد فكرت كثيراً بالأمر ولم أجد حسنه واحدة تجعلكم تحبونني حقاً ، لقد كنت شخصاً سيئاً وعنيداً ومتغطرساً على الجميع رغم أني فعلياً كنت الأسوء من بينهم ، ربما في مكان ما بداخلي ادركت انهم امتلكوا ما لم امتلكه لهذا شعرت بالغيرة ؟ أنا نفسي لا أعلم "
راقب ملامحهم المركزة عليه يحاول معرفة ما يشعرون به إزاء كلامه لكن دون أي تغير فيها ، كانوا يستمعون وحسب معطين له المجال للتعبير فتابع بصعوبة أكبر
" لقد نصحني الجميع ، لم يقصر أي واحد فيكم لكني فقط لم استمع ابداً ولكن...حصلت على عقابي من حسن الحظ لكن الآن. ...أريد حقاً أن اعتذر على كل المتاعب التي سببتها. .... وقد اسببها مستقبلاً، لا يمكنني أن أعد أني لن أقوم بشيء سيء مجدداً لكني أقسم لكم ساحاول"
وجه بصره لامه ليرى أن عينيها تستعدان لذرف الدموع مجدداً، اخفض بصره خجلاً
" أنا اسف حقاً على اقلاقك دوماً ولأني لم أكن اسمع كلامك"
رفع رأسه يسترق النظر لشقيقه الجالس بهدوء
" اسف حقاً ايان، اعرف انك تكرهني بالفعل الآن ولا الومك على هذا ، انا من اوصلك لطريق مسدود دون أن ادرك، رفضت كل محاولاتك في اصلاحي لكن بالنهاية انت من كان المحق"
أيان نظر للأرض لوقت قصير ثم تنهد ليكمل آرثر ما بدأه لينتهي بأكثر من عانى معه
" ابي....انت أكثر من عانى مني، لقد كنت وقحاً معك، عنيداً، لم أحاول فهم وجهه نظرك وفكرت باسوء الطرق بك ، انا حقاً شاكر لك انك لم تتخلى عني رغم كل شيء، استمررت في محاولة إصلاحي رغم أن الأمل كان معدوماً ، ولانك أردت الأفضل لي، لا أضمن اني لن أكون سيئاً مجدداً لكن...أرجو أن تمنحوني فرصة ...سأحاول أن أكون ابناً جيداً هذه المرة ، ابناً يستحق أسرة مثلكم"
ومع إكمال كلامه أبقى رأسه منخفضاً ينتظر منهم الكلام ، لم يجرأ على رفع رأسه كان ايان أول من تحدث بأمر من والديه تمثل بنظرات نحوه
" انا اكرهك بالفعل ....لكن ...ما تزال أخي ، ولن يسرني شيء أكثر من أن يعود أخي الصغير الذي احببته قبل زمن الي، لا مانع لدي من منحك فرصة لكن ...أثبت أنك تستحقها وحينها يمكننا تعويض ما فات"
تلك الكلمات جعلت آرثر يرفع رأسه ينظر لوجه أخيه ، الاحمرار بدأ يعود لعينيه لكنه استطاع الحفاظ على دموعه في محجريه .
من تلاها كان والدته ابتسمت مع دموع الفخر ، احبته أكثر من روحها لكنه استمر يؤذيها لوقت طويل رغم ذلك ما تزحزح قلب الأم ولا دعائها له بالصلاح وها هي ترى ثمار دعواتها أمامها
"احببتك دوماً وسافعل للأبد لكني حقاً تمنيت أن تستفيق لذاتك ، دعوت لك من أعماقي وها انت ذا، مرحباً بعودتك بيننا بني "
الغصة في حلقه كانت أقوى من أن يتجاوزها، والده اختتمها يكمل عليه تلك المشاعر الدافئة والثقيلة بأن واحد بصوته الأبوي الدافئ في عاطفته والقوي في تأثيره
" واجب الآباء مساعدة ابنائهم وقيادتهم للطريق حين يخطأون، لقد انتظرنا هذا طويلاً لذا لا بأس يمكننا تمرير بعض الأخطاء الإضافية ، كلنا نخطأ لكن المهم أن لا نكرر الخطأ ، نحن جميعنا هنا لاجلك ، سناخذ بيدك حين تحتاجنا وسنكون فخورين بأي محاولات كانت "
مع تلك الجملة نزلت دموعه متحررة فاقبلت عليه والدته معانقة له تمسح على ظهره أما والده وشقيقه فقد اكتفيا برسم ابتسامة رضا انتظرى ظهورها منذ زمن بعيد للاحتفال باستعادة الابن المفقود والأخ الراحل منذ سنوات .
ذلك الجو السعيد قطعه طرق الخادمة على الباب تبلغهم أن رفاق آرثر هنا ، تلك العبارة جعلت الأنظار تتجه نحو آرثر ليروا تلك الملامح الشاردة على وجهه، والده سأله بهدوء يترقب ما سيقوله ابنه وكذلك فعل الاثنان الإخران .
وقف يمسح دموعه بكمه ، نظرات كانت مستقرة وغايه في السكينة يخبرهم بما انتظروا سماعه
" ابي، اسمح لي بمقابلتهم لآخر مرة ، علي توضيح الأمور لهم حتى ينتهي الأمر كما يجب "
اومأ له والده موافقاً لينهض ويتبعه زوجته وابنه الأكبر ، الخادمة ادخلت رفاقه للغرفة ذاتها وبمجرد دخولهم بدأ الضجيج يرتفع من عبارات الترحيب كانت الأولى من نصيب ايفا إذ اقبلت تنظر إليه بابتسامة صغيرة
" أهلا بعودتك، لقد افتقدنا وجودك "
ديمتري جلس يمد قدميه للطاولة أمامه متجاهلاً حقيقة انه مجرد ضيف هنا يمازحه
" مر وقت طويل ، لكن الامر يستحق الآن بعد أن عدت لن يجرأ أحد على إزعاجك، خوفهم من فقدانك عذر جيد لتستغله"
كريستي اضافت بعد ان جلست قرب ايفا ، بدت مبتهجة بشكل لا يتناسب مع الوضع فادرك آرثر مباشرة أنها كانت في حانه ما مع البقية كعادتهم
" يالك من محظوظ ستتخلص من كل الإزعاج ! ربما علي التسبب لنفسي بحادث ايضاً كي لا يزعجني أحد مجدداً"
مايكل الجالس قربها سخر بملل تام
" وكأن هناك من يمكنه أن يزعجك اساساً أو يلقي عليك بأي أمر ، آخر شخص فعل لم تبقي شتيمة إلا وشتمتها له أن نسيتي !"
عبست تضرب ظهره بقوة تتذمر من ازعاجها باشياء اعتبرتها لا شيء
" وما الضار في هذا ؟ هذه حياتي اضيعها كما أحب "
استمع للحوار بصمت ، لم يجلس أمامهم حتى بل بقي واقفاً ينظر لمنظرهم أمامه ، منظر أحبه وكان جزء منه منذ وقت قصير وحسب ، فكر بكم أن الحياة يمكن أن تنقلب بين ليلة وضحاها، تسائل كيف لم يرى الأمر امامه؟ لقد كان بينهم لوقت طويل كيف لم يشعر بالاشمئزاز حتى الآن ؟ لما كان من الصعب جداً عليه إدراك مدى خسة ما هم فيه ؟ تذكر كلماتهم أثناء رحيله ، هم لم يعتبروه شخصاً مهماً اساساً لأنهم لم يقدروا أنفسهم كما يجب حتى ليفعلوا معه، كانوا يهربون من قلة قيمتهم داخل أنفسهم بأشياء كهذه محاولين جعلها مصدر للقيمة دون أن يدركوا أنهم حطوا من قدرهم أكثر من أي شيء آخر ، أشفق عليهم وعلى ما اضاعه معهم ، صمته الطويل جعل الأنظار تتجه نحوه مع علامات استفهام ، اتخذ قراره دون رجعه ، عقد العزم وفعل دون تأخير يضغط على يديه بقوة وملامحه حملت جداً وشفقة بأن واحد
" لدي ما أخبركم به فاستمعوا ، خلال فترة غيابي هذه ادركت كل شيء ، كنا نحن المخطؤن واهلنا المحقون، نحن نضيع أنفسنا وحسب بهذه الأشياء ، العبث لم يوصلنا لأي شيء ، ألم تروا ما حدث معي ؟ لو كان أي منكم مكاني ، لو لم أنجو بما كان سيفيدني أي مما فعلناه؟ بأسم صداقتنا انا اريد لكم الأفضل معي ، لنتوقف عن هذه التصرفات معاً المستقبل امامنا ويمكننا تعديل ما قمنا به "
الصمت حلق في المكان لوقت طويل نسبياً وما كسره كان ضحكة صاخبة صدرت من ديمتري تلاها من كريستي ، ايفا تسائلت ، قطعت السؤال تستجمعه عنوة كلما تبعثر
" انت تمزح...صحيح ؟ من غير المعقول ....إن يصدر هذا الكلام ....تعلم انت لا تقتنع به، ....لذا انت تمزح أليس كذلك ؟"
مايكل حدق به وحسب أما ديمتري فقد توقف عن الضحك ليسخر مؤكداً
" بالطبع يفعل أو سيكون بالفعل فقد عقله أثناء الحادث ، نضيع انفسنا؟ العبث سيء؟ما هذه الترهات ؟ هذا يبدو ككلام اولئك الفقراء ممن لا يملك المال ويحاول إقناع نفسه أنه أفضل بدونه"
كريستي وجهت حديثها لارثر
"هل فقد والدك ماله ربما ؟ أو هددك لتقول هذا ؟"
أجاب آرثر بعد أن تنهد دون تغير ملامحه الحادة مطلقاً
" بالحديث عن أبي .... اولاً هناك شيء اظنكم اساتم فهمه طوال الوقت ، لم ولن أتمنى موته ابداً، كوني كنت اعتبره مزعجاً لا يعني اني أردت موته ، بل أنا مستعد للموت بدله أن كان لي حق الاختيار ، أما ثانياً فقراري جاد كل الجد وباختياري كلياً ، انتم لم تروا ما رأيت لكن انا قررت أن انصحكم، اعرف بحكم التجربة انكم لم تستمعوا لكن....أردت القيام بما يجب علي القيام به "
ملامح ديمتري اظلمت ، نهض من الاريكة يقف مقابلاً لارثر بنظرات استعلاء وتقزز لم يكلف نفسه عناء اخفائها ، البقية بقوا بالخلف يراقبون الاثنين بمشاعر مختلطة
" اذاً ماذا تحاول قوله الآن ؟"
أجاب آرثر يبادله النظرات دون خوف ، عيناه لم تهتز وصوته انساب بكل ثقة
" الآن انتم بطبيعة الحال تعتبرون كلامي ترهات، لم أتوقع غير هذا كما قلت لكن...ما سيحدث الآن هو اني ساترككم، هذا آخر لقاء لنا ، انا لا أملك من الثبات ما يكفي لاحافظ على نفسي من المغريات، ووجودي معكم يجعلها تبدو وكأنها الشيء الوحيد الطبيعي في الحياة ، الصديق أن لم يأخذ بيدك للسماء الأفضل أن تفلتها قبل أن تسقط في الحضيض معه ، للأسف انا نفسي ضعيف جداً، تمنيت لو يمكنني جعلكم ترون ما رأيت لكن ....ربما مستقبلاً بعد أن يصبح حقلي منيعاً كفاية من الرياح ، يمكنني تقديم يد العون ...أما الآن ...فأنا اسف "
ابتسامة كتمت الغضب والسخرية ظهرت على وجهه، أخذ سترته يضعها على كتفه يلقي أوامره على البقية
" لنغادر، هذا التافه يظن نفسه حكيم ما ...من اليوم وصاعداً انت لا تنتمي لنا ، اذهب لحيث تنتمي، مع الفاشلين امثالك"
تبعوه واحداً بعد الآخر حتى بقي اخرهم، ايفا ظلت مكانها تنظر إليه بضياع تحاول فهم سبب هذا التبدل الرهيب ، أرادت سؤاله ماذا رأيت ؟ لما صرت هكذا فجأة ؟ لقد احبتهم كاصدقاء فعلا ورحيل أحدهم المها، غير مدركة أنها الوحيدة بينهم ممن كان صادقاً في مشاعره إضافة لارثر وها هو قد استفاق وتركها وحدها هناك ، لم تفهم الأمر وارادت أن تفعل إلا أن صوت ديمتري الغاضب ينادي باسمها اجفلها وجعلها تعدل عن ذلك ، ركضت للخارج تنوي الرحيل فالقى آرثر على مسامعها آخر جملة سمعتها منه
" ايفا، أنظري لنفسك عن كثب، أتمنى أن تجدي الطريق "
مرت الأعوام التالية بين صعود ونزول ، كانت كلمات الحكيم حاضرة معه بكل خطوة تحفزه حين يخطأ وتشجعه حين يتصرف بشكل مناسب ، أسرته كانت معه خطوة بخطوة تراقب نموه كل يوم بحب وسعادة ، أدرك أن المحاولة وحدها كانت كافية لتشعره بالرضا عن نفسه ، رغم أن الفشل مؤلم لكنه لم يكسره كما كسره عدم المحاولة ، أدرك أن جهوده بالفعل لم تأتي كما تمنى أحيانا لكنها عادت له بعد مدة بشكل آخر لم يتخيله، اعترف بما به من عيوب وأخطاء ووجد لنفسه من أخذ بيده لمستقبل أفضل .
مرت الأعوام تباعاً بين حلوها ومرها ، استقر ذلك العجوز في سريره محاطاً بزوجته ايفا وابنيه وأحفاده يودعون من أسر قلوبهم واحتواهم كبيت دافئ لسنوات برفقة شقيقه الأكبر والوحيد ، كان المرض فد تمكن منه بعد أن بلغ السبعين وها قد حان أوان توديعهم بعد خمس سنوات من المعاناة ، كان مستلقياً بسلام لا يبدو لمن يراه للوهله الأولى كأنه الوداع إذ كانت ملامحه المسالمة أبعد ما يكون عن ملامح شخص مقبل على الرحيل للمجهول ، صوته المنهك انتشر بينهم يحاول منحهم السعادة قبل رحيله الأخير
" لا داعي للحزن ، لقد عشت حياة جيدة بالفعل بفضل وجودكم حولي ، انا راضي عن ما زرعته ، وراضي بما حصدته ، استمروا يا أبنائي بالعمل في حقولكم حتى حين يحين وقت الرحيل ....لا يبقى أي ندم في قلوبكم ، لقد لونتم حياتي بوجودكم وزرعتم فيها الكثير من الورد ، ستبقى تلك البذور معي وان افترقنا"
كانت الدموع تنزل على وجوه الجميع دون استثناء ، لقد عاش حياة طويلة برفقتهم، كان الصدر الحنون الدافئ من أعطى الحب دون شروط ، من تقبل هفواتهم دون أحكام ، من فهم نزعاتهم وما فيها من شر ووجهم نحو الخير ، علمهم أن يتخيلوا حقلهم ويزرعوا فيه شجرة جميلة مع كل فعل حسن لأنفسهم أو غيرهم ، ويزرعوا فيه الحشائش كلما اخطأو، أخذ بيدهم ، تحلى بالصبر والحكمة فحلت السعادة والراحة أينما ارتحل فكان فراقه لهم مؤلماً وثقيلاً على نفوسهم، لكنه علمهم أيضا أن الموت حق وان الحقل لابد أن يمتلئ يوماً وحينها هو وقت الرحيل .
أصواتهم بدأت تبتعد ، الرؤيا بدت تختل وجد نفسه يعود صغيراً لأيام الشباب، نظر لجسده ونفسه بهدوء ، امتلك من الرزانه على مر السنوات ما جعله يهدأ حتى في أحلك الظروف ، يعرف أن كل شيء يقدم له هو هديه وهو عليه تقرير أي بذرة يأخذ منها ، تحقق الوعد القديم بينهما ، عاد من انتظره طويلاً بعد غياب ، من قاده للصواب ومنحه القوة اللازمة ، ابتسامة اشتياق رسمت على شفتيه لذاك العجوز ، ضوء انبثق منه مع ابتسامته ليتحول مظهر العجوز لشاب قوي البنيان حسن المظهر منير الوجه
" ها نحن نلتقي أيها الشاب الطيب "
" جان وقت اخباري من تكون "
تقدم يمد له يده لياخذها آرثر ، سحبه خلفه يخترق الظلام ينير طريقه ويبعد عنه كل الأفاعي والحشرات القادمة نحوهما
" انا هو جانبك الخير ، بذورك الصالحة ، كل عمل جيد قمت به ، وها أنا ذا هنا لرد دين منحك لي القوة ، بكل شيء سيء تركته، بكل خير فعلته ، بكل شيء طورت نفسك فيه للأفضل منحتني جواهرك وبذورك وها قد أصبحت قوياً كفاية لاحميك"
ابتسم آرثر ضاحكاً من قوله وتابعا الطريق للإمام
" لقد أحسنت الاستثمار بفضلك ، لذا هذه ثمار ما زرعته في "
انار المكان .واختفيا في اللامكان لا أحد يعرف أين ذهبا ولا أين اتجها لكن لم يكن هناك خوف عليهما إذ أن من وجد وجد ومن زرع حصد
وقتنا محدود ، أرضنا غير محروثة تنتظر منا زراعتها ، الوقت جوهرة ثمينة نظن أنها لا نهاية لها لكنها بغمضة عين تمر تاركة ايانا خلفها نتساءل متى انتهت؟ هل احسنا الاستثمار؟ هل نحن بنينا داخلنا كما يجب ؟ هل قدمنا كل ما امتلكناه بأفضل طريقة ممكنة ؟ لن يكون الجواب سهلاً لكنه موجود هناك في الداخل يرسم نفسه في أعماقنا بسلام نفيس أو تأنيب خافت يوجهنا للصواب كلما أخطأنا ، استمع إليه فلا أصدق منه .
النهاية
انتظر ارائكم بايجابها وسلبها❤️🙏🏻
Bạn đang đọc truyện trên: AzTruyen.Top